الحلقة الأخيرة
ماذا يقولون عن الحرب اللبنانية ! ۱۹۸۲ - ١٩٨٣ ..
في فندق الكسندر في شرقي بيروت كان عشرات الصحافيين يقفون وصدورهم مكشوفة وقد دلكوا أجسامهم بالزيت الخاص ضد الشمس ، يشربون عدة أنواع من المشروبات والمرطبات وهم يتطلعون إلى المنطقة الغربية من مدينة بيروت .
وامام الكاميرات والميكروفونات يصار إلى قتل مدينة بأكملها وعلى بعد كيلومتر واحد في خط هوائي تنفجر القنابل التي تقذف بها المدافع والصواريخ . وبعد كل انفجار يتصاعد الدخان والصحافيون اصبحوا خبراء منذ زمن طويل بكل ما يتعلق بتأثير الأسلحة دخان هائل أبيض يتصاعد هذا يعني أن منزلا قد اصيب سحاب دخان اسود يعلو إلى السماء من فوق المنازل هذا يحصل عندما تنفجر محطة وقود إنها الحرب الحرب كما يشاهدها رواد السينما أعمدة من الدخان بدون رائحة وبدون الم .
وفي المساء عندما تكون الرياح قد غيرت اتجاهها تدفع السحب إلى هنا السحب من مناطق شاتيلا
، صبرا وبرج البراجنة المقذوفة بالقنابل سحب تفوح منها روائح نتنة روائـح المحروقين والذين أصبحوا كالفحم ويشمها الانسان حتى في هذه المنطقة البعيدة نسبياً وأحياناً ، ولكن فقط أحياناً لا يعود للشراب والطعام أي طعم .
ومن شرفات وأسطح بيروت الشرقية كانت الحرب غير حقيقية كالصراع حول جزر فالكلاند مكان ما هناك في الخلف يصار إلى إطلاق النار ولكن الطلقات تصيبك وفي مكان ما هناك توجد ضحايا ولكنك لا تراها وفي مكان ما هناك تفكر كومبيوترات الاسرائيليين ، والكومبيوتر يفكر بالموت ، ولكن الموت لا يخصك ..
وكذلك ، فإن التصوير الحربي وهذا تتعلمه على سطح فندق الكسندر المشمس على أنه نوع من الـ - بورتوغرافي وكما هو الحال في الأماكن في الكتب التي كانت تتسبب في انفعالنا ، عندما كنا أطفالا الأمر كذلك بالنسبة للمصور لأماكن الحرب ، لأن اشخاصاً اعتادوا على صور الإثارة وصدمات التاريخ منذ فترة طويلة لا يمكن إثارتهم إلا لقط عبر صندوق فرجة التعاسة .
وهكذا هو الأمر في فندق الصحافيين ، يخيب ظن المرء إن لم يحصل أي شيء ، ويسود المزاج العكر والكل ينتظر أن تعود الحرب إلى شدتها عندها يصبح المرء سعيداً أي عندما تعود الطائرات الإسرائيلية لتنقض من جديد على بيروت وتقذف الأبنية بحممها وتقتل المئات ، بل الآلاف من البشر وتدمر المنازل والمرافق عندئذ بإمكان المرء أن يقوم ثانية يعمل ويصور الأمر الذي يتقاضى أجره من أجله .
وعندما يكون سكان بيروت بعيدين عن الرصاص والقنابل فإنهم ينظرون إلى الحرب وكانها
متعة رائعة .. الكثيرون يشعرون بالقنابل المتساقطة وكانها مطر لا يلبث أن يذهب بحال سبيله !!!
وحيث كان الاسرائيليون . بعد ، في الأمس يقذفون المدينة من البحر بالقنابل ، تشاهد في اليوم الثالي المظلات الواقية من الشم مفتوحة على الشاطيء ويبيع البائعون المتجولون عصير البرتقال والتفاح ، وتنصب حبال الغسيل ثانية . ويتطلع الصغار إلى الشارع .
وفي المنازل التي تهدمت واجـهـاتهـا ، يجلس السكان ، كما لو كانوا يتنشقون الهواء النقي على الشرفة ويثرثرون حتى منتصف الليل فقط . الدولاب العملاق ، على الشاطيء الغربي من بيروت والذي يستخدمه الاسرائيليـون كنقطة ارتكاز عندما يقذفون الشق الغربي من بيروت بقنابلهم ، يقف منذ أسابيع بلا حراك وتتارجح سلاله في الهواء ( المقصود دولاب مدينة الملاهي ) ولكن عندما تعود الطائرات للهجوم مجدداً عندها لا تتطلع عيون الكاميرات وحدها إلى السماء بل يقف نصف سكان المدينة في الشوارع ويتطلعون مشدوهين إلى ما يجري كما هو الحال في . حرب النجوم . في آلات اللعب ( الكومبيوتر ) في إحدى المرات وعندما خيم السكون ثانية على المدينة ، وكانه الهدوء ، ، بعد زلزال ارضي قال لي احد اللبنانيين : . دون طلقات الرصاص والقذائف ، اشعر بان شيئاً ما ينقصني وقد اعتدنا على ضجيج الحرب ، اعتدنا على صوت بيروت ، على صفارات انذار سيارات الاسعاف التي تهرج مسرعة بعد كل هجوم جوي وحشي إسرائيلي .
اعتدنا على صوت الفرامل التي يدوس عليها كل سائق يسعى للهرب من المناطق الخطرة ، و بلف ، الكوع باقصى سرعته لقد اعتدنا على طلقات الرصاص التي تطلق في الهواء لإفساح الطريق أمام السيارات التي تنقل جريحاً إلى المستشفى .
إن اللبنانيين يفكرون بالاعمال التجارية والبعض ينظر بشيء من السرور إلى حطام السيارات التي دمرتها مدافع الدبابات الإسرائيلية ويحسبون كم من الأعمال تنتظرهم عداً عندما تضع الحـرب اوزارها .
الاسعار في بيروت الغربية ترتفع وتهبط متمشية مع الوضع العسكري سواء ارتفع ضجيج الحرب أم انخفض ، وإذا اتفق على وقف إطلاق النار بين المتحاربين عندئذ يبدا هبوط الأسعار ، وإذا ما عادت القنابل تتساقط فوق المدينة يتبع ذلك فوراً ارتفاع في الأسعار بصورة غريبة وعندها يستعمل سائقو التاكسي كلمتين فقط بالإنكليزية خطير جدا ، للحصـول من الصحافيين القاطنين في فندق الـ ه كومودور ، على اضعاف اضعاف السعر العادي واحيانا يصل الأجر إلى الخمسماية دولار للسفرة الواحدة .
وفندق الكومودور على غرار اوتيل الكسندر ، المركز الرئيسي للصحافة العالمية هو الواحـة الأخيرة لمحبي القتال » معسكر لجنود العالم المرتزقة ؟
اوتيل كومودور هو عبارة عن آلة اتصالات لا تتوقف عن العمل وفي الغرف ، حيث يقضي أحياناً دزينة من المخبرين الصحافيين الحربيين الليل على ارض الغرفة فإن الآلات الكاتبة لا تتوقف عن الضرب . وفي بهو الفندق تبهر الـ . فلاشات . الابصار والتي يعمل أصحابها على تجربتها قبل إستعمالها . وآلة التلكس ، الموجودة إلى جانب البار تعمل دون انقطاع ... وعبر المكبر ينادي على الأسماء كما ينادي في المطار على اوقات قيام او هبوط الطائرات - السيد كونتزلمان من الـ ( ARD ) . رجاء إلى الهاتف ! .
وفي سيرك الأزمات للمخبرين مصورو الحربيين الذي يتنقلون بالطائرات النفاثة بتكليف إثر تكليف إلى مناطق ساحات القتال ، فإنك تلتقي دائماً بنفس الوجـوه وكالات ماغنوم ( Magmum ) وغاما ( Gama ) صيادو الصور من الـ يونايتد بريس United Press ) ورجال التصوير من تلفزيونات ( CBS ) و ( ABC ) . ومن جديد ينزل المصورون المستقلون إلى الساحة ليشقوا طريقهم بايديهم بغية الحصول على جائزة التصوير العالمية .
في البهو فإن الحقائب المعدنية لطاقم التصوير التلفزيوني مكدسة بعضها فوق بعض على السجادة المخملية بالإضافة إلى حاملات آلات التصوير .
وهناك عشرات من الصحافيين والمصورين من جنسيات مختلفة ياخذون قسطهم من الراحة على
مقاعد لينة وثيرة ولكنهم على اهبة الاستعداد ، في كل ثانية ليقفزوا ويتوجهوا فوراً إلى المكان حيث انفجرت سيارة مفخخة قتلت وجرحت العديد من الناس ، أو المكان الذي دمرت فيه قنابل المدفعية الإسرائيلية منـزلا لاعتقادها بان احد الزعماء الفلسطينيين يعقد فيه مؤتمراً صحافياً .
العاملون في الفندق وخادمات الغرف كانوا يعتمدون على الحظ في حياتهم وفي الفندق ، حيث توجد ثلاث آلات تلكس تحت تصرف ثلاثمائة صحافي ، يسير كل واحد من هؤلاء وجبـوبـه مليئـة بـالبقـاشيش ، كي يسبق المنافسين وكان سائقو السيارات التابعين للفندق يقومون بأعمال جانبية بالإضافة إلى مهنتهم الأساسية . كانوا يتوسطون في مراكز هاتف خصوصية ، ليست ببعيدة عن فندق الكومودور للحصول على محادثات هاتفية مع دوائرهم وصحفهم ومجلاتهم باريس ولندن وروما ونيويورك باسعار خيالية ، والآن فإن . أبو راميا ، البدين يتنهد من الحسرة عندما يفكر بالأيام السيئة التي سوف تاتي في يوم من الأيام ، وهي ايام السلم .
ورجال من طراز ابو راميا يجدهم المرء في كل ساحات القتال منذ الحرب العالمية الثانية .
هل هناك ثمة شخص يحتاج إلى تاشيرة ؟ أبو راميا يؤمنها له هل يريد أحد إرسال افلامـه المصورة خارج المدينة المحاصرة ومنها الخارج ؟ ابو راميا هو لها .. وهو يسال فقط إلى اين ؟ إلى الولايات المتحدة ؟ إلى بريطانيا إلى فرنسا ؟ إلى المانيا الاتحادية ؟ والرجل الذي يشبه صوته صوت الديك الرومي ويجوب أروقة وممرات الفندق ليلا نهاراً ، يؤمن هذا ايضاً .
وتقريباً كل الصور الحربية والأفلام التلفزيونية التي شاهدها العالم باسره عن أحداث لبنان عموماً وحرب بيروت الغربية خصوصاً ، مرت كلها من تحت ايدي ابو راميا ...
كان ابو راميا يرسل البريد ثلاث مرات في الاسبوع ويتقاضي عن كل مغلف خمسمائة دولار ... كان يضعها في سيارة اميركية ويرسلها مع أحد الأقارب إلى دمشق والشخص الذي أخذ معه الرسائل الجوية يكون في اليوم التالي في الفندق وفي الوقت المحدد
الصحافيون الحربيون والمصورون كانوا يدفعون للمستثمر الأول في فندق الـ كومودور ابو راميا ما كان يطلبه وبدون مناقشة ، وكلما طالت الحرب كلما ازداد ابو رامیا ثراء ..
وكـان فندق الكـومـودور . بالنسبة للصحافيين الحربيين والمصورين المكان الوحيد الأمن في بيروت الغربية وهو بمثابة الوسادة الهادئة وسط تلك الحرب الطاحنة والمدمرة . ومن يغـادر الفندق ويضع قدمه في الخارج ، في الشارع فهو في مهمة .
هوائيات ( انتين ) سياراتنا التاكسي رفعت عليها الأعلام البيضاء المؤلفة ، إما من المناديل
أو من قطعة من شراشف الأسرة أو من بقايا أكياس بلاستيكية وقد لصق على الزجاج الأمامي للسيارة لافتة كتب عليها صحـافـة تلفزيون وعندما كنا في طريقنا إلى مناطق تواجد الفلسطينيين ونمر امام الحواجز ، كنا نمسك بايدينا جاهزة الأوراق المعطاة لنا من قبل منظمة التحرير الفلسطينية وبعد حلول الظلام على المرء أن يشعل الضوء داخل السيارة كي يتعرف عليه المسلحون على انواعهم وهو يمر عبر طبيعة مدمرة وبخرائب نبت فيها العشب وعبر صفوف من المحاربين الواضعين اصابعهم على زناد اسلحتهم ...
والطريق إلى الجبهات يمر عبر ما يسمى بالتيمـانـدسـلائـد ( Niemandasland ) اي الأرض التي لا تخص احداً ، حيث توجد طرق متعرجة تبدو بلا نهاية وتقودك بكل تأكيد إلى خارج المدينة المحاصرة وهكذا بإمكان المرء في ساعة واحدة التحدث مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ومع وزير الحرب الإسرائيلي .
وفي المساء في الفندق أمـام منافض السجائر المملوءة نلعق جروحنا احياناً هي جروح
حقيقية ودائماً هي نفسية .
الحرب تسود كل شيء المرء يعيش مع الحرب وينام وياكل ومعها صحاني فرنسي اصيب من جراء تبادل إطلاق النار في ذراعه الأيمن وخده الأيمن ومصور آخر اخذت منه آلة تصويره المتحف تحت اشجار الكينا التي قطعت قممها ، من قبل مسلحين مجهولين شهروا عليه أسلحتهم .
وسيارة المرسيدس البيضاء السوداء التابعة لطاقم مصورين تابعين لشركة التلفزيون ( NBC مزقتها الرصاصات على علو ارتفاع الراس ..
وقد حالف الحظ فعلا رجـال التلفزيون لأنهم في ذلك الوقت لم يكونوا داخل السيارة .
وقال المصور الحـربـي البريطاني دون ماك كولين : لم اعمل ابدأ طيلة حياتي المهنية تحت مثل هذه الظروف الصعبة في بيروت في كل شارع كان يقف المحاربون مع أسلحتهم وبعضهم شهر سلاحه في وجهي وهو يقول : . لا صور ! . .
وبالنسبة لضحايا الحرب تبقى غريباً مثل السكان البدائيين لثمة قارة واحياناً نتحدث حول هذا الأمر .. احيانا والدموع تترقرق في اعيننا واحياناً بسخرية وقال أحد الصحافيين : . نحن مثل الجنين في فيلم ۲۰۰۱ ، الجنين الذي يدور في الكون الفضائي إننا نطير وندور مثل الجنين عبر الغرفة .
واحياناً فإن الانتظار يكاد يودي بالانسان إلى الجنون ، ومن ثم يقوم الانسان باخذ صور جنونية مصور فرنسي قال لرئيس منظمة التحرير الفلسطيني ياسر عرفات ، عندما اراد رئيس المنظمة الوقوف أمامه لياخذ صورة له آسف يا سید عرفات ولكن رئاسة التحرير في مجلتي باريس لم تعد مهتمة بقضيتكم على الإطلاق إنهم يهتمون الآن فقط باللاعب الارجنتيني دييغو مارادونا ، إن الوقت الآن هو وقت المباريات
العالمية لكرة القدم ، فقال له ياسر عرفات
حسناً : عندئذ لنلعب معاً كرة قدم . .
ومن ثم لعب مع الرجال بالكرة هنا وهناك وكان الغبار يتصاعد والصـور كـانت طبعاً فريدة وجميلة ..
بول سيدار . المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي ، نوع من أبي الهول يرتدي الثياب الكاكية عندما
كان ثمة سؤال يعجبه في المجال الحربي يبدو سعيدا ، ويسترسل التحدث شارحاً أدق التفاصيل ويبذر الوقت . اما عند السؤال عن عدد القتلى من الإسرائيليين فكان جوابه على رأس لسانه وكانه كان ينتظر هذا السؤال وقد حضر له الجواب . . طبعاً العدد ضئيل للغاية ، وفي الأسئلة التي تزعجه ، يصبح مختلفاً ويقول بيننا ، أنا اقوم بوظيفتي عليكم ان تفهمونني . ..
ولما سأله أحد الصحافيين : هل تريدون قتل مائتين وخمسين الف مدني من أجل نزع السلاح من أيدي ستة آلاف فلسطيني ؟ ابتسم المتحـدث باسم الجيش الإسرائيلي ، وهنا صور الصحافيون ابتسامته ، وظهر الرجل فجاة بمظهـر الـرجـل الإنسان ، وقال بان له ايضاً امراة واطفال وانه . والله يعلم ، لا يسبب له القتل اي متعة ، وعـلى الصحافيين والمصورين تصديقه .
ومن ثم التفت إلى موجه السؤال وقال له ما إسمك ؟ فاجابـه الصحافي اسمي توم من شركة التلفزيون ( NBC ) فرد عليه المتحدث باسم الجيش قائلا : اسمع يا توم ، مثل هذه الاسئلة لا احبها ولا استسيغها ...
ودون استعمال الخدع والحيل لم يكن بالإمكان الحصول على ما نريد من الاسرائيليين الذين كانوا بخشون كل مصور وكانه يحمل في حقيبته قنبلة يدوية ..
وكانوا لا يسمحون للمصورين بالذهاب إلى الجبهة إلا برفقة ضباط إسرائيليين وهؤلاء كانوا يريدون اخذ الأفلام منا وكاننا صورنا اريل شارون ، وزير الدفاع الاسرائيلي ، عاريا !! !
وبعد اسبوع في جنـوب لبنان ، قمنا ايضاً بالتلاعب عليهم وذلك عندما أراد الحاكم العسكري الاسرائيلي لمدينة صور مصادرة اللامنا عندها سلمه جاي اولال ( Jay Ullal ) مصور مجلة ، شترن - الألمانية الغربية افلاماً غير مصورة ووضعها على الطاولة في القيادة العامة ... في حين أنني اخفيت الافلام المصورة عند راس حذائي ..
إن اخطر مكان في غرب بيروت هو ، خلدة ، هذا ما قاله لنا احد اللبنانيين .
المصور جورج سامرجيـان ( George Samarjan مصور جريدة النهار اللبنانية شخص وكـانـه من مجلة الأفلام في العشرينات . ينقصه فقط الـ ، ترانشكوت . حتى يكون بديلا للممثل الأميركي الكبير والراحل همفري بوغارت جورج لا يصور فقط مع الكاميرا ، بل يطلقها على كل شيء من الممكن ان يصبح صورة ، اكن اعرف ذلك قبلا الرحلة إلى خلدة كانت رحلة كابوس ، وتفكر الوقت كله انك تريد أن تستيقظ من هذا الكابوس
المرعب ... فالطريق الساحلي إلى المطار المتنازع عليه هو كابوس في حد ذاته الشمس الحارة التي تجعلك بدون حماية هي كابوس ، الدخان يتصاعد من المنازل المدمرة من الدماء فوق الأسفلت ول بالقنابل وعلى طرفي الطريق يوجد فلسطينيون يقومون بالقيلولة وراء اكياس الرمل ، وفوق الطريق يسير كلب بثلاثة قوائم ووراءه خطأ خلدة لا توجد اية ثغرة على الاطلاق ليختبي المرء فيها .
تصور ملعب كرة قدم حرث لمدة شهر كامل بالقنابل ، ملعب كرة قدم لا يمكن للمرء التحرك فيه إلا زاحفاً ، ملعب كرة قدم تنمو فيه التلال الخلدية .
- ركام التراب المتجمـع نتيجة لحفر الخلد جحره تصور الجنـود المنبطحين وراء تلك التلال الخلدية والممددين مثل الأطفال النائمين ولا يتحـركـون كي لا يصـابـوا بالرصاص تخيل حوالي عشرين ملعبا لكرة القدم في كيلومتر مربع هذه هي خلدة ! وقبل أربعة أسابيع كانت تحلق فوق خلده في طريقها لتحط في المطار طائرات خطوط الشرق الأوسط الجوية ، وقبل شهر كان يسير على الطريق الساحلي إلى خلـدة الأشخاص ، في العطل والإجازة . بلباس البحر ومعهم رزم الطعام . ليقفزوا بعد ذلك إلى البحر للسباحة ، واليوم ، فإن أرض خلدة محروثة بالقنابل بكل ما في هذه الكلمة من معنى . سابقاً كان في خلدة حتى - السلاطعين . . كما قص علينا جورج ، ولكن السلاطعين ، ذاتها لم تتحمل زلزال الأرض واختفت في الأعماق وعنـد آخـر حـاجـز للجيش السوري نزلنا من السيارة وإلى يميننا مياه البحر الأبيض المتوسط الصافية وإلى يسارنا جنديان سوريان وراء مدافعهما ووراء التلة الخلدية .
الهواء نقي والجنود السوريون مسالمون ولطفاء ويرمقون بين الحين والآخر نظراتهم على الدبابات الاسرائيلية التي كانت تبعد عنهم خمسمائة متر ، صغيرة مثل اللعب الحربية ومواسير مدافعها كانت موجهة نحونا هل علينا ان نومي إليهم ؟ والصوت الوحيد المسموع في مقبرة الحرب هذه هي جعجعة كل من جاي وجورج مصور شترن واللبناني - صورا ثلاثة أو أربع مرات وقد وقف الجندي السوري وراء رشاشه على استعداد ، عندها انفجرت قنبلة من عيار مائة وعشرين ميللمتر على بعد عشرة أمتار وراءنا ، وكادت تقتلنا وتقتل الجندي السوري في يوم جميل في خلدة ، ورغم اتفاق لوقف إطلاق النار ، اطلقت تلك القنبلة علينا ، زحفنا عائدين مسرعين إلى سيارتنا ونحن نرتعد من الخوف .. في اليوم التالي ، ظهر جاي الصور ، لكنه لم يشاهـد عليها أي شيء .
إن أدهى مكان في العالم يقع على ساحل بيروت المحروث بالقنابل وبعد حلول الظلام يشاهد هناك ضوء واحد يتلألأ ويمكن رؤيته من على سطح فندق ، الكسندر الواقع في بيروت الشرقية والضوء ناجم عن فندق الخمس نجوم ، فندق ، سامرلاند ، الذي يعمل هناك من اجل لا احد .. وفي وسط منطقة الحرب ، ينتظر الخدم باحذيتهم الملمعة والقمصان البيضاء والثياب الخاصة الأنيقة ولكن الفندق والمطعم خاليان من الزبائن ويقول مدير الفندق . إنني أرغم المستخدمين على الانضباط ، إذ من يهتم بثنيـة سرواله ، لا يفكر بالموت . ...
و في فندق الاشباح يسمع صوت التلكس ، ولكن ما من أحـد يستعمله . والهاتف في المائة واثنين وخمسين ملحقاً يعمل . ولكن من أحد يرفع السماعة . وفي النادي الليلي - ليالينا - تُسمع موسيقى البوب ، ولكن ما من أحد يرقص ، وعلى الشرفة الطاولات مجهزة وعليها الأغطية الجميلة والصحون والكؤوس والملاعق والشوك والسكاكين ، ولكن ما من احد ياتي للعشاء .
وفي الخارج ، امام الفندق تقف الدبابات السورية . وفي البيوت المدمرة يكمن المقـاتـلـون الفلسطينيون ، وفي الداخل تدفع فرنسيسكا ، ضيفة الفنـدق الوحيدة عربة أطفال نحو الشرفة المطلة على البحر وقالت لي السيدة « لا تخف إطلاقاً ، الله وحده يعرف متى ستموت .
قالت هذه الكلمات ثلاث مرات ، وبثقة تامة .
صور الحرب تظهر فقط ما يمكن إظهاره على الصورة ، وثمة شيء آخر لم تظهره إطلاقاً . إنها مثلا تنقل أي شيء عن ضجيج الحرب الجحيم تفوح منه دائماً ثمة رائحة ، ففي حرب القرم كان تفوح رائحة الغبار والدم ، وفي الحرب العالمية الأولى كانت تفوح رائحة وسخ الجياد ، وفي الحرب العالمية الثانية ، كانت تفوح رائحة زيوت الآلات والوقود التي كانت تدير آلة الحرب الطائرة والقاذفة للقنابل وفي حرب فيتنام فاحت رائحة النابالم .
وفي غرب بيروت فاحت رائحة النفايات المحترقة وأيضاً رائحة المدينة الكريهة لا يمكن إظهارها على الصور ، لأسابيع طويلة بقيت القمامة والنفايات على جوانب الطرقات وفي مداخل البيوت معجون من ورق ، بقايا خضار فاسدة قطط ميتة وكل هذا داس فوقه الأطفال الذين كانوا يبحثون عن شيء يؤكل وقد تم إضرام النار ، كي تحرق الأكوام وتصبح اقل حجماً وفي بعض الأحيان فإن السكان يقذفون بنفاياتهم من التوافد . وهناك , كان بعضها يظل عالقا بين اغصان الأشجار ، اکباس بلاستيكية ، بقايا طعام خرق وكذلك فإن اشجار النفـايـات اضطرمت فيها النار واحترقت .
وفي بيروت الأطفال أصبحوا يعرفون الفرق في الأصوات التي تخرج من الرشاشات أو طلقة مدفع او صاروخ كاتيوشا أو قنبلة سيارة والاطفال كانوا يقلدون الاصوات بين ، بانغ ، و . بلوب و ، فوم . . في التلفزيون كانت بيروت تشتعل بدون صوت ، كما في الأفلام الصامتة ولكن الحقيقة فإننا في فندق الـ كومودور في بيروت . كنا ليلا نسد اذاننا بقطن ونبلع حبوب الفاليوم كي نتمكن من النوم .
انتهت
اعداد - رينيه فابیان وهانس کریستیان
ماذا يقولون عن الحرب اللبنانية ! ۱۹۸۲ - ١٩٨٣ ..
في فندق الكسندر في شرقي بيروت كان عشرات الصحافيين يقفون وصدورهم مكشوفة وقد دلكوا أجسامهم بالزيت الخاص ضد الشمس ، يشربون عدة أنواع من المشروبات والمرطبات وهم يتطلعون إلى المنطقة الغربية من مدينة بيروت .
وامام الكاميرات والميكروفونات يصار إلى قتل مدينة بأكملها وعلى بعد كيلومتر واحد في خط هوائي تنفجر القنابل التي تقذف بها المدافع والصواريخ . وبعد كل انفجار يتصاعد الدخان والصحافيون اصبحوا خبراء منذ زمن طويل بكل ما يتعلق بتأثير الأسلحة دخان هائل أبيض يتصاعد هذا يعني أن منزلا قد اصيب سحاب دخان اسود يعلو إلى السماء من فوق المنازل هذا يحصل عندما تنفجر محطة وقود إنها الحرب الحرب كما يشاهدها رواد السينما أعمدة من الدخان بدون رائحة وبدون الم .
وفي المساء عندما تكون الرياح قد غيرت اتجاهها تدفع السحب إلى هنا السحب من مناطق شاتيلا
، صبرا وبرج البراجنة المقذوفة بالقنابل سحب تفوح منها روائح نتنة روائـح المحروقين والذين أصبحوا كالفحم ويشمها الانسان حتى في هذه المنطقة البعيدة نسبياً وأحياناً ، ولكن فقط أحياناً لا يعود للشراب والطعام أي طعم .
ومن شرفات وأسطح بيروت الشرقية كانت الحرب غير حقيقية كالصراع حول جزر فالكلاند مكان ما هناك في الخلف يصار إلى إطلاق النار ولكن الطلقات تصيبك وفي مكان ما هناك توجد ضحايا ولكنك لا تراها وفي مكان ما هناك تفكر كومبيوترات الاسرائيليين ، والكومبيوتر يفكر بالموت ، ولكن الموت لا يخصك ..
وكذلك ، فإن التصوير الحربي وهذا تتعلمه على سطح فندق الكسندر المشمس على أنه نوع من الـ - بورتوغرافي وكما هو الحال في الأماكن في الكتب التي كانت تتسبب في انفعالنا ، عندما كنا أطفالا الأمر كذلك بالنسبة للمصور لأماكن الحرب ، لأن اشخاصاً اعتادوا على صور الإثارة وصدمات التاريخ منذ فترة طويلة لا يمكن إثارتهم إلا لقط عبر صندوق فرجة التعاسة .
وهكذا هو الأمر في فندق الصحافيين ، يخيب ظن المرء إن لم يحصل أي شيء ، ويسود المزاج العكر والكل ينتظر أن تعود الحرب إلى شدتها عندها يصبح المرء سعيداً أي عندما تعود الطائرات الإسرائيلية لتنقض من جديد على بيروت وتقذف الأبنية بحممها وتقتل المئات ، بل الآلاف من البشر وتدمر المنازل والمرافق عندئذ بإمكان المرء أن يقوم ثانية يعمل ويصور الأمر الذي يتقاضى أجره من أجله .
وعندما يكون سكان بيروت بعيدين عن الرصاص والقنابل فإنهم ينظرون إلى الحرب وكانها
متعة رائعة .. الكثيرون يشعرون بالقنابل المتساقطة وكانها مطر لا يلبث أن يذهب بحال سبيله !!!
وحيث كان الاسرائيليون . بعد ، في الأمس يقذفون المدينة من البحر بالقنابل ، تشاهد في اليوم الثالي المظلات الواقية من الشم مفتوحة على الشاطيء ويبيع البائعون المتجولون عصير البرتقال والتفاح ، وتنصب حبال الغسيل ثانية . ويتطلع الصغار إلى الشارع .
وفي المنازل التي تهدمت واجـهـاتهـا ، يجلس السكان ، كما لو كانوا يتنشقون الهواء النقي على الشرفة ويثرثرون حتى منتصف الليل فقط . الدولاب العملاق ، على الشاطيء الغربي من بيروت والذي يستخدمه الاسرائيليـون كنقطة ارتكاز عندما يقذفون الشق الغربي من بيروت بقنابلهم ، يقف منذ أسابيع بلا حراك وتتارجح سلاله في الهواء ( المقصود دولاب مدينة الملاهي ) ولكن عندما تعود الطائرات للهجوم مجدداً عندها لا تتطلع عيون الكاميرات وحدها إلى السماء بل يقف نصف سكان المدينة في الشوارع ويتطلعون مشدوهين إلى ما يجري كما هو الحال في . حرب النجوم . في آلات اللعب ( الكومبيوتر ) في إحدى المرات وعندما خيم السكون ثانية على المدينة ، وكانه الهدوء ، ، بعد زلزال ارضي قال لي احد اللبنانيين : . دون طلقات الرصاص والقذائف ، اشعر بان شيئاً ما ينقصني وقد اعتدنا على ضجيج الحرب ، اعتدنا على صوت بيروت ، على صفارات انذار سيارات الاسعاف التي تهرج مسرعة بعد كل هجوم جوي وحشي إسرائيلي .
اعتدنا على صوت الفرامل التي يدوس عليها كل سائق يسعى للهرب من المناطق الخطرة ، و بلف ، الكوع باقصى سرعته لقد اعتدنا على طلقات الرصاص التي تطلق في الهواء لإفساح الطريق أمام السيارات التي تنقل جريحاً إلى المستشفى .
إن اللبنانيين يفكرون بالاعمال التجارية والبعض ينظر بشيء من السرور إلى حطام السيارات التي دمرتها مدافع الدبابات الإسرائيلية ويحسبون كم من الأعمال تنتظرهم عداً عندما تضع الحـرب اوزارها .
الاسعار في بيروت الغربية ترتفع وتهبط متمشية مع الوضع العسكري سواء ارتفع ضجيج الحرب أم انخفض ، وإذا اتفق على وقف إطلاق النار بين المتحاربين عندئذ يبدا هبوط الأسعار ، وإذا ما عادت القنابل تتساقط فوق المدينة يتبع ذلك فوراً ارتفاع في الأسعار بصورة غريبة وعندها يستعمل سائقو التاكسي كلمتين فقط بالإنكليزية خطير جدا ، للحصـول من الصحافيين القاطنين في فندق الـ ه كومودور ، على اضعاف اضعاف السعر العادي واحيانا يصل الأجر إلى الخمسماية دولار للسفرة الواحدة .
وفندق الكومودور على غرار اوتيل الكسندر ، المركز الرئيسي للصحافة العالمية هو الواحـة الأخيرة لمحبي القتال » معسكر لجنود العالم المرتزقة ؟
اوتيل كومودور هو عبارة عن آلة اتصالات لا تتوقف عن العمل وفي الغرف ، حيث يقضي أحياناً دزينة من المخبرين الصحافيين الحربيين الليل على ارض الغرفة فإن الآلات الكاتبة لا تتوقف عن الضرب . وفي بهو الفندق تبهر الـ . فلاشات . الابصار والتي يعمل أصحابها على تجربتها قبل إستعمالها . وآلة التلكس ، الموجودة إلى جانب البار تعمل دون انقطاع ... وعبر المكبر ينادي على الأسماء كما ينادي في المطار على اوقات قيام او هبوط الطائرات - السيد كونتزلمان من الـ ( ARD ) . رجاء إلى الهاتف ! .
وفي سيرك الأزمات للمخبرين مصورو الحربيين الذي يتنقلون بالطائرات النفاثة بتكليف إثر تكليف إلى مناطق ساحات القتال ، فإنك تلتقي دائماً بنفس الوجـوه وكالات ماغنوم ( Magmum ) وغاما ( Gama ) صيادو الصور من الـ يونايتد بريس United Press ) ورجال التصوير من تلفزيونات ( CBS ) و ( ABC ) . ومن جديد ينزل المصورون المستقلون إلى الساحة ليشقوا طريقهم بايديهم بغية الحصول على جائزة التصوير العالمية .
في البهو فإن الحقائب المعدنية لطاقم التصوير التلفزيوني مكدسة بعضها فوق بعض على السجادة المخملية بالإضافة إلى حاملات آلات التصوير .
وهناك عشرات من الصحافيين والمصورين من جنسيات مختلفة ياخذون قسطهم من الراحة على
مقاعد لينة وثيرة ولكنهم على اهبة الاستعداد ، في كل ثانية ليقفزوا ويتوجهوا فوراً إلى المكان حيث انفجرت سيارة مفخخة قتلت وجرحت العديد من الناس ، أو المكان الذي دمرت فيه قنابل المدفعية الإسرائيلية منـزلا لاعتقادها بان احد الزعماء الفلسطينيين يعقد فيه مؤتمراً صحافياً .
العاملون في الفندق وخادمات الغرف كانوا يعتمدون على الحظ في حياتهم وفي الفندق ، حيث توجد ثلاث آلات تلكس تحت تصرف ثلاثمائة صحافي ، يسير كل واحد من هؤلاء وجبـوبـه مليئـة بـالبقـاشيش ، كي يسبق المنافسين وكان سائقو السيارات التابعين للفندق يقومون بأعمال جانبية بالإضافة إلى مهنتهم الأساسية . كانوا يتوسطون في مراكز هاتف خصوصية ، ليست ببعيدة عن فندق الكومودور للحصول على محادثات هاتفية مع دوائرهم وصحفهم ومجلاتهم باريس ولندن وروما ونيويورك باسعار خيالية ، والآن فإن . أبو راميا ، البدين يتنهد من الحسرة عندما يفكر بالأيام السيئة التي سوف تاتي في يوم من الأيام ، وهي ايام السلم .
ورجال من طراز ابو راميا يجدهم المرء في كل ساحات القتال منذ الحرب العالمية الثانية .
هل هناك ثمة شخص يحتاج إلى تاشيرة ؟ أبو راميا يؤمنها له هل يريد أحد إرسال افلامـه المصورة خارج المدينة المحاصرة ومنها الخارج ؟ ابو راميا هو لها .. وهو يسال فقط إلى اين ؟ إلى الولايات المتحدة ؟ إلى بريطانيا إلى فرنسا ؟ إلى المانيا الاتحادية ؟ والرجل الذي يشبه صوته صوت الديك الرومي ويجوب أروقة وممرات الفندق ليلا نهاراً ، يؤمن هذا ايضاً .
وتقريباً كل الصور الحربية والأفلام التلفزيونية التي شاهدها العالم باسره عن أحداث لبنان عموماً وحرب بيروت الغربية خصوصاً ، مرت كلها من تحت ايدي ابو راميا ...
كان ابو راميا يرسل البريد ثلاث مرات في الاسبوع ويتقاضي عن كل مغلف خمسمائة دولار ... كان يضعها في سيارة اميركية ويرسلها مع أحد الأقارب إلى دمشق والشخص الذي أخذ معه الرسائل الجوية يكون في اليوم التالي في الفندق وفي الوقت المحدد
الصحافيون الحربيون والمصورون كانوا يدفعون للمستثمر الأول في فندق الـ كومودور ابو راميا ما كان يطلبه وبدون مناقشة ، وكلما طالت الحرب كلما ازداد ابو رامیا ثراء ..
وكـان فندق الكـومـودور . بالنسبة للصحافيين الحربيين والمصورين المكان الوحيد الأمن في بيروت الغربية وهو بمثابة الوسادة الهادئة وسط تلك الحرب الطاحنة والمدمرة . ومن يغـادر الفندق ويضع قدمه في الخارج ، في الشارع فهو في مهمة .
هوائيات ( انتين ) سياراتنا التاكسي رفعت عليها الأعلام البيضاء المؤلفة ، إما من المناديل
أو من قطعة من شراشف الأسرة أو من بقايا أكياس بلاستيكية وقد لصق على الزجاج الأمامي للسيارة لافتة كتب عليها صحـافـة تلفزيون وعندما كنا في طريقنا إلى مناطق تواجد الفلسطينيين ونمر امام الحواجز ، كنا نمسك بايدينا جاهزة الأوراق المعطاة لنا من قبل منظمة التحرير الفلسطينية وبعد حلول الظلام على المرء أن يشعل الضوء داخل السيارة كي يتعرف عليه المسلحون على انواعهم وهو يمر عبر طبيعة مدمرة وبخرائب نبت فيها العشب وعبر صفوف من المحاربين الواضعين اصابعهم على زناد اسلحتهم ...
والطريق إلى الجبهات يمر عبر ما يسمى بالتيمـانـدسـلائـد ( Niemandasland ) اي الأرض التي لا تخص احداً ، حيث توجد طرق متعرجة تبدو بلا نهاية وتقودك بكل تأكيد إلى خارج المدينة المحاصرة وهكذا بإمكان المرء في ساعة واحدة التحدث مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ومع وزير الحرب الإسرائيلي .
وفي المساء في الفندق أمـام منافض السجائر المملوءة نلعق جروحنا احياناً هي جروح
حقيقية ودائماً هي نفسية .
الحرب تسود كل شيء المرء يعيش مع الحرب وينام وياكل ومعها صحاني فرنسي اصيب من جراء تبادل إطلاق النار في ذراعه الأيمن وخده الأيمن ومصور آخر اخذت منه آلة تصويره المتحف تحت اشجار الكينا التي قطعت قممها ، من قبل مسلحين مجهولين شهروا عليه أسلحتهم .
وسيارة المرسيدس البيضاء السوداء التابعة لطاقم مصورين تابعين لشركة التلفزيون ( NBC مزقتها الرصاصات على علو ارتفاع الراس ..
وقد حالف الحظ فعلا رجـال التلفزيون لأنهم في ذلك الوقت لم يكونوا داخل السيارة .
وقال المصور الحـربـي البريطاني دون ماك كولين : لم اعمل ابدأ طيلة حياتي المهنية تحت مثل هذه الظروف الصعبة في بيروت في كل شارع كان يقف المحاربون مع أسلحتهم وبعضهم شهر سلاحه في وجهي وهو يقول : . لا صور ! . .
وبالنسبة لضحايا الحرب تبقى غريباً مثل السكان البدائيين لثمة قارة واحياناً نتحدث حول هذا الأمر .. احيانا والدموع تترقرق في اعيننا واحياناً بسخرية وقال أحد الصحافيين : . نحن مثل الجنين في فيلم ۲۰۰۱ ، الجنين الذي يدور في الكون الفضائي إننا نطير وندور مثل الجنين عبر الغرفة .
واحياناً فإن الانتظار يكاد يودي بالانسان إلى الجنون ، ومن ثم يقوم الانسان باخذ صور جنونية مصور فرنسي قال لرئيس منظمة التحرير الفلسطيني ياسر عرفات ، عندما اراد رئيس المنظمة الوقوف أمامه لياخذ صورة له آسف يا سید عرفات ولكن رئاسة التحرير في مجلتي باريس لم تعد مهتمة بقضيتكم على الإطلاق إنهم يهتمون الآن فقط باللاعب الارجنتيني دييغو مارادونا ، إن الوقت الآن هو وقت المباريات
العالمية لكرة القدم ، فقال له ياسر عرفات
حسناً : عندئذ لنلعب معاً كرة قدم . .
ومن ثم لعب مع الرجال بالكرة هنا وهناك وكان الغبار يتصاعد والصـور كـانت طبعاً فريدة وجميلة ..
بول سيدار . المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي ، نوع من أبي الهول يرتدي الثياب الكاكية عندما
كان ثمة سؤال يعجبه في المجال الحربي يبدو سعيدا ، ويسترسل التحدث شارحاً أدق التفاصيل ويبذر الوقت . اما عند السؤال عن عدد القتلى من الإسرائيليين فكان جوابه على رأس لسانه وكانه كان ينتظر هذا السؤال وقد حضر له الجواب . . طبعاً العدد ضئيل للغاية ، وفي الأسئلة التي تزعجه ، يصبح مختلفاً ويقول بيننا ، أنا اقوم بوظيفتي عليكم ان تفهمونني . ..
ولما سأله أحد الصحافيين : هل تريدون قتل مائتين وخمسين الف مدني من أجل نزع السلاح من أيدي ستة آلاف فلسطيني ؟ ابتسم المتحـدث باسم الجيش الإسرائيلي ، وهنا صور الصحافيون ابتسامته ، وظهر الرجل فجاة بمظهـر الـرجـل الإنسان ، وقال بان له ايضاً امراة واطفال وانه . والله يعلم ، لا يسبب له القتل اي متعة ، وعـلى الصحافيين والمصورين تصديقه .
ومن ثم التفت إلى موجه السؤال وقال له ما إسمك ؟ فاجابـه الصحافي اسمي توم من شركة التلفزيون ( NBC ) فرد عليه المتحدث باسم الجيش قائلا : اسمع يا توم ، مثل هذه الاسئلة لا احبها ولا استسيغها ...
ودون استعمال الخدع والحيل لم يكن بالإمكان الحصول على ما نريد من الاسرائيليين الذين كانوا بخشون كل مصور وكانه يحمل في حقيبته قنبلة يدوية ..
وكانوا لا يسمحون للمصورين بالذهاب إلى الجبهة إلا برفقة ضباط إسرائيليين وهؤلاء كانوا يريدون اخذ الأفلام منا وكاننا صورنا اريل شارون ، وزير الدفاع الاسرائيلي ، عاريا !! !
وبعد اسبوع في جنـوب لبنان ، قمنا ايضاً بالتلاعب عليهم وذلك عندما أراد الحاكم العسكري الاسرائيلي لمدينة صور مصادرة اللامنا عندها سلمه جاي اولال ( Jay Ullal ) مصور مجلة ، شترن - الألمانية الغربية افلاماً غير مصورة ووضعها على الطاولة في القيادة العامة ... في حين أنني اخفيت الافلام المصورة عند راس حذائي ..
إن اخطر مكان في غرب بيروت هو ، خلدة ، هذا ما قاله لنا احد اللبنانيين .
المصور جورج سامرجيـان ( George Samarjan مصور جريدة النهار اللبنانية شخص وكـانـه من مجلة الأفلام في العشرينات . ينقصه فقط الـ ، ترانشكوت . حتى يكون بديلا للممثل الأميركي الكبير والراحل همفري بوغارت جورج لا يصور فقط مع الكاميرا ، بل يطلقها على كل شيء من الممكن ان يصبح صورة ، اكن اعرف ذلك قبلا الرحلة إلى خلدة كانت رحلة كابوس ، وتفكر الوقت كله انك تريد أن تستيقظ من هذا الكابوس
المرعب ... فالطريق الساحلي إلى المطار المتنازع عليه هو كابوس في حد ذاته الشمس الحارة التي تجعلك بدون حماية هي كابوس ، الدخان يتصاعد من المنازل المدمرة من الدماء فوق الأسفلت ول بالقنابل وعلى طرفي الطريق يوجد فلسطينيون يقومون بالقيلولة وراء اكياس الرمل ، وفوق الطريق يسير كلب بثلاثة قوائم ووراءه خطأ خلدة لا توجد اية ثغرة على الاطلاق ليختبي المرء فيها .
تصور ملعب كرة قدم حرث لمدة شهر كامل بالقنابل ، ملعب كرة قدم لا يمكن للمرء التحرك فيه إلا زاحفاً ، ملعب كرة قدم تنمو فيه التلال الخلدية .
- ركام التراب المتجمـع نتيجة لحفر الخلد جحره تصور الجنـود المنبطحين وراء تلك التلال الخلدية والممددين مثل الأطفال النائمين ولا يتحـركـون كي لا يصـابـوا بالرصاص تخيل حوالي عشرين ملعبا لكرة القدم في كيلومتر مربع هذه هي خلدة ! وقبل أربعة أسابيع كانت تحلق فوق خلده في طريقها لتحط في المطار طائرات خطوط الشرق الأوسط الجوية ، وقبل شهر كان يسير على الطريق الساحلي إلى خلـدة الأشخاص ، في العطل والإجازة . بلباس البحر ومعهم رزم الطعام . ليقفزوا بعد ذلك إلى البحر للسباحة ، واليوم ، فإن أرض خلدة محروثة بالقنابل بكل ما في هذه الكلمة من معنى . سابقاً كان في خلدة حتى - السلاطعين . . كما قص علينا جورج ، ولكن السلاطعين ، ذاتها لم تتحمل زلزال الأرض واختفت في الأعماق وعنـد آخـر حـاجـز للجيش السوري نزلنا من السيارة وإلى يميننا مياه البحر الأبيض المتوسط الصافية وإلى يسارنا جنديان سوريان وراء مدافعهما ووراء التلة الخلدية .
الهواء نقي والجنود السوريون مسالمون ولطفاء ويرمقون بين الحين والآخر نظراتهم على الدبابات الاسرائيلية التي كانت تبعد عنهم خمسمائة متر ، صغيرة مثل اللعب الحربية ومواسير مدافعها كانت موجهة نحونا هل علينا ان نومي إليهم ؟ والصوت الوحيد المسموع في مقبرة الحرب هذه هي جعجعة كل من جاي وجورج مصور شترن واللبناني - صورا ثلاثة أو أربع مرات وقد وقف الجندي السوري وراء رشاشه على استعداد ، عندها انفجرت قنبلة من عيار مائة وعشرين ميللمتر على بعد عشرة أمتار وراءنا ، وكادت تقتلنا وتقتل الجندي السوري في يوم جميل في خلدة ، ورغم اتفاق لوقف إطلاق النار ، اطلقت تلك القنبلة علينا ، زحفنا عائدين مسرعين إلى سيارتنا ونحن نرتعد من الخوف .. في اليوم التالي ، ظهر جاي الصور ، لكنه لم يشاهـد عليها أي شيء .
إن أدهى مكان في العالم يقع على ساحل بيروت المحروث بالقنابل وبعد حلول الظلام يشاهد هناك ضوء واحد يتلألأ ويمكن رؤيته من على سطح فندق ، الكسندر الواقع في بيروت الشرقية والضوء ناجم عن فندق الخمس نجوم ، فندق ، سامرلاند ، الذي يعمل هناك من اجل لا احد .. وفي وسط منطقة الحرب ، ينتظر الخدم باحذيتهم الملمعة والقمصان البيضاء والثياب الخاصة الأنيقة ولكن الفندق والمطعم خاليان من الزبائن ويقول مدير الفندق . إنني أرغم المستخدمين على الانضباط ، إذ من يهتم بثنيـة سرواله ، لا يفكر بالموت . ...
و في فندق الاشباح يسمع صوت التلكس ، ولكن ما من أحـد يستعمله . والهاتف في المائة واثنين وخمسين ملحقاً يعمل . ولكن من أحد يرفع السماعة . وفي النادي الليلي - ليالينا - تُسمع موسيقى البوب ، ولكن ما من أحد يرقص ، وعلى الشرفة الطاولات مجهزة وعليها الأغطية الجميلة والصحون والكؤوس والملاعق والشوك والسكاكين ، ولكن ما من احد ياتي للعشاء .
وفي الخارج ، امام الفندق تقف الدبابات السورية . وفي البيوت المدمرة يكمن المقـاتـلـون الفلسطينيون ، وفي الداخل تدفع فرنسيسكا ، ضيفة الفنـدق الوحيدة عربة أطفال نحو الشرفة المطلة على البحر وقالت لي السيدة « لا تخف إطلاقاً ، الله وحده يعرف متى ستموت .
قالت هذه الكلمات ثلاث مرات ، وبثقة تامة .
صور الحرب تظهر فقط ما يمكن إظهاره على الصورة ، وثمة شيء آخر لم تظهره إطلاقاً . إنها مثلا تنقل أي شيء عن ضجيج الحرب الجحيم تفوح منه دائماً ثمة رائحة ، ففي حرب القرم كان تفوح رائحة الغبار والدم ، وفي الحرب العالمية الأولى كانت تفوح رائحة وسخ الجياد ، وفي الحرب العالمية الثانية ، كانت تفوح رائحة زيوت الآلات والوقود التي كانت تدير آلة الحرب الطائرة والقاذفة للقنابل وفي حرب فيتنام فاحت رائحة النابالم .
وفي غرب بيروت فاحت رائحة النفايات المحترقة وأيضاً رائحة المدينة الكريهة لا يمكن إظهارها على الصور ، لأسابيع طويلة بقيت القمامة والنفايات على جوانب الطرقات وفي مداخل البيوت معجون من ورق ، بقايا خضار فاسدة قطط ميتة وكل هذا داس فوقه الأطفال الذين كانوا يبحثون عن شيء يؤكل وقد تم إضرام النار ، كي تحرق الأكوام وتصبح اقل حجماً وفي بعض الأحيان فإن السكان يقذفون بنفاياتهم من التوافد . وهناك , كان بعضها يظل عالقا بين اغصان الأشجار ، اکباس بلاستيكية ، بقايا طعام خرق وكذلك فإن اشجار النفـايـات اضطرمت فيها النار واحترقت .
وفي بيروت الأطفال أصبحوا يعرفون الفرق في الأصوات التي تخرج من الرشاشات أو طلقة مدفع او صاروخ كاتيوشا أو قنبلة سيارة والاطفال كانوا يقلدون الاصوات بين ، بانغ ، و . بلوب و ، فوم . . في التلفزيون كانت بيروت تشتعل بدون صوت ، كما في الأفلام الصامتة ولكن الحقيقة فإننا في فندق الـ كومودور في بيروت . كنا ليلا نسد اذاننا بقطن ونبلع حبوب الفاليوم كي نتمكن من النوم .
انتهت
اعداد - رينيه فابیان وهانس کریستیان
تعليق