سيلفيا بلاث في ذكرى رحيلها الستين: "الموت فنّ أمارسه"!
سناء عبد العزيز 22 فبراير 2023
تغطيات
شارك هذا المقال
حجم الخط
شغلت حادثة انتحار الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث منذ ستين عامًا، الكثير من النقاد والدارسين وكتاب السير الذاتية والحركات النسوية وصناع الأفلام، حتى أن عالم النفس الأميركي جيمس كاوفمان صاغ مصطلح "تأثير سيلفيا بلاث" عام 2001 لوصف الاضطراب الذي يتمكن من نفوس الشاعرات على وجه الخصوص، مشيرًا إلى أنهن الأكثر عرضة للافتراس من غيرهن من النساء البارزات كالسياسيات والممثلات والفنانات. علمًا بأن بلاث لم تكن تراه على تلك الشاكلة، فقد تمثل الموت أمام عينيها المتعبتين كفرصة أكيدة للانعتاق، وهو الذي راودها عن نفسه في سن العاشرة حين تعرضت لحادث كاد أن يودي بحياتها، ومن يومها ظلت تسعى إليه بكامل إرادتها كلما انقضى عقد من عمرها، كمن يرغب في محو أثره كلما قطع من رحلته الأرضية عشرة أعوام، تقول في قصيدتها "السيدة لعازر" التي كتبتها قبل رحيلها بأشهر قليلة "كنت أفعلها مجددًا/ وأفلح مرة كل عشرة أعوام/ في بلوغ الهدف/ الموت فن مثل أي شيء آخر/ أمارسه على نحو استثنائي".
"أليكترا على مسار الأزلية"
ولدت بلاث في السابع والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1932 خلال فترة الكساد الكبير في بوسطن، كان والدها؛ أستاذ الأحياء النابغ، منبوذًا من عائلته لأنه رفض النزول عند رغبتهم في أن يصبح وزيرًا، وفضل أن يكتب عن النحل وممالكه وهو ما ظهر أثره في قصائد سيلفيا التي ورثت عن أبيها شغفه بالنحل والتفنن في وصف لدغاته، لكن معاناته مع المرض وصراخه وأنينه وموته المبكر، كان له أفدح الأثر على تكوينها وحياتها بأكملها، حتى أن الطفلة التي تربت على مبادئ الدين المسيحي قررت يومها بغضب "لن أخاطب الله بعد الآن". ودفعتها زيارات قبره المتكررة إلى كتابة قصيدة "أليكترا على مسار الأزلية"، حتى انتقلت مع أسرتها إلى ويسلي ماساتشوستس، وانحجب عنها البحر. تصف بلاث حياتها في تلك الفترة: "هكذا تجمدت رؤيتي لتلك الطفولة على شاطئ البحر. مات أبي، وانتقلنا إلى مدينة داخلية. خُتمت سنواتي التسع الأولى وكأنها سفينة في زجاجة جميلة، لا يمكن الوصول إليها، كما عفا الزمن على أسطورة الطيران المفعمة بالبراءة".
يرى المنفلوطي أن الانتحار منتهى ما تصل إليه النفس من الجبن والخور، وما يصل إليه العقل من الاضطراب والخبل، وهو ما لا يتفق مع شخصية بلاث المشهود لها بالذكاء والشجاعة منذ طفولتها ومعاقرتها مع الحياة التي لا تعرف الكلال.
نشرت بلاث قصيدتها الأولى في الثامنة من عمرها وبدأت في كتابة أول رواية بعنوان "غبار النجوم"، وهي لم تزل في التاسعة فحسب، في الوقت الذي أظهرت ولعًا خاصًا بالرسم وفازت بجوائز عن لوحاتها المبكرة. وحتى في كلية سميث، حظيت بلاث بجميع الجوائز الكبرى في الكتابة والبحوث العلمية، وفازت بمكانة مرموقة كمحررة في مجلة "مادموزيل" في مانهاتن، حيث أمضت شهر حزيران (يونيو) تكتب المقالات وتحضر أحداث الموضة وتدير أعمال المجلة بشكل يومي، لكن هذا العبء لم يكن ليشبع طموحها، إذ مثّل ضغطًا شديدًا عليها وإنهاكًا لا يحتمل. تتساءل هيذر كلارك في كتابها عن سيرة بلاث "المذنب الأحمر": هل كان هذا كل ما يمكن أن تأمله بلاث ككاتبة طموحة؟ هل سيقتصر عملها على كتابة تعليقات على الموضة، مثل تلك التي كتبتها حول "التنوع الفلكي للسترات الصوفية؟"، المؤسف في حالتها أنها عندما عادت إلى منزلها تتخبط في هزالها، عرفت أنها رُفضت من فصل الكتابة لفرانك أوكونور في مدرسة هارفارد الصيفية، ففقدت القدرة على القراءة والنوم، وراودها هاجس مخيف بأنها فقدت أيضًا القدرة على الإبداع.
حاولت بلاث إنقاذ نفسها بالعلاج غير أن الصدمات الكهربائية فاقمت من اكتئابها. في أواخر أغسطس (آب)، اختبأت في قبو منزلها وحاولت الانتحار بأقراص منومة؛ وعثر عليها شقيقها بين الموت والحياة بعد ثلاثة أيام. كتبت لاحقًا إلى صديق لها، أن الانتحار بدا أفضل من الحياة بالعلاج القاسي داخل مستشفى الأمراض العقلية. لكن الفتاة ذات الإرادة الحديدية تعافت في نهاية المطاف في مستشفى ماكلين على يد طبيبة تعاملت مع مرضها بطريقة أكثر إنسانية حتى تحسنت صحتها وعادت إلى جامعة سميث في أوائل عام 1954، وتخرجت بامتياز بعد عام واحد، لتواصل الدراسة مرة أخرى بمنحة فولبرايت بجامعة كامبريدج، حيث التقت بالشاعر تيد هيوز الذي كتب لهذه الأسطورة قصة النهاية.
القشة التي قصمت ظهر البعير
التقت بلاث هيوز في حفلة طلابية، وسرعان ما تجاذبا أطراف الحديث واشتعل الحوار بينهما؛ عضت سيلفيا خده وانتزع هو قرطًا من أذنيها وتلونت الأجواء بقصة الحب التي ولدت على أعين الحضور حتى أن أحدهم أبدى تلك الملاحظة "كل منهما يستحق الآخر" بيد أنه استطرد متسائلًا: "هل بوسع سيلفيا ترويض هيوز وتدجينه؟!".
في السادس عشر من يونيو (حزيران) 1956 أقيم حفل الزفاف في يوم بلوم؛ اليوم الذي يحتفل فيه عشاق جيمس جويس بزمن السرد في روايته "عوليس". كانت بلاث تتعطش إلى حياة متوهجة مع شاعر مثلها، بوسعه أن يطرد الأشباح التي لازمتها منذ الطفولة، فما ظنك بفتاة تربت على أنين والدها ونواحه؟ لكن الرياح لم تأت بما تشتهي السفن، كما لم يبرهن الحب يومًا أن في مقدوره أن يصنع المعجزات. وشيئاً فشيئًا ظهرت في شعر بلاث بوادر الغضب، تصف حالتها قائلة: "يبدو الأمر كما لو أن حياتي تدار بفعل تيارين كهربائيين بطريقة سحرية: إيجابية البهجة، وسلبية اليأس".
عقب عودة الزوجين إلى إنكلترا عام 1960، أنجبت بلاث ابنتها فريدا، وسرعان ما ولد نيكولاس بعد تجربة إجهاض مريرة، ووجدت المرأة الطموحة نفسها موزعة بين أعمال المنزل وواجبات الأمومة، تتسابق مع دقات الساعة كل يوم لتتمكن من إنجاز مهامها على أكمل وجه، وتحاول بكل طاقتها أن تتفوق في كل الأدوار الموكلة إليها. في هذا الظرف الصعب، تتكشف القلوب على حقيقتها، فبينما توقعت بلاث أن يتحمل هيوز نصيبه من المسؤولية، انتصر هو كمعظم الرجال لحريته، ضاربا بأوجاعها عرض الحائط، ولم يكتفِ بهذا، بل راح يبحث عن الحب بلا مسؤوليات في مكان آخر. يقول في قصيدته النمر الأميركي "اليغور" عام 1957: "يوسع خطاه في براري الحرية/ العالم يتدحرج تحت قوة ضغط كعبه العالي".
رمز متناقض لقوة المرأة وعجزها
بمجرد أن انفصل الزوجان عام 1962، انطلقت بلاث مع طفليها إلى لندن لتستأجر الشقة الذي عاش فيها دبليو بي ييتس، متوسلة بروح المكان بعد أن خذلها من كانت تظنه نصفها الآخر وشريكها في الإبداع. كتبت بلاث في تلك الفترة أجمل وأجرأ قصائدها والتي صنعت اسمها لاحقًا. كانت تخربش على الحوائط، تدون على حوض المطبخ وقاعدة الحمام، وكل ما تطوله يدها في حيز الأمومة الضيق وبرد شتاء لندن القارس. لكن تصورها عن القدرات الحقيقية لجسدها الهش لم تكن تحتمل المزيد، وراحت تطالب نفسها بالمزيد حتى تراكم الضغط عليها. كتبت في يومياتها: "أنا في وضع حرج، عالقة في ركود، نوع من الشلل في رأسي يجعلني مجمدة، ربما هو التطلع إلى كتابة ثلاثة مقالات في الأسبوع وقراءة ثم إعادة قراءة كل ما كتب في الأدب الإنكليزي في أقل من ثلاثة شهور، أصبحت فاقدة الحس".
لطالما تاقت بلاث إلى كتابة رواية، ووبخت نفسها حين استعصى الشكل عليها، وهو ما تغلبت عليه في ربيع وصيف عام 1961 حين كانت تعيش مع زوجها وابنتهما البالغة من العمر عامًا واحدًا، ودخلت المستشفى لفترة وجيزة لاستئصال الزائدة الدودية، وفجأة تدافعت الذكريات بين عنابر المستشفى لتسترجع تجربتها المريرة كمريضة نفسية تعرضت لصدمات الكهرباء، وتدفق السرد على غير توقع في فترة وجيزة جدًا.
تروي "الناقوس الزجاجي" قصة انهيار امرأة شابة وتعافيها، ومن خلالها، توجه أصابع الاتهام إلى النظام الأبوي الذي فسر طموح النساء على أنه حالة عصبية، وكذلك الطب النفسي باعتباره شريكًا في الجريمة وبخاصة الأطباء الذكور الذين يعالجون بطلتها إستير دون وعي بالضغوط الجندرية التي ساهمت في انهيارها، ما أسفر عن تكدس المصحات بأعداد هائلة من النساء. حسب الإحصاء آنذاك، كان هناك 559000 مريضة في المستشفيات الأميركية، وهو رقم قياسي في تاريخ المرض النفسي.
حاولت بلاث في "الناقوس الزجاجي" إعادة تشكيل مصيرها وإخبار قصتها لمجتمع يتعالى على طموح المرأة ومعاناتها. وعلى الرغم من أن إستير طالبة بارزة وكاتبة بارعة، كانت تخشى أن يؤول مصيرها إلى "نادلة أو كاتبة على الآلة الكاتبة. لكنني لم أستطع تحمل فكرة أن أكون أيًا منهما"، وكان كل خيار متاح لها يعني الخضوع للنظام الأبوي. وبرغم ما حققته الرواية من نجاح، كان نصيبها من المبيعات مخيبا لآمال بلاث، وضاع حلمها بالاستقلال المادي بعيدًا عن كنف الرجال.
في تمام الرابعة والنصف من فجر 11 فبراير (شباط) 1963، استيقظت بلاث كما عادتها لتبدأ الدوران في طاحونة أعمالها اليومية، ولكنها لم تنجز من جدولها المفروض عليها سوى مهمة وحيدة، هي تحضير وجبة الإفطار وكوبين من الحليب، وضعتهم على طاولة بجوار طفليها النائمين، ثم سدت فجوات باب غرفتهما بمناشف مبللة، وفي التاسعة صباحًا وجدوا جثتها باردة بعد أن حشرت رأسها فى فرن البوتجاز واضعة حدًا لكل هذا العبث.
هيوز قاتل زوجاته
ألقى الجميع باللوم على هيوز بعد أن كشفت رسائلها الأخيرة عن ضربه لها قبل يومين من إجهاضها في عام 1961، وصراخه في وجهها أثناء فترة الحمل المربكة "بأنه يتمنى لها الموت" لكن هيوز آثر الصمت اعتراضًا على كل ما يقال، وبعد ستة أعوام من انتحار بلاث، انتحرت الشاعرة آسيا ويفيل، زوجته الجديدة، بالطريقة نفسها! وهنا شنت الحركات النسوية حربًا لا هوادة فيها على قاتل زوجاته، إلى أن تأثرت الكاتبة الهولندية كوني بالمن بصمت هيوز ومنحته صوتها في كتابها "أنت قلت"، الصادر عن سلسلة الجوائز عن الهيئة العامة للكتاب بترجمة لمياء المقدم، معتمدة على ما كتبه في قصائده الأخيرة، وهكذا تسنى للزوج الصامت أن يدافع عن نفسه عبر قلم بالمن قائلًا: "ما الذي كنت أنتظره من امرأةٍ عضتني في أول لقاءٍ بيننا بدل أن تقبلني؟ كان يجب أن أفهم أن الحب بالنسبة لها مرادفٌ للعنف أو القتال، إن انتزاع قرطها يعني تجريدها من تحضرها للأبد، وحمل القرط كوسام، من يبدأ حبًا كهذا يعرف أنه في قلب هذا الحب يختبئ العنف والدمار، وفي النهاية يختبئ الموت، من البداية كان أحدنا قد انتهى: هي أو أنا. أحببتها منذ أول يوم وحتى آخر يومٍ في حياتي، وإذا كانت بانتحارها قد رغبت في سجني داخل موتها للأبد، وتذويب جسدي داخل جسدها الغائب، فقد نجحت في ذلك، لقد تحوّلت بالفعل إلى زوجٍ سجين في الموت، مشدودٍ إلى جثّة زواجٍ بقوّة لا يمكن كسرها!".
من الصعب أن نحسم الأمر في لعبة الحب والزواج، سيما لو كانا شاعرين، حياتهما ليست إلا مجرد وقود لشحذ الخيال ورسم الكلمات، ربما لو تأملنا قصيدة بلاث التي تبدو كأنها خارجة لتوها من قبرها، لاقتنعنا بغلق ملف القضية إلى الأبد دون تحديد من كان الضحية ومن الجلاد:
بلغت المرأة حدّ الكمال
على جسدها الميت
ترتسم بسمة الإنجاز
تقول قدماها الحافيتان
كما يبدو
ها قد ذهبنا بعيدًا وانتهى كل شيء.
سناء عبد العزيز 22 فبراير 2023
تغطيات
شارك هذا المقال
حجم الخط
شغلت حادثة انتحار الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث منذ ستين عامًا، الكثير من النقاد والدارسين وكتاب السير الذاتية والحركات النسوية وصناع الأفلام، حتى أن عالم النفس الأميركي جيمس كاوفمان صاغ مصطلح "تأثير سيلفيا بلاث" عام 2001 لوصف الاضطراب الذي يتمكن من نفوس الشاعرات على وجه الخصوص، مشيرًا إلى أنهن الأكثر عرضة للافتراس من غيرهن من النساء البارزات كالسياسيات والممثلات والفنانات. علمًا بأن بلاث لم تكن تراه على تلك الشاكلة، فقد تمثل الموت أمام عينيها المتعبتين كفرصة أكيدة للانعتاق، وهو الذي راودها عن نفسه في سن العاشرة حين تعرضت لحادث كاد أن يودي بحياتها، ومن يومها ظلت تسعى إليه بكامل إرادتها كلما انقضى عقد من عمرها، كمن يرغب في محو أثره كلما قطع من رحلته الأرضية عشرة أعوام، تقول في قصيدتها "السيدة لعازر" التي كتبتها قبل رحيلها بأشهر قليلة "كنت أفعلها مجددًا/ وأفلح مرة كل عشرة أعوام/ في بلوغ الهدف/ الموت فن مثل أي شيء آخر/ أمارسه على نحو استثنائي".
"أليكترا على مسار الأزلية"
ولدت بلاث في السابع والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1932 خلال فترة الكساد الكبير في بوسطن، كان والدها؛ أستاذ الأحياء النابغ، منبوذًا من عائلته لأنه رفض النزول عند رغبتهم في أن يصبح وزيرًا، وفضل أن يكتب عن النحل وممالكه وهو ما ظهر أثره في قصائد سيلفيا التي ورثت عن أبيها شغفه بالنحل والتفنن في وصف لدغاته، لكن معاناته مع المرض وصراخه وأنينه وموته المبكر، كان له أفدح الأثر على تكوينها وحياتها بأكملها، حتى أن الطفلة التي تربت على مبادئ الدين المسيحي قررت يومها بغضب "لن أخاطب الله بعد الآن". ودفعتها زيارات قبره المتكررة إلى كتابة قصيدة "أليكترا على مسار الأزلية"، حتى انتقلت مع أسرتها إلى ويسلي ماساتشوستس، وانحجب عنها البحر. تصف بلاث حياتها في تلك الفترة: "هكذا تجمدت رؤيتي لتلك الطفولة على شاطئ البحر. مات أبي، وانتقلنا إلى مدينة داخلية. خُتمت سنواتي التسع الأولى وكأنها سفينة في زجاجة جميلة، لا يمكن الوصول إليها، كما عفا الزمن على أسطورة الطيران المفعمة بالبراءة".
نشرت بلاث قصيدتها الأولى في الثامنة من عمرها وبدأت في كتابة أول رواية بعنوان "غبار النجوم"، وهي لم تزل في التاسعة فحسب، في الوقت الذي أظهرت ولعًا خاصًا بالرسم وفازت بجوائز عن لوحاتها المبكرة |
نشرت بلاث قصيدتها الأولى في الثامنة من عمرها وبدأت في كتابة أول رواية بعنوان "غبار النجوم"، وهي لم تزل في التاسعة فحسب، في الوقت الذي أظهرت ولعًا خاصًا بالرسم وفازت بجوائز عن لوحاتها المبكرة. وحتى في كلية سميث، حظيت بلاث بجميع الجوائز الكبرى في الكتابة والبحوث العلمية، وفازت بمكانة مرموقة كمحررة في مجلة "مادموزيل" في مانهاتن، حيث أمضت شهر حزيران (يونيو) تكتب المقالات وتحضر أحداث الموضة وتدير أعمال المجلة بشكل يومي، لكن هذا العبء لم يكن ليشبع طموحها، إذ مثّل ضغطًا شديدًا عليها وإنهاكًا لا يحتمل. تتساءل هيذر كلارك في كتابها عن سيرة بلاث "المذنب الأحمر": هل كان هذا كل ما يمكن أن تأمله بلاث ككاتبة طموحة؟ هل سيقتصر عملها على كتابة تعليقات على الموضة، مثل تلك التي كتبتها حول "التنوع الفلكي للسترات الصوفية؟"، المؤسف في حالتها أنها عندما عادت إلى منزلها تتخبط في هزالها، عرفت أنها رُفضت من فصل الكتابة لفرانك أوكونور في مدرسة هارفارد الصيفية، ففقدت القدرة على القراءة والنوم، وراودها هاجس مخيف بأنها فقدت أيضًا القدرة على الإبداع.
حاولت بلاث إنقاذ نفسها بالعلاج غير أن الصدمات الكهربائية فاقمت من اكتئابها. في أواخر أغسطس (آب)، اختبأت في قبو منزلها وحاولت الانتحار بأقراص منومة؛ وعثر عليها شقيقها بين الموت والحياة بعد ثلاثة أيام. كتبت لاحقًا إلى صديق لها، أن الانتحار بدا أفضل من الحياة بالعلاج القاسي داخل مستشفى الأمراض العقلية. لكن الفتاة ذات الإرادة الحديدية تعافت في نهاية المطاف في مستشفى ماكلين على يد طبيبة تعاملت مع مرضها بطريقة أكثر إنسانية حتى تحسنت صحتها وعادت إلى جامعة سميث في أوائل عام 1954، وتخرجت بامتياز بعد عام واحد، لتواصل الدراسة مرة أخرى بمنحة فولبرايت بجامعة كامبريدج، حيث التقت بالشاعر تيد هيوز الذي كتب لهذه الأسطورة قصة النهاية.
كانت بلاث تتعطش إلى حياة متوهجة مع شاعر مثلها، بوسعه أن يطرد الأشباح التي لازمتها منذ الطفولة... ولكن الرياح لم تأت بما تشتهي السفن |
التقت بلاث هيوز في حفلة طلابية، وسرعان ما تجاذبا أطراف الحديث واشتعل الحوار بينهما؛ عضت سيلفيا خده وانتزع هو قرطًا من أذنيها وتلونت الأجواء بقصة الحب التي ولدت على أعين الحضور حتى أن أحدهم أبدى تلك الملاحظة "كل منهما يستحق الآخر" بيد أنه استطرد متسائلًا: "هل بوسع سيلفيا ترويض هيوز وتدجينه؟!".
في السادس عشر من يونيو (حزيران) 1956 أقيم حفل الزفاف في يوم بلوم؛ اليوم الذي يحتفل فيه عشاق جيمس جويس بزمن السرد في روايته "عوليس". كانت بلاث تتعطش إلى حياة متوهجة مع شاعر مثلها، بوسعه أن يطرد الأشباح التي لازمتها منذ الطفولة، فما ظنك بفتاة تربت على أنين والدها ونواحه؟ لكن الرياح لم تأت بما تشتهي السفن، كما لم يبرهن الحب يومًا أن في مقدوره أن يصنع المعجزات. وشيئاً فشيئًا ظهرت في شعر بلاث بوادر الغضب، تصف حالتها قائلة: "يبدو الأمر كما لو أن حياتي تدار بفعل تيارين كهربائيين بطريقة سحرية: إيجابية البهجة، وسلبية اليأس".
عقب عودة الزوجين إلى إنكلترا عام 1960، أنجبت بلاث ابنتها فريدا، وسرعان ما ولد نيكولاس بعد تجربة إجهاض مريرة، ووجدت المرأة الطموحة نفسها موزعة بين أعمال المنزل وواجبات الأمومة، تتسابق مع دقات الساعة كل يوم لتتمكن من إنجاز مهامها على أكمل وجه، وتحاول بكل طاقتها أن تتفوق في كل الأدوار الموكلة إليها. في هذا الظرف الصعب، تتكشف القلوب على حقيقتها، فبينما توقعت بلاث أن يتحمل هيوز نصيبه من المسؤولية، انتصر هو كمعظم الرجال لحريته، ضاربا بأوجاعها عرض الحائط، ولم يكتفِ بهذا، بل راح يبحث عن الحب بلا مسؤوليات في مكان آخر. يقول في قصيدته النمر الأميركي "اليغور" عام 1957: "يوسع خطاه في براري الحرية/ العالم يتدحرج تحت قوة ضغط كعبه العالي".
ألقى الجميع باللوم على هيوز بعد أن كشفت رسائلها الأخيرة عن ضربه لها قبل يومين من إجهاضها في عام 1961، وصراخه في وجهها أثناء فترة الحمل المربكة "بأنه يتمنى لها الموت"! |
بمجرد أن انفصل الزوجان عام 1962، انطلقت بلاث مع طفليها إلى لندن لتستأجر الشقة الذي عاش فيها دبليو بي ييتس، متوسلة بروح المكان بعد أن خذلها من كانت تظنه نصفها الآخر وشريكها في الإبداع. كتبت بلاث في تلك الفترة أجمل وأجرأ قصائدها والتي صنعت اسمها لاحقًا. كانت تخربش على الحوائط، تدون على حوض المطبخ وقاعدة الحمام، وكل ما تطوله يدها في حيز الأمومة الضيق وبرد شتاء لندن القارس. لكن تصورها عن القدرات الحقيقية لجسدها الهش لم تكن تحتمل المزيد، وراحت تطالب نفسها بالمزيد حتى تراكم الضغط عليها. كتبت في يومياتها: "أنا في وضع حرج، عالقة في ركود، نوع من الشلل في رأسي يجعلني مجمدة، ربما هو التطلع إلى كتابة ثلاثة مقالات في الأسبوع وقراءة ثم إعادة قراءة كل ما كتب في الأدب الإنكليزي في أقل من ثلاثة شهور، أصبحت فاقدة الحس".
لطالما تاقت بلاث إلى كتابة رواية، ووبخت نفسها حين استعصى الشكل عليها، وهو ما تغلبت عليه في ربيع وصيف عام 1961 حين كانت تعيش مع زوجها وابنتهما البالغة من العمر عامًا واحدًا، ودخلت المستشفى لفترة وجيزة لاستئصال الزائدة الدودية، وفجأة تدافعت الذكريات بين عنابر المستشفى لتسترجع تجربتها المريرة كمريضة نفسية تعرضت لصدمات الكهرباء، وتدفق السرد على غير توقع في فترة وجيزة جدًا.
تروي "الناقوس الزجاجي" قصة انهيار امرأة شابة وتعافيها، ومن خلالها، توجه أصابع الاتهام إلى النظام الأبوي الذي فسر طموح النساء على أنه حالة عصبية، وكذلك الطب النفسي باعتباره شريكًا في الجريمة وبخاصة الأطباء الذكور الذين يعالجون بطلتها إستير دون وعي بالضغوط الجندرية التي ساهمت في انهيارها، ما أسفر عن تكدس المصحات بأعداد هائلة من النساء. حسب الإحصاء آنذاك، كان هناك 559000 مريضة في المستشفيات الأميركية، وهو رقم قياسي في تاريخ المرض النفسي.
حاولت بلاث في "الناقوس الزجاجي" إعادة تشكيل مصيرها وإخبار قصتها لمجتمع يتعالى على طموح المرأة ومعاناتها. وعلى الرغم من أن إستير طالبة بارزة وكاتبة بارعة، كانت تخشى أن يؤول مصيرها إلى "نادلة أو كاتبة على الآلة الكاتبة. لكنني لم أستطع تحمل فكرة أن أكون أيًا منهما"، وكان كل خيار متاح لها يعني الخضوع للنظام الأبوي. وبرغم ما حققته الرواية من نجاح، كان نصيبها من المبيعات مخيبا لآمال بلاث، وضاع حلمها بالاستقلال المادي بعيدًا عن كنف الرجال.
في تمام الرابعة والنصف من فجر 11 فبراير (شباط) 1963، استيقظت بلاث كما عادتها لتبدأ الدوران في طاحونة أعمالها اليومية، ولكنها لم تنجز من جدولها المفروض عليها سوى مهمة وحيدة، هي تحضير وجبة الإفطار وكوبين من الحليب، وضعتهم على طاولة بجوار طفليها النائمين، ثم سدت فجوات باب غرفتهما بمناشف مبللة، وفي التاسعة صباحًا وجدوا جثتها باردة بعد أن حشرت رأسها فى فرن البوتجاز واضعة حدًا لكل هذا العبث.
هيوز قاتل زوجاته
ألقى الجميع باللوم على هيوز بعد أن كشفت رسائلها الأخيرة عن ضربه لها قبل يومين من إجهاضها في عام 1961، وصراخه في وجهها أثناء فترة الحمل المربكة "بأنه يتمنى لها الموت" لكن هيوز آثر الصمت اعتراضًا على كل ما يقال، وبعد ستة أعوام من انتحار بلاث، انتحرت الشاعرة آسيا ويفيل، زوجته الجديدة، بالطريقة نفسها! وهنا شنت الحركات النسوية حربًا لا هوادة فيها على قاتل زوجاته، إلى أن تأثرت الكاتبة الهولندية كوني بالمن بصمت هيوز ومنحته صوتها في كتابها "أنت قلت"، الصادر عن سلسلة الجوائز عن الهيئة العامة للكتاب بترجمة لمياء المقدم، معتمدة على ما كتبه في قصائده الأخيرة، وهكذا تسنى للزوج الصامت أن يدافع عن نفسه عبر قلم بالمن قائلًا: "ما الذي كنت أنتظره من امرأةٍ عضتني في أول لقاءٍ بيننا بدل أن تقبلني؟ كان يجب أن أفهم أن الحب بالنسبة لها مرادفٌ للعنف أو القتال، إن انتزاع قرطها يعني تجريدها من تحضرها للأبد، وحمل القرط كوسام، من يبدأ حبًا كهذا يعرف أنه في قلب هذا الحب يختبئ العنف والدمار، وفي النهاية يختبئ الموت، من البداية كان أحدنا قد انتهى: هي أو أنا. أحببتها منذ أول يوم وحتى آخر يومٍ في حياتي، وإذا كانت بانتحارها قد رغبت في سجني داخل موتها للأبد، وتذويب جسدي داخل جسدها الغائب، فقد نجحت في ذلك، لقد تحوّلت بالفعل إلى زوجٍ سجين في الموت، مشدودٍ إلى جثّة زواجٍ بقوّة لا يمكن كسرها!".
من الصعب أن نحسم الأمر في لعبة الحب والزواج، سيما لو كانا شاعرين، حياتهما ليست إلا مجرد وقود لشحذ الخيال ورسم الكلمات، ربما لو تأملنا قصيدة بلاث التي تبدو كأنها خارجة لتوها من قبرها، لاقتنعنا بغلق ملف القضية إلى الأبد دون تحديد من كان الضحية ومن الجلاد:
بلغت المرأة حدّ الكمال
على جسدها الميت
ترتسم بسمة الإنجاز
تقول قدماها الحافيتان
كما يبدو
ها قد ذهبنا بعيدًا وانتهى كل شيء.