الفوتوغرافيا العربيّة المعاصرة.. بحثًا عن فيزيونومية مُركّبة
أشرف الحساني
فوتوغراف
(Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
شهدت الفوتوغرافيا العربيّة، منذ بداية الألفيّة الجديدة، تحوّلًا ملفتًا على مُستوى مفاهيمها وجماليّاتها ووساطتها التقنية، جعلتها تدخل في سجالٍ فنّي مُركّب مع نماذج بصريّة أخرى مثل الكوميكس والكاريكاتير والسينما والفيديو واللوحة، خاصّة وأنّ من مباهج الفنون المعاصرة أنّها كسّرت الحدود بين الوسائط البصريّة، وجعلت عملية الإبداع / الخلق، مُنفتحة على كافّة هذه الوسائط وفنونها، وذلك في عملية تبادلٍ فنّي، ينفي قيمة الموضوع ويُعطي أهميّة بارزة للشكل. ففي الوقت الذي بقيت فيه الفوتوغرافيا الحديثة مُلتصقة بمسام الظواهر السياسية والتواريخ الاجتماعية والعسكريّة، نزعت الصورة الفوتوغرافيّة المعاصرة إلى تصوير مُختلف التحوّلات الأنطولوجية التي ألمّت بجُرح الكائن، سيما صُوَر مظاهرات 1967 الباريسية وفظائع "الحرب الأهلية اللبنانيّة" وأحلام "الربيع العربي" وحراك "17 تشرين"، وهي مجموعة تحوّلات سياسيّة هامّة، لم يكُن بإمكان الفوتوغرافيا أنْ تظلّ بمنأى عنها، حيث غدت تهتم أكثر بالفرد (الجسد) وهواجسه ومآزقه، على حساب قضايا تاريخيّة كبرى، وحتى إنْ تأتى لها ذلك، فإنّها تسعى جاهدة إلى تخييل سيرة الفرد في علاقته بهذا التاريخ، بما يجعله مُحرّكًا أساسًا وعُنصرًا قويًا في صناعة ذاكرته.
ورغم النّمط المُركّب الذي تتميّز به الفوتوغرافيا الحديثة، فقد بدت وكأنّ قوالبها لم تعُد قادرة على استشكال مفاهيم التاريخ والذاكرة، إنْ حضرت داخل بعض النماذج العربيّة، فإنّها تُقدّم التاريخ، باعتباره مُجرّد نُتفٍ أو شذراتٍ مُضمرة داخل نسيج خطاب الصورة الفوتوغرافية، لأنّ هذه الأخيرة، مهما ادّعت نقل التاريخ، فإنّها لا تستطيع أنْ تُصوّر منه إلا جزءًا صغيرًا، يكاد يكون مُبهمًا وتتدخّل فيه ذاتية الفنّان وشعوره. وبالتالي، فإنّ غلبة الهاجس التخييلي في بناء الفوتوغرافيا الحديثة، يجعلها تنزع قداستها عن مفاهيم التاريخ والذاكرة والهويّة والعروبة والمآزق التي يتخبّط فيها البلد، سياسيًا واجتماعيًا. هذا المسار المَنهجي الذي تنحته الفوتوغرافيا الحديثة، جعل الكثير من المؤرّخين في العالم يُفضّلون هذا النمّط التصويري التقليدي، حيث يغيب التوليف والتركيب والتوضيب، بما يجعل صُوَرها تغدو وثيقة بصريّة هامّة في كتابة التاريخ، رغم أنّ رأيًا فكريًا كهذا غير موجودٍ في العالم العربي، وأعني مؤلّف جامع، يجعل من الفوتوغرافيا الحديثة مُختبرًا لكتابة تاريخ بلدٍ، إمّا بسبب صعوبة العثور على وثائق رسميّة يندر الوصول إليها، لأنّها غالبًا ما تكون مُحاطة بالأسوار وفي حوزة السُلطة، خاصّة إذا كانت ذات علاقة بالتاريخ السياسيّ أو لأنّ هذا المنزع في الكتابة التاريخيّة، لم يصبح بعد "موضة" على مُستوى الكتابة التاريخيّة في العالم العربيّ.
ثمّة فرق بين مؤلّفات الفوتوغرافيا النقدية عن الأخرى الفكريّة والتاريخيّة، فالأولى مُنتشرة بالعالم العربي، يعتمد البعض في كتابتها على مراجع غربيّة أو على تجربةٍ ذاتية في عالم التصوير الضوئي، حيث تكون الغاية تعليمية وتربوية، أكثر من كونها قراءاتٌ في تجارب فوتوغرافية عربيّة رائدة في علاقتها بمفاهيم وإشكالاتٍ تشغل الاجتماع العربيّ الراهن. أمّا النّمط الثاني، فهو غير موجودٍ، رغم وجود دراساتٍ نيّرة وضافية بمجّلاتٍ مُعيّنة مُتناثرة هنا وهناك، فإنّ القارئ، لا يعثر على مشروع فكري واحد يستند على الصورة الفوتوغرافية، باعتبارها أفقًا بصريًا معاصرًا قادرًا على بلورة كتابة تاريخيّة جديدةٍ، لأنّ الموجود ينطلق دومًا من وثائق مادّية أو آثار أو مسكوكات أو كتاباتٍ منقوشة أو أرشيفات محاكم من أجل كتابة التاريخ. من ثمّ، فإنّ هذا الحيف الذي تشهده الوسائط البصريّة على مُستوى علاقتها بالكتابة التاريخيّة، لا يزيدها إلاّ غربة واجترارًا. غير أنّ نزوع المُؤرّخ الغربيّ إلى نمط الفوتوغرافيا الحديثة، جعل المُفكّر من جهةٍ أخرى، ينفرد بنظيرتها المعاصرة، لما تُوفّره من إمكاناتٍ مُذهلةٍ على مُستوى التفكير، فهي قادرة على تكوين نظرةٍ مختلفة عن الواقع وبقاياه، لأنّها لا تقتصر على التصوير، بقدر ما تدخل في عملية تفكيرٍ مُسبق في نتوءات هذا الواقع وتُركّبه، حتّى تغدو العملية الفنّية ذات ميسمٍ فكريّ، يحتاج إلى ترسانةٍ مفاهيمية لتفكيك مُقوّماته وعناصره وما يحبل به من مفاجآت وأسرار.
إنّنا هنا أمام قفزة نوعية في تاريخ التصوير الضوئي، وإنْ بدا الفكر العربيّ غير قادرٍ على مُسايرة هذا التفكير الفنّي في توهّجه، إمّا لأنّه فنّ حديث الظهور من حيث سياقاته التاريخيّة ودلالاتها، أو لكونه فنًّا صعبًا ومُركّبًا يحتاج إلى تفكير حداثي مُغاير لما هو رائج داخل الأدبيّات الفكريّة العربيّة. وإذا كانت الصورة الفنّية (اللوحة) قد حظيت باهتمام بالغ في الآونة الأخيرة من طرق النقّاد والباحثين، فإنّ نظيرتها الفوتوغرافية تظلّ منسيّة ومُغيّبة، رغم ظهور مراكز عربيّة هامّة تعنى بالتوثيق الفوتوغرافي، وبروز معارض فنّية قويّة تُؤكّد المكانة الرائدة التي أصبح يحتلها الفنّان العربيّ عالميًا. لم تستطع الفوتوغرافيا المُركّبة رغم قوّتها الفكريّة، أنْ تُجابه السينما في صُوَرها وجماليّاتها وذيوعها، أمام وجود عشرات الأعمال الفوتوغرافية، التي تُضاهي بعض الأفلام العربيّة، فتنة ووعيًا وفكرًا وجمالًا. في وقتٍ ما تزال المؤسّسات والمختبرات تتعامل مع الفوتوغرافيا وكأنّها عملٌ تقنيّ يقوم به مُصوّر، مُتناسية الإبدالات المفاهيميّة والسياقات التاريخيّة، التي مرّ منها هذا الشكل الفنّي، في سبيل تحرّره الأيقوني وإبراز مكانته ودور المركزي في علاقته بالتفكير الفلسفي والكتابة التاريخيّة.
من هنا، نجد أنّ الفرق بين الصورة الحديثة ونظيرتها المعاصرة، يكمن أساسًا في طريقة التحاور البصريّ القائم بين مفهومي "التوثيق" و"التخييل". لكنْ بسبب غياب مونوغرافيات تاريخيّة تُشرّح الخطاب الفوتوغرافي العربي، فإنّ الكثير من التجارب تظلّ تمزج وبدون وعيّ فنّي مُسبق بين النّمطين، رغم أنّها تُقدّم نفسها على أساس "معاصرة" دون أنْ تفهم معنى هذه المعاصرة، التي لا علاقة لها بمفهوم الزمن أو التحقيق التاريخيّ la périodisation historique وإنّما تحمل دلالات فكريّة أكثر منها سياقية. إنّ الانتماء إلى المعاصرة فوتوغرافيًا، ليس بذخًا جماليًّا أو موضة فنّية، بل طريقة بصريّة للتعبير عن الجُرح الكامن فينا والثورة على الموضوع وتكسيره من حدّة الأشكال. وفقًا لهذا المنظور البصريّ، تغدو الفوتوغرافيا ضربًا من العنف الذي يُمارسه الفنّان على الواقع الذي ينتمي إليه فيزيقيًا. إنّه يثور عليه ويحجبه ويطمسه ليُقدّم واقعه "هو" كما يراه ويحلم به ويسعى جاهدًا للقبض عنه من خلال اللامرئيّ الفوتوغرافيّ. إنّ الفوتوغرافيا المعاصرة، رغم ما يطبعها من تخييل وتركيبٍ، تُقدّم الواقع بطريقة عارية من الموتيفات الجماليّة والكليشيهات الفنيّة، بل وحتّى من بهرجة الألوان وفتنتها. ففي الوقت الذي تعمل فيه الصورة الفنيّة (التشكيليّة) على دغدغة مَشاعر المُشاهد بسيلٍ من الألوان المُزركشة، تُطالعنا الفوتوغرافيا بحقيقة الواقع وعُنفه وجبروته وآلامه. إنّها تنزع عنه سحره الكاذب، مُقدّمة إيّاه في عريه الأصلي وحقيقته الأنطولوجيّة المُركبّة التي يستحيل القبض عن فيزيونوميّتها داخل اللوحة.
إنّ الفوتوغرافيا المعاصرة فعلٌ أنطولوجيّ يُدرَك، وهذا أمرٌ تتشاركه مع السينما، حيث يغدو الذوق الجماليّ ذا نزعة ذاتية يتحكّم فيها مفهوم "الحساسيّة" كما بلوره الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، لكنّها من جهةٍ أخرى، تختلف عن الصورة السينمائية، حيث لا تكتسب الفوتوغرافيا شرعيتها أكثر، إلاّ من خلال أحاديتها وتفرّد صُورها، مُستمدّة حقيقتها عبر جينيالوجيا الواقع الذي أبدعها وبلور مَعالمها فكريًا وجماليًا. فقد فطنت السوسيولوجية الفرنسيّة ناتالي إينيك (1955) أنّ أبرز خصوصية يحبل بها الفنّ المعاصر تتمثّل في مفهوم "الخرق" transgression باعتباره ضرورة فكريّة لتكسير الحدود بين الفنون والمعارف وإقامة تواشجاتٍ فنيّة تُغني الطرفين وتجعلهما يسيران معًا على درب المعرفة والإبداع. وهذا الأمر، نعثر عليه بقوّة داخل التجربتين اللبنانيّة والفلسطينيّة، حيث عملت بعض التجارب على المزج بين الفوتوغرافيا والفيديو واللوحة. ولأنّ هذه النماذج عانت كغيرها من فقر وشحّ المعاينتين التأريخيّة والنقدية، فإنّ التهميش يطالها عربيًا، مع أنّها معروفة من خلال ما تُقيمه من معارض داخل عدد من المدن الفرنسيّة والأميركيّة والبلجيكيّة والألمانية. أما مغاربيًّا فثمّة تجارب قليلة مثل أعمال داوود أولاد السيّد باشتغاله على الهامش المغربي، وليلى علوي المعروفة ببورتريهاتها الإنسانية الفائقة الجمال، وحسن حجّاج الذي عُرف منذ ثمانينيات القرن المنصرم في لندن كفوتوغرافيّ مغربي مُجدّد للصورة ومجازاتها. أمّا الفوتوغرافيا التركيبية أو المفاهيميّة، فإنّها تبقَى نادرة ويصعب العثور على فنّان أسّس مسار وعيه الفوتوغرافي بها وفي عوالمها.
لكنْ بالحديث عن الإمكانات الثرّة والمُذهلة التي يُتيحها الخرق، فإنّ اللوحة كانت أكثر سندٍ فنّي استفاد من التصوير الفوتوغرافي، والعائد إلى الريبرتوار المغاربيّ سيعثر على الكثير من التجارب الفنّية، التي اعتمدت داخل عددٍ من مَعارضها التشكيليّة توليفات من الصورة الفوتوغرافية، بغية خلق تواشجاتٍ بين الصورتين. إذْ على الرغم من التغيّرات التي أصابت المشهد الفوتوغرافي العربي في السنوات الأخيرة، إلاّ أنّه ما زال في حاجةٍ ماسّةٍ إلى الانتقال صوب الفوتوغرافيا المعاصرة ذات النفس التركيبي الذي يمزج في طيّاته فنونًا بصريّة عدّة. لا سيما وأنّ غياب المهرجانات الخاصّة بالفنّ الفوتوغرافي داخل المنطقة المغاربيّة، يجعل هذه الممارسة البصريّة لا تتطوّر، وحتّى إنْ فعلت بعض تجاربها الجديدة، سرعان ما تسقط في فخّ نموذج الفوتوغرافيا الغربية، وتستعير عين الآخر لتُعبّر عن مكنوناتها الذاتية. لكنّ في مقابل هذه "الفوضى" البصريّة، ثمّة العديد من الفنانين العرب ممّن يتملّكهم هسيس الفنّ.
ففي أعمال الفنّانة المغربيّة الأميركيّة لالة السيّد، يعثر المُشاهد على براعة التوليف بين اللوحة والفوتوغرافيا ممزوجة بالمغامرة الجماليّة والجرأة الفنيّة القائمة على نقد الاستشراق في نظرته إلى الحريم وتصويره للمرأة كجارية. وذلك من منظورٍ بصريّ تُوازي فيه لالة بين اللوحة والفوتوغرافيا. منهجيًا أتاح هذا التوليف للفنانّة إبراز خصوصياتها للتعبير والتكسير من حدّة الشكل وأحاديته، فالفوتوغرافيا في لوحاتها أساسٌ جماليّ يُؤسّس شرعية اللوحة، إنّها ليست إكسسوارًا يُساعد الفنّانة في إبراز فكرتها في نقد الاستشراق، وإنّما موقف فكري يُتيح للصورة أنْ تغدو مُركّبة وأكثر تأويلًا وتوسيعًا لخطابها البصريّ. إنّ علاقة اللوحة بالفوتوغراف في أعمال لالة السيّد ذات منزعٍ وجوديّ، قبل أنْ تكون علاقة منهجية تروم التجريب القائم على الإبداع والتعدّد. لكن في سيرة هذا المنحى التجريبيّ ثمّة الكثير من المفاجآت تُضمرها الفنانّة لتاريخ الاستشراق، لأنّها تتعمّد "محاكاة" بعض الأعمال الاستشراقية، لكن وفق خطاب بصريّ مُركّبٍ ومُزدوجٍ، حيث الصورة لا تأتي كعملٍ فنّي احتفائي بل ناقد لسيرورة تشكّل هذا الوعيّ الاستشراقي طيلة قرون، فتخلق أعمالًا تُحفّز الناظر لا على مُشاهدتها فحسب، وإنّما على إعادة التفكير في صلب مفهوم الاستشراق وحقيقته الكاذبة.
أشرف الحساني
فوتوغراف
(Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
شهدت الفوتوغرافيا العربيّة، منذ بداية الألفيّة الجديدة، تحوّلًا ملفتًا على مُستوى مفاهيمها وجماليّاتها ووساطتها التقنية، جعلتها تدخل في سجالٍ فنّي مُركّب مع نماذج بصريّة أخرى مثل الكوميكس والكاريكاتير والسينما والفيديو واللوحة، خاصّة وأنّ من مباهج الفنون المعاصرة أنّها كسّرت الحدود بين الوسائط البصريّة، وجعلت عملية الإبداع / الخلق، مُنفتحة على كافّة هذه الوسائط وفنونها، وذلك في عملية تبادلٍ فنّي، ينفي قيمة الموضوع ويُعطي أهميّة بارزة للشكل. ففي الوقت الذي بقيت فيه الفوتوغرافيا الحديثة مُلتصقة بمسام الظواهر السياسية والتواريخ الاجتماعية والعسكريّة، نزعت الصورة الفوتوغرافيّة المعاصرة إلى تصوير مُختلف التحوّلات الأنطولوجية التي ألمّت بجُرح الكائن، سيما صُوَر مظاهرات 1967 الباريسية وفظائع "الحرب الأهلية اللبنانيّة" وأحلام "الربيع العربي" وحراك "17 تشرين"، وهي مجموعة تحوّلات سياسيّة هامّة، لم يكُن بإمكان الفوتوغرافيا أنْ تظلّ بمنأى عنها، حيث غدت تهتم أكثر بالفرد (الجسد) وهواجسه ومآزقه، على حساب قضايا تاريخيّة كبرى، وحتى إنْ تأتى لها ذلك، فإنّها تسعى جاهدة إلى تخييل سيرة الفرد في علاقته بهذا التاريخ، بما يجعله مُحرّكًا أساسًا وعُنصرًا قويًا في صناعة ذاكرته.
"نزعت الصورة الفوتوغرافيّة المعاصرة إلى تصوير مُختلف التحوّلات الأنطولوجية التي ألمّت بجُرح الكائن، سيما صُوَر مظاهرات 1967 الباريسية وفظائع "الحرب الأهلية اللبنانيّة" وأحلام "الربيع العربي" وحراك "17 تشرين"، وهي مجموعة تحوّلات سياسيّة هامّة" |
ثمّة فرق بين مؤلّفات الفوتوغرافيا النقدية عن الأخرى الفكريّة والتاريخيّة، فالأولى مُنتشرة بالعالم العربي، يعتمد البعض في كتابتها على مراجع غربيّة أو على تجربةٍ ذاتية في عالم التصوير الضوئي، حيث تكون الغاية تعليمية وتربوية، أكثر من كونها قراءاتٌ في تجارب فوتوغرافية عربيّة رائدة في علاقتها بمفاهيم وإشكالاتٍ تشغل الاجتماع العربيّ الراهن. أمّا النّمط الثاني، فهو غير موجودٍ، رغم وجود دراساتٍ نيّرة وضافية بمجّلاتٍ مُعيّنة مُتناثرة هنا وهناك، فإنّ القارئ، لا يعثر على مشروع فكري واحد يستند على الصورة الفوتوغرافية، باعتبارها أفقًا بصريًا معاصرًا قادرًا على بلورة كتابة تاريخيّة جديدةٍ، لأنّ الموجود ينطلق دومًا من وثائق مادّية أو آثار أو مسكوكات أو كتاباتٍ منقوشة أو أرشيفات محاكم من أجل كتابة التاريخ. من ثمّ، فإنّ هذا الحيف الذي تشهده الوسائط البصريّة على مُستوى علاقتها بالكتابة التاريخيّة، لا يزيدها إلاّ غربة واجترارًا. غير أنّ نزوع المُؤرّخ الغربيّ إلى نمط الفوتوغرافيا الحديثة، جعل المُفكّر من جهةٍ أخرى، ينفرد بنظيرتها المعاصرة، لما تُوفّره من إمكاناتٍ مُذهلةٍ على مُستوى التفكير، فهي قادرة على تكوين نظرةٍ مختلفة عن الواقع وبقاياه، لأنّها لا تقتصر على التصوير، بقدر ما تدخل في عملية تفكيرٍ مُسبق في نتوءات هذا الواقع وتُركّبه، حتّى تغدو العملية الفنّية ذات ميسمٍ فكريّ، يحتاج إلى ترسانةٍ مفاهيمية لتفكيك مُقوّماته وعناصره وما يحبل به من مفاجآت وأسرار.
"إنّنا هنا أمام قفزة نوعية في تاريخ التصوير الضوئي، وإنْ بدا الفكر العربيّ غير قادرٍ على مُسايرة هذا التفكير الفنّي في توهّجه، إمّا لأنّه فنّ حديث الظهور من حيث سياقاته التاريخيّة ودلالاتها، أو لكونه فنًّا صعبًا ومُركّبًا يحتاج إلى تفكير حداثي مُغاير لما هو رائج داخل الأدبيّات الفكريّة العربيّة" |
من هنا، نجد أنّ الفرق بين الصورة الحديثة ونظيرتها المعاصرة، يكمن أساسًا في طريقة التحاور البصريّ القائم بين مفهومي "التوثيق" و"التخييل". لكنْ بسبب غياب مونوغرافيات تاريخيّة تُشرّح الخطاب الفوتوغرافي العربي، فإنّ الكثير من التجارب تظلّ تمزج وبدون وعيّ فنّي مُسبق بين النّمطين، رغم أنّها تُقدّم نفسها على أساس "معاصرة" دون أنْ تفهم معنى هذه المعاصرة، التي لا علاقة لها بمفهوم الزمن أو التحقيق التاريخيّ la périodisation historique وإنّما تحمل دلالات فكريّة أكثر منها سياقية. إنّ الانتماء إلى المعاصرة فوتوغرافيًا، ليس بذخًا جماليًّا أو موضة فنّية، بل طريقة بصريّة للتعبير عن الجُرح الكامن فينا والثورة على الموضوع وتكسيره من حدّة الأشكال. وفقًا لهذا المنظور البصريّ، تغدو الفوتوغرافيا ضربًا من العنف الذي يُمارسه الفنّان على الواقع الذي ينتمي إليه فيزيقيًا. إنّه يثور عليه ويحجبه ويطمسه ليُقدّم واقعه "هو" كما يراه ويحلم به ويسعى جاهدًا للقبض عنه من خلال اللامرئيّ الفوتوغرافيّ. إنّ الفوتوغرافيا المعاصرة، رغم ما يطبعها من تخييل وتركيبٍ، تُقدّم الواقع بطريقة عارية من الموتيفات الجماليّة والكليشيهات الفنيّة، بل وحتّى من بهرجة الألوان وفتنتها. ففي الوقت الذي تعمل فيه الصورة الفنيّة (التشكيليّة) على دغدغة مَشاعر المُشاهد بسيلٍ من الألوان المُزركشة، تُطالعنا الفوتوغرافيا بحقيقة الواقع وعُنفه وجبروته وآلامه. إنّها تنزع عنه سحره الكاذب، مُقدّمة إيّاه في عريه الأصلي وحقيقته الأنطولوجيّة المُركبّة التي يستحيل القبض عن فيزيونوميّتها داخل اللوحة.
"فطنت السوسيولوجية الفرنسيّة ناتالي إينيك (1955) أنّ أبرز خصوصية يحبل بها الفنّ المعاصر تتمثّل في مفهوم "الخرق" transgression باعتباره ضرورة فكريّة لتكسير الحدود بين الفنون والمعارف، وهذا الأمر، نعثر عليه بقوّة داخل التجربتين اللبنانيّة والفلسطينيّة، حيث عملت بعض التجارب على المزج بين الفوتوغرافيا والفيديو واللوحة" |
لكنْ بالحديث عن الإمكانات الثرّة والمُذهلة التي يُتيحها الخرق، فإنّ اللوحة كانت أكثر سندٍ فنّي استفاد من التصوير الفوتوغرافي، والعائد إلى الريبرتوار المغاربيّ سيعثر على الكثير من التجارب الفنّية، التي اعتمدت داخل عددٍ من مَعارضها التشكيليّة توليفات من الصورة الفوتوغرافية، بغية خلق تواشجاتٍ بين الصورتين. إذْ على الرغم من التغيّرات التي أصابت المشهد الفوتوغرافي العربي في السنوات الأخيرة، إلاّ أنّه ما زال في حاجةٍ ماسّةٍ إلى الانتقال صوب الفوتوغرافيا المعاصرة ذات النفس التركيبي الذي يمزج في طيّاته فنونًا بصريّة عدّة. لا سيما وأنّ غياب المهرجانات الخاصّة بالفنّ الفوتوغرافي داخل المنطقة المغاربيّة، يجعل هذه الممارسة البصريّة لا تتطوّر، وحتّى إنْ فعلت بعض تجاربها الجديدة، سرعان ما تسقط في فخّ نموذج الفوتوغرافيا الغربية، وتستعير عين الآخر لتُعبّر عن مكنوناتها الذاتية. لكنّ في مقابل هذه "الفوضى" البصريّة، ثمّة العديد من الفنانين العرب ممّن يتملّكهم هسيس الفنّ.
"في أعمال الفنّانة المغربيّة الأميركيّة لالة السيّد، يعثر المُشاهد على براعة التوليف بين اللوحة والفوتوغرافيا ممزوجة بالمغامرة الجماليّة والجرأة الفنيّة القائمة على نقد الاستشراق في نظرته إلى الحريم وتصويره للمرأة كجارية" |
ففي أعمال الفنّانة المغربيّة الأميركيّة لالة السيّد، يعثر المُشاهد على براعة التوليف بين اللوحة والفوتوغرافيا ممزوجة بالمغامرة الجماليّة والجرأة الفنيّة القائمة على نقد الاستشراق في نظرته إلى الحريم وتصويره للمرأة كجارية. وذلك من منظورٍ بصريّ تُوازي فيه لالة بين اللوحة والفوتوغرافيا. منهجيًا أتاح هذا التوليف للفنانّة إبراز خصوصياتها للتعبير والتكسير من حدّة الشكل وأحاديته، فالفوتوغرافيا في لوحاتها أساسٌ جماليّ يُؤسّس شرعية اللوحة، إنّها ليست إكسسوارًا يُساعد الفنّانة في إبراز فكرتها في نقد الاستشراق، وإنّما موقف فكري يُتيح للصورة أنْ تغدو مُركّبة وأكثر تأويلًا وتوسيعًا لخطابها البصريّ. إنّ علاقة اللوحة بالفوتوغراف في أعمال لالة السيّد ذات منزعٍ وجوديّ، قبل أنْ تكون علاقة منهجية تروم التجريب القائم على الإبداع والتعدّد. لكن في سيرة هذا المنحى التجريبيّ ثمّة الكثير من المفاجآت تُضمرها الفنانّة لتاريخ الاستشراق، لأنّها تتعمّد "محاكاة" بعض الأعمال الاستشراقية، لكن وفق خطاب بصريّ مُركّبٍ ومُزدوجٍ، حيث الصورة لا تأتي كعملٍ فنّي احتفائي بل ناقد لسيرورة تشكّل هذا الوعيّ الاستشراقي طيلة قرون، فتخلق أعمالًا تُحفّز الناظر لا على مُشاهدتها فحسب، وإنّما على إعادة التفكير في صلب مفهوم الاستشراق وحقيقته الكاذبة.