ما هو العالم المثالي؟ عن "مدن فاضلة" عبر التاريخ
فيكتوريا سوس 3 مارس 2023
ترجمات
"مدرسة أثينا" كما رسمها الإيطالي رافائيل بين 1509 و1511
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة: سارة حبيب
ما هو العالم المثالي؟ هل هو مدينة فاضلة يكون فيها الجميع سعداء من غير أي مشاكل مادية؟ أو هل هو شيء آخر؟
*****
كيف سيبدو شكل عالمٍ مثاليّ؟ سيتفق معظمنا على أن العالم المثالي هو مكان يمكن أن يعيش فيه الجميع بسلام وانسجام؛ مكان لا فقر فيه ولا جوع، ويتمتع الجميع فيه بفرصة تحقيق كامل إمكانياتهم. لكن، للأسف، ما من إجابة جازمة على هذا السؤال، إذ أنه، إلى حد ما على الأقل، مسألةُ رأي شخصي.
يعتقد كثيرون أن الدولة المثالية هي تلك التي يكون الجميع فيها سعداء وراضين بحياتهم. ويعتقد آخرون أن الدولة المثالية هي المكان الذي يسود بين جميع الأفراد والمجموعات فيه انسجامٌ وتوازن مثاليان. في النتيجة، ما يشكّل دولة مثالية يتوقف على القيم والمعتقدات التي نعطيها الأولوية. في هذه المقالة، سنلقي نظرة على العالم المثالي من منظور خمسة فلاسفة: أفلاطون، توماس مور، كامبانيلا، بيرك، وغودوين. وسنستعرض ما سيبدو عليه شكل العالم المثالي من وجهة نظرهم، وما يلزم للوصول إلى هناك.
1 ـ عالم أفلاطون المثالي: دولة متوازنة تمامًا
إن نظرية الدولة المثالية ممثّلة تمثيلًا كاملًا من قبل أفلاطون في كتابه "الجمهورية"، وطُوِّرت أكثر في كتابه "القوانين". وفقًا لأفلاطون، الفن السياسي الحقيقي هو فن إنقاذ الروح وتثقيفها. لذلك، يقترح أفلاطون فرضية أن الفلسفة الحقيقية تتزامن مع السياسة الحقيقية. وأنه لا يمكن بناء دولة حقيقية بناء على قيم الحق والخير العليا إلا عندما يصبح السياسي فيلسوفًا (والعكس بالعكس).
حسب رأي أفلاطون، الدولة المثالية، مثل الروح، هي ذات بنية ثلاثية. ووفقًا لهذه البنية الثلاثية (الإدارة، الحماية، وإنتاج السلع المادية)، يُقسَّم السكان إلى ثلاث طبقات: مُنتجون أو عمال، مساعدون، وحراس أو جنود. وعلى بنية الدولة الصحيحة أن تضمن تعايشهم المتآلف.
تتكون الطبقة الأولى و"الأدنى" ممن تسود عندهم نوازعهم الشهوانية. وتتكون الثانية، وهي طبقة حامية للناس، ممن يسود عندهم المبدأ قوي العزيمة. إنهم يشعرون بواجب يقظ، ويبقون على حذر من الخطر الداخلي والخارجي. أما إذا كانت فضيلة الاعتدال ونوع من حب النظام والانضباط تسود عند شخص، فيمكن عندها أن يكون جزءًا من طبقة الناس الأكثر جدارة، وأولئك هم المعنيون بإدارة الدولة.
وحدهم الأرستقراطيون، وفقًا لأفلاطون، يُستَدعون لحكم الدولة بوصفهم المواطنين الأفضل والأكثر حكمة. وعلى الحكّام أن يكونوا من أولئك الذين يعرفون كيف يحبون "المدينة" أكثر من الآخرين، وممن بوسعهم تأدية واجبهم بأكبر قدر من الحماس. والأهم من ذلك أن على أولئك الحكام أن يعرفوا كيف يميزون الخير ويتأملونه. بكلمات أخرى، أولئك هم من يسود عندهم المبدأ العقلاني، ويمكن عن جدارة دعوتهم "الحكماء".
لذلك، الدولة المثالية هي الدولة التي يُوَجَّه فيها العمال بالاعتدال، الجيش بالشجاعة والقوة، والطبقة الحاكمة بالحكمة.
علاوة على ذلك، مفهوم العدالة في الدولة المثالية مبنيٌّ على فكرة أن الجميع يقوم بما عليه القيام به؛ إنها تخص المواطنين في "المدينة" كما تخص أجزاء الروح في الروح. فالعدالة في العالم الخارجي لا تتجلّى إلا عندما تكون أيضًا حاضرة في الروح. لذلك، في "المدينة" المثالية، يجب أن يكون تعليم المواطنين وتنشئتهم مثاليًا، وعلى هذا التعليم أن يُفصَّل حسب متطلبات كل طبقة بطريقة محددة.
يولي أفلاطون أيضًا أهمية كبيرة لتعليم الحراس، بوصفهم جزءًا فاعلًا من السكان الذين يخرج الحكّام منهم. وعلى التعليم اللائق بالحكّام أن يجمع بين المهارات العملية، وتطور الفلسفة. كما أن غرض التعليم هو تقديم نموذج يتوجب على الحاكم أن يستخدمه سعيًا لتجسيد هذا الخير في الدولة.
يصرّح أفلاطون في "الجمهورية" بأن العيش في عالم مثالي ليس هامًا بقدر ما قد يبدو. ويمكن أن يكون من الجيد بما يكفي العيش وفق قوانين هذه "المدينة"، أي، وفق قوانين الخير، الحق، والعدالة. في النتيجة، وقبل الظهور في الواقع خارجيًا، أي في التاريخ، وُلِدت المدينة الأفلاطونية أولًا داخل البشر أنفسهم.
2 ـ جزيرة العجب الطوباوية عند توماس مور
"يوتوبيا" (المدينة الفاضلة) لتوماس مور، والمكتوب عام 1516، هو الكتاب الذي منح الاسمَ للنوع المماثل في الأدب، كما قدّم النموذج الجديد للعالم المثالي. يوتوبيا مور هي دولة مُقامة على جزيرة. الملك في هذه الدولة هو من يتولى الحكم، أما المناصب الإدارية العليا فيجري انتخابها. لكن، المشكلة هي أن كل مواطن في هذه اليوتوبيا مرتبط ارتباطًا شديدًا بنقابته المهنية، ما يعني أنه ليس لديه فرصة للوصول إلى الإدارة.
على الجزيرة، وبما أن الحكام بعيدون كل البعد عن الناس، ما من أيديولوجيا مدروسة، أو دين مدروس: يُفضَّل الإيمان بإله واحد، لكنْ لكل شخص حرية التمعن في "التفاصيل" وفق تقديره الخاص. في وسعك أن تكون مسيحيًا، أو وثنيًا. لكن، لا يمكن القول إن بعض الآلهة أفضل من الأخرى، أو أنه لا توجد آلهة على الإطلاق.
ما من مال أو ملكية خاصة على الجزيرة. والتوزيع المنظم للسلع استأصل التجارة الحرّة بشكل كامل. وبدلًا من سوق العمل، ثمة خدمة عمل عامة.
لا يعمل اليوتوبيون بجد كبير، وذلك لأن المستَعبدين يقومون بالعمل القذر والعمل الشاق. يستعبد سكان الجزيرة مواطنيهم كنوع من العقاب على الأفعال المشينة؛ الأجانب الذين ينتظرون الإعدام جراء جريمة ارتكبوها يمكن أيضًا استعبادهم بدلًا من الإعدام.
ضمن هذه الظروف، ليس أي تنوع جمالي ممكنًا: حياة أي عائلة ليست مختلفة عن حياة أي عائلة أخرى؛ اللغة، العادات، المؤسسات، القوانين، المنازل، وحتى تخطيط المدن في أرجاء الجزيرة، متشابهة.
بالطبع، لم يتحقق مشروع الكاتب الإنكليزي أبدًا، لكن يمكن تمييز بعض سماته بسهولة في دول معاصرة. ولا تعود هذه التشابهات إلى مصادفات ظريفة، إنما إلى أنماط عامة. على سبيل المثال، اعتقد مور أن رفض الملكية الخاصة يؤدي حتمًا إلى توحيد ثقافي؛ وهو شيء يمكن ملاحظته في الدول التي كانت فيها الملكية الخاصة محدودة بطريقة ما. كذلك، ثمة تصور واضح آخر يمكن أن نأخذه من يوتوبيا مور، وهو التالي: من دون تطور تكنولوجي، ليس من الممكن تقليل عبء العمل بالنسبة إلى بعض المواطنين إلا من خلال الإفراط في استغلال الآخرين.
3 ـ مدينة الشمس لتوماسو كامبانيلا
نموذج العالم المثالي الذي قدّمه توماسو كامبانيلا في "مدينة الشمس" هو ربما النموذج الأكثر شهرة والأكثر "شمولية" بين كل المدن الفاضلة. في "مدينة الشمس"، حسب الفكرة الطوباوية، كان على كل أنواع الوسائل التعليمية أن تُرسَم على الجدران مباشرة: الأشجار، الحيوانات، الأجرام السماوية، المعادن، الأنهار، البحار والجبال.
كل المشاكل، كل الجرائم، وفق رأي كامبانيلا، أتت من مصدرين: من الملكية الخاصة، ومن العائلة. لذلك، في "مدينة الشمس"، كل شيء هو منفعة عامة، والزواج الأحادي وحق الوالدين بإنجاب طفل يُعدان من مخلفات الماضي. الشمسيون (سكان مدينة الشمس)، أولئك المواطنون الطوباويون الجدد، يعملون دائمًا معًا، لا يأكلون إلا في قاعات طعام عامة، ولا ينامون إلا في غرف نوم مشتركة.
أما الأفكار التي تخص الديمقراطية فغريبة عن سكان مدينة الشمس. تقود المدينة طائفةٌ من العلماء ـ الكهنة: الكاهن الأعلى، وهو يدعى الميتافيزيقي أو الشمس، وشركاؤه في الحكم؛ السلطة، الحكمة، والحب. وهؤلاء لا أحد يختارهم؛ على العكس، القادة الأعلى منزلة يعينون قادة المستوى الأدنى منهم، والباحثين ـ الكهنة ذوي المنزلة الأكثر انخفاضًا.
العلم هو دين أهل مدينة الشمس. وهدف حياتهم هو تسلّق درجات المعرفة العقلانية. وتلك المعرفة مبنية بتماشٍ صارم مع المبادئ العلمية التي، بدورها، تُطبَّق على التجريبية اليومية من قبل الكهنة.
في قمة المعبد، ثمة أربعة وعشرون كاهنًا، وهم يقومون بغناء الأناشيد الدينية لله عند منتصف الليل، عند الظهيرة، الصباح، والمساء؛ أربع مرات في اليوم. كذلك، عليهم أن يراقبوا النجوم، وأن يتتبعوا حركتها باستخدام الأسطرلاب، وأن يدرسوا طاقاتها وتأثيراتها على شؤون البشر. ومن خلال ذلك، يعرفون ما هي التغييرات التي حدثت، أو على وشك أن تحدث، في مناطق معينة من الأرض، وفي أي وقت ستحدث. كذلك، هم يعملون على تحديد أفضل الأوقات للتسميد، أيام البَذر والحصاد؛ إنهم، بمعنى ما، يقومون بوظيفة الناقل والصلة بين الله والبشر.
قد تقرأ هذا الوصف وتفكر: ما المشكلة إذًا في هذا النظام المنسجم؟ أين يخفق؟ ولماذا يكون مجتمع قائم على العلم ويحكمه العلماء غير صالح؟ يمكن القول إن "مدينة الشمس" ليست مدينة فاضلة، لأن المرء لا يمكنه أن يكون سعيدًا من دون فرصة أن يكون وحيدًا مع نفسه، مع زوجته/ زوجه، أطفاله، أشيائه المفضلة، أو حتى مع آثامه. ومثل أي مدينة فاضلة أخرى تتخلى عن الملكية الخاصة، فمدينة كامبانيلا الفاضلة تسلب المرء هذا النوع من السعادة.
4 ـ المدينة الفاضلة المُحافِظة عند بيرك
إدموند بيرك هو مؤسس أيديولوجيا المُحافَظة (النزعة المحافظية). وكتابه "دفاع عن المجتمع الطبيعي" يطرح فكرة أول مدينة فاضلة محافِظة. وقد كتبه بيرك ردًا على كتاب الفيكونت هنري بولينغبروك "رسائل حول دراسة التاريخ واستخدامه"، الذي هاجم فيه هذا الأخير الكنيسة. والمثير للاهتمام هنا أن بيرك لا يدافع عن مؤسسات الدين، إنما عن مؤسسات الدولة، مُظهِرًا أن إلغاءها يماثل إلغاء مؤسسات الكنيسة.
يلجأ الفيلسوف بيرك إلى تمثيل العالم المثالي بشكل ساخر. ويصف كل شكل من أشكال الحكومة عُرف عند البشرية. يقول بيرك إن كل تلك الأشكال ـ بطرق مباشرة، أو غير مباشرة ـ تؤدي بالشخص إلى العبودية. لذلك يقترح أن نترك الدولة ونعيش وفق قوانين "مجتمع طبيعي". فإذا كان المجتمع السياسي، أيًّا يكن الشكل الذي قد يتخذه، قد حوّل الحصة الأكبر إلى ملكية قلّة قليلة وأدى إلى نشوء أشكال عملٍ استغلالية، ورذائل، وأمراض، لماذا علينا أن نستمر بعبادة مثل هذا الصنم المؤذي ونضحي بصحتنا وحريتنا لأجله؟
يعتقد بيرك أن صورة مختلفة تمامًا يمكن ملاحظتها في دولة الطبيعة. فما من حاجة لأي شيء يمكن للطبيعة أن توفّره. وفي مثل تلك الدولة، لا يمكن للمرء أن يختبر أي حاجات أخرى عدا تلك التي يمكن إشباعها من خلال عمل معتدل للغاية، ولذلك، ليس ثمة من عبودية. كذلك، ما من ترف في مثل تلك الدولة، لأنه ما من شخص يمكنه لوحده صنع الأشياء الضرورية للترف. الحياة بسيطة، وبالتالي، سعيدة.
لكن بيرك ساخر. وتقوم وجهة نظره تحديدًا على حقيقة أنه لا يمكن تطوير المجتمع من دون استمرارية تاريخية، ومن دون الاعتماد على مؤسسات سياسية، اجتماعية، ودينية، موجودة سلفًا. بالنسبة إليه، الدولة الموجودة طبيعية، وأي مشروع ثوري يحطّم الواقع الاجتماعي هو مشروع زائف وغير طبيعي.
5 ـ المدينة الفاضلة الأناركية عند غودوين
أغفل كثيرون سخرية بيرك، ورأوا أنه كان جديًّا منظِّرًا للأناركية. وأحد أولئك الأشخاص كان ويليام غودوين، مبتكر أول مدينة فاضلة أناركية حقيقية. في الجزء الاستهلالي من كتابه "استفسار حول العدالة السياسية"، يعيد غودوين صياغة كلام بيرك في معظمه، وفي الجزء الثاني يقدم برنامجًا إيجابيًا يثبته.
الفرد هو مركز رؤية العالم المثالية عند غودوين، ويُحدَّد سلوك ذلك الفرد بأكمله بالمنطق. فلا يمكن للمجتمع أن يكون صحيًّا إلا إذا بُني على مبادئ المنطق. كذلك ثمة حقيقة واحدة فحسب، ما يعني أن بنية المجتمع الحقيقية هي واحدة فقط. لا يستحق الأمر بالطبع البحث عن هذا الترتيب في الماضي، لأن تاريخ البشرية بأكمله هو تاريخُ جرائم. إنه تاريخ عنف الدولة ضد الفرد. وليس الدولة فحسب، بل كل ما يستعبد العقل بالعموم يفرض معيارًا موحِّدًا عليه.
الشخص المثالي حسب رؤية غودوين للعالم هو "عدو الدولة" الأزلي. ويعتقد غودوين أن البشرية تترقب "عهدًا جديدًا" تحلّ فيه جماعات مكتفية ذاتيًا مؤلفة من بشر جديدين محلّ الدول.
*****
إذًا، ما هو العالم المثالي؟
إنه سؤال طرحه كثيرون عبر القرون، وما من إجابة مفردة أرضت الجميع.
في هذه المقالة، اطلعنا على خمس وجهات نظر مختلفة لفلاسفة مشهورين حول ماهية الدولة المثالية. كل واحد من هؤلاء لديه فكرته الخاصة عن ما يشكّل عالمًا مثاليًا، وعن كيفية الوصول إليه. وعلى الرغم من أن آراءهم قد اختلفت في بعض النواحي، فقد اتفقوا جميعًا على أهمية الكفاح من أجل شيء أفضل من العالم الذي نعيش فيه اليوم. وللوصول إلى ذلك، يلزمنا جميعًا أن نغيّر طرقنا، وأن نعمل معًا على تحقيق هدف مشترك.
فيكتوريا سوس: كاتبة من أوكرانيا، حاصلة على ماجستير في الفلسفة. يشمل مجال دراستها المفكرين الرئيسيين. وهي مهتمة على وجه الخصوص بتحليل فكر الفلاسفة القدماء، ومعرفة مدى صلته بحياتنا اليوم.
رابط النص الأصلي:
https://www.thecollector.com/what-is-the-ideal-world-according-to-famous-philosophers/?fbclid=IwAR0LHXni76hFIa31VgNaQ5jkShv49p
سارة حبيب
فيكتوريا سوس 3 مارس 2023
ترجمات
"مدرسة أثينا" كما رسمها الإيطالي رافائيل بين 1509 و1511
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة: سارة حبيب
ما هو العالم المثالي؟ هل هو مدينة فاضلة يكون فيها الجميع سعداء من غير أي مشاكل مادية؟ أو هل هو شيء آخر؟
*****
كيف سيبدو شكل عالمٍ مثاليّ؟ سيتفق معظمنا على أن العالم المثالي هو مكان يمكن أن يعيش فيه الجميع بسلام وانسجام؛ مكان لا فقر فيه ولا جوع، ويتمتع الجميع فيه بفرصة تحقيق كامل إمكانياتهم. لكن، للأسف، ما من إجابة جازمة على هذا السؤال، إذ أنه، إلى حد ما على الأقل، مسألةُ رأي شخصي.
يعتقد كثيرون أن الدولة المثالية هي تلك التي يكون الجميع فيها سعداء وراضين بحياتهم. ويعتقد آخرون أن الدولة المثالية هي المكان الذي يسود بين جميع الأفراد والمجموعات فيه انسجامٌ وتوازن مثاليان. في النتيجة، ما يشكّل دولة مثالية يتوقف على القيم والمعتقدات التي نعطيها الأولوية. في هذه المقالة، سنلقي نظرة على العالم المثالي من منظور خمسة فلاسفة: أفلاطون، توماس مور، كامبانيلا، بيرك، وغودوين. وسنستعرض ما سيبدو عليه شكل العالم المثالي من وجهة نظرهم، وما يلزم للوصول إلى هناك.
1 ـ عالم أفلاطون المثالي: دولة متوازنة تمامًا
إن نظرية الدولة المثالية ممثّلة تمثيلًا كاملًا من قبل أفلاطون في كتابه "الجمهورية"، وطُوِّرت أكثر في كتابه "القوانين". وفقًا لأفلاطون، الفن السياسي الحقيقي هو فن إنقاذ الروح وتثقيفها. لذلك، يقترح أفلاطون فرضية أن الفلسفة الحقيقية تتزامن مع السياسة الحقيقية. وأنه لا يمكن بناء دولة حقيقية بناء على قيم الحق والخير العليا إلا عندما يصبح السياسي فيلسوفًا (والعكس بالعكس).
حسب رأي أفلاطون، الدولة المثالية، مثل الروح، هي ذات بنية ثلاثية. ووفقًا لهذه البنية الثلاثية (الإدارة، الحماية، وإنتاج السلع المادية)، يُقسَّم السكان إلى ثلاث طبقات: مُنتجون أو عمال، مساعدون، وحراس أو جنود. وعلى بنية الدولة الصحيحة أن تضمن تعايشهم المتآلف.
تتكون الطبقة الأولى و"الأدنى" ممن تسود عندهم نوازعهم الشهوانية. وتتكون الثانية، وهي طبقة حامية للناس، ممن يسود عندهم المبدأ قوي العزيمة. إنهم يشعرون بواجب يقظ، ويبقون على حذر من الخطر الداخلي والخارجي. أما إذا كانت فضيلة الاعتدال ونوع من حب النظام والانضباط تسود عند شخص، فيمكن عندها أن يكون جزءًا من طبقة الناس الأكثر جدارة، وأولئك هم المعنيون بإدارة الدولة.
"وحدهم الأرستقراطيون، وفقًا لأفلاطون، يُستَدعون لحكم الدولة بوصفهم المواطنين الأفضل والأكثر حكمة!" |
وحدهم الأرستقراطيون، وفقًا لأفلاطون، يُستَدعون لحكم الدولة بوصفهم المواطنين الأفضل والأكثر حكمة. وعلى الحكّام أن يكونوا من أولئك الذين يعرفون كيف يحبون "المدينة" أكثر من الآخرين، وممن بوسعهم تأدية واجبهم بأكبر قدر من الحماس. والأهم من ذلك أن على أولئك الحكام أن يعرفوا كيف يميزون الخير ويتأملونه. بكلمات أخرى، أولئك هم من يسود عندهم المبدأ العقلاني، ويمكن عن جدارة دعوتهم "الحكماء".
لذلك، الدولة المثالية هي الدولة التي يُوَجَّه فيها العمال بالاعتدال، الجيش بالشجاعة والقوة، والطبقة الحاكمة بالحكمة.
علاوة على ذلك، مفهوم العدالة في الدولة المثالية مبنيٌّ على فكرة أن الجميع يقوم بما عليه القيام به؛ إنها تخص المواطنين في "المدينة" كما تخص أجزاء الروح في الروح. فالعدالة في العالم الخارجي لا تتجلّى إلا عندما تكون أيضًا حاضرة في الروح. لذلك، في "المدينة" المثالية، يجب أن يكون تعليم المواطنين وتنشئتهم مثاليًا، وعلى هذا التعليم أن يُفصَّل حسب متطلبات كل طبقة بطريقة محددة.
يولي أفلاطون أيضًا أهمية كبيرة لتعليم الحراس، بوصفهم جزءًا فاعلًا من السكان الذين يخرج الحكّام منهم. وعلى التعليم اللائق بالحكّام أن يجمع بين المهارات العملية، وتطور الفلسفة. كما أن غرض التعليم هو تقديم نموذج يتوجب على الحاكم أن يستخدمه سعيًا لتجسيد هذا الخير في الدولة.
يصرّح أفلاطون في "الجمهورية" بأن العيش في عالم مثالي ليس هامًا بقدر ما قد يبدو. ويمكن أن يكون من الجيد بما يكفي العيش وفق قوانين هذه "المدينة"، أي، وفق قوانين الخير، الحق، والعدالة. في النتيجة، وقبل الظهور في الواقع خارجيًا، أي في التاريخ، وُلِدت المدينة الأفلاطونية أولًا داخل البشر أنفسهم.
2 ـ جزيرة العجب الطوباوية عند توماس مور
"يوتوبيا" (المدينة الفاضلة) لتوماس مور، والمكتوب عام 1516، هو الكتاب الذي منح الاسمَ للنوع المماثل في الأدب، كما قدّم النموذج الجديد للعالم المثالي. يوتوبيا مور هي دولة مُقامة على جزيرة. الملك في هذه الدولة هو من يتولى الحكم، أما المناصب الإدارية العليا فيجري انتخابها. لكن، المشكلة هي أن كل مواطن في هذه اليوتوبيا مرتبط ارتباطًا شديدًا بنقابته المهنية، ما يعني أنه ليس لديه فرصة للوصول إلى الإدارة.
على الجزيرة، وبما أن الحكام بعيدون كل البعد عن الناس، ما من أيديولوجيا مدروسة، أو دين مدروس: يُفضَّل الإيمان بإله واحد، لكنْ لكل شخص حرية التمعن في "التفاصيل" وفق تقديره الخاص. في وسعك أن تكون مسيحيًا، أو وثنيًا. لكن، لا يمكن القول إن بعض الآلهة أفضل من الأخرى، أو أنه لا توجد آلهة على الإطلاق.
ما من مال أو ملكية خاصة على الجزيرة. والتوزيع المنظم للسلع استأصل التجارة الحرّة بشكل كامل. وبدلًا من سوق العمل، ثمة خدمة عمل عامة.
لا يعمل اليوتوبيون بجد كبير، وذلك لأن المستَعبدين يقومون بالعمل القذر والعمل الشاق. يستعبد سكان الجزيرة مواطنيهم كنوع من العقاب على الأفعال المشينة؛ الأجانب الذين ينتظرون الإعدام جراء جريمة ارتكبوها يمكن أيضًا استعبادهم بدلًا من الإعدام.
"يستعبد سكان الجزيرة مواطنيهم كنوع من العقاب على الأفعال المشينة؛ الأجانب الذين ينتظرون الإعدام جراء جريمة ارتكبوها يمكن أيضًا استعبادهم بدلًا من الإعدام" |
ضمن هذه الظروف، ليس أي تنوع جمالي ممكنًا: حياة أي عائلة ليست مختلفة عن حياة أي عائلة أخرى؛ اللغة، العادات، المؤسسات، القوانين، المنازل، وحتى تخطيط المدن في أرجاء الجزيرة، متشابهة.
بالطبع، لم يتحقق مشروع الكاتب الإنكليزي أبدًا، لكن يمكن تمييز بعض سماته بسهولة في دول معاصرة. ولا تعود هذه التشابهات إلى مصادفات ظريفة، إنما إلى أنماط عامة. على سبيل المثال، اعتقد مور أن رفض الملكية الخاصة يؤدي حتمًا إلى توحيد ثقافي؛ وهو شيء يمكن ملاحظته في الدول التي كانت فيها الملكية الخاصة محدودة بطريقة ما. كذلك، ثمة تصور واضح آخر يمكن أن نأخذه من يوتوبيا مور، وهو التالي: من دون تطور تكنولوجي، ليس من الممكن تقليل عبء العمل بالنسبة إلى بعض المواطنين إلا من خلال الإفراط في استغلال الآخرين.
3 ـ مدينة الشمس لتوماسو كامبانيلا
نموذج العالم المثالي الذي قدّمه توماسو كامبانيلا في "مدينة الشمس" هو ربما النموذج الأكثر شهرة والأكثر "شمولية" بين كل المدن الفاضلة. في "مدينة الشمس"، حسب الفكرة الطوباوية، كان على كل أنواع الوسائل التعليمية أن تُرسَم على الجدران مباشرة: الأشجار، الحيوانات، الأجرام السماوية، المعادن، الأنهار، البحار والجبال.
كل المشاكل، كل الجرائم، وفق رأي كامبانيلا، أتت من مصدرين: من الملكية الخاصة، ومن العائلة. لذلك، في "مدينة الشمس"، كل شيء هو منفعة عامة، والزواج الأحادي وحق الوالدين بإنجاب طفل يُعدان من مخلفات الماضي. الشمسيون (سكان مدينة الشمس)، أولئك المواطنون الطوباويون الجدد، يعملون دائمًا معًا، لا يأكلون إلا في قاعات طعام عامة، ولا ينامون إلا في غرف نوم مشتركة.
أما الأفكار التي تخص الديمقراطية فغريبة عن سكان مدينة الشمس. تقود المدينة طائفةٌ من العلماء ـ الكهنة: الكاهن الأعلى، وهو يدعى الميتافيزيقي أو الشمس، وشركاؤه في الحكم؛ السلطة، الحكمة، والحب. وهؤلاء لا أحد يختارهم؛ على العكس، القادة الأعلى منزلة يعينون قادة المستوى الأدنى منهم، والباحثين ـ الكهنة ذوي المنزلة الأكثر انخفاضًا.
"كل المشاكل، كل الجرائم، وفق رأي كامبانيلا، أتت من مصدرين: من الملكية الخاصة، ومن العائلة" |
العلم هو دين أهل مدينة الشمس. وهدف حياتهم هو تسلّق درجات المعرفة العقلانية. وتلك المعرفة مبنية بتماشٍ صارم مع المبادئ العلمية التي، بدورها، تُطبَّق على التجريبية اليومية من قبل الكهنة.
في قمة المعبد، ثمة أربعة وعشرون كاهنًا، وهم يقومون بغناء الأناشيد الدينية لله عند منتصف الليل، عند الظهيرة، الصباح، والمساء؛ أربع مرات في اليوم. كذلك، عليهم أن يراقبوا النجوم، وأن يتتبعوا حركتها باستخدام الأسطرلاب، وأن يدرسوا طاقاتها وتأثيراتها على شؤون البشر. ومن خلال ذلك، يعرفون ما هي التغييرات التي حدثت، أو على وشك أن تحدث، في مناطق معينة من الأرض، وفي أي وقت ستحدث. كذلك، هم يعملون على تحديد أفضل الأوقات للتسميد، أيام البَذر والحصاد؛ إنهم، بمعنى ما، يقومون بوظيفة الناقل والصلة بين الله والبشر.
قد تقرأ هذا الوصف وتفكر: ما المشكلة إذًا في هذا النظام المنسجم؟ أين يخفق؟ ولماذا يكون مجتمع قائم على العلم ويحكمه العلماء غير صالح؟ يمكن القول إن "مدينة الشمس" ليست مدينة فاضلة، لأن المرء لا يمكنه أن يكون سعيدًا من دون فرصة أن يكون وحيدًا مع نفسه، مع زوجته/ زوجه، أطفاله، أشيائه المفضلة، أو حتى مع آثامه. ومثل أي مدينة فاضلة أخرى تتخلى عن الملكية الخاصة، فمدينة كامبانيلا الفاضلة تسلب المرء هذا النوع من السعادة.
4 ـ المدينة الفاضلة المُحافِظة عند بيرك
إدموند بيرك هو مؤسس أيديولوجيا المُحافَظة (النزعة المحافظية). وكتابه "دفاع عن المجتمع الطبيعي" يطرح فكرة أول مدينة فاضلة محافِظة. وقد كتبه بيرك ردًا على كتاب الفيكونت هنري بولينغبروك "رسائل حول دراسة التاريخ واستخدامه"، الذي هاجم فيه هذا الأخير الكنيسة. والمثير للاهتمام هنا أن بيرك لا يدافع عن مؤسسات الدين، إنما عن مؤسسات الدولة، مُظهِرًا أن إلغاءها يماثل إلغاء مؤسسات الكنيسة.
يلجأ الفيلسوف بيرك إلى تمثيل العالم المثالي بشكل ساخر. ويصف كل شكل من أشكال الحكومة عُرف عند البشرية. يقول بيرك إن كل تلك الأشكال ـ بطرق مباشرة، أو غير مباشرة ـ تؤدي بالشخص إلى العبودية. لذلك يقترح أن نترك الدولة ونعيش وفق قوانين "مجتمع طبيعي". فإذا كان المجتمع السياسي، أيًّا يكن الشكل الذي قد يتخذه، قد حوّل الحصة الأكبر إلى ملكية قلّة قليلة وأدى إلى نشوء أشكال عملٍ استغلالية، ورذائل، وأمراض، لماذا علينا أن نستمر بعبادة مثل هذا الصنم المؤذي ونضحي بصحتنا وحريتنا لأجله؟
يعتقد بيرك أن صورة مختلفة تمامًا يمكن ملاحظتها في دولة الطبيعة. فما من حاجة لأي شيء يمكن للطبيعة أن توفّره. وفي مثل تلك الدولة، لا يمكن للمرء أن يختبر أي حاجات أخرى عدا تلك التي يمكن إشباعها من خلال عمل معتدل للغاية، ولذلك، ليس ثمة من عبودية. كذلك، ما من ترف في مثل تلك الدولة، لأنه ما من شخص يمكنه لوحده صنع الأشياء الضرورية للترف. الحياة بسيطة، وبالتالي، سعيدة.
لكن بيرك ساخر. وتقوم وجهة نظره تحديدًا على حقيقة أنه لا يمكن تطوير المجتمع من دون استمرارية تاريخية، ومن دون الاعتماد على مؤسسات سياسية، اجتماعية، ودينية، موجودة سلفًا. بالنسبة إليه، الدولة الموجودة طبيعية، وأي مشروع ثوري يحطّم الواقع الاجتماعي هو مشروع زائف وغير طبيعي.
5 ـ المدينة الفاضلة الأناركية عند غودوين
أغفل كثيرون سخرية بيرك، ورأوا أنه كان جديًّا منظِّرًا للأناركية. وأحد أولئك الأشخاص كان ويليام غودوين، مبتكر أول مدينة فاضلة أناركية حقيقية. في الجزء الاستهلالي من كتابه "استفسار حول العدالة السياسية"، يعيد غودوين صياغة كلام بيرك في معظمه، وفي الجزء الثاني يقدم برنامجًا إيجابيًا يثبته.
الفرد هو مركز رؤية العالم المثالية عند غودوين، ويُحدَّد سلوك ذلك الفرد بأكمله بالمنطق. فلا يمكن للمجتمع أن يكون صحيًّا إلا إذا بُني على مبادئ المنطق. كذلك ثمة حقيقة واحدة فحسب، ما يعني أن بنية المجتمع الحقيقية هي واحدة فقط. لا يستحق الأمر بالطبع البحث عن هذا الترتيب في الماضي، لأن تاريخ البشرية بأكمله هو تاريخُ جرائم. إنه تاريخ عنف الدولة ضد الفرد. وليس الدولة فحسب، بل كل ما يستعبد العقل بالعموم يفرض معيارًا موحِّدًا عليه.
الشخص المثالي حسب رؤية غودوين للعالم هو "عدو الدولة" الأزلي. ويعتقد غودوين أن البشرية تترقب "عهدًا جديدًا" تحلّ فيه جماعات مكتفية ذاتيًا مؤلفة من بشر جديدين محلّ الدول.
*****
إذًا، ما هو العالم المثالي؟
إنه سؤال طرحه كثيرون عبر القرون، وما من إجابة مفردة أرضت الجميع.
في هذه المقالة، اطلعنا على خمس وجهات نظر مختلفة لفلاسفة مشهورين حول ماهية الدولة المثالية. كل واحد من هؤلاء لديه فكرته الخاصة عن ما يشكّل عالمًا مثاليًا، وعن كيفية الوصول إليه. وعلى الرغم من أن آراءهم قد اختلفت في بعض النواحي، فقد اتفقوا جميعًا على أهمية الكفاح من أجل شيء أفضل من العالم الذي نعيش فيه اليوم. وللوصول إلى ذلك، يلزمنا جميعًا أن نغيّر طرقنا، وأن نعمل معًا على تحقيق هدف مشترك.
فيكتوريا سوس: كاتبة من أوكرانيا، حاصلة على ماجستير في الفلسفة. يشمل مجال دراستها المفكرين الرئيسيين. وهي مهتمة على وجه الخصوص بتحليل فكر الفلاسفة القدماء، ومعرفة مدى صلته بحياتنا اليوم.
رابط النص الأصلي:
https://www.thecollector.com/what-is-the-ideal-world-according-to-famous-philosophers/?fbclid=IwAR0LHXni76hFIa31VgNaQ5jkShv49p
سارة حبيب