ألبير كامو يعلّمنا حبّ الحياة بسبب عبثيتها
ديانا غرز الدين
تكمن السخرية احيانا في اغرب مواقف الحياة او اصعبها و اهمها، حيث تحصل مشاهد مؤلمة قد تدفعك للضحك او الابتسام من فرط مرارتها او جدّيتها و ليس من طرافتها ، فنحن نناقش المواضيع المحرمة او المواضيع البالغة العنف او الالم بطريقة ساخرة للتعبير عن راينا فيها و في الوقت نفسه نتفادى المواجهة الصريحة و الواقعية معها. فتصل الرسالة بشكل او بآخر.
هنا رواية بالغة الغرابة و الطرافة تصب في خانة الفكاهة السوداء تتعاطى بشكل ساخر او فكاهي مبطن احيانا مع مواقف مهمة مع الاحتفاظ بجانب الجدية و العمق في التعبير و التحليل و ايصال الفكرة . فرواية البير كامو “الغريب” مؤلف كتاب “اسطورة سيزيف” و كتاب ” المتمرد ” قصة لا تخلو من الطرافة و لكنها تتضمن ابعادا اعمق تشرح نظرة الكاتب (الوجودي) نفسه الى عبثية و سخافة العالم الحديث حيث نعيش . . تحكي الرواية قصة شاب فرنسي يعيش و يعمل في الجزائر، غريب الاطوار فاقد للطموح يعيش في حاضره فقط لا يكبله ماض ولا يشغله مستقبل، لكنه انسان جيد و شريف له عقل تحليلي واقعي، ينجز عمله بامانة . هو يعيش منفصلا عن ذاته و عن محيطه ، يتميز بالبرود و عدم المبالاة و يفضل العلاقات السطحية ولا يشعر بعمق ارتباط مع اي كان حتى مع امه. تبدأ الرواية بجنازة امه حيث نرى ردة فعله الغريبة و غير المتوقعة في هكذا ظرف، فهو انسان فاقد للروح لا يؤمن بشيء ولا يملك شعورا بالندم او الحزن، تورّط بالصدفة بارتكاب جريمة قتل احد الشبان العرب على الشاطيء من دون سبب وجيه. فتم اعتقاله، و اثناء محاكمته تجري امور في سياق المحاكمة تجعله مذنبا و محكوما عليه بالاعدام ليس بسبب جريمته، و انما بسبب عدم بكائه و حزنه على امه في جنازتها و بسبب انه غداة مأتمها ذهب للسباحة و لحضور فيلم سينمائي و اقام علاقة مع صديقته من دون ادنى شعور بالحزن لفداحة خسارته .اعترف للمحقق بعدم شعوره بالندم او الذنب لارتكابه جريمة قتل من غير سبب ناهيك عن ان حرارة الشمس على الشاطيء كانت قد اذابت دماغه يومها و دفعته الى اطلاق الرصاص. و اثناء سجنه لم يلاحظ الفرق بين حياته الماضية الحرة و حياته الراهنة السجينة، و لم يستوعب فقدانه لحريته فالحياة بالنسبة له كانت عبارة عن تعود و تأقلم مع كل الظروف.
” ان الحياة لا تتغير اطلاقا.. و ان جميع انواع الحياة تتساوى على اية حال”هو وافق على الزواج من صديقته لانها طلبت منه ذلك و كان جوابه ان الامر سيان عنده . و قد رفض ايضا الترقية في عمله و السفر الى الخارج قائلا لمديره انه لم ير سببا في تغيير حياته.
” انا حين افكر في احوالي جيدا لا اجدني تعيسا او بائسا، و لما كنت طالبا كان عندي الكثير من الطموح و لكن لما قدر لي ان اترك الدراسة ادركت بسرعة ان كل هذا لا ينطوي على اهمية حقيقية ”
هكذا بشكل ساخر انقلبت محاكمته و صارت تهمته و جريمته هي ردات فعله الخالية من الروح و التي تتنافى مع توقعات البشر الاخرين و تشكل خطرا عليهم و التي بسببها ادين و حكم عليه بالاعدام .
” الغريب” هي رواية كامو الاولى الحائزة على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٥٥.صدرت عام ١٩٤٢ . تنتمي الى المذهب العبثي في الادب الذي كان كامو من رواده . ترجمت الى ٧٠ لغة و اختيرت ضمن قائمة افضل ١٠٠ كتاب .
في رواية كامو الاخرى ” الطاعون” التي صدرت عام ١٩٤٧ ، قال احد الكهنة يخطب في الناس: ” لقد ظهر هذا البلاء للمرة الاولى في التاريخ في مصر ليصعق اعداء الرب، فقد كان فرعون يعارض تعاليم الالهة فخرّ من الطاعون راكعا، و منذ بدء التاريخ كانت بلايا الله تصعق المتكبرين و العميان، تأملوا هذا و خرّوا راكعين” .
” لقد عرف العالم من الطواعين ما عرف من الحروب، و مع ذلك فإن الطواعين و الحروب تفاجيء الناس دائما…”
“حين تنشب حرب يقول الناس انها لن تدوم طويلا فهذا امر مفرط في السخف. و لكن هذا لا يمنعها من ان تدوم رغم افراطها في السخف”
ما اشبه ما كتب عنه كامو من عشرات السنين بما يعيشه العالم اليوم من جراء تداعيات الاوبئة و الامراض المختلفة التي تصيبه. فالليالي و الايام مملوءة دائما و في كل مكان بصرخة البشر التي لا تنتهي.
يحكي كامو في روايته ” الطاعون” عن الوباء الذي فتك بمدينة وهران الجزائرية و اثاره النفسية و الاجتماعية و العاطفية التي المّت بالسكان بعد ان اغلقت ابواب مدينتهم في وجه العالم الخارجي و عزلوا في الداخل متروكون لمصيرهم يحاربون الوباء و الخوف . فقدوا الذاكرة و الامل بعد ان فصلوا عن احبائهم لفترة طويلة . عاشوا في الحاضر من دون ان يجرأوا على التفكير في مستقبلهم و مستقبل مدينتهم الغامض.
الناس تواقون الى التواجد مع آخرين، فهذا من صلب الطبيعة البشرية. عند وقوع وباء من اي نوع، يشعر الناس بالخوف منه و بالتالي يشعرون بحاجتهم الى حرارة انسانية فيخافون من العزل او النفي و يشعرون في حالة عزلهم انهم اخضعوا لعبودية من نوع ما. فالوباء هو امتحان للشجاعة و الارادة و الصبر على الفراق. نشعر في اوقات الاوبئة و العزل باننا نافدوا الصبر من حاضرنا، اسرى لماضينا و محرومون من المستقبل. نحمل في نفوسنا فراغا و الما و انفعالا و رغبة في العودة بالزمن الى الوراء. نشعر بالاسر و بنفس شعور السجناء و نتوق لعمل و عيش ابسط مباهج الحياة و ننتظر اليوم الذي ينتهي فيه الوباء لكي ننفق فيه مؤونة الحياة التي ادخرناها شهورا طوال او سنينا. رواية تنطبق بشكل كبير على ما نعيشه اليوم .
البير كامو فيلسوف وجودي “عبثي” و كاتب و روائي فرنسي ولد في الجزائر عام ١٩١٣ من ام اسبانية و اب فرنسي. توفي عام ١٩٦٠ . اشهر كتبه اسطورة سيزيف و المتمرد. التمرد بنظره يضفي على الحياة قيمتها. فإما التمرد و اما الموت. برأيه ان على الانسان ان يجمع بين العقل و الجنون و بين الفوضى و الروتين و بين التوتر و الاستقرار و يكون سلاحه في ذلك التمرد.
لا شك أن كامو في سخريته السوداء، يُعلّمنا دروسا في الحياة، وفي عبثية أيامنا، ويدفعنا دون أن يدري ومن على يأس أو ضحك بعض شخصياته أو لا مبالاتها، الى الافادة من يومنا، لان ما سيأتي محكوم كما الذي سبق برحيل حتمي في عالم لم نستطع تفكيك أهم سرّين فيه وهما الحياة والموت.