"أينشتاين على شاطئ البحر".. نشوة المشاهد في مهرجان برلين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "أينشتاين على شاطئ البحر".. نشوة المشاهد في مهرجان برلين

    "أينشتاين على شاطئ البحر".. نشوة المشاهد في مهرجان برلين
    سمير رمان
    موسيقى
    من عرض "أينشتاين على شاطئ البحر" في برلين (concerti.de)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    شهد المسرح الرئيسي في مهرجان برلين/ Berliner Festspiele، أخيرًا، عرض نسخة جديدة من أوبرا "أينشتاين على شاطئ البحر/Einstein on the Beach"، التي ألفها الموسيقي الأميركي فيليب موريس غلاس/ Philip Morris Glass عام 1976، وأصبحت من كلاسيكيات الأوبرا.
    في هذه النسخة من الأوبرا، تجرأ بعض المخرجين على تخطّي مسرح ما بعد الدراما، ومنهم المخرجة سوزانا كينيدي، والفنان الرسّام ماركوس زيلغ، اللذان أقدما على ابتكار مقاربةٍ جديدة تناولت هذه المرّة أوبرا. ومن ناحيةٍ أُخرى، فقد تبنى عملية إنتاج الأوبرا كلٌّ من مهرجان فينيسيا وبرلين.
    النسخة الأولى من أوبرا "أينشتاين على شاطئ البحر"، التي شارك في تأليفها عام 1976 روبرت ويلسون/ Robert Wilson، وفيليب موريس غلاس، جلبت لهما شهرة العباقرة. وخضعت الأوبرا ذاتها مراتٍ عدة لمحاولاتٍ من التحديث والتجديد، جاء ختامها على خشبة مسرح Haus Dea Berliner Festspiele. أما آخر عرض لها فكان في 14 مارس/ آذار من عام 2014.
    تميزت نسخة الأوبرا الأصلية، التي شارك في إظهارها إلى الوجود الشاب المصاب بالتوحد، كريستوفر نويلز، إلى جانب مصمّم الرقصات المبدع، لوسيند تشايلدز، بحركاتٍ بطيئة تكاد تكون طقوسية، جعلتها تقود بدور منوّم مغناطيسي يدفع بمشاعر المشاهد إلى قممٍ رائعة من النشوة.
    الأمر المهمّ الرئيس الذي قام به كلٌّ من سوزان كينيدي، وماركوس زيلغ، شريكها في جميع أعمالها الأخيرة، إيجاد صيغةٍ ثقافية معاصرة تتلاءم مع تقنيات الأقراص المدمجة ثلاثية الأبعاد، ومع تصاميم الفيديو على شبكات الإنترنت، حيث كل عنصرٍ فيها يتشكّل عبر تكرار الرسم نفسه. وكان لويس أراغون أوجز في توصيف الأوبرا في السبعينيات، بقوله: إنّها حلم سوريالي متجسّد فعلًا: أربعة فصولٍ، وجزء واحد بمسميات "القطار"، "المحكمة"، "السجن"، و"الرقص"، "سفينة الفضاء"، وبين الفصل والذي يليه يستمتع النظارة بفقرات تسلية أوركسترالية/ Knee Play، من دون سجنٍ، أو محكمة.
    كلّ شيءٍ في هذه المسرحية ليس كما يعتقد المشاهد، بل ربما يكون العكس هو الصحيح: فكلّ شيء جاء كما يجب أن يكون: فالمتوقّع من المشاهد، وقد بلغ شعور النشوة، أن يضع موضع التنفيذ شيئًا ما يخصّه هو نفسه. قبل خمسين عامًا، كان هذا الأمر مستجدًا على المسرح، وفي هذا نقطة ضعفٍ، ولكنّه كان نقطة قوةٍ بالنسبة لمسرحية ويلسون، التي استمرت خمس ساعاتٍ، تاركة لخيال المشاهد مساحةً واسعة من الحرية، وتركت له الخيار بالتحرك من مكانٍ إلى آخر: فقد تُرك للمشاهد حرية الدخول والخروج وقت يشاء.

    "أوبرا "أينشتاين على شاطئ البحر" شارك في تأليفها عام 1976 روبرت ويلسون، وفيليب موريس غلاس، فجلبت لهما شهرة العباقرة"


    جعلت سوزان كينيدي من أوبرا "أينشتاين" مغامرة: صحيحٌ أنّه في إمكان الجمهور البقاء في القاعة، إلا أنّ الأفضل له أن يصعد إلى المسرح، حيث لا شيء ثابتا. وحدهم أعضاء فرقة بازل الموسيقية فينيكس/ Phoenix هم من يبقون على الخشبة طيلة العرض. وعلى خشبة المسرح الدائرية الدوارة يسير فنانون من برلين إلى جانب أعضاء فرقة Basler Madrigalisten Raphael Immoos للغناء، وكذلك المشاهدون الذي يرغبون في الانضمام إليهم. يمكن وقف هذه الحركة الأبدية بالجلوس على صخورٍ صغيرة شكّلت جزءًا من الديكور، وقد غطيت بقماش تزينه نقوش من عصر ما قبل التاريخ. بين صخور افتراضية مشابهة، يمكنك زيارة منشآت "أنا ـ I am". هذه الجولة في العالم الافتراضي التي تستمر لمدّة نصف ساعة، والتي سبق أن عرضها قبل عام في طوكيو الثنائي كينيدي وزيلغ بمشاركة فنان الفيديو رودريك بيرستيكر/ Rodrik Biersteker، أصبحت مقدمة لمسرحيات تعرض في القاعات المجاورة.
    من أوبرا "أينشتاين على شاطئ البحر" (berlinerfestspiele.de)
    بشكلٍ عام، يمكن القول إنّ جميع أعمال سوزان كينيدي الأخيرة التي صنعتها بالتعاون مع زيلغ كانت عبارة عن مقدمة لأوبرا "أينشتاين". على غرار فيلم "جيسيكا ـ التجسّد"، حيث تقوم جيسيكا برحلةٍ لا يعرف المشاهد إن كانت إلى حياةٍ من حيواتها السابقة، أو إلى عالمٍ افتراضيٍّ ما، وجاء عمل سوزان كينيدي التي تحاول على المسرح أن تعيد إنتاج ما يجري في أذهان أولئك الذين يقضون معظم أوقات حياتهم أمام شاشات الكمبيوترات.
    في "أنا/ I am"، يجد المشاهد نفسه في متاهةٍ صغيرة، هي عبارة عن لوحات بلازمية عديدة. يختار المشاهد زاويةً من الزوايا، فيضع نظاراتٍ وسماعات أذن ثلاثية الابعاد، ومن ثمّ يقف على منصةٍ انطلاقٍ رسمت على الأرض، ويرحل إلى غابة ما من غابات الماضي السحيق، حيث الأعشاب العملاقة، والشجيرات، وحيث يشتعل فجأةً لهبٌ موقد. جميعها معلّقةٌ في الهواء فوق الأرض، وتبدو كلّها واضحةً يلفّها الغموض لدرجةٍ يستحيل معها عدم تصديقها. بعد الغابة، أمام المشاهد رحلة إلى شواطئ مريخية، أو إلى أوابد أرضية. وفي حين يقف المشاهد على الأرض، فإنه يكون على ثقةٍ مطلقة أنّه في حركةٍ دائمة تصيبه بما يشبه الغثيان وهو يصعد أو يهبط مرتفعات وهمية.

    "يجد المشاهد نفسه في متاهةٍ صغيرة، هي عبارة عن لوحات بلازمية عديدة. يختار المشاهد زاويةً من الزوايا، فيضع نظاراتٍ وسماعات أذن ثلاثية الابعاد، ومن ثمّ يقف على منصةٍ انطلاقٍ رسمت على الأرض"


    كلّ ما نراه في نظارات الواقع الافتراضي ثلاثي الأبعاد: فوهات براكين، وعدسات مناظير عملاقة، وكذلك جناح أوراكل/ Oracle المليء بالمعادلات والصيغ الرياضية، سيظهر في ديكورات "أينشتاين" وكأنّه بحجمه الطبيعي. سيبدأ الفنانون في التجول وسط مناظر طبيعية من فترة ما بعد الأرض وهم يحدقون في عيون المشاهدين، وأصواتهم الملائكية تصدح "واحد ـ اثنان ـ ثلاثة ـ أربعة ـ خمسة ـ ستة ـ سبعة/ دو ـ ري ـ مي ـ فا ـ صول ـ لا ـ سي". البعد البشري لما يحدث على المسرح يأتي فقط من ماعزٍ حية تثغو متأرجحةً على حبلٍ. تلعب الغريزة البشرية البدائية دورها، فيبدأ المشاهدون التوجه صوب نارٍ أضرمت قرب خيمةٍ كخيام السائحين.
    مع تغيّر المناظر الطبيعية الخلابة، التي تخلقها إسقاطات ضوئية، تتغيّر أيضًا موسيقى فيليب غلاس الساحرة. على مدار ثلاث ساعات ونصف الساعة، يمشي المشاهدون وراء المؤدّين، وكأنّهم وقعوا تحت تأثير قيثارة ساحر. تؤدي عازفة الكمان الهولندية (دياماندا درامّ) عزفًا منفردًا على الكمان. وقبل النهاية فقط يمكن ملاحظة ثمّة قلق غامض، فيقول لسان حال المشاهد: "أشعر أنّ الأرض تتحرك، وأشعر أنّها على وشك السقوط".
    جاء تصميم الرقصات التي أبدعتها لوسيندا تشايلدز لافتة للنظر، منحت المشاهد، حرفيًا، شعورًا بارتباط الزمن بالمكان، فكلّ حركةٍ من حركاتها تتكرّر طويلًا، وتتغير تدريجيًا، فيتجدّد المشهد كليًّا. ولهذا، فإنّه من المستحيل أن يغمض المشاهد عينيه أمام هذا الأداء الأسطوري: فعندما يبلغ النشوة من الموسيقى ويصيبه الخدر، عندها يعلم أن تحوّله (الارتقاء من نوعٍ إلى آخر) يحدث فعلًا، وعندها سيحاول جادًّا متابعة هذا التحوّل.
    كي يستطيع المرء تقييم مثل هكذا عمل، عليه أن يتابعه من دون انقطاع. غير أنّ الإنسان المعاصر، الذي يظهر في أعمال كينيدي الأخيرة، يعيش في عالم هاتفه الذكيّ، فيتركه أحيانًا ليسترق النظر إلى المسرح. هذه ليست بديهة مسلمة بالنسبة لأي مسرح، أو مهرجان، ولكن إذا قبلنا هذا التموضع الجديد الذي يظهره المشاهد العصري، سنكتشف بأنّ مسرحية كينيدي الجديدة أخذت كلّ شيءٍ في عين الاعتبار، وبصورة تقارب المثالية.
يعمل...
X