سامي كليب
ماهر عطّار: كاميرا ووطن في الخلايا
قرّر ماهر عطّار أن يعود الى بيروت. اختار محلاً مهجورا منذ تفجير المرفأ، فقهر صمتَ المكان وذكرى الموت، بلوحاتٍ أضاءت الحيطان والقلوب. يسأله الناس في الحي البيروتي العريق، لماذا عُدت؟ فهو ومنذ هرب مثل كل أبناء جيلنا من ويلات الحرب بعد أن ماتت القضايا على مزابل التاريخ والجغرافيا. انتقل الى فرنسا من على صهوة نجاحاته كمصور للحرب في بيروت وبطلب من وكالة الانباء العالمية التي كان يعمل معها. كانت لقطاتُه التي تحمل الوجع والقهر والموت والظُلمة والدموع، تُنشر في كبريات الصحف العالمية. وحين انتقل الى عاصمة الأضواء والنور، استقرّ به المقام قليلا، ثم صار يجوب العالم، لإجراء تحقيقات مصوّرة شملت أحداثا عالمية أو حفظت صورَ قادةٍ وزعماء ومسؤولين وناشطين من هذا العالم.
لماذا عُدت؟ أنا أيضا طرحتُ عليه هذا السؤال، الذي لم أطرحُه يوما على نفسي. فماهر وأنا كُنّا نعيشُ حياة هانئة تقارب الرفاهية في فرنسا، ونجول أسبوعيا تقريبا بين باريس وعواصم العالم، وغالبا ما كُنّا نلتقي في الطائرات، كتلك الرحلة التي جئنا فيها الى بيروت نفتتح مع الأمير طلال بن عبد العزيز الجامعة العربية المفتوحة، هو كمصور محترف يعمل مع وكالات أجنبية وأنا كإعلامي أعمل مع إذاعة فرنسا الدولية.
لم أطرح السؤال على نفسي، لأن العودة الى الوطن لا تحتمل سؤالا، فالوطن يسري في العروق، وبهجة اللقاء به حتى بمرضه ووهنه وضعفه وفقره، لا توازي أي بهجة في الحياة. هو سرُّ الجذور، لا يعرفُه غير الله وشجر السنديان والأرز والصنوبر.
قال لي صديقي ماهر وبلا تردّد:” بعد أن أمضيتُ سنوات طويلة في الغرب، وعملتُ مع أكبر المؤسسات الغربية والعربية، وعرفتُ الكثير من قادة العالم، أعتقد أنه حان الوقت لكي أقدم لوطني شيئا مما اختزنته، ولا شك أنك تعرف مدى سعادتي وأنا أحاول أن أعيد الضوء الى هذا المكان المهجور”
يقول الأديب المصري الكبير والصديق العزيز الذي رحل عن هذه الفانية قبل فترة جمال الغيطاني:” إن حياة الانسان عبارة عن دائرة، ينطلق من نقطة فيها ثم يعود اليها مهما طال السفر”.
في رصيد ماهر عطّار، الذي لم تنجح الحياة في قهر ابتسامته الدائمة ونكتته الحاضرة أبدا، مجموعة هامة وكبيرة من الصور والكتب. لا تتسع هذه المقالة لتفنيد كل ما فيها. ويمكنكم مشاهدتها عبر الرابط الذي أضعه أسفل هذه الكلمات.
أذكُره مرةً يتصلّ بي، مُقترحا أن يعرّفني على الأميرة هيا بنت الحسين. كانت قد برعت في الفروسية ولاقت صدى كبيرا، لكنها لم تكن مُعتادة على المقابلات. سالتُها على الهواء وهي تحاول لملمة كلماتها بالعربية : ” لماذا لا يقفز الحصان العربي”، فضحكت وقالت :” وهل هو أهبل كي يقفز؟ هذا حصان أصيل “…
عرف ماهر عطار ملوكا ورؤساء وأميرات وأمراء، صوّر الكثير منهم، وحفظ أسرارا أكثر. فقد تميّز دائما بقدرته على سماع أهم الاسرار وكتمها، تماما كما برع في عكسِ النفوس والأرواح والانفعالات والمشاعر على الوجوه والقسمات. فحين تنظر الى صورة من صنيعه، تشعر بالحالة النفسية للشخص المعني، بفرحه وحزنه، بأمله ويأسه، وليس فقط بجمال الصورة.
من اسمه الأول أخذ المهارة، ومن الثاني أخذ عطر الإبداع وأريج الإنسانية. وحين عاد الى بيروت، تماما كما عُدنا جميعا، نحن الذين سكنتنا بيروت في عمق القلب، وبقي لبنان في خلايانا أينما وأنى رحلنا، اختار أن يصوّر قيامة لُبنان بعد الموت والألم والفقر وتفجير المرفأ، من خلال سيدة تُشبه “ماريان” الفرنسية، لتكون ارزة لُبنان.
اتصلتُ به مؤخرا، سائلا أياه اذا كان يقبل أن يساعدنا في تصوير صديقة لنا ألّفت كتابا عن حربها الضروس ضد السرطان. لم يتردد لحظة، تحمّس فورا للفكرة الإنسانية، لا بل فتح لها أبوابا أخرى مع صديقة تعمل في الغرافيك، تماما كما ساعدتنا صديقة ثانية في التدقيق اللغوي، وقال لي قبل أن يبدا ورشة التصوير معها:” ليس أجمل يا صديقي من أن تشعر بأنك تخدم إنسانا في هذا العالم، فكيف اذا كان في وطنك، واذا كان مُكافحا ضد المرض العضال!”، وحين التقى بها، اتصل بي قائلا :” أحسست بعمق انسانيتها، وتالمتُ عنها، ولا شك ان الحياة تليق بها وسوف اساعدها قدر ما استطيع”
وعدني ماهر، بأن نُحيي سويا في هذا الصيف الغاليري التي أقامها في شارع “الجميزة”، وان يقيم خارجها مكانا للقاء الاحبة والأصدقاء تحت ما بقي من شجر وبعض خضرة وذكريات في بيروتنا.
لعلّنا، نحن الذين هربنا من ويلات الحرب، ومن اقتتال الرفاق ضد الرفاق، ومن تحويل القضايا الى بغايا، نُدرك اليوم وأكثر من أي وقت مضى ، ان الوطن ليس وجهة نظر، وأن من يريد ان يساعده فليبدأ بإضاءة شمعة بدلا من لعن الظلام.