سيدني بواتييه في ذكرى رحيله: الخروج من داخل الحُلم
وائل سعيد 31 يناير 2023
تغطيات
سيدني بواتييه
شارك هذا المقال
حجم الخط
لأصحاب البشرة السمراء تاريخ طويل من المعاناة حيث اعتبرت دكنتهم بمثابة دليل كاف على تدنى عرقهم، ما أغرى المجتمعات بتحديد مصائرهم وطريقة عيشهم. الأمر الذي لم يختلف كثيرًا في السينما، إذ تم حصرهم لسنوات طويلة في أدوار متدنية أو تهكمية تستهزئ بهم، حتى أنه عقب عرض فيلم "بورجي وبيس"- Porgy and Bess أواخر الخمسينيات كتبت المسرحية الشابة - آنذاك- لورين هانزبيري: "نحن نعترض على الأدوار التي تصور نساءنا كشريرات ورجالنا كحفنة من الضعفاء، كما أننا لا نريد رؤية سيدني بواتييه البالغ طوله ستة أقدام يجثو على ركبتيه باكيا من أجل بغي"!.
لم يمر العام إلا وظهرت للنور مسرحية من تأليف هانزبيري بعنوان "زبيب في الشمس" تشترك في بطولتها مجموعة من الممثلين السود وعلى رأسهم سيدني بواتييه في دور الابن الكبير للعائلة الفقيرة، واستلهمت الكاتبة عنوان المسرحية من قصيدة بعنوان "حلم مؤجل" للشاعر لانغستون هيوز يتساءل في بدايتها: "ماذا يحدث لحلم مؤجل؟.. أيجف مثل زبيب تحت الشمس". وهو التعبير الأمثل في عيني الشاعر للحلم الأسود عبر التاريخ مشتقًا من ملامحهم الأصيلة، وقد رأى الكاتب ويل هايغود أن بواتييه بدا وكأنه يخرج من داخل حُلم، سعى العديد من الأميركيين لتحقيقه وكان ثقيلًا عسير المنال.
على الأرجح، حمل بواتييه هذا الثقل طواعية - أو جزءًا منه على الأقل- ما جعله واحدًا من أهم نجوم هوليوود فيما يتخطى ستة عقود ومن أميز ما مروا في تاريخ السينما ككل، حتى أن البعض يقول إنه يمكننا تأريخ السينما لجزأين "سينما ما قبل بواتييه وسينما من بعده". النموذج الذي قدمه بواتييه في أفلامه استطاع جذب الجماهير منذ البداية، فيلم وراء فيلمٍ بدأت أواصر التعاطف تتوطد بينه وبين المشاهد، في ظل موجات من المد المناهض للعنصرية في تلك الأوقات -الستينيات- علاقة من الحب يعيشها الجمهور في أفلامه. ومن جانبه يحرص بواتييه طوال الوقت على تقديم الجديد لمحبيه، سواء على الجانب النضالي في مسألة السود ومحاولاته الإنتاجية التي كانت باب عبور لعدد من الممثلين من أصحاب البشرة السمراء، أو التنقل الرشيق في الأدوار، وساعده في ذلك تكوينه الجسماني ووجهه الوسيم، وهي نفس تيمات البطل الهوليوودي الشهير لعقود الذي نال عشق الجمهور كنموذج. من هنا يمكن اعتبار بواتييه النموذج الجنوبي للبطل الغربي واستطاعت هوليوود صنع النموذجين، فالبطل الكادح الجديد يمثل ملايين السود بالإضافة إلى ملايين جدد من جميع الأجناس الذين تأثروا بالحرب العالمية وتبعاتها وكانت معاناتهم هي البداية في الشعور بمعاناة الآخر، ربما لو تأخر بواتييه قليلًا لاختلفت المعطيات.
من الباب الخلفي
ولد سيدنى بواتييه في العشرين من شهر فبراير/شباط 1927 بمدينة ميامي حيث اعتاد والداه المزارعان من جزر الباهاما زيارة المدينة باستمرار لبيع محصولهم من الطماطم، وهو ما سهل له الحصول على الجنسية الأميركية فور ولادته التي جاءت قبل ميعادها بشهرين تقريبًا، مما جعل الوالدين يخشيان عليه من الموت، لدرجة أن عاد الأب يومًا من عمله حاملًا صندوق أحذية ليكون تابوتًا للطفل، إلا أن "آخر العنقود" ابن سبعة كما يقولون، أبى أن يغادر الحياة سريعًا، وعاش حتى تجاوز التسعين من عمره، وغادرها في 6 يناير/كانون الثاني 2022.
وفي مقتبل سن المراهقة أرسلته الأسرة مرة أخرى لميامي للعمل والعيش مع أخيه الكبير وزوجته. هذه المرة تعرف بواتييه على معطيات جديدة للحياة لم يكن يعرفها من قبل، مثل جريان الكهرباء والمياه عبر مواسير، وكان يتفاجأ بالسيارات التي تجري في الشوارع. في إحدى المرات لمح سيدة تقف أمام قطعة كبيرة من الزجاج بداخلها سيدة أخرى تُشبهها في الملامح والملابس والحركات ولم يكن المشهد سوى لسيدة تقف قبالة مرآة، وهو ما يدل على حجم العزلة والضيق في تنشئته الأساسية، وظروف الحياة في بلده مقارنة بالولايات الأميركية. وهناك اشتغل بواتييه "دليفري" للمنازل، لكنه لم يمكث في هذا العمل، فمع أول طرد قام بتوصيله خرجت سيدة بيضاء ونهرته بشدة وأفهمته أن عليه طرق الباب الخلفي للمنزل حين يأتي بالطرود وإلا لن يُفتح له!
صفعته السيدة ودخلت، فما كان منه إلا أن ترك الطرد أمام الباب الرئيسي وقفل عائدًا وقد استغرقه التفكير "لماذا تدعوني للباب الخلفي والباب الرئيسي ملء العين"، شكلت هذه الواقعة المعرفة الأولى لهذا المراهق الأسود عن مفهوم العنصرية، وحين تنقلب الدنيا عليه بسبب فعلته ينصحه أحد الأقارب بركوب القطار والذهاب لمدينة نيويورك، ثم يُشير إلى نفق تحت الأرض، ومن جديد يندهش الفتى من وجود قطار يسير في أنفاق تحت الأرض.
في المدينة الأكثر سكانًا في الولايات المتحدة، اتسعت له الحياة أكثر، فهناك العديد من السود أمثاله في كل مكان وبوسعه أن يُلقي عليهم التحية ويتلقاها منهم ببساطة. وبرغم تنقله بين عدة أعمال بسيطة كغاسل صحون وعامل بار، فقد حرص على تعلم الإنكليزية من صفحات الجرائد والاستعانة بأحد الزبائن. ذات يوم قرأ إعلانًا عن فرص عمل للسود في عدة مهن من ضمنها التمثيل فتحمس لخوض التجربة وخضع للاختبار بمسرح السود الأميركي، إلا أن مؤسس المسرح "لانغستون هيوز" لم يعجبه أداءه ونصحه بالعودة مرة أخرى لغسل الصحون.
أخذ بواتييه بالنصيحة وعاد بالفعل لغسل الأطباق وخلال عدة شهور عمل على صقل مهاراته في التمثيل، محاولًا التخلص من لهجته الباهامية الواضحة والعودة من جديد لمسرح السود الذي سيمكث فيه هذه المرة لبعض الوقت بعد أن حاز إعجاب الجماهير متنقلًا بين الأدوار الرئيسية وما غيرها، حتى واتته الفرصة للسينما بفيلم "لا مفر، 1950"، إخراج داريل زانوك، ليصبح فيلمه السينمائي الأول في مسيرته الفنية الممتدة لأكثر من نصف قرن. اجتمعت الأسرة لرؤية الفيلم وكانت هي المرة الأولى لوالديه في مشاهدة السينما وبالطبع رؤية نجاح ولدهمها. يقول بواتييه أن فكرة التمثيل أعجبته أيما إعجاب وأن النجومية ستكون أروع انتقام إزاء كل ما واجهه في حياته من عنصرية.
السينما كطريق للانتقام
عُرض الفيلم الأول لبواتييه تزامنًا مع ميلاد ثورة الحقوق المدنية في أميركا، وفيه يؤدي دور طبيب يُعالج أحد البيض المتعصبين؛ التيمة التي ميزت لاحقًا معظم أفلامه "رجل أسود في مواجهة متعصبين"، والجديد أن الأمور تسير في نهاية الأمر لصالحه بدون بكائيات مُستهلكة. من هنا أصبح بواتييه أيقونة للنضال العنصري أو كما يقول عنه كاتب السيناريو ستيفن غايدوس "بواتييه هو الرجل الذي أثبت غباء العنصرية في فيلم تلو الآخر"، مع نجاحاته أراد الكثيرون استخدام صورة هذا النموذج في مكافحة العنصرية، وبدأ يتزايد عدد مناصريه وأتباعه، يقول بواتييه: "كنت أحمل آمال وتطلعات شعب بأكمله، إحساس مؤلم بالمسؤولية كوني الشخص الأسود الوحيد في مجموعة MGM بأكملها باستثناء صبي تلميع الأحذية".
في عام 1963، أتيح لبواتييه تحقيق انطلاقة كبيرة بدوره في فيلم "زنابق الحقل"، إنتاج واخراج رالف نيلسون، ورغم أن ميزانية الفيلم كانت متواضعة للغاية إلا أنه حقق إيرادات كبيرة وجلب لبواتييه قبل أن يُكمل عامه الأربعين أوسكار أفضل تمثيل، ليكون بذلك أول من يحصل على الجائزة المرموقة - في دور رئيسي- من أصحاب البشرة السمراء، فقد حصدتها الممثلة هاتي ماكدانيال قبله ولكن في فئة "أفضل ممثلة مساعدة" بدورها الشهير في فيلم "ذهب مع الريح، 1939"، وسيستغرق الأمر 38 عامًا قبل أن يفوز ممثل أسود آخر في هذه الفئة هو دنزل واشنطن عن دوره في "يوم التدريب، 2001".
في الفيلم يقوم بواتييه بدور عامل بوهيمي متجول، يتجول بعربته في إحدى المناطق الريفية وأثناء ذلك يُقابل مجموعة من الراهبات ينتظرن معونة الرب لبناء كنيسة تخدم تلك القرية المنعزلة، لذلك في مشهد اللقاء تشكره إحدى الراهبات كونه مبعوث الرب لمساعدتهن، فيُخبرها بتهكم "لكنه لم يخبرني شيئًا عن ذلك"، من أكثر مشاهد الفيلم تأثيرًا على المشاهدين مشهد بواتييه وهو يقوم بتعليم الراهبات لكنة جديدة في الغناء، ولا تقل فتنتنا عن فتنتهن بهذا الشاب المرح الجميل. طُرح الفيلم قبل أشهر من المسيرة الشهيرة بواشنطن التي خرجت للمطالبة بحقوق الأميركيين الأفارقة، وفيها ألقى مارتن لوثر كينغ خطابه التاريخي "لدي حلم" داعيًا إلى الحد من العنصرية. كانت المحطة التالية هي توقيع الرئيس الأميركي جونسون على قانون الحقوق المدنية للولايات المتحدة الذي "يحظر التمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين أو الجنس".
من هو سيدني بواتييه التالي
قبل نهاية عام 2022 بقليل، أقيم حفل توزيع جوائز غوثام للأفلام المستقلة، في ولاية نيويورك الأميركية، أثناء ذلك أعلن الممثل الشاب جوناثان ميجورز عن إطلاق "مبادرة بواتييه" وهي عبارة عن مجموعة برامج "طموحة تسعى للروح التي جلبها بواتييه إلى العالم، حيث كسر الحواجز في صناعة السينما وعقول الجماهير أيضًا". تتُيح المبادرة لصانعي الأفلام المنح الدراسية وتمويل المشاريع مع دعم الفنانين السود وغيرهم من الفنانين المهمشين الذين يتبعون خطى بواتييه. يقول ميجورز: نعم، نحن نركز على الشتات الأسود، على الفنانين المهمشين الذين عوقبوا في صناعتنا.
يدعم المبادرة عدد من الفنانين والنجوم وصناع السينما مثل، نيامبي نيامبي، تايلور بيج، نيت باركر، جودي تورنر سميث، وين توماس، جيسي ويليامز وجيفري رايت، ويدعوهم ميجورز "مجموعة قدامى المحاربين في صناعة السينما"، وتطمح هذه المبادرة إلى القضاء على سؤال بديهي وقديم "من هو سيدني بواتييه التالي"، حيث لم يعد النجاح يقتصر على بطل بعينه واختلفت أدوار البطولة وتشظت مثلما تشظى كل شيء، وما يزال السؤال قائمًا.
وائل سعيد 31 يناير 2023
تغطيات
سيدني بواتييه
شارك هذا المقال
حجم الخط
لأصحاب البشرة السمراء تاريخ طويل من المعاناة حيث اعتبرت دكنتهم بمثابة دليل كاف على تدنى عرقهم، ما أغرى المجتمعات بتحديد مصائرهم وطريقة عيشهم. الأمر الذي لم يختلف كثيرًا في السينما، إذ تم حصرهم لسنوات طويلة في أدوار متدنية أو تهكمية تستهزئ بهم، حتى أنه عقب عرض فيلم "بورجي وبيس"- Porgy and Bess أواخر الخمسينيات كتبت المسرحية الشابة - آنذاك- لورين هانزبيري: "نحن نعترض على الأدوار التي تصور نساءنا كشريرات ورجالنا كحفنة من الضعفاء، كما أننا لا نريد رؤية سيدني بواتييه البالغ طوله ستة أقدام يجثو على ركبتيه باكيا من أجل بغي"!.
لم يمر العام إلا وظهرت للنور مسرحية من تأليف هانزبيري بعنوان "زبيب في الشمس" تشترك في بطولتها مجموعة من الممثلين السود وعلى رأسهم سيدني بواتييه في دور الابن الكبير للعائلة الفقيرة، واستلهمت الكاتبة عنوان المسرحية من قصيدة بعنوان "حلم مؤجل" للشاعر لانغستون هيوز يتساءل في بدايتها: "ماذا يحدث لحلم مؤجل؟.. أيجف مثل زبيب تحت الشمس". وهو التعبير الأمثل في عيني الشاعر للحلم الأسود عبر التاريخ مشتقًا من ملامحهم الأصيلة، وقد رأى الكاتب ويل هايغود أن بواتييه بدا وكأنه يخرج من داخل حُلم، سعى العديد من الأميركيين لتحقيقه وكان ثقيلًا عسير المنال.
على الأرجح، حمل بواتييه هذا الثقل طواعية - أو جزءًا منه على الأقل- ما جعله واحدًا من أهم نجوم هوليوود فيما يتخطى ستة عقود ومن أميز ما مروا في تاريخ السينما ككل، حتى أن البعض يقول إنه يمكننا تأريخ السينما لجزأين "سينما ما قبل بواتييه وسينما من بعده". النموذج الذي قدمه بواتييه في أفلامه استطاع جذب الجماهير منذ البداية، فيلم وراء فيلمٍ بدأت أواصر التعاطف تتوطد بينه وبين المشاهد، في ظل موجات من المد المناهض للعنصرية في تلك الأوقات -الستينيات- علاقة من الحب يعيشها الجمهور في أفلامه. ومن جانبه يحرص بواتييه طوال الوقت على تقديم الجديد لمحبيه، سواء على الجانب النضالي في مسألة السود ومحاولاته الإنتاجية التي كانت باب عبور لعدد من الممثلين من أصحاب البشرة السمراء، أو التنقل الرشيق في الأدوار، وساعده في ذلك تكوينه الجسماني ووجهه الوسيم، وهي نفس تيمات البطل الهوليوودي الشهير لعقود الذي نال عشق الجمهور كنموذج. من هنا يمكن اعتبار بواتييه النموذج الجنوبي للبطل الغربي واستطاعت هوليوود صنع النموذجين، فالبطل الكادح الجديد يمثل ملايين السود بالإضافة إلى ملايين جدد من جميع الأجناس الذين تأثروا بالحرب العالمية وتبعاتها وكانت معاناتهم هي البداية في الشعور بمعاناة الآخر، ربما لو تأخر بواتييه قليلًا لاختلفت المعطيات.
"البعض في هوليوود يقول إنه يمكننا تأريخ السينما لجزأين "سينما ما قبل بواتييه وسينما من بعده"" |
ولد سيدنى بواتييه في العشرين من شهر فبراير/شباط 1927 بمدينة ميامي حيث اعتاد والداه المزارعان من جزر الباهاما زيارة المدينة باستمرار لبيع محصولهم من الطماطم، وهو ما سهل له الحصول على الجنسية الأميركية فور ولادته التي جاءت قبل ميعادها بشهرين تقريبًا، مما جعل الوالدين يخشيان عليه من الموت، لدرجة أن عاد الأب يومًا من عمله حاملًا صندوق أحذية ليكون تابوتًا للطفل، إلا أن "آخر العنقود" ابن سبعة كما يقولون، أبى أن يغادر الحياة سريعًا، وعاش حتى تجاوز التسعين من عمره، وغادرها في 6 يناير/كانون الثاني 2022.
وفي مقتبل سن المراهقة أرسلته الأسرة مرة أخرى لميامي للعمل والعيش مع أخيه الكبير وزوجته. هذه المرة تعرف بواتييه على معطيات جديدة للحياة لم يكن يعرفها من قبل، مثل جريان الكهرباء والمياه عبر مواسير، وكان يتفاجأ بالسيارات التي تجري في الشوارع. في إحدى المرات لمح سيدة تقف أمام قطعة كبيرة من الزجاج بداخلها سيدة أخرى تُشبهها في الملامح والملابس والحركات ولم يكن المشهد سوى لسيدة تقف قبالة مرآة، وهو ما يدل على حجم العزلة والضيق في تنشئته الأساسية، وظروف الحياة في بلده مقارنة بالولايات الأميركية. وهناك اشتغل بواتييه "دليفري" للمنازل، لكنه لم يمكث في هذا العمل، فمع أول طرد قام بتوصيله خرجت سيدة بيضاء ونهرته بشدة وأفهمته أن عليه طرق الباب الخلفي للمنزل حين يأتي بالطرود وإلا لن يُفتح له!
صفعته السيدة ودخلت، فما كان منه إلا أن ترك الطرد أمام الباب الرئيسي وقفل عائدًا وقد استغرقه التفكير "لماذا تدعوني للباب الخلفي والباب الرئيسي ملء العين"، شكلت هذه الواقعة المعرفة الأولى لهذا المراهق الأسود عن مفهوم العنصرية، وحين تنقلب الدنيا عليه بسبب فعلته ينصحه أحد الأقارب بركوب القطار والذهاب لمدينة نيويورك، ثم يُشير إلى نفق تحت الأرض، ومن جديد يندهش الفتى من وجود قطار يسير في أنفاق تحت الأرض.
في المدينة الأكثر سكانًا في الولايات المتحدة، اتسعت له الحياة أكثر، فهناك العديد من السود أمثاله في كل مكان وبوسعه أن يُلقي عليهم التحية ويتلقاها منهم ببساطة. وبرغم تنقله بين عدة أعمال بسيطة كغاسل صحون وعامل بار، فقد حرص على تعلم الإنكليزية من صفحات الجرائد والاستعانة بأحد الزبائن. ذات يوم قرأ إعلانًا عن فرص عمل للسود في عدة مهن من ضمنها التمثيل فتحمس لخوض التجربة وخضع للاختبار بمسرح السود الأميركي، إلا أن مؤسس المسرح "لانغستون هيوز" لم يعجبه أداءه ونصحه بالعودة مرة أخرى لغسل الصحون.
"أصبح بواتييه أيقونة للنضال العنصري أو كما يقول عنه كاتب السيناريو ستيفن غايدوس "بواتييه هو الرجل الذي أثبت غباء العنصرية في فيلم تلو الآخر"" |
السينما كطريق للانتقام
عُرض الفيلم الأول لبواتييه تزامنًا مع ميلاد ثورة الحقوق المدنية في أميركا، وفيه يؤدي دور طبيب يُعالج أحد البيض المتعصبين؛ التيمة التي ميزت لاحقًا معظم أفلامه "رجل أسود في مواجهة متعصبين"، والجديد أن الأمور تسير في نهاية الأمر لصالحه بدون بكائيات مُستهلكة. من هنا أصبح بواتييه أيقونة للنضال العنصري أو كما يقول عنه كاتب السيناريو ستيفن غايدوس "بواتييه هو الرجل الذي أثبت غباء العنصرية في فيلم تلو الآخر"، مع نجاحاته أراد الكثيرون استخدام صورة هذا النموذج في مكافحة العنصرية، وبدأ يتزايد عدد مناصريه وأتباعه، يقول بواتييه: "كنت أحمل آمال وتطلعات شعب بأكمله، إحساس مؤلم بالمسؤولية كوني الشخص الأسود الوحيد في مجموعة MGM بأكملها باستثناء صبي تلميع الأحذية".
في عام 1963، أتيح لبواتييه تحقيق انطلاقة كبيرة بدوره في فيلم "زنابق الحقل"، إنتاج واخراج رالف نيلسون، ورغم أن ميزانية الفيلم كانت متواضعة للغاية إلا أنه حقق إيرادات كبيرة وجلب لبواتييه قبل أن يُكمل عامه الأربعين أوسكار أفضل تمثيل، ليكون بذلك أول من يحصل على الجائزة المرموقة - في دور رئيسي- من أصحاب البشرة السمراء، فقد حصدتها الممثلة هاتي ماكدانيال قبله ولكن في فئة "أفضل ممثلة مساعدة" بدورها الشهير في فيلم "ذهب مع الريح، 1939"، وسيستغرق الأمر 38 عامًا قبل أن يفوز ممثل أسود آخر في هذه الفئة هو دنزل واشنطن عن دوره في "يوم التدريب، 2001".
في الفيلم يقوم بواتييه بدور عامل بوهيمي متجول، يتجول بعربته في إحدى المناطق الريفية وأثناء ذلك يُقابل مجموعة من الراهبات ينتظرن معونة الرب لبناء كنيسة تخدم تلك القرية المنعزلة، لذلك في مشهد اللقاء تشكره إحدى الراهبات كونه مبعوث الرب لمساعدتهن، فيُخبرها بتهكم "لكنه لم يخبرني شيئًا عن ذلك"، من أكثر مشاهد الفيلم تأثيرًا على المشاهدين مشهد بواتييه وهو يقوم بتعليم الراهبات لكنة جديدة في الغناء، ولا تقل فتنتنا عن فتنتهن بهذا الشاب المرح الجميل. طُرح الفيلم قبل أشهر من المسيرة الشهيرة بواشنطن التي خرجت للمطالبة بحقوق الأميركيين الأفارقة، وفيها ألقى مارتن لوثر كينغ خطابه التاريخي "لدي حلم" داعيًا إلى الحد من العنصرية. كانت المحطة التالية هي توقيع الرئيس الأميركي جونسون على قانون الحقوق المدنية للولايات المتحدة الذي "يحظر التمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين أو الجنس".
من هو سيدني بواتييه التالي
قبل نهاية عام 2022 بقليل، أقيم حفل توزيع جوائز غوثام للأفلام المستقلة، في ولاية نيويورك الأميركية، أثناء ذلك أعلن الممثل الشاب جوناثان ميجورز عن إطلاق "مبادرة بواتييه" وهي عبارة عن مجموعة برامج "طموحة تسعى للروح التي جلبها بواتييه إلى العالم، حيث كسر الحواجز في صناعة السينما وعقول الجماهير أيضًا". تتُيح المبادرة لصانعي الأفلام المنح الدراسية وتمويل المشاريع مع دعم الفنانين السود وغيرهم من الفنانين المهمشين الذين يتبعون خطى بواتييه. يقول ميجورز: نعم، نحن نركز على الشتات الأسود، على الفنانين المهمشين الذين عوقبوا في صناعتنا.
يدعم المبادرة عدد من الفنانين والنجوم وصناع السينما مثل، نيامبي نيامبي، تايلور بيج، نيت باركر، جودي تورنر سميث، وين توماس، جيسي ويليامز وجيفري رايت، ويدعوهم ميجورز "مجموعة قدامى المحاربين في صناعة السينما"، وتطمح هذه المبادرة إلى القضاء على سؤال بديهي وقديم "من هو سيدني بواتييه التالي"، حيث لم يعد النجاح يقتصر على بطل بعينه واختلفت أدوار البطولة وتشظت مثلما تشظى كل شيء، وما يزال السؤال قائمًا.