مسيرة الشاعر السوري : ممدوح عدوان.. توق كبير للحياة وحضور فاعل بالثقافية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مسيرة الشاعر السوري : ممدوح عدوان.. توق كبير للحياة وحضور فاعل بالثقافية

    سيرة أدبية

    ممدوح عدوان

    على غير جرح معتق، يتقلب هذا الشاعر العربي السوري، المولود في عز الحرب عام 1941 في قيرون (مصياف)، ويخرج من العربية الأم ولسان كتاباته إلى الأدب الإنكليزي دارساً ومدرساً فيجول في كل أمصار الثقافة وأصقاع الشعر والصحافة والإعلام والمسرح والتعريب (الترجمة) وعلى غرار كل الحالمين الكبار، الموسوعيين الظامئين إلى الكل، بعد هذا اللاشيء الذي استغفلنا منذ سقوط بغداد سنة 1258 حتى سقوط القدس سنة 1948.
    نقل إلى العربية "سد هارتا" لهيرمان هسة، ومذكرات كازنتزاكي 81-1982، وفي الرواية ابتكر واحدة سنة 1970، موسومة بعنوان مفرد "الأبتر".

    وأطول من التعريب كانت رحلته في الكتابة للمسرح العربي الناشيء من فراغ النصوص إلى تجاوب النفوس مع المحكي والتمثيل وفي هذا المضمار امتدت رحلة ممدوح عدوان ما بين 1967 "المخاض" و 1971 "زنوبيا تندحر غداً" دون أن ننسى ما بين هذين الموعدين "تلويحة الأيدي المتعبة" و "محاكمة الرجل الذي لم يحارب" (1970)، و "ليل العبيد" (1977) وأخيراً "هاملت يستيقظ متأخراً" 1979.
    إلا أن الشهرة قدمته شاعراً حفياً، متأنقاً بجراحه متألقاً بالهموم القومية والإنسانية التي تراوده ويراودها. عضواً في اتحاد الكتاب العرب منبرياً في مهرجانات الشعر كأنه فارس جديد من فرسان الصولات الشعرية العربية القديمة.
    وتبدو محطات المخاض عند ممدوح عدوان ذات منطلق مشترك هو بكل أسف واعتبار، منطلق انكسار 1967، فليس مصادفة إذا أن ينشر في ذلك العام مسرحية "المخاض" ومجموعة شعر "الظل الأخضر"، ثم ينهمر هادراً صاعقاً ثابتاً في استنفاره صابراً في مواقعه بل في متاريس ممانعته ومراهناته على الآتي الأجمل.
    سنة 1967، أطلق ممدوح عدوان سهام الشعر والمسرح من جعبة واحدة: "القلب العربي، المنكسر، المقاوم، الممانع والباحث عن ولادة أخرى".
    بعد "الظل الأخضر" الذي يمحو بالكلمات الحلوة المحمسة آثار العدوان الإسرائيلي على الأرض والشعب ينطلق ممدوح عدوان متفائلا واثقا من عروبة أو أمة لا تقهر، لا انهزمت آنا بعد آن.
    سنة 1974، بعدما أدت الحروب المتتالية 56، 67، 1973، إلى انقلاب في النفسية القتالية العربية، وضع الشاعر مجموعته الثانية "الدماء تدق النوافذ" و "أقبل الزمن المستحيل".
    سنة 1977 يذهب إلى بيان شعري رفيع "أمي تطارد قاتلها" و "يألفونك فانفر" ويندر أن نجد شاعراً سواه، ينشر في العام الواحد مجموعتين من الشعر، ومسرحية، وكأنه بحر يفيض بذاته على حبر جمره وعمره.
    سنة 1980 يتقدم من العام إلى الخاص، ومن حدود القضايا العربية القومية إلى لب القضية الفلسطينية "لو كنت فلسطينياً" معلنا رغبته في هوية المظلوم وفي الانتماء أو الاستناد لمقاومته المتمادية بالأجساد والأشجار وبالرصاص والحجارة.
    ويستحضر في الزمن المستحيل تلك الصور الإمبراطورية القديمة التي تدعي أن "كل الدروب تؤدي إلى روما" ليعلن سنة 1990 "لا دروب إلى روما".
    سنة 1999 فاجأنا الشاعر المقاوم ممدوح عدوان بقصيدته الجديدة الأخيرة بعنوان "طيران نحو الجنون" "الصادرة عن شركة رياض نجيب الريس - بيروت".

    ***

    ولد في قرية قيرون (مصياف) عام 1941 تلقى تعليمه في مصياف، وتخرج في جامعة دمشق حاملاً الإجازة في اللغة الإنكليزية، عمل في الصحافة الأدبية، وبث له التلفزيون العربي السوري
    عدداً من المسلسلات والسهرات التلفزيونية عضو جمعية الشعر

    من مؤلفاته :
    • المخاض- مسرحية شعرية- د1967.7.الظل الأخضر -شعر- دمشق 1967
    • الأبتر -قصة- دمشق 1970
    • تلويحة الأيدي المتعبة -شعر- دمشق 1970
    • محاكمة الرجل الذي لم يحارب
    • مسرحية- بغداد 1970
      الدماء تدق النوافذ -شعر- ب1974.74
    • أقبل الزمن المستحيل -شع1974.
    • أمي تطارد قاتلها -شعر- بيروت 1977
    • يألفونك فانفر - شعر - دمشق 1977
    • ليل العبيد- مسرحية - دمشق 1977
    • هملت يستيفظ متأخراً- مسرحية- دمشق 1977
    • زنوبيا تندحر عداً- مسرحية
    • لو كنت فلسطينياً- شعر
    • مذكرات كازنتزاكي -ترجمة -جزآن- بيروت 1980-1983
    • حكي السرايا والقناع - مسرحيتان- دمشق 1992- اتحاد الكتاب العرب

    * * *

    سيرة أدبية

    ممدوح عدوان

    على غير جرح معتق، يتقلب هذا الشاعر العربي السوري، المولود في عز الحرب عام 1941 في قيرون (مصياف)، ويخرج من العربية الأم ولسان كتاباته إلى الأدب الإنكليزي دارساً ومدرساً فيجول في كل أمصار الثقافة وأصقاع الشعر والصحافة والإعلام والمسرح والتعريب (الترجمة) وعلى غرار كل الحالمين الكبار، الموسوعيين الظامئين إلى الكل، بعد هذا اللاشيء الذي استغفلنا منذ سقوط بغداد سنة 1258 حتى سقوط القدس سنة 1948.
    نقل إلى العربية "سد هارتا" لهيرمان هسة، ومذكرات كازنتزاكي 81-1982، وفي الرواية ابتكر واحدة سنة 1970، موسومة بعنوان مفرد "الأبتر".

    وأطول من التعريب كانت رحلته في الكتابة للمسرح العربي الناشيء من فراغ النصوص إلى تجاوب النفوس مع المحكي والتمثيل وفي هذا المضمار امتدت رحلة ممدوح عدوان ما بين 1967 "المخاض" و 1971 "زنوبيا تندحر غداً" دون أن ننسى ما بين هذين الموعدين "تلويحة الأيدي المتعبة" و "محاكمة الرجل الذي لم يحارب" (1970)، و "ليل العبيد" (1977) وأخيراً "هاملت يستيقظ متأخراً" 1979.
    إلا أن الشهرة قدمته شاعراً حفياً، متأنقاً بجراحه متألقاً بالهموم القومية والإنسانية التي تراوده ويراودها. عضواً في اتحاد الكتاب العرب منبرياً في مهرجانات الشعر كأنه فارس جديد من فرسان الصولات الشعرية العربية القديمة.
    وتبدو محطات المخاض عند ممدوح عدوان ذات منطلق مشترك هو بكل أسف واعتبار، منطلق انكسار 1967، فليس مصادفة إذا أن ينشر في ذلك العام مسرحية "المخاض" ومجموعة شعر "الظل الأخضر"، ثم ينهمر هادراً صاعقاً ثابتاً في استنفاره صابراً في مواقعه بل في متاريس ممانعته ومراهناته على الآتي الأجمل.
    سنة 1967، أطلق ممدوح عدوان سهام الشعر والمسرح من جعبة واحدة: "القلب العربي، المنكسر، المقاوم، الممانع والباحث عن ولادة أخرى".
    بعد "الظل الأخضر" الذي يمحو بالكلمات الحلوة المحمسة آثار العدوان الإسرائيلي على الأرض والشعب ينطلق ممدوح عدوان متفائلا واثقا من عروبة أو أمة لا تقهر، لا انهزمت آنا بعد آن.
    سنة 1974، بعدما أدت الحروب المتتالية 56، 67، 1973، إلى انقلاب في النفسية القتالية العربية، وضع الشاعر مجموعته الثانية "الدماء تدق النوافذ" و "أقبل الزمن المستحيل".
    سنة 1977 يذهب إلى بيان شعري رفيع "أمي تطارد قاتلها" و "يألفونك فانفر" ويندر أن نجد شاعراً سواه، ينشر في العام الواحد مجموعتين من الشعر، ومسرحية، وكأنه بحر يفيض بذاته على حبر جمره وعمره.
    سنة 1980 يتقدم من العام إلى الخاص، ومن حدود القضايا العربية القومية إلى لب القضية الفلسطينية "لو كنت فلسطينياً" معلنا رغبته في هوية المظلوم وفي الانتماء أو الاستناد لمقاومته المتمادية بالأجساد والأشجار وبالرصاص والحجارة.
    ويستحضر في الزمن المستحيل تلك الصور الإمبراطورية القديمة التي تدعي أن "كل الدروب تؤدي إلى روما" ليعلن سنة 1990 "لا دروب إلى روما".
    سنة 1999 فاجأنا الشاعر المقاوم ممدوح عدوان بقصيدته الجديدة الأخيرة بعنوان "طيران نحو الجنون" "الصادرة عن شركة رياض نجيب الريس - بيروت".

    ***

    ولد في قرية قيرون (مصياف) عام 1941 تلقى تعليمه في مصياف، وتخرج في جامعة دمشق حاملاً الإجازة في اللغة الإنكليزية، عمل في الصحافة الأدبية، وبث له التلفزيون العربي السوري
    عدداً من المسلسلات والسهرات التلفزيونية عضو جمعية الشعر

    من مؤلفاته :
    • المخاض- مسرحية شعرية- د1967.7.الظل الأخضر -شعر- دمشق 1967
    • الأبتر -قصة- دمشق 1970
    • تلويحة الأيدي المتعبة -شعر- دمشق 1970
    • محاكمة الرجل الذي لم يحارب
    • مسرحية- بغداد 1970
      الدماء تدق النوافذ -شعر- ب1974.74
    • أقبل الزمن المستحيل -شع1974.
    • أمي تطارد قاتلها -شعر- بيروت 1977
    • يألفونك فانفر - شعر - دمشق 1977
    • ليل العبيد- مسرحية - دمشق 1977
    • هملت يستيفظ متأخراً- مسرحية- دمشق 1977
    • زنوبيا تندحر عداً- مسرحية
    • لو كنت فلسطينياً- شعر
    • مذكرات كازنتزاكي -ترجمة -جزآن- بيروت 1980-1983
    • حكي السرايا والقناع - مسرحيتان- دمشق 1992- اتحاد الكتاب العرب

    ***

    كما لو نُودي بشاعرٍ أن انهض

    محمود درويش

    على أربعة أحرف يقوم اسمُك واسمي، لا على خمسة. لأن حرف الميم الثاني قطعة غيار قد نحتاج إليها أثناء السير على الطرق الوعرة.
    في عامٍ واحد وُلدنا، مع فارق طفيف في الساعات وفي الجهات. وُلدنا لنتدرّب على اللعب البريء بالكلمات. ولم نكترث للموت الذي تَدقّه النساء الجميلات، كحبة جوز، بكعوب أحذيتهن العالية.
    عالياً، عالياً كان كُل شيء... عالياً كالأزرق على جبال الساحل السوري، وكما يتسلق العشب الانتهازي أسوار السلطان، تسلقنا أقواس قُزحٍ، لنكتب بألوانها أسماء ما نحب من الأشياء الصغيرة والكبيرة:
    يداً تحلب ثدي الغزالة،
    مجداً لزارعي الخسّ في الأحواض، شغف الإسكافي بلمس قدم الأميرة، ومصائد أخرى لجمهور مطرود من المسرح.
    لم ننكسر بدويٍ هائل كما يحدث في التراجيديات الكبرى، بل كأشعة شمس على صخور مدَببة لم يُسفك عليها دم من قبل، لكنها أخذت لون النبيذ الفاسد، ولم نصرخ، هناك، لأن لا أحد، هناك، ليسمع: أو يشهد.
    دلتني عليك تلك الضوضاء التي أحدثتها نملة بين الخليج والمحيط، حين نجت من المذلة، واعتلت مئذنة لتؤذن في الناس بالأمل،
    ودلتك عليّ سخرية مماثلة!
    ولما التقينا عرفتك من سُعالك، إذ سبق لي أن حفظته من إيقاع شعرك الأول، يُفزع القطط النائمة في أزقة دمشق العتيقة، ويبعثر رائحة الياسمين.
    لم يكن لنا ماضٍ ذهبي على أهبة العودة، كما يدّعي رواد المقهى الخائفون من القبض على قرون الحاضر الهائج كالكبش، ولا غد أكيد، خلفنا، كما يدعي رواد الشعر الخالي من الملح، المتخم بفراغ المطلق.
    لم نبحث إلا عن الحاضر.
    ولكننا، من فرط ما أُهنّا، بشرنا بالقيامة بصوت مرتفع، أثار علينا غضب الملائكة المنذورين لصيانة اللغة الصافية من غبار الأرض، والباحثين عن الشعر الصافي في جناح بعوضة.
    ودُعينا، في غرف التشريح معقمة الهواء والكلام، إلى بتر المفردات كثيرة الاستعمال. وسرعان سرعان ما علاها الصدأ من قلة الاستعمال، وفي أولها: الحياة... ومشتقاتها.
    لكننا آثرنا أن نخاصم الملائكة.
    ممدوح، لا أطيق سماع اسمك الآن، لأنه يذكرني بما ينقصني من رغبةٍ في الضحك معك على عورة بردى المكشوفة كأسرارنا القومية. ولأنه يُذكرني بمدى حاجتي إلى استراحة من الركض آناء النوم، بحثاً عن حلم مسروق، أراه واضحاً وأحاور السارق. ويذكرني اسمك بما أنا فيه من طقطقة كأني حبّة بلوط في موقد الفقير ليلة العيد.
    لهذا، اكتب اسمك ولا ألفظه، ففي الكتابة يتموج اسمك على ماء الحضور. وفي الكلام أسمع وحش الغياب يطاردني من حرف إلى حرف، ليفترس الشلو الأخير من قلبي الجائع إلى هجائك المادح.
    ممدوح! ماذا فعلت بك وبنا؟ فلم نعد نحزن من تساقط شعرك المبلل بالزيت، فإنك تستعيده الآن من عشب الأرض. ولكن، في أية ريح أخفيت عنا سعالك، فلم يعد في غيابك متسع لغياب آخر.
    لا لأن حروف اسمك هي حروف اسمي، لا أتبين من منا هو الغائب، بل لأن الحياة التي آلفت بين ثعلبين ماكرين لم تمنحنا الوقت الكافي لنقول لها كم أحببناها، وكم أحببنا فجورها وتقواها... فتركت ثعلباً منا بلا صاحب.
    لا جلجامش ولا انكيدو. ولا الخلود هو المبتغى ولا قوة الثور. فنحن الخفيفان الهشان، كواقعنا هذا، لم نطلب أكثر من وقت إضافي لنلعب بالكلمات لعباً غير بريء، هذه المرة، أو لنورث ما لم نقله بعد من لم يقل بعد. ولنجعل من الشعر مزاحاً مستحباً مع العدم. لكن حرف الميم الثاني في اسمك واسمي ظلَّ قطعة غيار لا تنفع.
    ممدوح! هذا هو وقت الزفاف الفاحش بين الرعد والصحراء، شرق الشمال، لإنجاب الكمأ إعجازي التكوين. صف لي ولادة الكمأة أصف لك عجزي عن وصف القصيدة، فانظر شرق الشمال!
    هي حسرة التعريف، أنين الرمل على الشاطئ حيث يرفع القمر، بأصابعه الفضية، سروال البحر وقت الجزر، ويرش علينا قصيدة حب، إباحية التصوف.
    فاغضض من صوتك، لا من بصرك، وانظر. فمنذ ولادة اللغز الكوني، والشعر مختبئ في أشد المواقع انكشافاً. ويظهر جلياً جلياً في اللامرئي من سماء مسقوفة بكفاءة الغيب.
    كل الأزهار شريفة حيث تترك لحالها، ما عدا القرنفلات الحمر التي يضعها الجنرالات، ما بين وسامٍ ونجمة، على بزة سوداء أو كحلية... لخداع أرامل الشهداء.
    وكل اليمامات نظيفة، حتى لو بالت على شرفاتنا والوسائد، ما عدا اليمامات التي يدربها الغزاة والطغاة معاً، وعلى حدة، على الطيران الرسمي في أعياد ميلادهم، وفي مناسبات وطنية أقل أهمية.
    الآن، لا أتذكر شيئاً منك. فالذكرى تلي الحرب والموت والزلزال. وأنت، ما زلت معي تكتب هذه المرثية، على هذه الورقة البيضاء، في هذا الليل البارد... أو نكتبها معاً لشاعر محبط. فلعلها لا تعجبه فيتوقف عن اغتيال نفسه، إلى أن يقوم غيرنا بكتابة مرثية أفضل، لا تعجبه هي أيضاً، فينتظر غيرها ويحيا أكثر.
    كما لو نُودي بشاعرٍ أن انهض من هذا الألم.
    وأنسى الآن، لتبقى معي، أكثر من غلسٍ لم يدركنا ولم ندركه قبل أن تُفرغ آخر كرم عنبٍ مقطر في كأسك التي لا تخلو أبداً إلا لتنكسر، أيها العاصر الماهر!
    ليس هذا مجازاً، بل هو أسلوب ليلٍ لا يصلح إلا ضيفاً، وأنت المضيف الباذخ. وإن افتأت عليك، كصديقٍ حامض القلب، عاملته بالحسنى وأرقت عليه حليب الفجر.
    لكني لا أنسى ضحكتك التي تشبه شجرة زنزلخت مبحوحة الأغصان، عاليةً وعريضة، لا تاريخ لها منذ صار التاريخ قهقهة عابثة. ومنذ عادت الجرار إلى حفظ الصدى، كالزيت، خوفاً عليه من آثار الشمس الجانبية.
    كم حيَّرني فيك انشقاق طاقاتك الإبداعية عن مسار التخصص، كعازفٍ يحتار في أية آلة موسيقية يتلألأ. لم أقل لك أن واحداً منك يكفي لتكون عشيرة نحل تمنح العسل السوري مذاق المتعة الحارق. بحثت عن الفريد في الكثير، من دون أن تعلم أن الفريد هو أنت. وأنت أمامك بين يديك. ألا ترى إليك، أم وجدت نفسك أصفى في تعددها، يا صديقي المفرط في التشظي ككوكبٍ يتكون.
    فصصت الثوم للقصيدة لتحمي شرايينها من التصلب. فالشعر، كالجسد، في حاجة هو أيضاً إلى عناية طبية، والى فصادٍ كلما أُصيب الدم بالتلوث. آه، من التلوث الذي جعل الإيقاع نشازاً، واستبدل حفيف الشجر بموسيقى الحجر، واعتبر الحياة عبئاً على الاستعارة!
    لكن هذا لم يهمك. لأن الحياة لا تُوهب لتعرف أو تعرض للنقاش، بل لتُعاش... وتعاش بكاملها، وتُلتهم كقطعة حلوى إلهية، أو شفتين ناضجتي الكرز. وقد عشتها كما شئت أنت، لا كما هي شاءت. أحببتها فأحبتك. وشاكست ما يجعلها أحد أسماء الموت، في عصر القتل المعولم الذي يمنح القتلى قسطاً من الحياة لا لشيء... إلا لينجبوا قتلى.
    يا ابن الحياة الحر، أيها المدافع عن جمال الوردة العفوي، وحرية العشاق في العناق على مرأى من كهان الطهارة اللوطيين! من بعدك سيسخر ممن يتقنون تسمية الآلهة، ولا يقوون على تسمية الضحايا؟ يأنفون من الانتباه إلى دم مسفوك على طريق المعراج، ويسرفون في التحديق إلى غيمة عابرة في سماء طروادة، لأن الدم قد يلطخ نقاء الحداثة المتخيلة، ولأن الغيم سرمدي الدلالات. لعلهم على حق، ما دامت هزائمنا تستدعي تطوير النقد إلى هذا الحد!
    لكن هذا أيضاً لا يهمك، أيها المتعالي على التعالي، أيها العالي من فرط ما انحنيت بانضباط جنديٍ أمام سنبلة، ونظرت، حزيناً غاضباً، إلى أحذية الفقراء المثقوبة، فانحزت إلى طريقها الممتلئ بغبار الشرف. الشرف؟ يسألك المترجم: ما معنى هذه الكلمة؟ فلم أجدها في الطبعات الجديدة من المعاجم.
    ممدوح، يا صديقي، لماذا كما يفعل الطرخون خانك وخاننا قلبك؟ لماذا لم تعلم كم نحبك؟ لماذا تمضي وتتركني ناقصاً؟ لماذا... لماذا؟
    ألقى الشاعر محمود درويش هذا النص في أربعين الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان، في احتفال أقيم مساء أمس في دمشق، بدعوة من وزارتي الإعلام والثقافة في سورية وعائلة الفقيد. وتحدّث في الاحتفال: الشعراء محمد الماغوط وأحمد عبدالمعطي حجـازي ونزيه أبو عفش وعادل محمود، الناقدة عبلة الرويني، الصحافي طلال سلمان، المفكر صادق جلال العظم ووزير الثقافة السوري محمود السيد.

    الحياة
    2005/02/1

    *****

    في ذكري أربعين يوما علي رحيل ممدوح عدوان:
    ثمانون كتابا.. ثمانون حكاية وحياة.. وكثير من الصخب الجميل

    أنور بدر

    ترجّل قبل أربعين يوما عن صهوة القلم، الشاعر ممدوح عدوان، رحل الولد المشاكس في المدرسة، والشاعر المشاكس في القصيدة، رحل الإنسان الُمشاكس في الحياة والسياسة، دون أن يُتم ترجمة الأوديسة التي بدأ بها، بعدما ترجم الإلياذة ، لكنه أصدر مجموعة من قصائده النثرية في ديوان حياة مبعثرة كما وعدنا في آخر لقاء، وكأنه يهزأ بنا أو بقصيدة النثر التي جاءت مطواعة لهذياناته اليومية، فكتب بلغة جميلة تحت عنوان الأحلام الذابلة:
    حين أعيد ترتيب بقجتي المفلوشة..
    أين سأضع العباءة والطربوش
    والتمائم والتاريخ؟
    أين أذهب بباقات الأحلام الذابلة؟
    والأناشيد المعلقة مع البامياء والثوم؟
    ماذا أفعل بهذه الشعارات المعلبة
    التي انتهت مدتها؟
    وأين أجد ظلي الذي كان يتمدد
    بأريحية أمامي علي الرمضاء
    وكان يقتفي خطواتي ويتسلل ورائي
    ككلب صيد .
    بالتأكيد لن يعيد ممدوح بعد الآن ترتيب البقجة، فهو رحل تاركاً لنا التمائم والتاريخ وأحلامه الذابلة والأناشيد المعلقة والشعارات المنتهية الصلاحية... لكنه لأول مرة سيلتقي بظله وسيتحدان.
    مفاجئ موت ممدوح عدوان الذي ظلّ يصارع الموت لعامين ونصف العام، دون أن يستسلم له، بل أذكر ابتسامته وهو يؤكد أنا أحيا كما لو لم أكن مريضاً، وأعمل كمن يعيش أبد الدهر ، ومع يقيننا بأن الحياة بشكل أو بآخر هي انتظار للموت، إلا أن حقيقة موت ممدوح عدوان فاجأتنا وفجعتنا بالوقت نفسه، إذ كان ممدوح ما زال ينثر قصائده ويجلجل بضحكته الصاخبة. كان ممدوح عدوان يتلقي التكريم في مهرجان دمشق المسرحي، وبعده في مسقط رأسه مصياف ، حين فاجأنا خبر وفاته مع نهاية العام الماضي. وكأنه خبر نشر كتاب جديد له، أو قصيدة تتربع لأول مرة علي صدر الصفحة الأولي من صحافة تترك دوماً للثقافة زوايا هامشية.

    * * *

    قال أحد أصدقاء ممدوح بأنه لا يمكن رصد الحياة الثقافية والإبداعية في سورية منذ عقد الستينات حتى الآن، دون أن يكون ممدوح عدوان محطة بارزة فيها. كتب ممدوح عدوان الشعر والقصة والرواية، كتب المسرح والدراما، مارس النقد الأدبي والعمل الصحافي... لكنه يعتبر نفسه شاعراً أولاً وآخراً، وفي كل ما يكتبه تكتشف نفساً شعرياً، مع انه يكتب المقال الصحافي بشروط المقال الصحافي ويكتب المسرح أو الدراما بشروط المسرح أو الدراما، وله أكثر من عشرين مجموعة شعرية. وله أيضا روايتان و ست وعشرون بينها أجمل ما كتب في المونودراما.

    وبلغت أعماله الدرامية للتلفزيون، ستة عشر مُسلسلاً.
    كما كتب نثراً يُقارب البوح بشعريته، كتب دفاعاً عن الجنون ، وكتب جنون آخر ، كما كتبَ عن دون كيشوت الذي يعيش فينا وصولاً إلي حيونة الإنسان ، كما ترجمَ ممدوح عدوان أكثر من خمسة وعشرين كتاباً من أُمهات الأدب والفكر العالمي. من إلياذة هوميروس إلي الأوديسة التي لم تكتمل، و من تقرير إلي غريكو إلي تلفيق إسرائيل التوراتية: طمس التاريخ الفلسطيني ، وصولاً إلي روايات هرمان هيسه مع ذئب البوادي و الرحلة إلي الشرق .
    كان يعمل بحيوية وجد رغم عقوده الستة التي مضت، ورغم المرض الذي ذهبَ بشعره وبقسم من قواه، إلا أنّه كان يُقاوم المرض والموت بالكتابة. كان فعل الكتابة لديه هو فعل الحياة الوحيد الذي لم يفقد معناه أو دلالته. كما فقدت أشياء كثيرة معناها ودلالتها مع الزمن، وهذا ما عبر عنه في إحدى مقابلاته: كل ما أحن إليه لم يعد موجوداً، وحتى ما هو موجود مثل الأب الذي أخاطبه في ديواني الأخير/وعليك تتكئ الحياة/ أتمني أن يموت وهو محتفظ بكرامته، لأنني لا أريد له أن يُذل، كما هو حاصل معنا، فنحن نخشى أن يمضي الحال بنا نحو الأسوأ .

    * * *

    كان يُمضي عدوان حياته الأخيرة دون أن يعترف بالمرض، لكن الزمن كان له تأثير كبير علي حياته وتفكيره، يقول بهذا الصدد الإنسان قد لا ينتبه في البداية إلي تعلقه بالقرية أو الأم، لكن عندما يتقدم في العمر يكتشف نوعاً من النوستالجيا لاستعادة الطفولة، وهذه الطفولة لا تُستعاد إلا من خلال الأم ومن خلال القرية . لذلك كان ألوفاً لقريته قيرون ، وكان وفياً لأمه بعد مماتها، كتب ديوان شعر رثاءً لها، ودخل مع أوديب في تجربة اغتيال الأب حفاظاً علي كرامته أو لأسباب أخري، لأنّ الأب يتماهى في السلطة كل سلطة وكل الحكومات العربية تتحدث عن الإصلاح، ولكنك لو دققت لوجدت أنه إصلاح ما يُمكن إصلاحه من اجل بقاء السلطة، وليس إصلاحاً لأحوال الناس . هذه السلطة أو الأب لم تزل مرفوضة من قبله وإن لم يملك سلاحاً للرفض غير كلمة لا وهو في ذلك كان كثير الشهادة إن صح القياس، كان مُصراً علي استخدام سلاح الكلمة رغم إيمانه بأنه سلاح غير فعّال.
    وبقدر ما يتماهى الأب في السلطة، تتماهى الأم في الوطن، يقول عدوان أهم فاجعتين في حياتي هما موت أمي وهزيمة الخامس من حزيران (يونيو)، بالطبع هناك حوادث أخري في حياتي، لكن هاتين الحادثتين أدتا إلي شرخ حقيقي في حياتي، أو صنعتا انقلاباً في شخصي . وقد عبرّ عن التماهي السابق في ديوانه أمي تطارد قاتلها إذ قال:
    ومن كآبتي القديمة
    متراجعاً ومصادراً،
    من حضن أمي
    نحو منفي ضيق كالقبر
    منفى خانق كالقبر
    ويبدو أخيراً أن المنفي قد أطبق علي أحلامنا أو أجداثنا، منفي بمساحة قبر، وقبر يتسع لأحلام الشاعر أو لكلماته التي ستصدح باستمرار فينا، في دواخلنا صلاة إلي وطن أجمل يتسع لابتسامات البشر.
    هنا بضع ردود علي رحيل عدوان وذكراه الباقية:

    * * *

    مات ممدوح عدوان

    حكم البابا

    لم يخطر في بالي ولا في يوم من الأيام أن أكون أول من سيسمع خبر موت ممدوح عدوان من الطبيب الذي أعلن وفاته، ولم أتخيل أني سأكتب بيدي نعي ممدوح عدوان الذي سيلصق في الشوارع، ولم أفكر بأن ممدوح عدوان سيموت، فحتى في أيام مرضه كنت أعتقد في داخلي أنه في يوم ما سينتصر ممدوح عدوان علي المرض كما في كل معركة دخلها، ولم أكن أظن أني سأكون آخر من يقبّل الجسد المسجي لممدوح عدوان في غرفة إسعاف في مشفى دمشقي، ولكن ما لم يخطر لي أو أتخيله أو أفكر به أو أظنه حدث كلّه دفعةً واحدة بمصادفة من أسوأ مصادفات حياتي، وللصدفة السيئة عشت كل هذه المستحيلات دفعة واحدة، وخلال مدة بدت لحظات خاطفة وهي كذلك بالفعل.
    ومع أن كل ذلك حدث لا أستطيع أن أصدق أني لن أتصل بممدوح عدوان غداً أو بعده لأخبره أني قادم لزيارته، وأستفتيه في أي نوع من الكليسترول (كما كنّا نشفر مسميات الطعام الدسم) يشتهي لأحضره معي، كما فعلت يوم الوفاة، وكانت الروح لا تزال عالقة في جسده، فممدوح عدوان يمثل بالنسبة لي أكثر مما أظن، ولايزال صوته الناري في أذني علي الشريط المسجل في اجتماع أعضاء الجبهة الوطنية التقدمية الشهير في نهاية السبعينيات مع الكتاب والصحافيين، وهو أول معرفتي به من غير لقاء، والتقيته لأول مرّه في عام 1979 فلم تتغيّر صورة الكاتب المقاتل العنيد، وله فضل عليّ وعلي إدارة حياتي فيما بعد، وبيقين يصل إلى حد التأكيد أقول أن حياتي كانت ستبدو أقل شراسة مما هي عليه الآن، وعنادي كان سيصبح أكثر ليناً لو لم ألتق به أول مرّة في اللاتيرنا ، وثمة قاعدة في الكتابة والحياة علمني إياها ممدوح عدوان وأنا لا أزال أسير عليها، وقد ذكرته بذلك قبل أيام قليلة من وفاته، قال لي وهو يرسم دائرة بيده، هذا هو الهامش المعطي لنا ككتاب، عليك ككاتب أن لاتقف في منتصف الدائرة، لأن هناك من سيضيقها عليك فيما لو فعلت ذلك، مهمتنا ككتّاب أن نقف عند جدارها ونحاول توسيعها، وممدوح عدوان واحد من قلّة من الذين وسّعوا هامش الحرية في سورية، وفي زمن كان فيه الهامش أضيق من شفرة السكين، مرة بالشعر، ومرة بالمقالة، ومرّة بالندوة، وكان يتلقي شتي الاتهامات مرّة ممن يملكون الهامش، فتهمهم جاهزة، وعقابهم حاضر، فمنع من الكتابة، ومنع من السفر، وسحب جواز سفره، ونقل من جريدة الثورة كصحافي لمترجم في وزارة الإعلام، وفرزت سيارة مخابرات لمتابعته، ولكن ممدوح عدوان لم يستسلم، وفي حين كان يكبر كل يوم كان أعداؤه يصغرون يوماً بعد يوم . وكان يتلقي من وجه العملة الآخر تهماً مناقضة تماماً للأولي، فيتهمونه بالعمالة للمخابرات، وكان دليلهم الوحيد أنه شجاع وصاحب لسان طويل، ويقولون لك كيف بإمكانه أن يحكي لو لم يكن كذلك!
    كانت مشكلة ممدوح عدوان أنه رجل مختلف بين أشباه، وتعب طويلاً ليقنع الجميع بنفسه وبكتابته، وعندما فرضت موهبته وشغله ومثابرته أنفسهم دخل في صراع غير متكافئ مع عدو من نفس فصيلة أعدائه السابقين إنما هذه المرة هوجم من الداخل لا من الخارج، جاء مرض السرطان ليواجه ممدوح عدوان، ودخلا في مكاسرة بالأيدي، وكنت أراقبه من زيارة لزيارة، تارة يثبّت المرض ويلوي له ذراعه، وتارة يأخذ السرطان ثأره منه، قال لي زياد ابنه قبل أيام أن أباه كان يقول له في بداية المرض، سأعيش، لكنه في الفترة الأخيرة بدأ يتحدث عن الموت، وسمعت من الهام رفيقة عمره كم كان يشعر بالأسى لأن أحداً لم يطلب منه في أيام مرضه أن يكتب زاوية أسبوعية لصحيفة أو مجلة، وكبرياؤه يمنعه من أن يطلب ذلك من أحد، ولربما مات ممدوح عدوان بمرض الإهمال لا بمرض السرطان.
    منذ يومين شاهدت صورة قديمة لممدوح عدوان كان فيها في عنفوانه، ساموراي في الكتابة، هي التي انطبعت في ذاكرتي في كل لحظة أتخيله أو أتذكره فيها، ولم تمحها صورة الجسد المتهاوي الذي يستند علي ابنه زياد وهو يصعد منصة حفل الافتتاح في مهرجان دمشق المسرحي الأخير، ولكن اليوم ماالذي أستطيع قوله وأنا أنظر إليه للمرة الأخيرة مسجي في غرفة إسعاف، وأتذكر تاريخاً من حبي له كمعلم وكصديق، وأحقد علي من حاربوه طوال حياته، وسمموا له عيشته، وأفكر كيف كان بإمكانهم أن يفعلوا ذلك برجل أعطي سورية أكثر مما أخذ منها، بينما هم الذين أخذوا منها ولم يعطوها إلا الخراب والفساد، من وزراء الإعلام الذين سدّوا بوجهه الطرق، وبعضهم بقي طوال ثلاثة عشر عاماً هي كل فترة وزارته يطارده ويطارد غيره من المثقفين الشرفاء، إلى كومة المخبرين الذين كتبوا فيه التقارير وباعوه بثمن بخس، إلى المعارضين الذي لوثوا رداءه النظيف، إلي شقيق كل هؤلاء وابن فصيلتهم مرض السرطان.
    واليوم نحن أمام حقيقة أكيدة هي أن ممدوح عدوان مات، ولاينفع رثاء ولاندب، ويعزي كلام عن أدبه الخالد يقوله في حفلات التأبين من ساهموا بموته، لكن ربما مايعزّي فعلاً أن نتخيل ممدوح عدوان جالساً مع اكسسوارته الدائمة (السيكارة المشتعلة وكأس العرق وسعاله المستمر) جالساً في مكان ما في الأعلى وهو ينظر إلينا نندبه وهو يتسلّي بمشهدنا الليلة، وكل من عرف ممدوح عدوان سيراوده مثل هذا الخاطر، لأن من عرفه لايصدق حقيقة موته وهي حقيقة بالفعل، فمن الصعب أن نفكر بأن ممدوح عدوان قادر علي الموت بهذه السهولة، وسيمضي وقت طويل لنتأكد بأنه تركنا وفعلها ومات!

    ***

    إلي ممدوح يألفونك فانفر


    عباس عباس

    كنتَ تتلفت دائماً كمن ضيَّع الجهات، وحين تلمح الدهشة في قسمات من حولك، تردد علي الفور: أنا حلبة يحتلها رجلان لا يكفان عن الصراع !
    لعله ملمحٌ شرقُ متوسطي بامتياز، ولربما عكازُ المصابين بدوّار الخيبات المتلاحقة... وما أنت وحدك.
    أجل، كنت نهباً لصراطَي الطمأنينة المبتغاة و ما ينبغي أن يُقال. و أجمل القصائد هي التي لم تولد بعد ستبقي كذلك إلي آخر الراحلين، ولكن ثمة دائماً ما يكفي من الغوائل كي تُولد الكلمات و تُبقَّ الحصى!
    لكَ أن تُطَمئِن جهتك اليسرى أن ظلك الأخضر ظلَّ أخضر من قيرونك الحزينة إلي مُؤنِس القبور الطالع علي حواف إقامتك الجبرية. لكَ أن تكفكف قشعريرة هذه الزيارة الأخيرة، وتستجير من رمضاء ليل العبيد و السفربرلك بروح أمك التي انتظرت ابنها ... وبكت!!
    لكََ ـ وأنت مسجَّي ـ أن ترمينا بسهم من كنانة بديهتك وتصرخ: كفاكم دقائق صمت علي صمتنا المزمن!
    ونحن؟
    غارقون في البحث عن كلمة تليق بصمتك الأبدي، عن ملمح آخر للحزن يضاهيه مهابة، أو مرثاة.
    وحدَه الطفل يبكي
    علي شرفة الموت، لا جهة تقتفيه،
    ولا السنديان ارتأى لغة غير دمع الغمام؛
    لا يد في الفراغ تلوِّح للزغردات التي شَّيعته علي حافة النهرِ إلاَّ الحمام.
    ممدوح، أظنك ما عدت ملزماً بالردِّ علي حرية القول التي صارت لنا مادمتَ كففتَ عن غناء العتابا أو ردِّ الحجر أو السلام، وستتركنا الآن لجرأتنا التي لم تعهدها بنا. سنقوِّلك ما لم تقله، وننظم فيك الشعر والنثر والأغنيات، سنقترف الشهادات والمراثي، و نذكر محاسن موتانا حتى تلك التي تأبيت بعضها وأنت بيننا. قصاراك، إذن، أن تجمعنا في لقاءٍ مناسباتي أبكم، فهل هو البُدُّ أن نلتقي علي أسيً ونفترق حين ينبغي التأَسِّي؟!!!
    كم من الأكاليل استطالت نحو قامتك الممدَّدة لتناهز الحزن؛ والشهود كثر: تلك الأيِّم التي امتشقتَها طيلة منازلتك للمرض تطالبنا ألاَّ نقضَّ مضجعك بالعويل، والأصدقاء الذين ائتزرتهم ذات ويل ذاهلون كأن علي رؤوسهم الطير، وهاملت، الحالم، يقسم أغلظ الأيمان أنه لم يستيقظ بعدُ، والأيدي المتعبة لا تزال مشرعة، و محاكمة الرجل الذي حارب ما تزال مفتوحة! لكنّ الأمل الوقائي الذي وشيته وريقات قلبك وأودعته أنَّي توجهت لم يكفُّ عن الحضور. تلاميذ ضيعتك يا أبا زياد أخفوا صور الوداع في حقائبهم وانتحلوا ذاكرة الدمع ليناموا دون أن يكتبوا فروضهم المدرسية.
    وأنت، كأنت، بعلاماتك الفارقة: دأبك اللاهث خلف الوقت، مزاجك الذي لم تقلِّمه نوائب الدهر، ضحكتك ذات الحاسة السادسة، استرخاؤك المبهر إزاء الفرح، شِعرك الجامح أبداً ـ ما كان أصبرك يا ممدوح علي المرض وما ألهفك علي قصيدة! كنت كــ سارق النار ، تريد إيصالها مهما احتراقك!!
    لو سألتَ علامَ يَبكي مشيِّعوك، لتراءت لك كوميديانا السوداء بلا ستائر ودون اكتمال الفصول!
    لو سُئلت عن سرِّ ولعك بالبغتات، لفاجأتنا كعادتك: كي لا أصيبكم بها عند موتي!!
    أجل لقد تجرّعناها علي مهل، فقط لنكتشف أن المسافة بيننا لا تعدو حفنة من تراب أو رماد هوية نسفُّها علي من كان بين ظهرانينا حياً قبل قليل!
    لو سألك ملاك ـ علي سبيل العزاء ـ ألم يقربك الموت من حقيقتك أكثر، أخالك ستجيب دون تردد: مع ذلك، سلاماً للحياة!
    ملحق:
    صديقك الراحل سعد الله ونوس استدرك نفسه بك ليذكِّرنا أن هذا كلُّه قبر مالك! وأجري انزياحاً طفيفاً علي مرثاة رحيله:
    هوي...
    وكان رثيثا إلى آخر الوجع الآدميًِّ،
    وكان علي غارب الموت يبني المشاهد فصلاً ففصلا.
    هوي...
    ولم يكمل المشهد المبتغي،
    فأسدل مأساته دوننا
    ورتل مرثاته فوقنا في مهبِّ الفداحة والفاجعة،
    رويدَك غممدوحف، كلُّ المراثي
    تقصِّر عن قامة هاجعة.

    * * *

    ممدوح عدوان توق كبير للحياة وحضور فاعل في حياتنا الثقافية

    خيري الذهبي

    دُعيت في أوائل الثمانينات لأكون محكماً في احدي مسابقات فرق الرقص أو الدبكة الفلكلورية علي مستوي المحافظات والمدن السورية، وكانت هناك فرقة للدبكة من مصياف تحديداً، وقد صوت لها لما شاهدت من عجائب رقصها.
    كانت هنالك شهوة للحياة في ذلك الرقص، لم أجده عند سواها من الفرق الأخرى، كان هنالك توق عجيب... اندفاع يذكرني بشخصية الصديق الراحل ممدوح عدوان، وأنا الآن أتساءل: أتراه تأثير تلك المدينة الجبلية الواقعة علي مفترق الطرق الأساسي في سورية، حيث الحروب ما بين الصليبيين والمسلمين؟ ما بين الطوائف الإسلامية بمكوناتها الكثيرة من اسماعيليين وعلويين؟ تلك المدينة العجيبة التي حينما أزورها ـ وأنا زرتها مرات عديدة ـ تفاجئني أنها جمعت ما بين قساوة الصخر وما بين طراوة الخضرة، ما بين النهارات الغائمة وما بين رطوبة النسمات علي وجوه سكانها، وأتساءل: ما تأثير هذا كله علي ممدوح؟
    كان في داخل ممدوح شيء من ذلك المجنون الإغريقي زوربا وليس عبثاً أن ممدوح ترجم عدداً من أعمال نيكوس كازانتزاكي، أتراه وجد نفسه في شخصيات كازانتزاكي؟ وبشكل خاص في ترجمته الرائعة لكتاب تقرير إلى غريكو نحن نعرف أن الغريكو رسام أسباني من أصول يونانية، وكانت رسومه كلها تتميز بشيء عجيب، هو تلك الرغبة العجيبة في الصعود... في التسامي،كانت شخصيات الغريكو شخصيات ممطوطة إلى الأعلى... شخصيات تريد الصعود إلى السماء، أتري أن هذه اللمسة الموجودة لدي الغريكو والتي عبر عنها كازانتزاكي هي ما شدت ممدوح إلى هذا العمل المبهر ـ وهو لا يقل عن باقي أعمال كازانتزاكي الروائية، إن لم يتفوق عليها ـ أتري هل وجد ممدوح نفسه في هذه الشخصية، فأحب أن يزود قراء العربية بهذا الإبهار لدي كازانتزاكي؟ ممدوح كان رجلاً يحب الحياة، وهذه صفة فيه تختلف عن الكثيرين منا، ممن يسمون دودة كتب، فهو لم يكن دودة كتب بهذا المعني، كان محباً للحياة، وكان مقسماً وقته الي نشاطات مختلفة، والشيء الأساسي فيها هو الحياة نفسها، ما بين الطعام والشراب ومجالسة الأصدقاء، والضحك بصخب وبعنف، كان هذا شيئاً ايجابياً فيه، لم أجده لدي الكثيرين، وربما هذه الصفة هي التي ستجعله باقياً في ذاكرتنا، أكثر مما سيبقي الآخرون. هل هذا هو تأثير مصياف؟ هل هذا هو تأثير دير ماما التي خدعنا طويلاً وهو يقول أنه من دير ماما لنكتشف أنه من قيرون...؟ لا اعرف... إلا أنه سيترك ذكري طيبة لدي جميع من عرفه.

    ***

    وأنا حين أذكر ممدوح عدوان أذكر ذلك الجيل من الشباب الذين جاءوا من الريف الي المدينة، جاءوا يحملون طموحات وأحلام بتغيير العالم حسب رؤاهم الفكرية والسياسية، لكن الكثيرين منهم كانوا يحملون فكرة الخوف من المدينة، تلك المدينة التي اصطدموا فيها لأول مرة بالشوارع العريضة، والبنايات الكبيرة، والسيارات الفارهة، بضباط المخابرات والبيروقراطيين الأقوياء، بالنساء المتبرجات... أخافتهم هذه المدينة، فحولوا خوفهم بلعبة نفسية معروفة الي آلية أخري، إذ تصوروا وحولوا وقالوها بعبارات أخري عبر كتاباتهم... حين حولوا المدينة الي امرأة عاهرة تنتظر الفحل الوحيد الذي سيقدم لها ما تنتظره.
    رأينا ذلك في كتابات حيدر حيدر، وأحمد عبد المعطي حجازي، والطيب الصالح، وأحمد يوسف داوود، وآخرين كثر كتبوا في هذا الأمر، الذي يفهم باعتباره تبريرا نفسيا ولعبة نفسية من الخائف الذي لا يريد أن يعترف بخوفه، فيحوله الي أداة عدوانية، ويعلن أنا الفحل الذي تنتظره المدينة.
    ممدوح عدوان كان من القلائل الذين لم يقعوا في هذه الورطة، فلم يكتب عن المدينة العاهرة، ولا المدينة بلا قلب، ولا المدينة التي تنتظر الفحل الريفي القادم، وكان هذا برأي شيئاً من مزايا ثقافة ممدوح الإنسان.
    أيضاً كان هناك تيار من الكتابات تتحدث عن جمال الريف وبراءة الريف ومزايا الريف مقابل فساد المدينة وقذارة المدينة وسوء المدينة وتخريب المدينة. وتصور هذه الكتابات كيف تفسد المدينة ذاك الريفي البريء الداخل إليها. وقد تجلي هذا بشكل واضح لدي أحمد يوسف داوود في روايته حبيبتي يا حب التوت حينما جاء وهو كتلة من الطهارة والبراءة والنظافة فلوثته المدينة لحظة وصوله إليها، أكان هذا صحيحاً؟
    سؤال آخر يتبادر الي الذهن؛ أكان هذا التلوث يقابل تلوث الأفكار السياسية التي حملوها عندما تلوثت بالممارسة العملية؟ تلك الأحلام السياسية التي رأيناها جميلة ورائعة، وحدة ... حرية... عدالة اجتماعية...كلها أحلام جميلة كنا مؤمنين بها، ونتمنى أن تتحقق، لكنها تحولت في حقل الممارسة ـ كما رأينا ـ الي هذا الفساد والسوء الذي نعانيه في كل مكان طبقت فيه هذه الأحلام. تري عندما كتب بعض الكتاب ـ ومعظمهم من القادمين من الريف ـ تري أكانوا يعبرون بلا وعيهم عن هذا الفساد في النظرية عندما نزلت الي الممارسة؟
    كنت قد قلت أكثر من مرة، وأنا لا أزال أقولها، إذا وسعنا تلك النظرة الي مستوي العالم، واعتبرنا العالم الثالث هو ريف العالم، ونظرنا الي الكتاب الذين قدموا من ريف العالم الي حواضر العالم ومدنه، الي باريس ولندن وموسكو وواشنطن، ورأينا كيف أفزعتهم هذه المدن التي قدموا إليها، فحولوا أنفسهم ـ لا واعين ـ الي هؤلاء الفحول الذين لا يشق لهم غبار، ولنتذكر بطل الطيب الصالح في موسم الهجرة الي الشمال ولنتذكر شكيب الجابري، ولنتذكر عددا كبيرا من الكتاب الذين تحدثوا عن هذا المأزق الذي وقع فيه هذا الريفي، بغض النظر أكان هو الريفي القادم من مصياف الي دمشق أم القادم من دمشق الي باريس.
    هذان المأزقان لم يقع فيهما ممدوح، وهذا الأمر يذكر ويشكر له، فهو حين تعامل مع المدينة، تعامل معها كند، وأذكر له عندما قال أن دمشق أمي... وأنا علي استعداد لأن أموت من أجلها. فهذا موقف مهم من كاتب لم ينظر إليها كمدينة معادية، أو مدينة مغزوة، أو مدينة مفتوحة كما فعل البعض من الكتاب، والروائيون منهم تحديداً.
    ممدوح كان له مشكلة أساسية هي أنه لم يستطع أن يسن شفرته ليقطع بها القطع المبين، فوسع دائرة أعماله الي عدة حقول، فكتب الشعر والمسرح والنقد، وكتب في الرواية والصحافة والترجمة، لقد وصل الي مرحلة ما قبل الإجادة في كل ما كتب، لكنه لم يستطع أن يكون أجود ما في جيله، فنحن عندما نقارنه بأبناء جيله من الشعراء نجده من الشعراء الجيدين، لكنه ليس الأجود، وحين نقارنه بأبناء جيله من المسرحيين نجده جيداً ولكنه ليس الأجود، وفي الرواية والترجمة وغيرهما كان جيداً ولكنه ليس الأجود.
    ولكن علينا أن نقول الحقيقة: وهي أن مجموع ما فعله ممدوح وما كتبه جعله الأجود، وكان هذا حضوراً ـ كان فعلا تاما وليس ناقصا ـ رائعاً لممدوح عدوان في الحياة الثقافية السورية، وربما هناك أسماء كثيرة ستختفي، وهذا من طبيعة الحياة، ولكن ممدوح اعتقد أن اسمه سيستمر طويلاً لكثرة ما علّم في حياتنا الثقافية

    * * *

    ممدوح عدوان: الحكاية

    زياد عدوان

    الأب: كنت أول من رآك حياً
    الابن: كنت آخر من رآك حياً
    لا أستطيع أن أحصي عدد الأشخاص الذين استوقفوني لدي معرفتهم أني ابن ممدوح عدوان، وحالما يسألون عنه تحضر حكاية على الفور جرت بينه وبينهم ليقصوها علي. كان أول ما يحضر ببالهم هو الحكاية التي وقعت عندما تعرفوا إلي بعضهم البعض. فلم يكن ما بقي من لقائهم الأول نقاشاً بل ما بقي كان حكاية. ورغم تفاوت الأشخاص وتعددهم كانت الحكاية هي أعز ما يربطهم بهذا الشخص. أما حكايتي معه فبدايتها ونهايتها.
    الأب: كنت أول من رآك حياً!
    الابن: كنت آخر من رآك حياً!
    ولكم أن تعرفوا كم الحكايات بين هاتين الحياتين. وبصدق لا أعرف ما هي الحكاية الأبرز خلال الثماني والعشرين سنة من حياتنا المتقاطعة يومياً تقريباً وتحولت من حكايات بين أب وابن إلي حكايات بين صديق وصديق وكان ما يمتعه مني هي الحكايات الجديدة التي أرويها له. أذكر الآن مما كان يرويه عن سعادته بأولاده هو الحرف الأول الذي نطقناه والكلمة الأولي التي قلناها، لم يكترث ببزوغ السن الأول، أو اللحظة التي نهضنا بها علي قدمينا وتعلمنا المشي، بل كان وحتى أيام قليلة سابقة يذكر لنا عندما يدور الحديث عن علاقته بنشأتنا الكلمة التي تفوهنا بها، كانت سعادته هناك ربما لأيمان ما يقول أن بوسع ولديه أن يقوموا بشيء ما، لأن الكلمة وإيماننا بها هي التي ستصنع صفاتنا.
    لقد شرعوا بالكلام.
    لعل المشهد وقتها كان
    الأب: كنت أول من سمع كلماتك
    الابن: كنت آخر من سمع كلماتك
    قدم ممدوح عدوان من بيئة ريفية، وأكثر ما حمله منها في حياته هي الحكايات. كان يروي لي حكايات مما حدث ويعلم أن لكل حكاية هدفها، منها الضحك ومنها الحكايات الشعبية أو العبرة أو الاستمتاع بالمغامرة أوالزجل الذي يقص هذه الحكايات. كان أكثر ما يحبه من أغنية جفلة وهي الأغنية التي خرجت من قرية أخواله دير ماما هو حكاية جفلة وأبيها. وأذكر كم كان حزيناً عندما تحولت الأغنية من حكاية عن أب فقير وابنته إلي أغنية عاطفية. كان ذلك التحريف صدمة بالنسبة إليه ورأيتها بعينيه:
    لقد تجاسر الاستهلاك علي حكايات قريتي وأخوالي.
    أكثر ما أزعج ممدوح عدوان هو تشويه الحكايات، وكما كان الحال مع أغنية جفلة، كان رد فعله صاخباً عندما يتم تحريف الحكاية التي يؤلفها. وكما باح لي كثيراً أن تشويه أعماله كان سبباً في أزمته القلبية، وإصابته بالأورام. لم أر أبي مصدوماً وغاضباً كما كان حاله بعد أن يشاهد عملاً مسرحياً أو تلفزيونياً محرفاً. ولا زلت أسمع كلماته السابقة عندما قال: إنه سيلوي عنق المخرج الذي يلوي عنق نصه وحكايته.
    وبعدها يأتي التفصيل الأبرز حول صخبه. وطبعاً لم ينس أحدهم هذه الصفة المميزة، وكانت تلك الصفة ملازمة لحضوره ومرضه وغيابه.
    ومع كل حكاية له أو معه كان ذلك الصخب هو ما يملأ حكاياته، ولا أعرف إن كان يعشق الصخب لأجل الحكاية أم كان يعشق الحكاية كي يبقي صاخباً. هناك عشق لخوض المغامرة، ولعل الشجاعة هي أكثر الأمور المطلوبة كي تتم الحكاية. وهذا ما فعله عندما كان صغيراً، وعبر الجسر تحت المطر كي يكمل حكايته للوصول إلي المدرسة، وعرف حينها كم الشجاعة مطلوبة كي تصنع الحكاية، فتعاقبت الشجاعة والحكايات ومر تحت الرصاص والملاحقات وصعوبة الحياة، ولكنه تمسك بالشجاعة كي تبقي الحكاية موجودة. أنجز ممدوح ما يزيد عن الثمانين كتاباً، ومع هذا العدد الكبير للأعمال الأدبية والتلفزيونية، بقيت جميعها مختلفة بحكاياها. ثمانون كتاباً وثمانون حكاية مختلفة. والعديد من الحكايات في المقالات الصحافية مع زوجته وشرطي السير ومدرائه وأصدقائه ...إلخ. وحكايات من الحياة مع الجميع، وأحد ما سأفتقده الآن هو غياب الحكايات والتشويق التي كان يمكن لهما أن يحدثا بوجوده.
    فعلاً لا أستطيع أن أذكر الحكاية التي يمكن لها أن تنفرد بمقال صغير الآن، ولكن ما خطر لي هو حكاية الكلمة التي عاندت كي تخرج رغم الكثيرين ممن وقفوا بوجهها، وهكذا صاغ حكايته التي يمكن لها أن تشمل الحكايات الأخرى كلها. الآن لا يحضر ببالي سوي تفريدات علي الجملتين في الأعلى
    الأب : كنت أول من رآك حياً!
    الابن: كنت آخر من رآك حياً!
    الأب: كنت أول من سمع كلماتك
    الابن: كنت آخر من سمع كلماتك
    .... إلخ

    * * *

    الحصان الخشبي سهرة خاصة مع ممدوح عدوان

    علي كنعان

    ضاقتِ الساعةُ
    ساخ الليلُ في حمَّي سكون الأرصفة
    حقبة غادرها عشَّاقُها
    داخت رفوفُ الانتظار
    ودخلنا في خُمارِ الأسئلة...
    ليس من عادته أن يُخلفَ الموعدَ
    أو ينسي أحبَّاءَ السَّمَر
    ربما راح يزورُ الوالدة
    ربما طاف به سِربُ ظباءٍ
    يعشقُ الشعرَ.. علي بحَّةِ ناي
    ربما استوقفه ظلُّ غراب
    ربما.. أو ربما.. أو..
    حسبنا أناَّ علي مائدة الشاعرِ
    لا نرهبُ جلاَّداً
    ولا نسمحُ للبازارِ أن يغشي
    فضاءَ الكلمة
    موكبٌ يختالُ في ملحمةِ الشعرِ
    نشيدٌ لا يماري أو يهادن
    تتملي شهوةَ الجمرِ
    ولا نصغي لبومٍ لطمتنا بالخبر

    * * *

    رئتاك، يا ممدوح، أم كبدي
    حضنت جلالَ السرِّ في نيسان؟
    القومُ يحتربون في شبرٍ من الزبدِ
    والشعرُ فوق الدرُّ والمرجان
    قف يا أخي جنبي وخذ بيدي
    غصَّت دروبُ الليلِ بالغيلان
    قلبي هوي سقفاً بلا سندِ
    وجزائرُ المنفي بلا عنوان
    ومواسمُ الأحزانِ في بلدي
    بحرٌ بلا قاعٍ ولا شطآن

    * * *

    كيف أبكيك؟! وما زلت هنا
    في شهقةِ الروحِ
    وفي دفءِ العناق
    لم تغبْ عنَّا ولم ترحلْ
    مع الطيرِ المهاجر
    ربما آثرت أن تتركنا بضعَ سويعاتٍ
    نماري عجزنا، نخبطُ
    في حالٍ من البُحرانِ
    بينا تستريح
    في ظلال الزيزفون
    علَّه يثمرُ ألوانا من الطيبِ الشهيّ
    تسند الروحَ إلي زيتونةِ الدارِ
    يضيء الشعرُ معراجَ المحبِّين
    تداري وهجَ شلاَّلٍ من الذكري
    وتدعوك إلي سدرتها الزهراء
    أنداءُ السكينة
    وبلا تلويحةٍ أو همسةٍ لهفي
    ولا طيف التفاتة
    تفرغُ الكأسَ وتجتازُ الجسور
    أنت أدرَي
    أن ما يجري ويغلي ويفور
    تحتها لم يكُ ماءً
    بل دماء

    * * *

    ديرُ ماما لم تزلْ في البالِ
    خبزَ الأم، باقاتٍ من الزعترِ والزوفا
    ورمَّانَ الجبال
    كيف ينشقُّ جدارَ القلبِ شطرينِ ـ
    جحيمين من الأوجاعِ،
    شطرٌ غادر الميناءَ في صحبة ممدوح
    وشطرٌ يتداعي في خرابِ المرحلة

    * * *

    كم في حضورك تزهرُ الحفلة
    ويموج ليلُ دمشقَ بالحبِّ
    لو كان لي من أوَّلِ الرحلَة
    أن أفتديك بحبةِ القلبِ
    لحمدت ربي شاكراً فضلَه
    أن خصَّني بجواره الرحبِ
    ستظلُّ فينا حاملَ الشعلَة
    وتلوك يوسفَ وحشةُ الجبِّ
    روحي هنا مشبوبةُ الغُلَّة
    وخطاك فوق مدارجِ الشُّهْبِ

    * * *

    أين يا ممدوح دربُ الجامعة؟
    أين تيسير وهاني وثريَّا؟
    أين فيروزُ الشهابيِّ؟
    أبو ناصيف، شوَّاخُ الفرات؟
    أين نهرُ الجامعة؟
    أتَري صفصافَه الحاني علي أوجاعِنا
    كان يبكي ليواسينا عن الغُيَّابِ؟
    أم يبكي علينا؟

    نحن، جيلَ الجسرِ،
    فرسانُ الطواحين.. وأحياناً ضحاياها
    لم نكن يوماً لنقتاتَ جراحَ الناسِ
    أو نرضي بإذلالِ الوطن
    والتشفِّي برزاياهُ
    كما يفعلُ فرسانُ الرياحِ الموسميَّة

    * * *

    جيلٌ من الوجعِ الموشَّي بالتحدي والأمل
    لم نمتْ بعدُ
    وإن كنا تدرَّبنا علي الموتِ الفلسطينيّ
    من قبل أريحا وسعارِ الجنرال
    أجمِلْ بما (يُروَي عن الخنساء)
    ليباركَ القسَّامُ طقسَ الموتِ بالشهادة

    هذه أوراقنا...
    معروضةٌ للشمسِ والريحِ
    وموجِ العابرين
    بين أكشاكِ الجرائد
    يا هَلاَ.. يا مرحبا
    ممدوح يدعوكم إلي مائدة الذكري
    (يا بلادي التي علمتني البكاء)
    كيف أنساكِ
    وأنَّاتُ النواعيرِ وأحزانُ ألوفِ الأمَّهات
    تعصرُ القلبَ.. طواحينَ زؤان
    في مجاعاتِ سَفَرْ بَرْلِكْ
    هنا جيلٌ من الخيبةِ والحرمانِ والقهرِ
    وما زال الغراب
    يتفلَّي في خرابِ المرحلة
    صحفٌ مكشوفةٌ.. أوراقُنا
    لا تقبلُ الشطبَ أو التزويرَ
    فارفَعْها مرايا كاشفة
    في وجوهٍ طمستها الأصبغة
    طُفْ بنا
    موجاً يغاوي ملكوتَ الكلمة
    ولتكنْ سهرتُنا حتى أذانَ القبَّرة
    هاتِ حدِّث عن طقوسِ الليلِ
    لا ترأفْ بتشريحِ خفافيشِ الكهوف
    واستفِضْ في كشفِ أعراضِ السعارِ القَبَلِيّ
    وطنٌ يمتدُّ كالتابوتِ بين الماء والماء
    بنوكٌ من دماءٍ ..
    صفقاتٌ ومزارع
    أُبرِمت في خانِ بازارٍ عتيق
    اقلبِ الصفحةَ واتركهم لعينٍ لا تنام
    ولنواصلْ شجَنَ النجوى بعيداً
    بانتظار الخاتمة
    أنت تعرفهم (حيةً حيةً، حنشاً حنشاً)
    وأنا أعرف أشياء أخري
    فلندعْ سهرتنا بيضاء منهم...
    تلك أفواجُ ذبابٍ وهوام
    قد تصيب المائدة
    بسموم المرحلة

    * * *

    ضاقت الساعةُ.. طال الانتظار
    ربما أغفي قليلا في جوارِ المتنبِّي
    ربما أعطي شكسبير إشارة
    علَّه يترك هَمْلِتْ نائما
    ربما أودعَ في الأوراقِ أسرارَ الغياب

    القدس العربي
    2005/01/31
يعمل...
X