"قهوة زعترة".. دلالة استعادة فترة زمنية من تاريخ القدس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "قهوة زعترة".. دلالة استعادة فترة زمنية من تاريخ القدس

    "قهوة زعترة".. دلالة استعادة فترة زمنية من تاريخ القدس
    تحسين يقين
    مسرح
    حسام أبو عيشة في مونودراما "قهوة زعترة"
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    يقوم عرض مونودراما "قهوة زعترة" (تمثيل حسام أبو عيشة، وإخراج كامل الباشا) على استعادة فترة زمنية من تاريخ القدس، من خلال مقهى مشهور، حيث يسرد حسام، ابن عامل المقهى، ما كان من أحداث اجتماعية، ربطت بين المقدسيين على اختلافهم وتنوعهم، من خلال خلفية احتلال المدينة عام 1967، بحيث تفاعل ما هو ذاتي في شخصية حسام ووالده وأسرته، مع ما هو عام ووطني في شخصياتهم وشخصيات المقهى، في ظل تأثيرات الحكم العسكري، وما تضمن من مخابرات، وأساليب الوطنيين في إخفاء النشاطات الوطنية. وهنا تتجلى مواقف اجتماعية بسيطة كوميدية أحيانًا، مع مواقف تراجيدية، ومواقف ثالثة ساخرة من الاحتلال، وصولًا إلى إغلاق المقهى بوحي تهديد الاحتلال، حيث تم إنهاء مرحلة اجتماعية وسياسية عاشها المقهى والمدينة معًا.
    اجتماعيًا، وطبقيًا، يمكن قراءة العرض من جانب تلك الألفة التي جمعت الشخصيات هنا، كما جمعتهم القهوة، والقدس كمدينة، حيث الانسجام السكاني الجميل، والذي لربما برزت فيه بعض الميول الفردانية الطبقية، التي لم تكن تجري عميقًا، بحيث عكست المونودراما بسردياتها عن حيوات الشخصيات، حالة الناس هنا، كما عاشوا فعلًا، حيث إن اختيار رواد المقهى ترك ألقابهم خارج المقهى لا يعني في الحقيقة إلا أن الشعور الطبقي لم يكن عميقًا، لأسباب لها علاقة بالمدينة الروحية من جهة، وبسبب ما تعرضت له القدس من غزو خفف كثيرًا من الفروقات بين الناس، والتي لربما لم يظل منها إلا البعد الاقتصادي. فبالرغم من تباين حالة الفقر والغنى، إلا إن ذلك لم يخلق تلك الفروقات العميقة بين السكان، حيث لم يكن اختيار المدارس الخاصة لأبناء الأغنياء مثلًا خيارًا طبقيًا حقيقيًا، كون المدارس كانت تتبع التعليم العام.
    "في المسرحية، تتجلى مواقف اجتماعية بسيطة كوميدية أحيانًا، مع مواقف تراجيدية، وثالثة ساخرة من الاحتلال، وصولًا إلى إغلاق المقهى بوحي تهديد الاحتلال"

    في المقهى، جلس هؤلاء وهؤلاء، يشربون القهوة والشاي، تتنقل الأراجيل بين الجميع، نرى عامل المقهى صالح أبو عيشة، وابنه حسام قليلًا، نرى رواد المقهى، ووددنا استقصاء الشخصيات الكثيرة التي ظهرت، لعلنا نذكر منها المعلمين ومديري المدارس، والطبيب، والمواسرجي، والنخب الوطنية، وضابط المخابرات، كذلك نرى خارج المقهى أفراد البيت والجيران. ويبدو أنه قد جمع منهم وعنهم حكايات حقيقية، منها ما حدث من موقف كوميدي بين الطبيب والمواسرجي الذي يطلب مبلغًا لقاء إصلاحه خللًا في مياه مواسير الصرف الصحي، يوازي "كشفية" الطبيب ناعتًا نفسه بأنه طبيب المواسير. كما أجاد الفنان أبو عيشة في سرد رمضان، اجتماعيًا وفنيًا.


    فنيًا




    استلزمت الرؤيا الإخراجية للفنان كامل الباشا بساطة المكان لترك التركيز الذهني والشعوري داخل الشخصيات الساردة على لسان الممثل الواحد، حيث وجدنا أنفسنا في جوانب لم تكتمل من قصص الشخصيات، حيث أن العرض بصدد دراما حياة فرد واحد، بل دراما جمعية.
    هو الممثل السارد، وهو الشخصية المحورية في العرض: صالح أبو عيشة، الذي يسرد حاله، والذي يسرد عنه أحيانًا الممثل الواحد، حين يختار الرواية عنه والآخرين.
    لذلك ترك له الفراغ كاملًا، كدائرة يتحرك فيها، ليس فيها إلا طاولة وفناجين قهوة وأرجيلة، في حين جعلنا نرى المقهى فعلًا أمامنا، نلمسه، بل نتذوق شرابه الساخن، ونشم دخان التنباك.
    وما ساعد العرض هو رافعته التمثيلية العالية، ممثلة بحسام أبو عيشة، حيث لا نراه فقط مقلدًا لأصوات الشخصيات من الجنسين، بل إنه يستحضر روح الشخصية ومضمونها، حيث أن سماع الصوت يأتي في ظل محاكاة الأداء الحركي، المعبر عن مجمل حال الشخصيات، لكأنها تحضر فعلًا، وهذا مما يبرع فيه الفنان أبو عيشة، وهو أحد اشتراطات المونودراما.
    وهكذا كانت المقاهي، ومنها "زعترة"، مكانًا طليعيًا لنشدان الخلاص الوطني، عبر استخدام فضاء وطني، اكتشفه الاحتلال، بالرغم مما كان يلجأ له روادها من إخفاء لتلك النشاطات.
    إنه تاريخ القدس الشفوي الحقيقي الذي يتكامل مع ما هو مكتوب من تاريخ، الذي صار مادة للعرض، معه الفنان حسام، مستفيدًا من معايشته هو نفسه للقهوة وروادها وهو ما زال طفلًا.

    ترى ما الذي يدفع الفنان حسام أبو عيشة للغوص في التاريخ الشخصي والأسري والاجتماعي للمقدسيين؟ تلك هي وجودية إنسانية، تود استعادة ما كان من اتجاهات الخلاص الجمعي لا الفردي، فيما نعيشه اليوم من تحولات سياسية أثرت علينا اجتماعيًا وثقافيًا؛ فما جمعته "القهوة" من حميمية وحيوية اجتماعية، فرقه الاحتلال وتوابعه.
    تركز زمن "قهوة زعترة" على الفترة التي تلت هزيمة عام 1967، وصولًا إلى عام 1979، وهو العام الذي ودعت القهوة فيه روادها، حيث كانت قد أغلقت لفترة بعد احتلال القدس في صيف عام 1967، والفرق الآن (1979) أنه الوداع الأخير؛ فهل وداع القهوة، سيعني وداعًا رمزيًا؟ وهل استحضاره الآن له دلالات رمزية؟
    واقعيًا ووطنيًا، يمكن تلمس ما هو اجتماعي، بل ما هو ذاتي، فيما حدث بعد احتلال المدينة، وما تبقى من فلسطين، حيث سيجعلنا نعود قليلًا الى ما قبل الرابع من حزيران/ يونيو، وأكثر إلى ما قبل الخامس عشر من أيار/ مايو 1948.

    "استلزمت الرؤيا الإخراجية للفنان كامل الباشا بساطة المكان لترك التركيز الذهني والشعوري داخل الشخصيات الساردة على لسان الممثل الواحد"


    إن تأمل الكيانية الفلسطينية بعد أفول الدولة العثمانية، وحلول الحكم العسكري البريطاني، الذي حمل قناعًا منا يسمى "الانتداب"، ومن ثم احتلال العصابات الصهيونية لثلاثة أرباع فلسطين، واتحاد ما تبقى من فلسطين- "الضفة الغربية"- مع المملكة الأردنية الهاشمية- الدولة الفتية الحديثة، وإلحاق ما صار يسمى بقطاع غزة بالحكم المصري، وصولًا إلى العودة لبحث إمكانيات ولادة الكيانية الفلسطينية، يقودنا إلى أمر مهم في فهم التاريخ والجغرافيا هنا، آخر أكثر من قرن، وفهم سياق تأسيس الدول القومية والقطرية. وهو يتعلق دومًا بخيارات الشعوب، ومنه خيار الشعب الفلسطيني في حق تقرير المصير.
    ما الذي أسسته سنوات الستينيات السبع، وما قبلها؟ وما الذي حدث نفسيًا واجتماعيًا ووطنيًا من تغيرات صادمة؟ لذلك، وبالرغم من أن الحديث هنا عن التاريخ الاجتماعي والنفسي الضاحك الباكي، إلا أننا سرعان ما نقبع في خلفية العرض، لنحلل فترة مهمة من تاريخ القدس كجزء مما صار يعرف بالضفة الغربية وقطاع غزة، أي فلسطين عام 1967؛ فلعل العرض هنا ينحاز إلى الحركة الوطنية التي كانت تتحرك وسط تحديات كبيرة، كان منها نفي أي شخصية وطنية، كما حدث مع المقدسيّ زعترة صاحب المقهى، الذي سيسمح له بالعودة من النفي، على شرط تحقق نفي آخر: إغلاق المقهى ماديًا، وإغلاق الفم والحركة.
    لا ينفصل السياق المقدسي عن السياق الفلسطيني والسياق العربي، بل والعالمي، في مسألة دور المقهى كفضاء عام، كمحرك ومنتج للحركات السياسية والاجتماعية والثقافية أيضًا. وربما كانت المقاهي المقدسية، ما بين عامي 1948 و1967، مكاناً للدعاية السياسية للأحزاب الأردنية المرخصة وغير المرخصة، القومية واليسارية والإسلامية.
يعمل...
X