جحا عربي
Juha - Juha
جحا العربي
(60ـ160هـ/680ـ777م)
على كثرة أعلام الفكاهة في التراث العربي، فإن جحا، من بينها، يبقى أشهر شخصية نمطية فكاهية، لا تزال حيّة فاعلة حتى اليوم في الذاكرة الجمعية العربية، الأدبية والفولكلورية والثقافية، وقد بلغت حداً من الشهرة والذيوع والاستمرارية، على مر العصور واتساع العالم الإسلامي، جعلت واقعها الفني يطغى على وجودها التاريخي الذي يؤكد أن جحا شخصية حقيقية، واسمه أبو الغصن دُجَيْن بن ثابت الفزاري، وكنيته جحا، وأنه عرف بين معاصريه بالطيبة والتسامح الشديدين، وأنه كان بالغ الذكاء. تنطوي شخصيته على حسٍ عال بروح السخرية والفكاهة، ووسيلته إلى ذلك ادّعاء الحمق والجنون، أو بالأحرى التحامق والتبالُه في مواجهته صغائر الأمور اليومية، وقد شهدت الحقبة التاريخية التي عاصرها جحا أحداثاً جساماً كان لها أبعد الأثر في أسلوبه وفلسفته في الحياة والتعبير.
وقد حدث أن استدعى أبو مسلم الخراساني، عندما نزل الكوفة، جحا لشهرته، عسى أن يظفر منه بطرفة أو فكاهة في خضم حروبه الدموية، فخشي جحا على نفسه وادعى الحمق والجنون في حضرته، ومع ذلك أعجب به أبو مسلم، وحدّث عنه الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور، الذي بادر فاستدعاه إلى دار الخلافة في بغداد لعله يصلح نديماً أو مضحكاً (مهرجاً) في بلاطه، وقد أدرك جحا عاقبة هذا الأمر ومخاطره وقيوده، فتمادى في ادعائه الحمق والجنون حتى أفرج عنه المنصور بعد أن أجزل له العطاء وكان لمثل هذا اللقاء أثره البالغ في ازدياد شهرته، وهنا قال جحا مقولته المشهورة: «حمق يعولني خير من عقل أعوله».
وشرع اسمه يتردد في أدبيات القرنين الثاني والثالث للهجرة، مقروناً ببعض النوادر، كما ذكر الجاحظ، ولكن ما نكاد نصل إلى القرن الرابع الهجري حتى تكون نوادره المتواترة شفاهياً قد عرفت طريقها إلى التدوين في أسواق الوراقين باسم «كتاب جحا» الذي كان من الكتب المرغوب فيها على قول النديم في الفهرست. ومن أقدم التراجم التاريخية التي وصلت عن جحا، الترجمة الضافية التي ذكرها الآبي منصور بن الحسين (ت 421هـ) في موسوعته «نثر الدرر». وتوالت التراجم له في كثير من المصادر الأدبية والتاريخية اللاحقة، ومع أنها أجمعت على الوجود التاريخي لهذه الشخصية، فإنها أنكرت كثيراً مما روي عنه من نوادر بلغت من الكثرة حداً يستحيل، زماناً ومكاناً، أن يكون جحا هو قائلها، بل ذكر الآبي صراحة: «أن له جيراناً كانوا يضعون عليه هذه النوادر.. بل أضافوا إليه أيضاً نوادر غيره من الحمقى والمغفلين والأذكياء وعقلاء المجانين». وهذا يعني أن الوجدان الشعبي العربي قد انتخب جحا رمزاً لكل ضروب الفكاهة، وخاصة بعد أن تَزَيَّدَ الناس عليه، فنسبوا إليه، على مر العصور، آلاف النوادر حتى ليقول عباس محمود العقاد في كتابه «جحا الضاحك المضحك» عبارة طريفة دالة، هي أن جحا لو تفرغ في حياته لصناعة النوادر التي نسبت إليه لمات قبل أن تنفد روايتها أو ينتهي هو من إبداعها. ومعنى هذا أن جحا انفصل عن واقعه التاريخي وتحول إلى رمز فني استقطب معظم ما قيل من نوادر التراث العربي الذائعة، يؤلف ما يؤلف من نوادر وينسبها إلى جحا على مر العصور.
وهذا يعني أن المأثور الجحوي الذي لا يزال يتنامى حتى اليوم لم يكن، بداهة، من تأليف جحا أو إبداعه، بل كان تعبيراً جمعياً من إبداع الشعب العربي، ترسيباً للتجربة ونزوعاً إلى السمر في وقت معاً. فأعلن المجتمع الشعبي على لسان جحا، الرمز أو النموذج أو المشجب الفني، تأملاته في الحياة والأحياء،وجسّد تصوراته السياسة والاجتماعية والدينية، وصاغ رؤيته للعالم، ونظرته للقيم والمثل العليا، وذلك في صياغة أدبية جمالية، توسلت فيها بشكل فني متميز هو فن الحكاية المضحكة أو ما عرف في التراث الأدبي باسم النوادر.
غير أن النقلة النوعية الكبرى في حياة هذا النموذج الجحوي في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، كانت عندما دخل العرب تحت السيادة العثمانية، حيث استهوى الأتراك آنذاك هذا النموذج الجحوي العربي، فقاموا بنقل نوادره وترجمتها إلى التركية، ونسبتها إلى شخصية تركية شبيهة بالنموذج العربي، اشتهرت أيضاً بميلها للدعابة، وجنوحها إلى السخرية هي شخصية «الخوجة نصر الدين» الذي كان معلماً وفقيهاً وقاضياً. وقد قُدِّر له أن يلتقي، تاريخياً، تيمورلنك الطاغية المعروف. وأن تكون بينهما من المواقف والطرائف ما يعكس حمق هذا الطاغية وظلمه وجبروته إزاء المستضعفين أفراداً وجماعات.
ومن جراء اتصال الثقافتين الإيرانية والتركية إبان العصور الوسطى (وبالمناسبة لكل شعب جحاه) ادّعى الإيرانيون أيضاً لأنفسهم هذه الشخصية، وأطلقوا عليها اسم «الملاَّ نصر الدين» وزعموا أنها إيرانية ونسبوا إليها النوادر الجحوية، التركية والعربية معاً، فازدادت هذه الشخصية الفكاهية شهرة وذيوعاً في تركية وإيران، إلى جانب شهرته العربية بطبيعة الحال بوصفه النموذج الأصل. وغدت هذه النماذج الجحوية الثلاثة جزءاً من التراث الشعبي الإسلامي، وانتقلت هذه النوادر إلى الآداب العالمية، خاصة في إفريقية وأوربة وروسية وبلاد البلقان والصين وغيرها.
وقد انتشر النموذج الجحوي إلى سائر الأقطار العربية، فانتشرت نوادره فيها جميعاً، بل صار كل قطر عربي يدعيه لنفسه، حتى بات هناك جحا المصري، وجحا الليبي، وجحا السوري، وجحا العراقي. واختلط الأمر على المثقفين العرب، ودبجوا الكتب والمقالات في جحا الإقليمي، دون أن ينتبهوا أو يتبينوا أصوله العربية القومية الأساس. لكن الدراسات الفولكلورية المعاصرة أثبتت أنه ما من قطر عربي إلا وعرف النموذج الجحوي (العربي/ القومي) بسمته وملامحه، وأسلوبه وفلسفته في الحياة والتعبير.
وتتمثل عبقرية الفلسفة الجحوية أو بالأحرى عبقرية الشعب العربي الذي أبدع هذه الشخصية الجحوية في أمرين: أحدهما في أسلوب هذه الشخصية في المواجهة، حين اكتشفت بعبقريتها أن المأساة يمكن أن تتحول إلى ملهاة، في ضوء الحالة النفسية التي نواجه منها وقائع الحياة، فاندماج الإنسان في بؤرة الحدث أو الموقف يضنيه، وخروجه منه وفرجته عليه يُسرِّي عنه، وقد يضحكه، وهكذا استطاع جحا أن يكابد الحياة، ويضطرب فيها، وأن يخلق من نفسه شخصاً آخر بعيداً عن الأول، يتفرج عليه ويسخر منه. وهكذا تحولت المآسي عنده إلى طرائف وملح ذات طابع إنساني تخفف عنه وتسري عن أفراد الشعب العربي تأسياً به.
وقد صنّف القدماء النوادر الجحوية المدونة في قسمين كبيرين أحدهما نوادر الحمق والجنون، حيث الحمق أو الجنون هنا تعبير دلالي يستدعي نقيضه (فضيلة الذكاء والتعقل)، والآخر نوادر الذكاء. ولكن المحدثين ذهبوا إلى تصنيف المأثور الجحوي الشفاهي والكتابي، طبقاً لمحتواه الدلالي:
فهناك النوادر السياسية التي تتناول علاقة المجتمع الشعبي بالسلطة الحاكمة: السلطان، القضاء، الأمن الداخلي، وخاصة في عصور القهر العسكري والكبت السياسي، وفي عصور التحول التاريخي والاجتماعي وما تمور به من متناقضات اجتماعية ونفسية، وانحرافات سياسية واقتصادية. والمتأمل لما أُثر عن جحا من نوادر سياسية قالها الشعب العربي على لسان جحاه، يراها تؤلف في مجملها ـ أسلوباً ووظيفة ـ باباً واسعاً من أبواب النقد السياسي في الأدب العربي عامة والأدب الشعبي خاصة.
وهناك النوادر الاجتماعية، وهي من الكثرة بمكان، ولا تزال تتنامى إبداعاً وتذوقاً حتى اليوم، وتتعاظم وظائفها الحيوية في نقد الواقع الاجتماعي، وما يمور به من سلبيات في القول والفعل والسلوك، مما هو سائد في حياتنا اليومية. ولهذا لم تشأ الأمة العربية أن تجعل هذه الشخصية التي أبدعتها بعبقريتها سلبية أو منعزلة، وإنما جعلتها شخصية رجل من الناس، له مشاعرهم ومواقفهم وتجاربهم، وآمالهم وآلامهم، عليه أن يسعى، في سبيل العيش، كما يسعى غيره، ويختلف إلى الأسواق، ويرحل إلى الأمصار ويلتقي بالحكام ويتحدث إلى العامة. وقد جعلته الأخبار رب أسرة، له زوج، وبينه وبينها ما يكون بين الرجل وصاحبته من الأحداث والمواقف، وله معها نوادر تجسم فلسفته الخاصة في الحياة. واتصلت حياة جحا، فكان له ابن ينشئه بحكمته ويحاوره بفكاهته وسخريته، وكأنما أراد أن تمتد حياته وفلسفته أجيالاً متعاقبة. ولم تقتصر مواقف جحا على علاقاته بالناس، وخير ما يصور ارتباط جحا بالأحياء تعاطفه مع حماره الذي ارتقى به حتى جعل منه صديقاً أو شبه صديق، يتحدث إليه ويصب في أذنيه سخرياته اللاذعة من الحياة والأحياء. وبهذا يتكامل الثالوث الجحوي الشهير (امرأة جحا، ابنه، حماره).
مجمل الأمر أن جحا شخصية حقيقية، لكنها سرعان ما انفصلت عن واقعها التاريخي، وأصبحت رمزاً فنياً، ونموذجاً نمطياً للفكاهة في التراث العربي. ومن هنا قيل على لسانه آلاف النوادر أو الحكايات المرحة، على مر العصور. لقد نسي الناس جذوره التاريخية، ولكنهم لم ولن ينسوا أبداً أسلوبه الضاحك وفلسفته الساخرة، فعاش، فنياً وأدبياً، معهم وبهم ولهم، في عالم لا يستحق كل هذا العبوس والتجهم.
ومن أشهر نوادره «جحا وابنه وحماره».
«ركب جحا حماره مرة ومشى ابنه خلفه، ومرا أمام جماعة فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل الذي خلا قلبه من الشفقة، يركب هو ويترك ابنه يمشي، فنزل جحا ومشى وأركب ابنه، ومرا على جماعة فقالوا: انظروا إلى هذا الغلام المجرد من الأدب، يركب الحمار، ويترك أباه يمشي. فركب هو وابنه على ظهر الحمار وسارا، فمرا بجماعة، فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل القاسي القلب يركب هو وابنه ولا يرفقان بالحمار فنزل جحا وابنه وساقا الحمار ومشيا خلفه، فمرا بجماعة فقالوا: انظروا إلى هذين المغفلين يتعبان من المشي وأمامهما الحمار لا يركبانه، وبعد أن جاوزاهم حمل جحا هو وابنه الحمار وسارا به فمرا بجماعة فضحكوا منهما وقالوا: انظروا إلى هذين المجنونين يحملان الحمار بدلاً من أن يحملهما. وحينئذ أنزلاه، وقال جحا لابنه: اسمع يا بني، أنك لا تستطيع أن تظفر برضا الناس جميعاً».
ومن نوادره أيضاً:
«قيل لجحا: لو أنك حفظت الحديث كحفظك هذه النوادر لكان أولى بك. فقال قد فعلت قالوا له: فماذا حفظت من الحديث؟ قال حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من كان فيه خصلتان كتب عند الله خالصاً مخلصاً. قالوا: إن هذا حديث حسن، فما هاتان الخصلتان؟ قال: نسي نافع واحدة، ونسيت أنا الأخرى».
محمد رجب النجار
Juha - Juha
جحا العربي
(60ـ160هـ/680ـ777م)
على كثرة أعلام الفكاهة في التراث العربي، فإن جحا، من بينها، يبقى أشهر شخصية نمطية فكاهية، لا تزال حيّة فاعلة حتى اليوم في الذاكرة الجمعية العربية، الأدبية والفولكلورية والثقافية، وقد بلغت حداً من الشهرة والذيوع والاستمرارية، على مر العصور واتساع العالم الإسلامي، جعلت واقعها الفني يطغى على وجودها التاريخي الذي يؤكد أن جحا شخصية حقيقية، واسمه أبو الغصن دُجَيْن بن ثابت الفزاري، وكنيته جحا، وأنه عرف بين معاصريه بالطيبة والتسامح الشديدين، وأنه كان بالغ الذكاء. تنطوي شخصيته على حسٍ عال بروح السخرية والفكاهة، ووسيلته إلى ذلك ادّعاء الحمق والجنون، أو بالأحرى التحامق والتبالُه في مواجهته صغائر الأمور اليومية، وقد شهدت الحقبة التاريخية التي عاصرها جحا أحداثاً جساماً كان لها أبعد الأثر في أسلوبه وفلسفته في الحياة والتعبير.
وقد حدث أن استدعى أبو مسلم الخراساني، عندما نزل الكوفة، جحا لشهرته، عسى أن يظفر منه بطرفة أو فكاهة في خضم حروبه الدموية، فخشي جحا على نفسه وادعى الحمق والجنون في حضرته، ومع ذلك أعجب به أبو مسلم، وحدّث عنه الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور، الذي بادر فاستدعاه إلى دار الخلافة في بغداد لعله يصلح نديماً أو مضحكاً (مهرجاً) في بلاطه، وقد أدرك جحا عاقبة هذا الأمر ومخاطره وقيوده، فتمادى في ادعائه الحمق والجنون حتى أفرج عنه المنصور بعد أن أجزل له العطاء وكان لمثل هذا اللقاء أثره البالغ في ازدياد شهرته، وهنا قال جحا مقولته المشهورة: «حمق يعولني خير من عقل أعوله».
وشرع اسمه يتردد في أدبيات القرنين الثاني والثالث للهجرة، مقروناً ببعض النوادر، كما ذكر الجاحظ، ولكن ما نكاد نصل إلى القرن الرابع الهجري حتى تكون نوادره المتواترة شفاهياً قد عرفت طريقها إلى التدوين في أسواق الوراقين باسم «كتاب جحا» الذي كان من الكتب المرغوب فيها على قول النديم في الفهرست. ومن أقدم التراجم التاريخية التي وصلت عن جحا، الترجمة الضافية التي ذكرها الآبي منصور بن الحسين (ت 421هـ) في موسوعته «نثر الدرر». وتوالت التراجم له في كثير من المصادر الأدبية والتاريخية اللاحقة، ومع أنها أجمعت على الوجود التاريخي لهذه الشخصية، فإنها أنكرت كثيراً مما روي عنه من نوادر بلغت من الكثرة حداً يستحيل، زماناً ومكاناً، أن يكون جحا هو قائلها، بل ذكر الآبي صراحة: «أن له جيراناً كانوا يضعون عليه هذه النوادر.. بل أضافوا إليه أيضاً نوادر غيره من الحمقى والمغفلين والأذكياء وعقلاء المجانين». وهذا يعني أن الوجدان الشعبي العربي قد انتخب جحا رمزاً لكل ضروب الفكاهة، وخاصة بعد أن تَزَيَّدَ الناس عليه، فنسبوا إليه، على مر العصور، آلاف النوادر حتى ليقول عباس محمود العقاد في كتابه «جحا الضاحك المضحك» عبارة طريفة دالة، هي أن جحا لو تفرغ في حياته لصناعة النوادر التي نسبت إليه لمات قبل أن تنفد روايتها أو ينتهي هو من إبداعها. ومعنى هذا أن جحا انفصل عن واقعه التاريخي وتحول إلى رمز فني استقطب معظم ما قيل من نوادر التراث العربي الذائعة، يؤلف ما يؤلف من نوادر وينسبها إلى جحا على مر العصور.
وهذا يعني أن المأثور الجحوي الذي لا يزال يتنامى حتى اليوم لم يكن، بداهة، من تأليف جحا أو إبداعه، بل كان تعبيراً جمعياً من إبداع الشعب العربي، ترسيباً للتجربة ونزوعاً إلى السمر في وقت معاً. فأعلن المجتمع الشعبي على لسان جحا، الرمز أو النموذج أو المشجب الفني، تأملاته في الحياة والأحياء،وجسّد تصوراته السياسة والاجتماعية والدينية، وصاغ رؤيته للعالم، ونظرته للقيم والمثل العليا، وذلك في صياغة أدبية جمالية، توسلت فيها بشكل فني متميز هو فن الحكاية المضحكة أو ما عرف في التراث الأدبي باسم النوادر.
غير أن النقلة النوعية الكبرى في حياة هذا النموذج الجحوي في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، كانت عندما دخل العرب تحت السيادة العثمانية، حيث استهوى الأتراك آنذاك هذا النموذج الجحوي العربي، فقاموا بنقل نوادره وترجمتها إلى التركية، ونسبتها إلى شخصية تركية شبيهة بالنموذج العربي، اشتهرت أيضاً بميلها للدعابة، وجنوحها إلى السخرية هي شخصية «الخوجة نصر الدين» الذي كان معلماً وفقيهاً وقاضياً. وقد قُدِّر له أن يلتقي، تاريخياً، تيمورلنك الطاغية المعروف. وأن تكون بينهما من المواقف والطرائف ما يعكس حمق هذا الطاغية وظلمه وجبروته إزاء المستضعفين أفراداً وجماعات.
ومن جراء اتصال الثقافتين الإيرانية والتركية إبان العصور الوسطى (وبالمناسبة لكل شعب جحاه) ادّعى الإيرانيون أيضاً لأنفسهم هذه الشخصية، وأطلقوا عليها اسم «الملاَّ نصر الدين» وزعموا أنها إيرانية ونسبوا إليها النوادر الجحوية، التركية والعربية معاً، فازدادت هذه الشخصية الفكاهية شهرة وذيوعاً في تركية وإيران، إلى جانب شهرته العربية بطبيعة الحال بوصفه النموذج الأصل. وغدت هذه النماذج الجحوية الثلاثة جزءاً من التراث الشعبي الإسلامي، وانتقلت هذه النوادر إلى الآداب العالمية، خاصة في إفريقية وأوربة وروسية وبلاد البلقان والصين وغيرها.
وقد انتشر النموذج الجحوي إلى سائر الأقطار العربية، فانتشرت نوادره فيها جميعاً، بل صار كل قطر عربي يدعيه لنفسه، حتى بات هناك جحا المصري، وجحا الليبي، وجحا السوري، وجحا العراقي. واختلط الأمر على المثقفين العرب، ودبجوا الكتب والمقالات في جحا الإقليمي، دون أن ينتبهوا أو يتبينوا أصوله العربية القومية الأساس. لكن الدراسات الفولكلورية المعاصرة أثبتت أنه ما من قطر عربي إلا وعرف النموذج الجحوي (العربي/ القومي) بسمته وملامحه، وأسلوبه وفلسفته في الحياة والتعبير.
وتتمثل عبقرية الفلسفة الجحوية أو بالأحرى عبقرية الشعب العربي الذي أبدع هذه الشخصية الجحوية في أمرين: أحدهما في أسلوب هذه الشخصية في المواجهة، حين اكتشفت بعبقريتها أن المأساة يمكن أن تتحول إلى ملهاة، في ضوء الحالة النفسية التي نواجه منها وقائع الحياة، فاندماج الإنسان في بؤرة الحدث أو الموقف يضنيه، وخروجه منه وفرجته عليه يُسرِّي عنه، وقد يضحكه، وهكذا استطاع جحا أن يكابد الحياة، ويضطرب فيها، وأن يخلق من نفسه شخصاً آخر بعيداً عن الأول، يتفرج عليه ويسخر منه. وهكذا تحولت المآسي عنده إلى طرائف وملح ذات طابع إنساني تخفف عنه وتسري عن أفراد الشعب العربي تأسياً به.
وقد صنّف القدماء النوادر الجحوية المدونة في قسمين كبيرين أحدهما نوادر الحمق والجنون، حيث الحمق أو الجنون هنا تعبير دلالي يستدعي نقيضه (فضيلة الذكاء والتعقل)، والآخر نوادر الذكاء. ولكن المحدثين ذهبوا إلى تصنيف المأثور الجحوي الشفاهي والكتابي، طبقاً لمحتواه الدلالي:
فهناك النوادر السياسية التي تتناول علاقة المجتمع الشعبي بالسلطة الحاكمة: السلطان، القضاء، الأمن الداخلي، وخاصة في عصور القهر العسكري والكبت السياسي، وفي عصور التحول التاريخي والاجتماعي وما تمور به من متناقضات اجتماعية ونفسية، وانحرافات سياسية واقتصادية. والمتأمل لما أُثر عن جحا من نوادر سياسية قالها الشعب العربي على لسان جحاه، يراها تؤلف في مجملها ـ أسلوباً ووظيفة ـ باباً واسعاً من أبواب النقد السياسي في الأدب العربي عامة والأدب الشعبي خاصة.
وهناك النوادر الاجتماعية، وهي من الكثرة بمكان، ولا تزال تتنامى إبداعاً وتذوقاً حتى اليوم، وتتعاظم وظائفها الحيوية في نقد الواقع الاجتماعي، وما يمور به من سلبيات في القول والفعل والسلوك، مما هو سائد في حياتنا اليومية. ولهذا لم تشأ الأمة العربية أن تجعل هذه الشخصية التي أبدعتها بعبقريتها سلبية أو منعزلة، وإنما جعلتها شخصية رجل من الناس، له مشاعرهم ومواقفهم وتجاربهم، وآمالهم وآلامهم، عليه أن يسعى، في سبيل العيش، كما يسعى غيره، ويختلف إلى الأسواق، ويرحل إلى الأمصار ويلتقي بالحكام ويتحدث إلى العامة. وقد جعلته الأخبار رب أسرة، له زوج، وبينه وبينها ما يكون بين الرجل وصاحبته من الأحداث والمواقف، وله معها نوادر تجسم فلسفته الخاصة في الحياة. واتصلت حياة جحا، فكان له ابن ينشئه بحكمته ويحاوره بفكاهته وسخريته، وكأنما أراد أن تمتد حياته وفلسفته أجيالاً متعاقبة. ولم تقتصر مواقف جحا على علاقاته بالناس، وخير ما يصور ارتباط جحا بالأحياء تعاطفه مع حماره الذي ارتقى به حتى جعل منه صديقاً أو شبه صديق، يتحدث إليه ويصب في أذنيه سخرياته اللاذعة من الحياة والأحياء. وبهذا يتكامل الثالوث الجحوي الشهير (امرأة جحا، ابنه، حماره).
مجمل الأمر أن جحا شخصية حقيقية، لكنها سرعان ما انفصلت عن واقعها التاريخي، وأصبحت رمزاً فنياً، ونموذجاً نمطياً للفكاهة في التراث العربي. ومن هنا قيل على لسانه آلاف النوادر أو الحكايات المرحة، على مر العصور. لقد نسي الناس جذوره التاريخية، ولكنهم لم ولن ينسوا أبداً أسلوبه الضاحك وفلسفته الساخرة، فعاش، فنياً وأدبياً، معهم وبهم ولهم، في عالم لا يستحق كل هذا العبوس والتجهم.
ومن أشهر نوادره «جحا وابنه وحماره».
«ركب جحا حماره مرة ومشى ابنه خلفه، ومرا أمام جماعة فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل الذي خلا قلبه من الشفقة، يركب هو ويترك ابنه يمشي، فنزل جحا ومشى وأركب ابنه، ومرا على جماعة فقالوا: انظروا إلى هذا الغلام المجرد من الأدب، يركب الحمار، ويترك أباه يمشي. فركب هو وابنه على ظهر الحمار وسارا، فمرا بجماعة، فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل القاسي القلب يركب هو وابنه ولا يرفقان بالحمار فنزل جحا وابنه وساقا الحمار ومشيا خلفه، فمرا بجماعة فقالوا: انظروا إلى هذين المغفلين يتعبان من المشي وأمامهما الحمار لا يركبانه، وبعد أن جاوزاهم حمل جحا هو وابنه الحمار وسارا به فمرا بجماعة فضحكوا منهما وقالوا: انظروا إلى هذين المجنونين يحملان الحمار بدلاً من أن يحملهما. وحينئذ أنزلاه، وقال جحا لابنه: اسمع يا بني، أنك لا تستطيع أن تظفر برضا الناس جميعاً».
ومن نوادره أيضاً:
«قيل لجحا: لو أنك حفظت الحديث كحفظك هذه النوادر لكان أولى بك. فقال قد فعلت قالوا له: فماذا حفظت من الحديث؟ قال حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من كان فيه خصلتان كتب عند الله خالصاً مخلصاً. قالوا: إن هذا حديث حسن، فما هاتان الخصلتان؟ قال: نسي نافع واحدة، ونسيت أنا الأخرى».
محمد رجب النجار