ثغور
Al-Thugour - Al-Thugour
الثغور
الثغر كل موضع قريب من أرض العدو، ولذا فإنَّ مواقع الثغور تتبدَّل تبعاً لامتداد الدولة أو تقلصها، والثغور منها برية ومنها بحرية ومنها ما يجتمع فيه الأمران معاً كأنطاكية مثلاً.
ما إن شرعت الجيوش العربية الإسلامية تتوغل في بلاد الشام حتى وجهت الدولة اهتمامها إلى الثغور البحرية، وعدّت بحر الروم (المتوسط) حداً ينبغي تحصينه من غارات البيزنطيين الذين ما فتئوا يستخدمونه لصدِّ الفتح الإسلامي أولاً ثم استعادة ما فقدوه ثانيا، ولذلك كان أول ما فعلته الدولة لتلافي ضعفها في الحروب البحرية أن اتجهت إلى تحصين السواحل وتعمير محارسها، يذكر البلاذري أن معاوية والي الشام كتب إلى عمر بن الخطاب بعد وفاة أخيه يزيد (ت 18هـ) يصف له حالة السواحل فكتب إليه في مَرمَّةِ حصونها وترتيب المقاتلة فيها، وإقامة الحرس على مناظرها، واتخاذ المواقيد لها، وعمد معاوية إلى إعادة التحصينات في عدد من المدن الساحلية كطرطوس وطرابلس وصيدا وعرقة وجبيل وبيروت وعكا، وكان من بين الإجراءات الدفاعية التي اتخذها العرب المسلمون على السواحل بعد الفتح نظام الرِّباطات، والرباط ملازمة ثغر العدو، وسمي المقام في الثغور رباطاً، وقد يكون الرباط في المناطق الساحلية أو البرية، ومعظم الرباطات نشأ وتطور على السواحل الشامية، واعتنى معاوية بهذا النظام منذ أن صار والياً على الشام والجزيرة في خلافة عثمان بن عفان، فأعدّ الرّباطات لتكون حصوناً يتجمع فيها الجند في المناطق المعرَّضة لغزو الأساطيل البيزنطية، ولتكون ملجأ يحتمي به الأهالي في المناطق الساحلية ليأخذوا حذرهم إذا ما لاح خطر السفن البيزنطية في المياه الإقليمية، واجتذب الرباط كل الزُهَّاد العبَّاد والأتقياء الصالحين المتحمسين العاملين على إعزاز الإسلام ونصرته، وكان المرابط في الثغر يتلقى معونة تعينه على التجهز إضافة إلى عطائه، وإقطاعاً في ريف الثغر تشجيعاً له على المرابطة.
اهتم عمرو بن العاص بعد أن استقامت مصر للعرب بالساحل وخاصة الإسكندرية، لأنها كانت تضم أخلاطاً من الناس، وكان يغلب عليها الطابع البيزنطي لمركزها التجاري والحربي والسياسي عاصمة لإيالة مصر. ونظراً لأهمية الإسكندرية للروم وخوفاً من محاولاتهم استعادتها فقد وزع عمرو بن العاص جنده، ربعاً في الإسكندرية وربعاً في الساحل والنصف مقيمون معه، فكان الربع يقيم في الإسكندرية مدة ستة أشهر في الصيف ويعقب بعدهم شاتية ستة أشهر، وكان عمر بن الخطاب يبعث كل سنة غازيةً من أهل المدينة المنوَّرة ترابط بالإسكندرية «ويأمر الولاة أن لا يغفلوا أمرها وأن يكثفوا رابطتها وأن لا يأمنوا الروم عليها» وجرى الخليفة عثمان والخلفاء من بعده على سياسة عمر بن الخطاب فكانوا يلزمون الإسكندرية رابطتها ويُجرون عليهم أرزاقهم ويُعقبون بينهم كل ستة أشهر.
إلا أن هذا الجند المرابط في الإسكندرية والساحل لم يكن باستطاعته أن يقوم بواجب الحماية كاملاً من غير أسطول يحمي سواحلها، فبدأ الاهتمام ببناء السفن في خلافة عثمان وولاية عبد الله بن سعد، وهذا ما مكَّن المسلمين من الانتصار في غزوة الصواري سنة 31هـ على الروم بقيادة الامبراطور كُنستانز الثاني (641-668م) الذي كان يحاول إخراج العرب من مصر واسترداد الإسكندرية، وحينما هاجم الروم السواحل الشامية سنة 49هـ/669م قرر الخليفة معاوية إقامة صناعة للسفن في عكا من جند الأردن، وكانت صناعة السفن سابقاً في مصر فقط، فلما كانت خلافة هشام بن عبد الملك (105-125هـ/723-742م) نقل الصناعة من عكا إلى صور.
ولأن ساحل المغرب الإسلامي كان معرَّضاً للغارات البحرية المفاجئة من القسطنطينية وصقلية وجنوبي إيطالية وسردانية (سردينية)، فقد عدّه المسلمون ثغراً يعد الرباط فيه جهاداً في سبيل الله وقربه إليه، وكانت سواحل إفريقية (تونس) أكثر تعرضاً للخطر من غيرها لقربها من مصادر الغارات كلها فنشأت الرباطات على ساحلها من أول الأمر في تونس (المدينة) وسوسة ولمطة والمنستير، وابتنيت الحصون ليقوم فيها المرابطون بحراسة المسلمين والتعبد لله، ومن تونس انتشرت الرباطات فيما بعد على الساحل المغربي كله ونظم المقيمون أنفسهم تنظيماً مكَّنهم من القيام بواجباتهم كلها على وجه حسن، وبلغ من حماسة أهل المغرب للرباط أن كان ذوو الحمية من أهل قبائل الصحراء يرابطون على أحواز الصحراء لحماية ما يليهم من بلاد الإسلام من أخطار ما يليهم من الجنوب، وقامت الرباطات على حدود بلاد السودان وصارت هذه الرباطات الصحراوية مراكز للغزو والتوسع ونشر الإسلام في السودان وبلاد إفريقية الغربية، ومازالت هذه الحركة تقوى وتشتد حتى قامت على أساسها دولة المرابطين.
انتقل نظام الرباط إلى الأندلس بعد غارات النورمانديين الأولى على ساحلها الغربي في عهد الأمير الأموي عبد الرحمن الأوسط (206-238هـ/821-852م)، فقد هاجم هؤلاء القراصنة لشبونة عام 229هـ/844م، ثم انحدر قسم منهم نحو الجنوب، وتوغل القسم الباقي عبر نهر الوادي الكبير ليحتل إشبيلية التي لم تكن مسوَّرة، وهذه الغارة دفعت الأمير عبد الرحمن والأمراء من بعده إلى إقامة الرباطات على الساحل الغربي حيث كان يقيم أتقياء متطوعون يمارسون فيها عباداتهم إضافة إلى العمل العسكري، كما قامت الدولة بالاهتمام بالأسطول وإنشاء الترسانات، وأخذت سفنهم تقوم بأعمال الحراسة على طول السواحل الغربية.
لم يكن اهتمام الخلفاء والولاة بالثغور البرية أقل، فقد حظيت الثغور الشامية والجزرية باهتمام الخلفاء لأنها الجبهة التي كانت تفصل بين الشام وآسيا الصغرى والأراضي التي كانت لا تزال بأيدي البيزنطيين، وكانت ثغور المسلمين الشامية أيام عمر وعثمان وما بعد ذلك أنطاكية وغيرها من المدن التي سماها الخليفة هارون الرشيد (170-193هـ/786-809م) العواصم، وهي منبج وقُورس ودُلوك ورَعبان وأنطاكية وتيزين، وكانت أنطاكية عظيمة الذكر عند عمر وعثمان، فلما فُتِحت كتب الخليفة عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يرتب بأنطاكية جماعة من المسلمين ويجعلهم بها مرابطة، وأمر الخليفة عثمان واليه معاوية أن يلزم أنطاكية قوماً وأن يقطعهم القطائع.
لم يعمد الخلفاء الراشدون إلى بناء حصون أو مدن ثغرية شمالي أنطاكية وإنما تمَّ هذا العمل في عهد بني أمية والخلفاء العباسيين الأوائل الذين أنشؤوا خطوط دفاع عميقة، فبنوا مدناً محصنة على طول الساحل شمالي أنطاكية وبنوا مدناً محصنة على طول خط الفرات عند المجرى الأعلى لهذا النهر، فهذان خطان من الحصون أحدهما ساحلي والآخر نهري، ويضاف إليها خط ثالث وسط بينهما، وتسمى هذه الخطوط الثلاثة باسم ثغور الشام والجزيرة وتدافع عن الشام والجزيرة وأرمينية. ويقدم قدامة بن جعفر في كتابه «الخراج وصنعة الكتابة» عرضاً لأسماء الثغور الشامية والجزرية، ومقدار ما كان ينفق عليها من قوائم تعود إلى سنة 204هـ وهي السنة التي عاد فيها المأمون إلى بغداد من مرو في خراسان. وحينما سيطر البويهيون على مقاليد السلطة في بغداد لم يهتموا بأمر الدفاع عن الثغور فأخذ سيف الدولة الحمداني (333-356هـ/944-966م) على عاتقه حرب الروم وحماية الثغور، ويذكر ابن ظافر الأزدي أن سيف الدولة كان ردءاً للمسلمين بما رزقه الله من الهيبة في نفوس العدو إلى أن مرض وضعف، ولما توفي سنة 356هـ اشتد استيلاء الروم على سائر البلاد والثغور فاستولوا على المَصِّيصَة وطرسوس وأذنة ثم على أنطاكية سنة 359هـ/969م واستمرت في أيديهم إلى أن استنقذها منهم سليمان بن قُتْلِمش السلجوقي سنة 477هـ/1084م وفي سنة 491هـ/1097م استولى عليها الفرنجة، فلما استعاد المسلمون هذه المناطق كانت تخوم دولة المماليك في القرن الثامن الهجري، الرابع عشر الميلادي تضم الثغور التي أُطلق عليها اسم نيابات وأهمها تلك التي تتم التولية فيها من قبل الأبواب السلطانية، كنيابة ملطية ونيابة إياس وطرسوس وأذنة وسيس، أما النيابات في حدود بلاد الجزيرة شرقي الفرات فكانت أهمها نيابة البيرة، نيابة قلعة جعبر ثم نيابة الرها.
أما في الشرق فقد كانت قزوين، منذ أن مصِّرت، ثغر أهل الكوفة يرابط فيها المسلمون وينطلقون منها لمحاربة الديلم، وكانت خراسان أهم ثغر في الشرق، نقل إليها زياد بن أبيه والي البصرة والكوفة (45-53هـ/665-672م) خمسين ألف أسرة من قبائل البصرة والكوفة لدعم القوة العربية فيها لكونها المركز الذي تنطلق منه الجيوش إلى بلاد ما وراء النهر والسند، فلما فتح العرب المسلمون ما وراء النهر وانتشر الإسلام فيها، صار أهل تلك البلاد يغزون من وراءهم من الترك، ويُثني كل من الاصطخري وابن حوقل والمقدسي الذين زاروا الجناح الشرقي من الدولة الإسلامية في أوقات مختلفة من القرن الرابع الهجري، على سكان ما وراء النهر وحسن إسلامهم فابن حوقل (ت 367هـ) يذكر «أن الغالب على أهل الأموال بما وراء النهر صرف نفقاتهم إلى الرباطات وعمارة الطرق والوقوف على سبيل الجهاد». ولكن هذه الثغور والرباطات عجزت عن حماية بلاد الإسلام من الغزو التتري الذي اجتاح ما وراء النهر وخراسان وقضى على الدولة الخوارزمية سنة 628هـ/1230م، وأخذ التتر يتقدمون غرباً حتى كان استيلاء هولاكو على بغداد سنة 656هـ/1258م.
وفي الأندلس كانت الثغور البرية هي المدن القريبة من خط الحدود مع مسيحيي الشمال التي اتخذها المسلمون معاقل للاعتصام بها عند الخطر ولتنظيم الغزو عندما يتقرر القيام به، وهذه الثغور تبدأ في الشمال الشرقي بمدينة سَرَقُسْطة التي تدعى بالثغر الأعلى أو الأقصى، وبقي هذا الثغر في أيدي المسلمين حتى سنة 536هـ/1141م حينما استولى الإسبان عليه، وكانت طليطلة المسماة بالثغر الأوسط والواقعة على نهر التاجو في أيدي المسلمين حتى استولى عليها ألفونسو السادس ملك ليون سنة 478هـ/1085م. ومع أن الأمير المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين حاول جاهداً استعادة طليطلة ونجح ما بين سنة 500-510هـ في بسط سيطرة المرابطين على المنطقة المحيطة بطليطلة كمجريط (مدريد) ووادي الحجارة ولكنه أخفق في استردادها. وكان الثغر الأدنى في مدينة ماردة ثم انتقل إلى بطليوس الواقعة عند منعطف وادي آنة، ولم يلبث الإسبان أن أخذوا يحتلون المواقع الإسلامية شيئاً فشيئاً حتى سقطت غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس سنة 898هـ/1492م.
نجدة خماش
Al-Thugour - Al-Thugour
الثغور
الثغر كل موضع قريب من أرض العدو، ولذا فإنَّ مواقع الثغور تتبدَّل تبعاً لامتداد الدولة أو تقلصها، والثغور منها برية ومنها بحرية ومنها ما يجتمع فيه الأمران معاً كأنطاكية مثلاً.
ما إن شرعت الجيوش العربية الإسلامية تتوغل في بلاد الشام حتى وجهت الدولة اهتمامها إلى الثغور البحرية، وعدّت بحر الروم (المتوسط) حداً ينبغي تحصينه من غارات البيزنطيين الذين ما فتئوا يستخدمونه لصدِّ الفتح الإسلامي أولاً ثم استعادة ما فقدوه ثانيا، ولذلك كان أول ما فعلته الدولة لتلافي ضعفها في الحروب البحرية أن اتجهت إلى تحصين السواحل وتعمير محارسها، يذكر البلاذري أن معاوية والي الشام كتب إلى عمر بن الخطاب بعد وفاة أخيه يزيد (ت 18هـ) يصف له حالة السواحل فكتب إليه في مَرمَّةِ حصونها وترتيب المقاتلة فيها، وإقامة الحرس على مناظرها، واتخاذ المواقيد لها، وعمد معاوية إلى إعادة التحصينات في عدد من المدن الساحلية كطرطوس وطرابلس وصيدا وعرقة وجبيل وبيروت وعكا، وكان من بين الإجراءات الدفاعية التي اتخذها العرب المسلمون على السواحل بعد الفتح نظام الرِّباطات، والرباط ملازمة ثغر العدو، وسمي المقام في الثغور رباطاً، وقد يكون الرباط في المناطق الساحلية أو البرية، ومعظم الرباطات نشأ وتطور على السواحل الشامية، واعتنى معاوية بهذا النظام منذ أن صار والياً على الشام والجزيرة في خلافة عثمان بن عفان، فأعدّ الرّباطات لتكون حصوناً يتجمع فيها الجند في المناطق المعرَّضة لغزو الأساطيل البيزنطية، ولتكون ملجأ يحتمي به الأهالي في المناطق الساحلية ليأخذوا حذرهم إذا ما لاح خطر السفن البيزنطية في المياه الإقليمية، واجتذب الرباط كل الزُهَّاد العبَّاد والأتقياء الصالحين المتحمسين العاملين على إعزاز الإسلام ونصرته، وكان المرابط في الثغر يتلقى معونة تعينه على التجهز إضافة إلى عطائه، وإقطاعاً في ريف الثغر تشجيعاً له على المرابطة.
اهتم عمرو بن العاص بعد أن استقامت مصر للعرب بالساحل وخاصة الإسكندرية، لأنها كانت تضم أخلاطاً من الناس، وكان يغلب عليها الطابع البيزنطي لمركزها التجاري والحربي والسياسي عاصمة لإيالة مصر. ونظراً لأهمية الإسكندرية للروم وخوفاً من محاولاتهم استعادتها فقد وزع عمرو بن العاص جنده، ربعاً في الإسكندرية وربعاً في الساحل والنصف مقيمون معه، فكان الربع يقيم في الإسكندرية مدة ستة أشهر في الصيف ويعقب بعدهم شاتية ستة أشهر، وكان عمر بن الخطاب يبعث كل سنة غازيةً من أهل المدينة المنوَّرة ترابط بالإسكندرية «ويأمر الولاة أن لا يغفلوا أمرها وأن يكثفوا رابطتها وأن لا يأمنوا الروم عليها» وجرى الخليفة عثمان والخلفاء من بعده على سياسة عمر بن الخطاب فكانوا يلزمون الإسكندرية رابطتها ويُجرون عليهم أرزاقهم ويُعقبون بينهم كل ستة أشهر.
إلا أن هذا الجند المرابط في الإسكندرية والساحل لم يكن باستطاعته أن يقوم بواجب الحماية كاملاً من غير أسطول يحمي سواحلها، فبدأ الاهتمام ببناء السفن في خلافة عثمان وولاية عبد الله بن سعد، وهذا ما مكَّن المسلمين من الانتصار في غزوة الصواري سنة 31هـ على الروم بقيادة الامبراطور كُنستانز الثاني (641-668م) الذي كان يحاول إخراج العرب من مصر واسترداد الإسكندرية، وحينما هاجم الروم السواحل الشامية سنة 49هـ/669م قرر الخليفة معاوية إقامة صناعة للسفن في عكا من جند الأردن، وكانت صناعة السفن سابقاً في مصر فقط، فلما كانت خلافة هشام بن عبد الملك (105-125هـ/723-742م) نقل الصناعة من عكا إلى صور.
ولأن ساحل المغرب الإسلامي كان معرَّضاً للغارات البحرية المفاجئة من القسطنطينية وصقلية وجنوبي إيطالية وسردانية (سردينية)، فقد عدّه المسلمون ثغراً يعد الرباط فيه جهاداً في سبيل الله وقربه إليه، وكانت سواحل إفريقية (تونس) أكثر تعرضاً للخطر من غيرها لقربها من مصادر الغارات كلها فنشأت الرباطات على ساحلها من أول الأمر في تونس (المدينة) وسوسة ولمطة والمنستير، وابتنيت الحصون ليقوم فيها المرابطون بحراسة المسلمين والتعبد لله، ومن تونس انتشرت الرباطات فيما بعد على الساحل المغربي كله ونظم المقيمون أنفسهم تنظيماً مكَّنهم من القيام بواجباتهم كلها على وجه حسن، وبلغ من حماسة أهل المغرب للرباط أن كان ذوو الحمية من أهل قبائل الصحراء يرابطون على أحواز الصحراء لحماية ما يليهم من بلاد الإسلام من أخطار ما يليهم من الجنوب، وقامت الرباطات على حدود بلاد السودان وصارت هذه الرباطات الصحراوية مراكز للغزو والتوسع ونشر الإسلام في السودان وبلاد إفريقية الغربية، ومازالت هذه الحركة تقوى وتشتد حتى قامت على أساسها دولة المرابطين.
انتقل نظام الرباط إلى الأندلس بعد غارات النورمانديين الأولى على ساحلها الغربي في عهد الأمير الأموي عبد الرحمن الأوسط (206-238هـ/821-852م)، فقد هاجم هؤلاء القراصنة لشبونة عام 229هـ/844م، ثم انحدر قسم منهم نحو الجنوب، وتوغل القسم الباقي عبر نهر الوادي الكبير ليحتل إشبيلية التي لم تكن مسوَّرة، وهذه الغارة دفعت الأمير عبد الرحمن والأمراء من بعده إلى إقامة الرباطات على الساحل الغربي حيث كان يقيم أتقياء متطوعون يمارسون فيها عباداتهم إضافة إلى العمل العسكري، كما قامت الدولة بالاهتمام بالأسطول وإنشاء الترسانات، وأخذت سفنهم تقوم بأعمال الحراسة على طول السواحل الغربية.
لم يكن اهتمام الخلفاء والولاة بالثغور البرية أقل، فقد حظيت الثغور الشامية والجزرية باهتمام الخلفاء لأنها الجبهة التي كانت تفصل بين الشام وآسيا الصغرى والأراضي التي كانت لا تزال بأيدي البيزنطيين، وكانت ثغور المسلمين الشامية أيام عمر وعثمان وما بعد ذلك أنطاكية وغيرها من المدن التي سماها الخليفة هارون الرشيد (170-193هـ/786-809م) العواصم، وهي منبج وقُورس ودُلوك ورَعبان وأنطاكية وتيزين، وكانت أنطاكية عظيمة الذكر عند عمر وعثمان، فلما فُتِحت كتب الخليفة عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يرتب بأنطاكية جماعة من المسلمين ويجعلهم بها مرابطة، وأمر الخليفة عثمان واليه معاوية أن يلزم أنطاكية قوماً وأن يقطعهم القطائع.
لم يعمد الخلفاء الراشدون إلى بناء حصون أو مدن ثغرية شمالي أنطاكية وإنما تمَّ هذا العمل في عهد بني أمية والخلفاء العباسيين الأوائل الذين أنشؤوا خطوط دفاع عميقة، فبنوا مدناً محصنة على طول الساحل شمالي أنطاكية وبنوا مدناً محصنة على طول خط الفرات عند المجرى الأعلى لهذا النهر، فهذان خطان من الحصون أحدهما ساحلي والآخر نهري، ويضاف إليها خط ثالث وسط بينهما، وتسمى هذه الخطوط الثلاثة باسم ثغور الشام والجزيرة وتدافع عن الشام والجزيرة وأرمينية. ويقدم قدامة بن جعفر في كتابه «الخراج وصنعة الكتابة» عرضاً لأسماء الثغور الشامية والجزرية، ومقدار ما كان ينفق عليها من قوائم تعود إلى سنة 204هـ وهي السنة التي عاد فيها المأمون إلى بغداد من مرو في خراسان. وحينما سيطر البويهيون على مقاليد السلطة في بغداد لم يهتموا بأمر الدفاع عن الثغور فأخذ سيف الدولة الحمداني (333-356هـ/944-966م) على عاتقه حرب الروم وحماية الثغور، ويذكر ابن ظافر الأزدي أن سيف الدولة كان ردءاً للمسلمين بما رزقه الله من الهيبة في نفوس العدو إلى أن مرض وضعف، ولما توفي سنة 356هـ اشتد استيلاء الروم على سائر البلاد والثغور فاستولوا على المَصِّيصَة وطرسوس وأذنة ثم على أنطاكية سنة 359هـ/969م واستمرت في أيديهم إلى أن استنقذها منهم سليمان بن قُتْلِمش السلجوقي سنة 477هـ/1084م وفي سنة 491هـ/1097م استولى عليها الفرنجة، فلما استعاد المسلمون هذه المناطق كانت تخوم دولة المماليك في القرن الثامن الهجري، الرابع عشر الميلادي تضم الثغور التي أُطلق عليها اسم نيابات وأهمها تلك التي تتم التولية فيها من قبل الأبواب السلطانية، كنيابة ملطية ونيابة إياس وطرسوس وأذنة وسيس، أما النيابات في حدود بلاد الجزيرة شرقي الفرات فكانت أهمها نيابة البيرة، نيابة قلعة جعبر ثم نيابة الرها.
أما في الشرق فقد كانت قزوين، منذ أن مصِّرت، ثغر أهل الكوفة يرابط فيها المسلمون وينطلقون منها لمحاربة الديلم، وكانت خراسان أهم ثغر في الشرق، نقل إليها زياد بن أبيه والي البصرة والكوفة (45-53هـ/665-672م) خمسين ألف أسرة من قبائل البصرة والكوفة لدعم القوة العربية فيها لكونها المركز الذي تنطلق منه الجيوش إلى بلاد ما وراء النهر والسند، فلما فتح العرب المسلمون ما وراء النهر وانتشر الإسلام فيها، صار أهل تلك البلاد يغزون من وراءهم من الترك، ويُثني كل من الاصطخري وابن حوقل والمقدسي الذين زاروا الجناح الشرقي من الدولة الإسلامية في أوقات مختلفة من القرن الرابع الهجري، على سكان ما وراء النهر وحسن إسلامهم فابن حوقل (ت 367هـ) يذكر «أن الغالب على أهل الأموال بما وراء النهر صرف نفقاتهم إلى الرباطات وعمارة الطرق والوقوف على سبيل الجهاد». ولكن هذه الثغور والرباطات عجزت عن حماية بلاد الإسلام من الغزو التتري الذي اجتاح ما وراء النهر وخراسان وقضى على الدولة الخوارزمية سنة 628هـ/1230م، وأخذ التتر يتقدمون غرباً حتى كان استيلاء هولاكو على بغداد سنة 656هـ/1258م.
وفي الأندلس كانت الثغور البرية هي المدن القريبة من خط الحدود مع مسيحيي الشمال التي اتخذها المسلمون معاقل للاعتصام بها عند الخطر ولتنظيم الغزو عندما يتقرر القيام به، وهذه الثغور تبدأ في الشمال الشرقي بمدينة سَرَقُسْطة التي تدعى بالثغر الأعلى أو الأقصى، وبقي هذا الثغر في أيدي المسلمين حتى سنة 536هـ/1141م حينما استولى الإسبان عليه، وكانت طليطلة المسماة بالثغر الأوسط والواقعة على نهر التاجو في أيدي المسلمين حتى استولى عليها ألفونسو السادس ملك ليون سنة 478هـ/1085م. ومع أن الأمير المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين حاول جاهداً استعادة طليطلة ونجح ما بين سنة 500-510هـ في بسط سيطرة المرابطين على المنطقة المحيطة بطليطلة كمجريط (مدريد) ووادي الحجارة ولكنه أخفق في استردادها. وكان الثغر الأدنى في مدينة ماردة ثم انتقل إلى بطليوس الواقعة عند منعطف وادي آنة، ولم يلبث الإسبان أن أخذوا يحتلون المواقع الإسلامية شيئاً فشيئاً حتى سقطت غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس سنة 898هـ/1492م.
نجدة خماش