أبو الفتح عثمان بن جِنِّي Ibn Jinni، إمام في اللغة والأدب والنحو، ولد بالموصل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أبو الفتح عثمان بن جِنِّي Ibn Jinni، إمام في اللغة والأدب والنحو، ولد بالموصل

    جني

    Ibn Jinni - Ibn Jinni

    ابن جني
    (… ـ392هـ/… ـ1001م)

    أبو الفتح عثمان بن جِنِّي، إمام في اللغة والأدب والنحو، ولد بالموصل قبل 330 من الهجرة. ولا تحدد المصادر التي ترجمت له سنة مولده، ولكن ابن قاضي شهبة يقول في «طبقات النحاة» إن ابن جني توفي وهو في سن السبعين، فإذا صح ذلك كانت ولادته بين سنتي 321-322هـ، لأن هناك شبه إجماع على أن وفاة ابن جني كانت سنة 392هـ.
    كان أبوه «جِنِّي» مملوكاً رومياً لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي الموصلي. وترجح الروايات أن سليمان هذا كان في بغداد عند أبي إسحاق الصابيء، ثم انتقل إلى الموصل. ولا يذكر ابن جني في مصنفاته شيئاً عن مولى أبيه، لكنه يقر بولائه الأزدي صراحة في آخر كتابه «المنصف» بقوله: «قال أبو الفتح عثمان بن جني الأزدي».
    ولابن جني أبيات يتناقلها كثير ممن ترجموا له، ويستخلص منها نسبه إلى القياصرة، لقوله فيها:
    فإن أصبح بلا نسبٍ
    فعلمي في الورى نسبي
    على أني أؤول إلى
    قروم سـادة نجــب
    قياصرة إذا نطقوا
    أَرَمَّ الدهرُ ذو الحقـب
    أولاك دعا النبيُّ لهم
    كفى شـرفاً دعاءُ نبي
    كان ابن جنّي رصيناً جاداً لم يُؤْثَر عنه ما أُثر عن أمثاله من رجال الأدب في عصره من اللهو والشرب والمجون، وكان عفّ اللسان والقلم. رزق بثلاثة أولاد، هم: «علي وعال وعلاء، وكلهم أدباء فضلاء قد خرَّجهم والدهم، وحسّن خطوطهم، فهم معدودون في الصحيحي الضبط وحسن الخط».
    نشأ ابن جني في الموصل وتلقى بعض العلم فيها، فأخذ النحو عن أحمد بن محمد الموصلي، وطوّف في البلاد منتقلاً من الموصل إلى حلب فواسط، حتى انتهى إلى بغداد التي اتّخذها مقراً، وفي بغداد كان من أشهر شيوخه أبو بكر محمد بن الحسن بن مِقْسم (ت345، أو 355هـ) كما يذكر مراراً في كتابه «سرّ صناعة الإعراب»، وقرأ على أبي الفرج الأصفهاني (ت356هـ) صاحب كتاب «الأغاني» المشهور، وأبرز من لزمهم وأخذ عنهم أستاذه أبو علي الفارسي (ت377هـ)، فقد صحبه أبو الفتح أربعين سنة بدءاً من سنة 337هـ، وكان السبب المباشر في صحبته أن أبا علي اجتاز بالموصل، فمرّ بالجامع وأبو الفتح في حلقة يُقرئ النحو وهو شاب، فسأله أبو علي عن مسألة في التصريف، فقصر فيها، فقال له أبو علي: «زُبِّبت وأنت حِصْرِم، فسأل عنه فقيل له: هذا أبو علي الفارسي، فلزمه من يومئذٍ»، وتَلْمَذَ له ووقف على تصانيفه واستجادها، وكان إذا ابتعد عنه يكتب إليه يسأله عما يعنّ له. وحين اتصل ابن جنّي بسيف الدولة ابن حمدان بحلب سنة 341هـ اجتمع بأبي الطيب المتنبي، ونشأت بينهما صحبة، وتناظرا في النحو، وكان المتنبي يجله ويقول فيه: «هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس». و«ابن جني أعرف بشعري مني». وكان يقول إذا سئل عن شيء من دقائق النحو والتصريف في شعره: «سلوا صاحبنا أبا الفتح». أما ابن جني فكان يحسن الثناء على المتنبي في كتبه، ويستشهد بشعره في المعاني والأغراض، لا في الاحتجاج على صحة اللغة. وبعدما عاشره طويلاً كان يعبّر عنه بشاعرنا، أو يقول: «وحدّثني المتنبي شاعرنا، وما عرفته إلا صادقاً..». ومن هنا كان أول من عُني بشرح ديوانه المسمّى «الفَسْر» في شرحين: الشرح الكبير، والشرح الصغير. وقد تعقّب شرحه هذا بالنقد والاستدراك عدد من معاصريه وخالفيه. وفضلاً عن شرح الشعر كان ابن جني يجيد نظمه، فقد قيل إن له أشعاراً حسنة ومقطوعات منها قصيدة طويلة رثى بها المتنبي، ونوّه بها الباخرزي في «الدمية» وقال في ابن جني: «وما كنت أعلم أنه ينظم القريض، ويسيغ ذلك الجريض، حتى قرأت له مرثية في المتنبي..». وفي هذه المرثية يقول:
    غاض القريضُ وأودت نَضْرةُ الأدب
    وصوّحت بعد رِىٍ دوحةُ الكتب
    سُلبتَ ثوب بهاءٍ كنت تَلْبسه
    كما تُخُطِّفَ بالخطيّة السُّلُبِ
    ولكنّ ابن جني كان مقلاً من الشعر، لأنّ همه كان متجهاً إلى العلم.
    وتوثقت صلة ابن جني ببني بويه: عضد الدولة، وولده صمصام الدولة، وولده شرف الدولة، وولده بهاء الدولة الذي مات في زمنه. وكان يلازمهم في دورهم بشيراز وبغداد، ويبدو أن ذلك كان بتقريب أبي علي الفارسي إياه لديهم، ذلك لأن أبا علي كان أثيراً عندهم. وحين توفي أبو علي تصدّر أبو الفتح مجلسه للإقراء والتعليم، فنبه ذكره وكثر طلابه. ومن أشهر من أخذوا عنه أبو القاسم عمر بن ثابت النحوي الضرير (ت442هـ)، وأبو أحمد عبد السلام البصري اللغوي (ت405هـ)، وأبو الحسن علي بن عبيد الله السمسمي (ت415هـ) وغيرهم.
    ويتجلّى فضل ابن جني ومكانته العلمية في تقدير الباحثين له، فقد أفاض أئمة اللغة وأصحاب التراجم، قديماً وحديثاً، في الثناء عليه وبيان منزلته بين علماء العربية الثقات، واتسعوا في الحديث عن كتبه وعن نهجه في مباحثه التي يُشهد له فيها بالاستقصاء وعمق التحليل، وبالتوفر على تشقيق الموضوعات واستيفائها حقّها من التتبع والتمحيص والعرض واستنباط المبادئ والأصول من الجزئيات. وأقرّ له العلماء بالصدارة والإقامة في كثير من تصانيفهم، كقول ياقوت الحموي فيه: «واعتنى بالتصريف، فما أحد أعلم منه به، ولا أقوم بأصوله وفروعه، ولا أحسن أحد إحسانه في تصنيفه». وقال الثعالبي[ر]: «هو القطب في لسان العرب، وإليه انتهت الرياسة في الأدب».
    وكما أقرّ العلماء لابن جني بالصدارة في التصريف أقروا له بالفضل وبسعة معرفته وتبحّره في علوم العربية: نحوها، وأصواتها، وإعرابها، ودلالاتها، واشتقاقها، وتراكيبها، وعروضها، وقراءاتها، ونقدها، وخصائصها.. مما سماه الباحثون المحدثون: «الفلسفة اللغوية».
    ومن مباحثه التي اهتدى إليها «الاشتقاق الأكبر» الذي بنى فكرته على تقاليب الأصول اللغوية وتناوب مواضع الحروف أولاً ووسطاً وآخراً في المادة اللغوية الواحدة ليستخلص منها وحدة دلالية تنتظمها في جميع احتمالات تراكيبها وقراءاتها، وفق مبدأ القياس الذي كان شديد الإقبال عليه في الثلاثي.
    ومع تبجيل ابن جني لسابقيه من العلماء لم يكن يبالي أن يخالفهم إذا تهدّى لرأي أُلهم فيه الصواب، أو عزّزته الأدلة والقرائن. والمشهور في مذهبه النحوي أنه كان بصرياً، ولكن هذا لم يمنعه من الأخذ عن الكوفيين كالكسائي وثعلب وأضرابهما، على حين كان كثير التصريح بمخالفة البغداديين والنيل منهم. أما المشهور في مذهبه الكلامي فهو أنه كان يميل إلى المعتزلة كما يستخلص من ترديده بعض عباراتهم ومصطلحاتهم في كتبه، على أنه لم يكن يجهر بالتعصب لهم صراحة، ولم يبدُ أسير معتقدهم الخاص. ومثل هذا يقال على مذهبه الفقهي، فقد كان ينتصر للحنفية على الشافعية، ويستشهد بأقوال وقف عليها في كتب محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، ويتحدث عن استخراج العلل الفقهية من كتبه. ويستخلص من أخباره وأقواله أنه كان يصانع الشيعة ويمالئهم، وليس من دليل ثابت على تشيعه المذهبي.
    وقد أغنى ابن جني المكتبة العربية بمجموعة حسنة من الكتب اللغوية التي بثّ في تضاعيفها علماً غزيراً ما يزال الباحثون ينهلون من معينه إلى اليوم. ومن أشهر هذه الكتب: «سرّ صناعة الإعراب»، و«الخصائص»، و«المنصف في شرح تصريف المازني»، و«الُّلمُع في العربية»، و«شرح مستغلق أبيات الحماسة»، و«الفَسْر» في شرح ديوان المتنبي الكبير، و«المحتسب» في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، وشرح «الإيضاح العضدي» لشيخه أبي علي الفارسي، وكتاب «المقتضب»، و«المبهج في اشتقاق أسماء شعراء الحماسة»، و«عقود الهمز»، و«التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري»، وغيرها كثير. وهذه التصانيف النفيسة ثروة ثمينة متشعبة المعارف والموضوعات، عظيمة القيمة والأهمية في المكتبة العربية. وكان من إعجاب ياقوت الحموي بها وبصاحبها أن قال إنه لم يحسن أحد إحسانه في تصنيفه. وقد حققت هذه الكتب ونشرت ما عدا كتابي «شرح مستغلق أبيات الحماسة»، و«شرح الإيضاح العضدي».
    كانت وفاة ابن جني في بغداد، وفيها دفن، وقد رثاه الشريف الرضي[ر] بقصيدة طويلة عدّتها تسعة وخمسون بيتاً مثبتة في ديوانه.
    مسعود بوبو

يعمل...
X