جستنيان
Justinian - Justinien
جستنيان
(482 ـ 565م)
فلافيوس جستنيانوس Flavius Justinianus أشهر أباطرة الروم البيزنطيين، إذ بلغت الامبراطورية الرومانية الشرقية في عهده (527-565) أوج قوتها وعظمتها.
ولد في إحدى قرى مقدونية لأسرة من الفلاحين، لاتينية اللسان، وكان اسمه بطرس سباتيوس، ثم اتخذ اسم جستنيانوس بعد أن تبناه عمه القائد العسكري والامبراطور اللاحق جستين (518-527) Justin .
تلقى تربية ممتازة فغدا من أعظم رجال عصره ثقافة. بدأ صعوده السياسي في عهد عمه، فتقلد عدداً من المناصب الرفيعة توّجها بالقنصلية عام 520، وشارك في تحمل مسؤولية الحكم، ومنح لقب أغسطس الذي ضمن له ولاية العهد، ثم خلف عمه جستين على عرش الامبراطورية عام 527م.
ارتبط اسم جستنيان ارتباطاً وثيقاً باسم زوجته تيودورا (497-548) Theodora، التي كانت من أشهر نساء عصرها، وأكثرهن جمالاً وحصافة وذكاء، وقد صور معاصرها المؤرخ بروكوبيوس[ر] حياتها السابقة في أجواء السيرك الفاسدة، قبل أن تعتزل حياة التمثيل والمسرح ويستقيم سلوكها، فتعرف عليها جستنيان وأُعجب بها وتزوجها، وتُوجت معه على عرش القسطنطينية. وقد أثبتت الامبراطورة تيودورا أنها جديرة بالمكانة الرفيعة التي وصلت إليها، وظلت الزوجة الوفية التي تشارك زوجها في السراء والضراء، فتمكنت بحزمها وثباتها من إخماد ثورة نيقا Nica عام 532، التي كادت تعصف بعرش جستنيان. كان لها تأثير كبير في شؤون الحكم والإدارة والسياسة، وفاقت زوجها في إدراك أهمية الأقاليم الشرقية (خاصة سورية ومصر) في الامبراطورية التي كان يسود فيها اعتقاد الطبيعة الواحدة (المونوفيزيقية)، التي يبدو أن تيودورا كانت من أنصارها، ولعلها كانت سريانية الأصل.
كان جستنيان يمتلك شعوراً عميقاً بماضي الامبراطورية الرومانية العظيم، وصمَّم على بعث أمجادها باستعادة أقسامها الغربية من أيدي القبائل والممالك الجرمانية، وبإصلاح المساوئ الإدارية وجمع وتدوين نظامها القانوني. كما كان رجلاً شديد التدين، يعتقد أن عظمة الامبراطورية مرتبطة بوحدة معتقداتها وقمع البدع والقضاء على آخر مظاهر الوثنية، واختار قادة ومساعدين أكفاء لتنفيذ مشروعاته الحربية والإدارية والقانونية. تمكَّن قائداه الكبيران بليزاريوس Belizarius ونرسيس Narses من القضاء على مملكة الفاندال في شمالي إفريقية (533-534) واستعادة إيطالية من سيطرة القوط الشرقيين (535-554)، وكذلك انتزاع جنوبي إسبانية من أيدي القوط الغربيين (551).
أمّا حروبه في الشرق مع الفرس، فلم تحقق نتائج حاسمة، فبعد خمس سنوات من الصراع (527-532) توصل إلى عقد معاهدة سلام مع كسرى أنوشروان، مقابل دفع 11 ألف ليرة ذهبية. وفي عام 540، تجدد القتال وتمكن الفرس من اجتياح أجزاء كبيرة من سورية، واحتلوا عاصمة الولاية أنطاكية، وقد شارك حلفاؤهم المناذرة في تلك الحروب، مثلما شارك فيها الغساسنة حلفاءهم الروم. ويروى أن المنذر انتصر على القائد الكبير بليزاريوس عند الرقة عام 531، كما يذكر الطبري في تاريخه كيف استولى كسرى على كبريات المدن «واحتوى على ما كان فيها من الأموال والعروض وسبى أهل مدينة أنطاكية ونقلهم إلى أرض السواد»، وكان ذلك من الأحداث المشهورة التي تركت صدىً كبيراً في تاريخ المنطقة.
من أشهر أعمال جستنيان وأبقاها وأعظمها تأثيراً جمع الحقوق الرومانية وتدوينها في عهده، فيما أصبح يُعرف بـ «مدونة جستنيان» Cropus Luris Civilis (أو مجموعة القانون المدني المؤلفة من أربعة أقسام: القانون، المختار، الشرائع، المستجدات)، وهي التي حفظت القوانين الرومانية التي صارت مصدراً للقواعد القانونية الأساسية في أوربة وكثير من بلدان العالم.
كما قام جستنيان بإصلاحات كثيرة في مجال الإدارة والحكم والقضاء، ركزت كل السلطات في يد الامبراطور وحكومته، كذلك حاول توحيد العقيدة الدينية في الامبراطورية ومحاربة البدع والعقائد الأخرى، وعقد لهذه الغاية مجمعاً كنسياً في القسطنطينية عام 553 ولكن دون نجاح يُذكر. كما بذل جهوداً كبيرة لنشر الديانة المسيحية الأرثوذكسية في مناطق الدانوب وشرقي أوربة بوصفها وسيلة لترسيخ النفوذ البيزنطي في تلك المناطق.
شهد عصره اكتشاف سر صناعة الحرير وتهريب دود القز من الصين، فكان ذلك بداية صناعة الحرير البيزنطية الشهيرة في القسطنطينية وأنطاكية وبيروت والإسكندرية، التي درَّت على الدولة أرباحاً طائلة. كما تميز عهده بازدهار الآداب والفنون وتشييد الأبنية الفخمة والكنائس، وعلى رأسها كنيسة أياصوفيا Hagia Sophia في القسطنطينية، التي تعد أروع إنجازات العمارة البيزنطية، مثلما تضم كنائس رافنا الإيطالية روائع أعمال الفسيفساء، ومنها تلك اللوحة الشهيرة التي تصور جستنيان مع زوجته تيودورا وحاشيتهما الامبراطورية في غاية الفخامة والعظمة.
وهكذا فقد بلغت الامبراطورية الرومانية الشرقية قمة أمجادها تحت حكم جستنيان، ومع أن حروبه في الغرب والشرق أنهكت قواها واستنزفت كثيراً من مواردها الاقتصادية والبشرية، فإن رؤيته التاريخية وتشريعاته والصروح العمرانية التي خلفها وازدهار الحياة الفكرية والفنية، إضافة إلى طول عهده، جعلت من القرن السادس الميلادي بجدارة قرن جستنيان، الذي يفخر بانتصاراته وألقابه في مقدمة مدونته الشهيرة، ويقرر أنه: «لكيما تحكم الدولة حكماً صالحاً في وقت السلم وفي وقت الحرب، لا يجد صاحب الجلالة الامبراطورية بداً من الاعتماد على ركنين: الأسلحة والقوانين ...».
محمد الزين
Justinian - Justinien
جستنيان
(482 ـ 565م)
فلافيوس جستنيانوس Flavius Justinianus أشهر أباطرة الروم البيزنطيين، إذ بلغت الامبراطورية الرومانية الشرقية في عهده (527-565) أوج قوتها وعظمتها.
ولد في إحدى قرى مقدونية لأسرة من الفلاحين، لاتينية اللسان، وكان اسمه بطرس سباتيوس، ثم اتخذ اسم جستنيانوس بعد أن تبناه عمه القائد العسكري والامبراطور اللاحق جستين (518-527) Justin .
جستنيان وحاشيته |
ارتبط اسم جستنيان ارتباطاً وثيقاً باسم زوجته تيودورا (497-548) Theodora، التي كانت من أشهر نساء عصرها، وأكثرهن جمالاً وحصافة وذكاء، وقد صور معاصرها المؤرخ بروكوبيوس[ر] حياتها السابقة في أجواء السيرك الفاسدة، قبل أن تعتزل حياة التمثيل والمسرح ويستقيم سلوكها، فتعرف عليها جستنيان وأُعجب بها وتزوجها، وتُوجت معه على عرش القسطنطينية. وقد أثبتت الامبراطورة تيودورا أنها جديرة بالمكانة الرفيعة التي وصلت إليها، وظلت الزوجة الوفية التي تشارك زوجها في السراء والضراء، فتمكنت بحزمها وثباتها من إخماد ثورة نيقا Nica عام 532، التي كادت تعصف بعرش جستنيان. كان لها تأثير كبير في شؤون الحكم والإدارة والسياسة، وفاقت زوجها في إدراك أهمية الأقاليم الشرقية (خاصة سورية ومصر) في الامبراطورية التي كان يسود فيها اعتقاد الطبيعة الواحدة (المونوفيزيقية)، التي يبدو أن تيودورا كانت من أنصارها، ولعلها كانت سريانية الأصل.
كان جستنيان يمتلك شعوراً عميقاً بماضي الامبراطورية الرومانية العظيم، وصمَّم على بعث أمجادها باستعادة أقسامها الغربية من أيدي القبائل والممالك الجرمانية، وبإصلاح المساوئ الإدارية وجمع وتدوين نظامها القانوني. كما كان رجلاً شديد التدين، يعتقد أن عظمة الامبراطورية مرتبطة بوحدة معتقداتها وقمع البدع والقضاء على آخر مظاهر الوثنية، واختار قادة ومساعدين أكفاء لتنفيذ مشروعاته الحربية والإدارية والقانونية. تمكَّن قائداه الكبيران بليزاريوس Belizarius ونرسيس Narses من القضاء على مملكة الفاندال في شمالي إفريقية (533-534) واستعادة إيطالية من سيطرة القوط الشرقيين (535-554)، وكذلك انتزاع جنوبي إسبانية من أيدي القوط الغربيين (551).
أمّا حروبه في الشرق مع الفرس، فلم تحقق نتائج حاسمة، فبعد خمس سنوات من الصراع (527-532) توصل إلى عقد معاهدة سلام مع كسرى أنوشروان، مقابل دفع 11 ألف ليرة ذهبية. وفي عام 540، تجدد القتال وتمكن الفرس من اجتياح أجزاء كبيرة من سورية، واحتلوا عاصمة الولاية أنطاكية، وقد شارك حلفاؤهم المناذرة في تلك الحروب، مثلما شارك فيها الغساسنة حلفاءهم الروم. ويروى أن المنذر انتصر على القائد الكبير بليزاريوس عند الرقة عام 531، كما يذكر الطبري في تاريخه كيف استولى كسرى على كبريات المدن «واحتوى على ما كان فيها من الأموال والعروض وسبى أهل مدينة أنطاكية ونقلهم إلى أرض السواد»، وكان ذلك من الأحداث المشهورة التي تركت صدىً كبيراً في تاريخ المنطقة.
من أشهر أعمال جستنيان وأبقاها وأعظمها تأثيراً جمع الحقوق الرومانية وتدوينها في عهده، فيما أصبح يُعرف بـ «مدونة جستنيان» Cropus Luris Civilis (أو مجموعة القانون المدني المؤلفة من أربعة أقسام: القانون، المختار، الشرائع، المستجدات)، وهي التي حفظت القوانين الرومانية التي صارت مصدراً للقواعد القانونية الأساسية في أوربة وكثير من بلدان العالم.
كما قام جستنيان بإصلاحات كثيرة في مجال الإدارة والحكم والقضاء، ركزت كل السلطات في يد الامبراطور وحكومته، كذلك حاول توحيد العقيدة الدينية في الامبراطورية ومحاربة البدع والعقائد الأخرى، وعقد لهذه الغاية مجمعاً كنسياً في القسطنطينية عام 553 ولكن دون نجاح يُذكر. كما بذل جهوداً كبيرة لنشر الديانة المسيحية الأرثوذكسية في مناطق الدانوب وشرقي أوربة بوصفها وسيلة لترسيخ النفوذ البيزنطي في تلك المناطق.
شهد عصره اكتشاف سر صناعة الحرير وتهريب دود القز من الصين، فكان ذلك بداية صناعة الحرير البيزنطية الشهيرة في القسطنطينية وأنطاكية وبيروت والإسكندرية، التي درَّت على الدولة أرباحاً طائلة. كما تميز عهده بازدهار الآداب والفنون وتشييد الأبنية الفخمة والكنائس، وعلى رأسها كنيسة أياصوفيا Hagia Sophia في القسطنطينية، التي تعد أروع إنجازات العمارة البيزنطية، مثلما تضم كنائس رافنا الإيطالية روائع أعمال الفسيفساء، ومنها تلك اللوحة الشهيرة التي تصور جستنيان مع زوجته تيودورا وحاشيتهما الامبراطورية في غاية الفخامة والعظمة.
وهكذا فقد بلغت الامبراطورية الرومانية الشرقية قمة أمجادها تحت حكم جستنيان، ومع أن حروبه في الغرب والشرق أنهكت قواها واستنزفت كثيراً من مواردها الاقتصادية والبشرية، فإن رؤيته التاريخية وتشريعاته والصروح العمرانية التي خلفها وازدهار الحياة الفكرية والفنية، إضافة إلى طول عهده، جعلت من القرن السادس الميلادي بجدارة قرن جستنيان، الذي يفخر بانتصاراته وألقابه في مقدمة مدونته الشهيرة، ويقرر أنه: «لكيما تحكم الدولة حكماً صالحاً في وقت السلم وفي وقت الحرب، لا يجد صاحب الجلالة الامبراطورية بداً من الاعتماد على ركنين: الأسلحة والقوانين ...».
محمد الزين