المسرحيّة التونسيّة "آخر مرّة" ببيروت: أمراض المجتمع الإنسانيّ

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المسرحيّة التونسيّة "آخر مرّة" ببيروت: أمراض المجتمع الإنسانيّ

    المسرحيّة التونسيّة "آخر مرّة" ببيروت: أمراض المجتمع الإنسانيّ
    جورج كعدي 27 يناير 2023
    مسرح
    أسامة كشكار ومريم بن حميدة في لقطتين من المسرحية
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    حدثٌ إبداعيّ شهدته بيروت على خشبة "مسرح المدينة"، مع العرض التونسيّ المميّز جدًا لمسرحيّة "آخر مرّة"، الحائز التانيت الذهبي في "أيام قرطاج المسرحيّة" للعام الفائت، تأليف وإخراج وفاء الطبّوبي، تمثيل أسامة كشكار ومريم بن حميدة. وقد أَلِفتْ مسارح العاصمة اللبنانية منذ عقود استقبال عروضٍ متميزة من المسرح التونسيّ ولمبدعين كبار أمثال الفاضل الجعايبي وتوفيق الجبالي ومحمد إدريس، وفي كلّ مرّة كان الجمهور اللبناني يخرج منها منبهرًا، مقدّرًا، مؤمنًا بأنّ في تونس حركة مسرحيّة قد تكون الألمع والأبرز عربيًا، ومن الأفضل عالميًّا، لإبداع فيها وتجديد وإتقان يبلغ حدّ الكمال̸ perfection، نصًّا وإخراجًا وأداءً. وينطبق هذا كلّه على العرض الذي نحن في صدد الإضاءة عليه.

    مساحة العرض، بدءًا، فارغة من أي ديكور أو بهرج بصريّ. هي معروفة بالخشبة العارية، المتقشّفة، التي تلفّ جهاتها ستائر المسرح السوداء، ما يردّنا إلى فضاءات بيتر بروك وغروتوفسكي وآرتو المجرّدة من أي ديكورات أو أغراض (أكسسوارات) غير وظيفيّة يمكن الاستغناء عنها لحصر التركيز على الدعائم الأولى للعرض المسرحيّ، بدءًا بالممثلين، بلوغًا إلى النصّ والتصوّر الإخراجيّ لحركة الممثل وأدائه الداخليّ والجسديّ. ونرى هنا في "آخر مرة" تطبيقًا سينوغرافيًّا ضمن هذا التوجّه، حيث ليس على خشبة المسرح سوى طاولة مستطيلة وكرسيين، وقد غيّبت الكاتبة والمخرجة القديرة وفاء الطبوبي الديكور تغييبًا تامًا، واكتفت بالطاولة والكرسيين كأغراض وظيفيّة يستخدمها الممثلان بأشكال متنوعة تبعًا للحدث الدراميّ، بل تتخّذ أحيانًا شكل غرفة التحقيق، أو سرير اغتصاب أو صدام عنفيّ، أو جلسة مواجهة مشوبة بالعجز والتعب والعنف النفسيّ... إلخ. فضلًا عن أنّ هذه المساحة المشهديّة الواسعة والمفرغة إلاّ من الحضور الإنسانيّ تتيح للممثلين حرية الحركة (المضبوطة إخراجيًّا وتوجيهيًّا في أي حال وعلى نحو صارم) لشكلَيْ التعبير المتلازمين، العصب الداخلي النفسيّ، والجسديّ الكوريغرافيّ المبهر، وهما يتحرّكان تحت الأضواء (والظلال)، ليزيد بلهادي، بديعة التنفيذ، وفق رؤية المخرجة وتصوّرها، فينهمر الضوء تارةً من فوق وتارة أخرى جانبيًا، أو تُغرق العتمة الممثلَيْن وتغلّفهما على نحو تامّ، تبعًا لأعمق الأصول المسرحيّة، أي دراماتورجيا الضوء، المنسجمة انسجامًا تامًا مع دراماتورجيا النصّ والمناخ المسرحيّ الذي ينبغي أن يُشيع مناخات الحالة النفسيّة المتوتّرة والمأزومة، الصراعيّة والعدوانيّة، المتمزّقة إلى درجة الاغتصاب أو القتل في حالتين من الحالات الثلاث التي يتناولها العرض في لوحات ثلاث مستقلّة. السينوغرافيا إبداع إضافيّ في "آخر مرّة" يضاف إلى إبداعات النص والإخراج والتمثيل التي توصل هذا العمل الرائع إلى درجة تداني الكمال المطلق، لولا الصراخ المفرط قليلًا، والخالي من لحظات صمت ضروريّة في أي عمل مسرحيّ، وهذا ما ألفناه في أيّ حال "سمةً" من سمات المسرح التونسي: الصراخ المفرط.
    المسرحية من تأليف وإخراج وفاء الطبّوبي
    إلى السينوغرافيا (لإسكندر الشريف تنفيذًا) بليغة الدلالات الدراماتورجيّة، يُضاف عنصر آخر مدهش فائق الأهميّة (ولا نزال في الشكل)، هو الكوريغرافيا المتأرجحة بين قسوة مسرح أنطونان آرتو وأسلوب بينا باوش، فالممثلان يتواجهان جسديًّا في تكملةٍ للمواجهة نصّيًا وشعوريًّا ونفسيًّا. يتلاحم الجسدان بحركة كوريغرافية مذهلة تعبيرًا وإتقانًا، فيتوازى النصّ المنطوق مع النصّ المعبّر عنه بالجسد وإيقاعاته والنصّ الشعوريّ الداخليّ الذي لا نقع على مثله سوى لدى ستانيسلافسكي والشعور الانفعاليّ لديه. كوريغرافيا عنيفة تفوق الوصف لناحيتي التصميم و "الهندسة" الدقيقة للحركة التي تُحدث صدمةً مقترنة بالإعجاب لدى المتلقّي.

    نأتي بالتالي إلى مضمون هذا العمل الفذّ نصًّا وإخراجًا وأداءً وسينوغرافيا وحتى موسيقى لافتة بنقراتها الدراميّة التي تحاكي الجوّ التصادميّ المشحون وهي من تأليف صالح الشرقي.

    العصب المشدود، المتوتّر، المرهق للممثلين، يطغى على اللوحات الثلاث (في نحو ثمانين دقيقة) التي تتناول أولاها صدامًا قاسيًا بين مدير في مؤسّسة وسكرتيرته داخل مجتمع ذكوريّ يمارس سلطته على المرأة (الموظّفة هنا) التي ينظر إليها بكونها موضوعًا جنسيًّا مهيّأ للاستغلال الجسدي، فيبتزّها بسبب تأخّرها في الوصول إلى عملها في الوقت المحدّد. ينقضّ عليها مراودًا إيّاها عن نفسها، غير مصغٍ إلى مبرّرات تأخّرها (كفوضى وسائل النقل مثلًا) وغير محترم كينونتها الإنسانيّة رغم أنّنا نفهم في سياق الكلام أنّها تفوقه ثقافةً، ليُقْدم في نهاية المشهد – اللوحة على اغتصابها بالقوّة... وهنا تنطلق دهشتنا حيال "كوريغرافيّة" الاغتصاب التي أشرنا إليها.
    "أمراض المجتمع الإنسانيّ بعامّة ماثلة هنا، بقسوتها وعنفها الجسديّ والمعنويّ على السواء. تقحمنا الطبّوبي عنوةً في مناخاتها القاتمة، تشدّنا إلى مشهديّتها بالعصب المشدود ودهشة الحدث الدراميّ المتصاعد إلى ذراه المأساويّة مع الممثلين القديرين"
    في اللوحة الثانية نحن أمام أمّ عجوز تملّكية (تبدع فيها الممثلة الشابة مريم بن حميدة بتحوّلها إلى عجوز حتى بملامح الوجه وتقوّص الظهر وثقل العمر جسديًّا) التي تعيش مع ابنها الوحيد الممتثل كطفل لتملّكها وتطلّباتها... في تصاعد دراميّ يفضي إلى نفاد صبر الابن الضعيف والمعطوب نفسيًّا، الكسول والعاطل عن العمل، فيتوق إلى خنقها ورميها أرضًا والتخلّص منها... نمسي هنا إزاء مناخات "بيكيتيّة" سوداويّة عدميّة قاسية تحيلنا على التحلّل الإنسانيّ (وبالتالي الأخلاقيّ) والفنائيّ الذي يطبع صمويل بيكيت.

    اللوحة الثالثة هي بين زوجين تتصاعد المواجهة بينهما إلى فعل تسميم الزوجة للزوج، على وقع الملامة المتبادلة وتلاشي الحب بفعل الزمن المتآكل، وكلّ ذلك يفصح عنه نصّ ذكيّ نتابع مثله في اللوحات الثلاث، وقد أسعفتنا الترجمة بالفرنسية والإنكليزية، المرافقة للعرض على الستائر السود في عمق الخشبة. نصّ وفاء الطبوبي، الكاتبة والمخرجة، عميق ومقطوف من المعيش اليوميّ في المجتمع التونسيّ ويمرّعلى أزماته الكثيرة في كلّ مجال، اقتصاديّ وسياسيّ ودينيّ وسوسيولوجيّ، تختزلها اللوحات الثلاث ببلاغة وفطنة صوغ وبساطة وعمق في آن واحد. نصّ مشحون بالقضايا، فيه تكثيف للأحوال والدلالات، مضمّخ بالواقع وغير متغرّب عنه. فضلًا عن كونه نصًّا يمكن وضعه في خانة الصراع الأزليّ - الأبديّ بين الرجل والمرأة، أمّا في المجتمع الذي تخرج منه المسرحيّة (يمكن إسقاطه بيُسر على سائر المجتمعات العربية الذكوريّة البطريركيّة، ولِمَ لا إلى زوايا مشابهة من المجتمع الإنسانيّ العام في كل مكان) حيث تَتَعرّض المرأة لأقصى الضغوط وأقبحها في المجتمع وتُستباح كرامتها الإنسانيّة ويستعبد جسدها لنزوات الرجل. لكن ثمة ملاحظة على الهامش هنا أنّ كلّ فكر "نسويّ" اليوم، على أحقّيته، معرّض للوقوع في الكليشيه والخطاب المتكرّر حول المرأة وواقعها وتظلّمها من هذا الواقع.

    مشهد من المسرحيّة
    تسلّط وفاء الطبوبي ضوءًا على الزوايا في مجتمعها غير المفترق كثيرًا عن باقي المجتمعات، ما يجعل الصراع المستمرّ بين الرجل والمرأة "تيمةً" عالمية، طالعة من المجتمع التونسيّ إلاّ أنّها تنطبق على مختلف المجتمعات، وبخاصة العربية منها. أمراض المجتمع الإنسانيّ بعامّة ماثلة هنا، بقسوتها وعنفها الجسديّ والمعنويّ على السواء. تقحمنا الطبّوبي عنوةً في مناخاتها القاتمة، تشدّنا إلى مشهديّتها بالعصب المشدود ودهشة الحدث الدراميّ المتصاعد إلى ذراه المأساويّة مع الممثلين القديرين، المبهرين إحساسًا داخليًا وتعبيرًا جسديًا. مريم بن حميدة وأسامة كشكار من قماشة الممثلين الكبار، يتصبّبان عرقًا في اللوحات الثلاث (كشكار تحديدًا) من فرط استثمارهما في الشخوص التي يؤدّيانها في اللوحات الثلاث، ومن شدّة الصدقيّة والواقعية، ومن القدرات النفسيّة والجسدية التي يتمتعان بها، وكأنّنا بالمخرجة تقسو عليهما للأفضل، ويقسوان المزيد على نفسيهما ليكونا على قدر التحدّي. نادرًا ما نرى أداءً مماثلًا وعَصَبًا باستنفار مشابه وبعشق جارف للخشبة والطقس المسرحيّ. يكسبان الرهان عليهما، يجذبان ويبهران ويضرمان الأحاسيس. يا لعظمة الأداء وحرفيّته العالية. ولا غرابة، بالتالي، في نيلهما جوائز التمثيل بين قرطاح والقاهرة وبغداد.

    هذا العمل المسرحيّ الفذّ هو ثمرة إنتاج مشترك بين محترف مسرح "الريو" الذي تديره المخرجة الطبوبي وشركة "الأسطورة للإنتاج". من خلاله تلتحق وفاء الطبّوبي بنجوم الحركة المسرحية التونسيّة الرائدة في العالم العربي، محتلّةً موقعًا مميّزًا، لامعًا، وسط هذه الحركة التي تضمّ أسماء معروفة، مجلّية، تعزّز الحضور الإبداعيّ والفنيّ والثقافي لتونس في المشهد العام للمسرحين العربيّ والعالميّ.

    وفاء الطبّوبي، تعريفًا بها، خاضت مسارًا صعبًا لتبلغ اليوم هذه المكانة المميّزة في المسرح التونسي والعربيّ. هي أوّلًا ابنة تونس البارّة، تعشق وطنها الذي تصفه بـ"جنتي الجميلة"، أمّا المسرح فهو لها "الحياة والأمل"، شُغفت به منذ سنّ اليفاع، لكنّ المجتمع الضيّق والمحافظ وقف حاجزًا في وجه هذا الشغف، باستثناء تشجيع والدها الذي دعم خيارها. ومنذ مرحلة المراهقة والشباب كانت تستمدّ طاقة جمالية وإبداعية من الصور التي كانت "تصادرها" من صديقاتها المقرّبات، فالصور ملهمة للأفكار. وهي تعتبر أنّ المسرح علّمها كيف تكون قويّة ومتوازنة، مثلما علّمها أنّ الحبّ طاقة لا تنضب. تؤمن بأنّ المسرح حيّ لا يموت وهو كذلك منذ القرن الخامس قبل الميلاد، معتبرة أنّ صرخة "وامسرحاه" التي تصعد بين فترة وأخرى هي صرخة خاطئة، فالمسرح بالنسبة إليها مثل الحياة، فيه الجميل والقبيح، الحلو والمرّ، بيد أنّ المسرح يلقّننا كيف نعيش ونستمرّ ونُبعث من رماد التعب والأوجاع.

    إلى تقديمها الأعمال المسرحيّة تدرّس وفاء الطبوبي المسرح في محترف "الريو" في تونس، ويشهد تلاميذها على أنّها أستاذة مميّزة بشغفها وحرفيّتها وموهبتها الخاصة، علمًا بأنّها خرّيجة المعهد العالي للفن المسرحي في تونس وخاضت قبل التدريس والكتابة والإخراج تجربة التمثيل مع روّاد سبقوها أمثال فاضل الجعايبي، أحد أكبر الأسماء في المسرح التونسيّ المعاصر. امرأة قويّة، عنيدة، مثابرة، كبيرة الموهبة، مدافعة شرسة عن حقّها في تجسيد أحلامها على خشبة المسرح، لا تهاب الواقع ومشاكله، خاصةً في الحال الصعبة الراهنة التي يمرّ بها المجتمع التونسيّ تخبّطًا سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، فهي باقية على إيمانها ببلدها وشعبه "ما دمنا على قيد الحياة والأمل"، تقول.

    *ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.
يعمل...
X