الصورة والحكاية.. الحضور والغياب
فريد الزاهي
فوتوغراف
حتى القهوة تحصل على "بورتريه" (Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
ثمة في العلاقة بالصورة دومًا مزيج من الفتنة والخوف. وما سمي في الإسلام بتحريم التصوير لم يكن تحريمًا كليًا. فقد أثبتنا في دراستنا عن الجسد والمقدس والصورة في الإسلام أن الصورة في المجتمع الإسلامي طردت من الباب وعادت من النافذة، ولم يكن من الممكن التخلص منها نهائيًا، لا لارتباطها فقط بتجسيم الألوهة وبالأوثان، ولكن أيضًا لأنها كانت تجسد الكيان الإنساني الذي عليه بني المعتقد الإسلامي وقبله اليهودي والمسيحي. وليس من الغريب أن أغلب الأحاديث التي ترويها عائشة عن الصورة، والتي لا نعثر على بعضها في الصحيحين، بل في المساند السبعة، تحكي عن علاقة حميمة للمرأة (عائشة) بالصور. وأحد هذه الأحاديث يحكي أن الرسول دخل بيتها يومًا فوجد سترًا غطت به دولاب الملابس، وبه صور خيول ذوات أجنحة. فأخذه ومزقه. فلما عاد في المرة الموالية، وجدها قد صنعت منه نمرقتين (طنفستين، أو وسادتين كبيرتين). وتختم عائشة الحديث بأنها رأت النبي يتكئ على النمرقتين. الصورة فاتنة ومخيفة، لأن لها علاقة بالعين. لذلك فإن جعلها موطنًا للتملي والتأمل يشغل الخيال واللاوعي ويولّد الفتنة. أما إذا هي وطئت فإنها تغدو أثاثًا. هذا المخرج يتعاضد مع مخرج آخر يعبر عنه حديث آخر. إذا وجد المرء صورة لجسم بشري فعليه أن يغطي على وجهه بصبغ. الوجه هو هوية الجسد. وإعدامه هو تحويل الجسم إلى جثة. وهذا هو ما يفسر أن الإسلاميين الأصوليين يعمدون إلى تحطيم رأس التماثيل لتعطيل كونها صورة، أي جسد كامل ووجه وهوية.
أدباء ضد الصورة
هذا الخوف سوف يظل ساريًا حتى في الغرب الذي استشرت فيه الصورة وتبنتها الكنيسة. فصور المسيح والعذراء والقديسين لم تكن صورًا ذات أنموذج، وإنما صور مؤسلبة لا تعبر فيها الملامح عن الذات الواقعية. وصور المسيح قد يبدو فيها شابًا، أو عجوزًا، بملامح شرقية، أو يونانية، أو رومانية. الصورة كانت بذلك تشخيصًا رمزيًا يحيل إلى شيء خارجها، وإلى فكرة، قبل أن يولد البورتريه ويتحول إلى مجال لاشتغال المشابهة والتعبير الدقيق فالأدق عن هيئة صاحبه التي تبدو بملامحها الحقة فيه.
إذا كان البورتريه سيغذي بشكل حثيث ولادة الفرد، فإن عددًا من الكتاب في القرن التاسع عشر سوف يقفون منكرين ومستنكرين للصورة الشخصية الفوتوغرافية. إن هذا النجاح الذي حاز عليه البورتريه الفوتوغرافي، الذي يمنح لكل واحد، من غير تمييز، حظ الحصول على وجه لم يكن له من قبل، هو ما أثار حفيظة الشاعر شارل بودلير. فقد قال في 1859: "إن المجتمع القذر يحج مثل نرْسيس واحد ليتأمل صورته الوضيعة على المعدن. فحب الفحْش المتوقّد في قلب الإنسان، مقدار توقّد حبه لنفسه، لا يمكن أن يترك فرصة الإشباع المتاحة هذه. لقد استبدت عصبية فائقة وجنون كبير بكافة عبَدة الشمس هؤلاء". وهو قد رأى في هذا النجاح "ملجأ لكافة الفنانين التشكيليين الفاشلين، من غير موهبة تُذكر، والذين من فرط الكسل لم يسعوا لإتمام دراستهم في مجال الفنون الجميلة". ومع ذلك فقد ترك بودلير صديقه المصور الفرنسي الشهير "نَضَر" يلتقط له صورة بوجه عابس، وفي إحدى الصور نراه يتحرك كما لو أنه يريد الهرب من الصورة. لقد عاب بودلير على الفوتوغرافيا شعبيتها، وضحالة خيالها واستنساخها المؤسف للواقع. وكان الكاتبان الشهيران بلزاك وموباسان أيضًا من المعادين لتحويل البورتريه في جلاله التقليدي الذي يستحيل إلى شيء عادي. هل كان ذلك تشبثًا ببهاء الفن التشكيلي، ومقاومة لشعبية التقنية وقدرتها الاستنساخية التي جعلت كل من هبَّ ودبَّ، وببضعة قروش، يصنع لنفسه وجها؟
إذا كان تلقي الفوتوغرافيا في فرنسا قد اتسم أحيانًا بالنقد، فإن الأمر لم يكن كذلك في الولايات المتحدة التي انتشرت فيها انتشارًا، وعرفت إقبالًا حماسيًا؛ بيد أن الكاتب هيرمان ميلفيل، على غرار كتاب فرنسا المذكورين، عدها تدنيسًا. ففي 1840، حضر عرض آلة التصوير "الداغيروتيب" في بوسطن. وفي إحدى رواياته، سيعبر عن امتعاضه الكبير من الصورة الفوتوغرافية والبورتريه الفوتوغرافي. هكذا يتأمل بطل روايته "في السهولة اللامتناهية التي يستطيع بها كل واحد اليوم، بفضل الداغيروتيب، أن يصنع بورتريهًا له، فيما كان البورتريه الأمين في الماضي حظوة حصرية للأغنياء، أو أرستقراطيي الروح، الذين كان في إمكانهم التمتع بذلك الترف". ويستنبط من ذلك طبعًا أن "البورتريه، عوض أن يخلد عبقريًا، أضحى اليوم لا يصلح إلا لجعل الأغبياء أسيادًا لليومي". كان الكاتب، إذن، يفضل بورتريه الفنان التشكيلي الذي يضيف إلى شخصيتنا أبعادًا جديدة على الاستنساخ الآلي لوجهنا. وهكذا صارت البورتريهات الفوتوغرافية للشخصيات الشهيرة تعلق في واجهات المحلات الفوتوغرافية، وتباع لدى بائعي الطوابع البريدية والوراقين، وغيرها من الحوانيت. ويعلق ميلفيل على ذلك ساخرًا: "الآن، لم يعد ثمة من جلالة سرية، ولا من جمال غير مرئي، ولا من شيء مجهول. فبعشرين قرشًا يمكننا أن نتأمل من غير حجاب الأنف المَهيب لشاه بلاد فارس، أو لحية السلطان العثماني". فكما أن الطباعة دمقْرطت الكتاب، كانت الفوتوغرافيا سبيلًا لنزع الفوارق الاجتماعية بين النبلاء والمترفين والإنسان العادي في أن يكون له وجه مصوَّر يمكنه فيه التعرف على ذاته واستعماله وسيلة تواصل في المناسبات. بل إن الصورة الفوتوغرافية كانت بداية لتقريب المسافات، وشكلًا أوليًا من أشكال العولمة التي سينتجها التلفزيون والصورة الرقمية والإنترنت، خاصة حين تحولت الصورة الفوتوغرافية إلى كارطبوستال (كارت بوستال).
بيد أن العديد من الكتاب عمدوا إلى استعمال الصورة الفوتوغرافية دعامة للكتابة، فالمعروف عن الكاتب الفرنسي إميل زولا أنه كان يستعمل الفوتوغرافيا في تسجيل ما يرغب في وصفه، أو سرده، رغبة منه في محاكاة طبيعانية للواقع. كما أن كلود أولييه، وهو من كتاب الرواية الجديدة بفرنسا، أسرّ لي وأنا أترجم روايته "مراكش المدينة" في أواسط التسعينيات، أنه اعتمد في كتابة أغلب مقاطعها بدقة لامتناهية على سلسلة من الصور الفوتوغرافية التقطها في أثناء مقامه الطويل بالمدينة المغربية. وهذا التداخل سوف لا يقتصر على الرواية، بل سيجد موطنًا له في المسرح، كما لدى بيتر فايس، وممارسي المسرح التسجيلي.
الصورة والحكاية
في أواسط الستينيات، وأنا لا زلت صبيًا حديث الهجرة إلى مدينة فاس، كان أكثر ما شدّ انتباهي بفتنة قد أكون مَدينًا لها اليوم بالاهتمام بالصورة، هي البورتريهات الكبرى بالأبيض والأسود التي كانت تُركن في واجهات المحلات، والتي كنا نتملّى فيها يوميًا بالإحساس نفسه بالمتعة، حتى صارت جزءًا من كياننا الطفولي، ومتخيلنا النابض. كانت صور كوكب الشرق أم كلثوم، والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، تتجاور مع صور جمال عبد الناصر، والملك محمد الخامس. وبين الفينة والأخرى نعثر على صور لأسمهان وفريد الأطرش. يومها اكتشفت حكاية اسمي. حين سألت أمي عن علاقة اسمي بفريد الأطرش، إن كانت من باب الصدفة، حكت لي أنها حين كانت لا زالت تعيش في البادية، كان جدي قد اقتنى صندوقًا كبيرًا، وضعوه في السطح يلتقط الأخبار والأغاني ويبثها. وكانت هي تعشق فريد الأطرش. وحين زوجوها وهي لم تبلغ بعد مبلغ الأنوثة، وفقدت بنتها البكر في شهرها الثالث، رُزقت بي. كنت الولد البكر، والبكر يسمى محمدًا. ذبح أبي كبشًا وسماني محمدًا كما هي العادة. وما إن غادر البيت بضعة أيام لعمله تاجرًا في الحبوب في أسواق المنطقة، حتى انتهزت أمي الفرصة، ونادت على أخيها، وطلبت منه أن يذبح كبشًا من كباشها الخاصة التي أتت بها من بيت أبيها، وسمتني فريدًا.
وهكذا، ما إن كنت ألقى صورة هذا الفريد الآخر حتى أتملى في وجهه جيدًا، وأحاول أن أجد في صورته ما يجذبني إليه، أو يربطني به. كل شيء كان يفرق بيننا: هو يحب الغناء وأنا أحب القراءة والكتابة وكرة القدم... ثم إن وجهه كان من الحزن والصرامة بحيث كنت أفضل عليه بسمة عبد الحليم حافظ ووداعته... أما جمال عبد الناصر، فوسامته ولونه القمحي كانا يثيران إعجابي. وطبعًا لم أدرك أهمية الرجل كما هشاشة أسطورته إلا سنوات بعد ذلك. بيْد أنه هو أيضًا سوف تربطني به حكاية رمزية أخرى، حين حكيتها لعبد الكبير الخطيبي في مكتبه افترت شفتاه عن بسمة عريضة، وقال لي: هو قدَر الحلم.
وصلتني في بداية التسعينيات رسالة من أستاذة في الجامعة الأميركية في القاهرة تخبرني فيها أن صديقنا المشترك الأديب محمد برادة وافاها بعنواني، طالبة مني الإذن بالترجمة للإنكليزية لإحدى مقالاتي عن الجسد والسينما كانت قد نُشرت في أول كتاب صدر لي. وشهورًا بعد ذلك، وصلني بالبريد عدد خاص من مجلة الجامعة الأميركية يتضمن مقالتي تلك، وخطابًا قصيرًا من الأستاذة تقدم لي فيه شكرها، وتخبرني أن تحية خالد عبد الناصر، مترجمة دراستي، ليست سوى حفيدة الرئيس جمال عبد الناصر.
صور وصور
من أيام قليلة فقط، نشر الصديق فاروق مردم بك إحدى الصور الأخيرة التي التقطت لمحمود درويش وقتًا قصيرًا بعد أمسيته الشعرية الأخيرة في مدينة آرل الفرنسية، حيث ألقى قصيدته التي يرثي فيها نفسه، ويحاور فيها اسمه وحضوره وغيابه. يبدو درويش ساهمًا ومثقل الذهن، ويداه مشدودتان تحت ذقنه. نحن تعودنا على صور درويش إما ملقيًا بحماسته قصائده، أو ضاحكًا، أو شفتاه تفتران عن بسمة شفافة. وصور الكاتب تشكل جزءًا من متخيلنا له. ونحن غالبًا ما نحتفظ بواحدة منها وكأنها تمثله، أو ببعضها يختارها بصرنا بعناية لكونها تلائم نظرتنا له. صورة الكاتب هي مرآة لتصورنا له. فمن بين صور كامو، أقربها إليّ تلك التي يرتدي فيها معطفًا، وفي فمه عقب سيجارة؛ ولسارتر التي يمسك فيها غليونه بيده؛ وللخطيبي صورة كانت متداولة في الثمانينيات يمسك فيها غليونًا، ولم تعد دارجة في أرشيفه.
هذه التفضيلات تنسج علاقة ذاتية بين صورة الكاتب التي تشيع له وبين تصورنا له، وتجعل قراءتنا له ممهورة بحساسية تجاه نوعية حضوره في مخيلتنا. لكن عصر وفرة الصور بجميع أشكالها، المتحركة والثابتة، قد تكون أحيانًا سببًا في غياب هذه التفضيلات الذاتية للقارئ والمتلقي. فهل فقد الكاتب صورته من فرط الكثرة؟ أو على الأقل هل أضحى يفقدها بعد أن صار أرشيفه يقاس بما لا يعد ولا يحصى من الصور؟ لقد بتنا نعمى عن رؤية صورة الكاتب، لأن وفرة الصور التي تُلتقط له في جميع مراحل حياته لم تعد تترك لنا الفرصة للاختيار، ولا لحب صورة واحدة من صوره، أو تفضيلها... لقد غدا الكاتب المعاصر من غير صورة.
فريد الزاهي
فوتوغراف
حتى القهوة تحصل على "بورتريه" (Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
ثمة في العلاقة بالصورة دومًا مزيج من الفتنة والخوف. وما سمي في الإسلام بتحريم التصوير لم يكن تحريمًا كليًا. فقد أثبتنا في دراستنا عن الجسد والمقدس والصورة في الإسلام أن الصورة في المجتمع الإسلامي طردت من الباب وعادت من النافذة، ولم يكن من الممكن التخلص منها نهائيًا، لا لارتباطها فقط بتجسيم الألوهة وبالأوثان، ولكن أيضًا لأنها كانت تجسد الكيان الإنساني الذي عليه بني المعتقد الإسلامي وقبله اليهودي والمسيحي. وليس من الغريب أن أغلب الأحاديث التي ترويها عائشة عن الصورة، والتي لا نعثر على بعضها في الصحيحين، بل في المساند السبعة، تحكي عن علاقة حميمة للمرأة (عائشة) بالصور. وأحد هذه الأحاديث يحكي أن الرسول دخل بيتها يومًا فوجد سترًا غطت به دولاب الملابس، وبه صور خيول ذوات أجنحة. فأخذه ومزقه. فلما عاد في المرة الموالية، وجدها قد صنعت منه نمرقتين (طنفستين، أو وسادتين كبيرتين). وتختم عائشة الحديث بأنها رأت النبي يتكئ على النمرقتين. الصورة فاتنة ومخيفة، لأن لها علاقة بالعين. لذلك فإن جعلها موطنًا للتملي والتأمل يشغل الخيال واللاوعي ويولّد الفتنة. أما إذا هي وطئت فإنها تغدو أثاثًا. هذا المخرج يتعاضد مع مخرج آخر يعبر عنه حديث آخر. إذا وجد المرء صورة لجسم بشري فعليه أن يغطي على وجهه بصبغ. الوجه هو هوية الجسد. وإعدامه هو تحويل الجسم إلى جثة. وهذا هو ما يفسر أن الإسلاميين الأصوليين يعمدون إلى تحطيم رأس التماثيل لتعطيل كونها صورة، أي جسد كامل ووجه وهوية.
أدباء ضد الصورة
هذا الخوف سوف يظل ساريًا حتى في الغرب الذي استشرت فيه الصورة وتبنتها الكنيسة. فصور المسيح والعذراء والقديسين لم تكن صورًا ذات أنموذج، وإنما صور مؤسلبة لا تعبر فيها الملامح عن الذات الواقعية. وصور المسيح قد يبدو فيها شابًا، أو عجوزًا، بملامح شرقية، أو يونانية، أو رومانية. الصورة كانت بذلك تشخيصًا رمزيًا يحيل إلى شيء خارجها، وإلى فكرة، قبل أن يولد البورتريه ويتحول إلى مجال لاشتغال المشابهة والتعبير الدقيق فالأدق عن هيئة صاحبه التي تبدو بملامحها الحقة فيه.
"عاب بودلير على الفوتوغرافيا شعبيتها، وضحالة خيالها، واستنساخها المؤسف للواقع. وكان بلزاك وموباسان أيضًا من المعادين لتحويل البورتريه في جلاله التقليدي إلى شيء عادي" |
إذا كان البورتريه سيغذي بشكل حثيث ولادة الفرد، فإن عددًا من الكتاب في القرن التاسع عشر سوف يقفون منكرين ومستنكرين للصورة الشخصية الفوتوغرافية. إن هذا النجاح الذي حاز عليه البورتريه الفوتوغرافي، الذي يمنح لكل واحد، من غير تمييز، حظ الحصول على وجه لم يكن له من قبل، هو ما أثار حفيظة الشاعر شارل بودلير. فقد قال في 1859: "إن المجتمع القذر يحج مثل نرْسيس واحد ليتأمل صورته الوضيعة على المعدن. فحب الفحْش المتوقّد في قلب الإنسان، مقدار توقّد حبه لنفسه، لا يمكن أن يترك فرصة الإشباع المتاحة هذه. لقد استبدت عصبية فائقة وجنون كبير بكافة عبَدة الشمس هؤلاء". وهو قد رأى في هذا النجاح "ملجأ لكافة الفنانين التشكيليين الفاشلين، من غير موهبة تُذكر، والذين من فرط الكسل لم يسعوا لإتمام دراستهم في مجال الفنون الجميلة". ومع ذلك فقد ترك بودلير صديقه المصور الفرنسي الشهير "نَضَر" يلتقط له صورة بوجه عابس، وفي إحدى الصور نراه يتحرك كما لو أنه يريد الهرب من الصورة. لقد عاب بودلير على الفوتوغرافيا شعبيتها، وضحالة خيالها واستنساخها المؤسف للواقع. وكان الكاتبان الشهيران بلزاك وموباسان أيضًا من المعادين لتحويل البورتريه في جلاله التقليدي الذي يستحيل إلى شيء عادي. هل كان ذلك تشبثًا ببهاء الفن التشكيلي، ومقاومة لشعبية التقنية وقدرتها الاستنساخية التي جعلت كل من هبَّ ودبَّ، وببضعة قروش، يصنع لنفسه وجها؟
إذا كان تلقي الفوتوغرافيا في فرنسا قد اتسم أحيانًا بالنقد، فإن الأمر لم يكن كذلك في الولايات المتحدة التي انتشرت فيها انتشارًا، وعرفت إقبالًا حماسيًا؛ بيد أن الكاتب هيرمان ميلفيل، على غرار كتاب فرنسا المذكورين، عدها تدنيسًا. ففي 1840، حضر عرض آلة التصوير "الداغيروتيب" في بوسطن. وفي إحدى رواياته، سيعبر عن امتعاضه الكبير من الصورة الفوتوغرافية والبورتريه الفوتوغرافي. هكذا يتأمل بطل روايته "في السهولة اللامتناهية التي يستطيع بها كل واحد اليوم، بفضل الداغيروتيب، أن يصنع بورتريهًا له، فيما كان البورتريه الأمين في الماضي حظوة حصرية للأغنياء، أو أرستقراطيي الروح، الذين كان في إمكانهم التمتع بذلك الترف". ويستنبط من ذلك طبعًا أن "البورتريه، عوض أن يخلد عبقريًا، أضحى اليوم لا يصلح إلا لجعل الأغبياء أسيادًا لليومي". كان الكاتب، إذن، يفضل بورتريه الفنان التشكيلي الذي يضيف إلى شخصيتنا أبعادًا جديدة على الاستنساخ الآلي لوجهنا. وهكذا صارت البورتريهات الفوتوغرافية للشخصيات الشهيرة تعلق في واجهات المحلات الفوتوغرافية، وتباع لدى بائعي الطوابع البريدية والوراقين، وغيرها من الحوانيت. ويعلق ميلفيل على ذلك ساخرًا: "الآن، لم يعد ثمة من جلالة سرية، ولا من جمال غير مرئي، ولا من شيء مجهول. فبعشرين قرشًا يمكننا أن نتأمل من غير حجاب الأنف المَهيب لشاه بلاد فارس، أو لحية السلطان العثماني". فكما أن الطباعة دمقْرطت الكتاب، كانت الفوتوغرافيا سبيلًا لنزع الفوارق الاجتماعية بين النبلاء والمترفين والإنسان العادي في أن يكون له وجه مصوَّر يمكنه فيه التعرف على ذاته واستعماله وسيلة تواصل في المناسبات. بل إن الصورة الفوتوغرافية كانت بداية لتقريب المسافات، وشكلًا أوليًا من أشكال العولمة التي سينتجها التلفزيون والصورة الرقمية والإنترنت، خاصة حين تحولت الصورة الفوتوغرافية إلى كارطبوستال (كارت بوستال).
"الكاتب الفرنسي إميل زولا كان يستعمل الفوتوغرافيا في تسجيل ما يرغب في وصفه، أو سرده، رغبة منه في محاكاة طبيعانية للواقع" |
بيد أن العديد من الكتاب عمدوا إلى استعمال الصورة الفوتوغرافية دعامة للكتابة، فالمعروف عن الكاتب الفرنسي إميل زولا أنه كان يستعمل الفوتوغرافيا في تسجيل ما يرغب في وصفه، أو سرده، رغبة منه في محاكاة طبيعانية للواقع. كما أن كلود أولييه، وهو من كتاب الرواية الجديدة بفرنسا، أسرّ لي وأنا أترجم روايته "مراكش المدينة" في أواسط التسعينيات، أنه اعتمد في كتابة أغلب مقاطعها بدقة لامتناهية على سلسلة من الصور الفوتوغرافية التقطها في أثناء مقامه الطويل بالمدينة المغربية. وهذا التداخل سوف لا يقتصر على الرواية، بل سيجد موطنًا له في المسرح، كما لدى بيتر فايس، وممارسي المسرح التسجيلي.
الصورة والحكاية
"وجه فريد الأطرش كان من الحزن والصرامة بحيث كنت أفضل عليه بسمة عبد الحليم حافظ ووداعته" |
في أواسط الستينيات، وأنا لا زلت صبيًا حديث الهجرة إلى مدينة فاس، كان أكثر ما شدّ انتباهي بفتنة قد أكون مَدينًا لها اليوم بالاهتمام بالصورة، هي البورتريهات الكبرى بالأبيض والأسود التي كانت تُركن في واجهات المحلات، والتي كنا نتملّى فيها يوميًا بالإحساس نفسه بالمتعة، حتى صارت جزءًا من كياننا الطفولي، ومتخيلنا النابض. كانت صور كوكب الشرق أم كلثوم، والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، تتجاور مع صور جمال عبد الناصر، والملك محمد الخامس. وبين الفينة والأخرى نعثر على صور لأسمهان وفريد الأطرش. يومها اكتشفت حكاية اسمي. حين سألت أمي عن علاقة اسمي بفريد الأطرش، إن كانت من باب الصدفة، حكت لي أنها حين كانت لا زالت تعيش في البادية، كان جدي قد اقتنى صندوقًا كبيرًا، وضعوه في السطح يلتقط الأخبار والأغاني ويبثها. وكانت هي تعشق فريد الأطرش. وحين زوجوها وهي لم تبلغ بعد مبلغ الأنوثة، وفقدت بنتها البكر في شهرها الثالث، رُزقت بي. كنت الولد البكر، والبكر يسمى محمدًا. ذبح أبي كبشًا وسماني محمدًا كما هي العادة. وما إن غادر البيت بضعة أيام لعمله تاجرًا في الحبوب في أسواق المنطقة، حتى انتهزت أمي الفرصة، ونادت على أخيها، وطلبت منه أن يذبح كبشًا من كباشها الخاصة التي أتت بها من بيت أبيها، وسمتني فريدًا.
وهكذا، ما إن كنت ألقى صورة هذا الفريد الآخر حتى أتملى في وجهه جيدًا، وأحاول أن أجد في صورته ما يجذبني إليه، أو يربطني به. كل شيء كان يفرق بيننا: هو يحب الغناء وأنا أحب القراءة والكتابة وكرة القدم... ثم إن وجهه كان من الحزن والصرامة بحيث كنت أفضل عليه بسمة عبد الحليم حافظ ووداعته... أما جمال عبد الناصر، فوسامته ولونه القمحي كانا يثيران إعجابي. وطبعًا لم أدرك أهمية الرجل كما هشاشة أسطورته إلا سنوات بعد ذلك. بيْد أنه هو أيضًا سوف تربطني به حكاية رمزية أخرى، حين حكيتها لعبد الكبير الخطيبي في مكتبه افترت شفتاه عن بسمة عريضة، وقال لي: هو قدَر الحلم.
وصلتني في بداية التسعينيات رسالة من أستاذة في الجامعة الأميركية في القاهرة تخبرني فيها أن صديقنا المشترك الأديب محمد برادة وافاها بعنواني، طالبة مني الإذن بالترجمة للإنكليزية لإحدى مقالاتي عن الجسد والسينما كانت قد نُشرت في أول كتاب صدر لي. وشهورًا بعد ذلك، وصلني بالبريد عدد خاص من مجلة الجامعة الأميركية يتضمن مقالتي تلك، وخطابًا قصيرًا من الأستاذة تقدم لي فيه شكرها، وتخبرني أن تحية خالد عبد الناصر، مترجمة دراستي، ليست سوى حفيدة الرئيس جمال عبد الناصر.
صور وصور
من أيام قليلة فقط، نشر الصديق فاروق مردم بك إحدى الصور الأخيرة التي التقطت لمحمود درويش وقتًا قصيرًا بعد أمسيته الشعرية الأخيرة في مدينة آرل الفرنسية، حيث ألقى قصيدته التي يرثي فيها نفسه، ويحاور فيها اسمه وحضوره وغيابه. يبدو درويش ساهمًا ومثقل الذهن، ويداه مشدودتان تحت ذقنه. نحن تعودنا على صور درويش إما ملقيًا بحماسته قصائده، أو ضاحكًا، أو شفتاه تفتران عن بسمة شفافة. وصور الكاتب تشكل جزءًا من متخيلنا له. ونحن غالبًا ما نحتفظ بواحدة منها وكأنها تمثله، أو ببعضها يختارها بصرنا بعناية لكونها تلائم نظرتنا له. صورة الكاتب هي مرآة لتصورنا له. فمن بين صور كامو، أقربها إليّ تلك التي يرتدي فيها معطفًا، وفي فمه عقب سيجارة؛ ولسارتر التي يمسك فيها غليونه بيده؛ وللخطيبي صورة كانت متداولة في الثمانينيات يمسك فيها غليونًا، ولم تعد دارجة في أرشيفه.
هذه التفضيلات تنسج علاقة ذاتية بين صورة الكاتب التي تشيع له وبين تصورنا له، وتجعل قراءتنا له ممهورة بحساسية تجاه نوعية حضوره في مخيلتنا. لكن عصر وفرة الصور بجميع أشكالها، المتحركة والثابتة، قد تكون أحيانًا سببًا في غياب هذه التفضيلات الذاتية للقارئ والمتلقي. فهل فقد الكاتب صورته من فرط الكثرة؟ أو على الأقل هل أضحى يفقدها بعد أن صار أرشيفه يقاس بما لا يعد ولا يحصى من الصور؟ لقد بتنا نعمى عن رؤية صورة الكاتب، لأن وفرة الصور التي تُلتقط له في جميع مراحل حياته لم تعد تترك لنا الفرصة للاختيار، ولا لحب صورة واحدة من صوره، أو تفضيلها... لقد غدا الكاتب المعاصر من غير صورة.