"ياسمين شوكي" لغسَّان شميط: الطفلُ السوري مُسْتَلَبًا
أنور محمد 2 مارس 2023
سينما
المخرج غسان شميط أثناء تصوير "ياسمين شوكي"
شارك هذا المقال
حجم الخط
فيلم "ياسمين شوكي"، أيْ وردةُ الياسمين، وقد جرحَها الشوك، ليس فيلمًا فلسفيًا، أو سياسيًا، وإن اتَّخذ شكل جماليات السينما الوثائقية. الفيلم من إنتاج المؤسَّسة العامة للسينما دمشق، ومن سيناريو وإخراج غسان شميط (1956)، الذي تخرج في المعهد العالي للسينما في أوكرانيا، وله أكثر من 25 فيلمًا سينمائيًا بين روائي قصير وطويل وتسجيلي. وهذا فيلمه الثالث، بعد فيلميه التسجيليين "حكايا من مراكز الإيواء"، و"أبطال الحامية"، من تصوير وإضاءة عمار خضور، وتأليف موسيقي خالد رزق. الفيلم ليس بحثًا نظريًا وعمليًا ـ تأمليًا للذي جرى للسوريين من مآسٍ وآلام طيلة سنوات الحرب 2011 ـ 2022 بوصفها حربًا لا أخلاقية، بقدر ما هو رأي سياسي.
الأطفال السوريون هم ضحايا الحرب السورية المشتعلة منذ 2011 في هذا الفيلم الوثائقي (60 د)؛ الذي صوَّر وقائع مُجيَّرة، صوَّر الضراوة، ولم يصوِّر الشهية، صوَّر النفور، ولم يصوِّر الجاذبية، صوَّر الألم، ولم يصوِّر اللذَّة التي تنعَّمَ بها صانعو الحرب، صانعو هذه المصائر التي ذهب إليها الأطفال على الأرض السورية، وعلى بعض من الأرض اللبنانية. لذّة مشحونة بِحُزَمٍ من الأحاسيس المستترة والمتوارية، أطفال ينبشون في حاويات الزبالة، ليس بحثًا عن اللحظة التي ستنتهي فيها الحرب، ولكن بحثًا عن الذي أشعلها، وسبَّب لهم كلَّ هذه الآلام. الأطفال يزفرون ما استنشقوه؛ الطفلة حلا عامر (12 سنة) تستنشق دخان مواد مشتعلة في نهر بردى وهي الطفلة التي عُرِفت على مواقع التواصل بـ"فتاة الشعلة"، التي تقبع مع غيرها في دار للرعاية الاجتماعية (غسان شميط لم يَنْفذ إلى القهر، ليرينا صدى احتجاجها وهي ترسله إلى السماء في زفيرها). لقطات لعائلات في مخيمات اللجوء التي نزحت إليها من مدن سورية، إنْ في الشرق، أو الشمال، أو الجنوب، ولقطات لفتيات قاصرات شردتهنَّ الحرب، وتعرَّضن للتحرُّش والاغتصاب، كما رَوَيْنَ وهُنَّ في سجن أحداث قدسيا، لقطات لأطفال كانوا في الضفة المُعارِضة، وقد تمَّ حرق أحلامهم، تمَّ قرضها وقضمها، ليس تمثيلًا، ولا تصويرًا لتمثيل؛ هي وقائع يرويها الأطفال، يحاكون، أو يقلدون، بالصوت/ اللغة ما جرى لهم، إذ تحوَّلوا إلى قطع غيار بشرية في غياب العقل الحقوقي، فصار الطفل السوري مُسْتَلَبًا، أو غنيمة حرب. طبعًا، هذا ممَّا يرويه الأطفال في الفيلم، فيلم وإن كان من صورة/ حركة، ولكنَّه يُوثِّق فعل الكلام الذي يجري على اللسان، كلام، اعترافات لأولادٍ وبناتٍ في سنِّ الصبا، يروون وقد شرَّدتهم الحرب، وجمعتهم معاهد وسجون الأحداث، أمام آلة التصوير السينمائية بلجلجةٍ ومن دون لعثمة، وبدموع، كيف تمَّ قهرهم وإذلالهم؟
المخرج غسان شميط يُقيم خطوطًا درامية سرعان ما يقطعها بخيوط، فتتقطَّع الخطوط بالخيوط، إذا بآلة التصوير مع أطفال كانوا تحت سيطرة المسلحين فيسردون حكاياتٍ وحكايات، كل حكاية أفظع من التي قبلها، لصبيان، ولفتيان، منهم طفل وضعوه في دولاب وأشعلوا النار فيه. هنا نسمع أخبارًا كما في بقية الصور/ اللقطات؛ بنات يَهرُبْنَ من منازل آبائِهنَّ بحثًا عن الأمن، وقد رفضن العودة لأنَّ الأبَ لا يستحق لقب إنسان، لقب الأبوَّة، فيقعن فرائس في غوطة دمشق لعديمي الضمير.
في ظلِّ الحرب وآثارها التي يصوِّرها المخرج شميط هربت فتاة من جَوْرِ زوجة أبيها. تقف أختها في وجهها خوفًا عليها من التشرد، ومن أذى الوحوش البشرية. لكن أمام إصرارها على الهرب تضطر إلى ضربها، فَتتدَخَّلُ زوجة الأب وتأخذ بها إلى الحمَّام، وتقتلها ضربًا بمكواة على رأسها حتى الموت ثمَّ تدفنها.
هذه الحكايات على كثرتها في شريط "ياسمين شوكي" لا تعمِّق المأساة، ولا تزيد من غضب المتفرِّج؛ لا تؤزِّمه ليتعاطف معها. فنحن في حالات السلم، وليس الحرب، نسمعُ ونقرأُ أخبارًا عن مثل هذه الجرائم، وإنَّ المخرج غسان شميط بقي في حقل الكلام الذي ينسخُ أو يعكسُ مثل هذه الوقائع الجرمية، لنبقى مع فيلم أقرب إلى التحقيق المصوَّر. مخلفات الحرب من الجرائم لا تقلُّ عنها في حالة السلم حين يتحكَّم الفاسدون ويتنمَّرون على البشر والحجر، وتسقط قيم الحق والجمال، فيحكمون من دون وجدانٍ، أو ضميرٍ. بعضهم كانَ ما كانَ يُنظِّر للحريَّة والثورة والعدالة، فيما يخبِّئُ في أعماقه وحوشًا، كذلك الأبُ الذي يحاول اغتصاب ابنته فتهرب منه، لتقعَ في أسر مجرمٍ فيفعل فيها ما لا تفعله الوحوش بالوحوش.
الحرب السورية صارت تجارة، والتاجرُ فيها صار طاغوتًا، وهو مَنْ يمنحك صكوك الاتهام والبراءة. والسينما، وثائقية، أو روائية، لا تقوِّض العلاقة الإنسانية بين الخطاب الفكري والواقع، وبين الخطاب والمعنى. الصحيح أنَّ المُخرج شميط قدَّم شهادات موجعة ومؤلمة لأطفالٍ بعضُهم سجناء أحداث في دمشق شرَّدتهم الحرب، وبعضهم في المنافي الاختيارية والإجبارية؛ منهم من كان أسيرًا عند المسلحين، فتمَّ تدريبهم رغمًا عنهم على القتال ضد القوات السورية، ومنهم، أو منهنَّ، من هربت إلى الساحل السوري لتقع بيد أحد القوادين ليشغِّلها لحسابه، فتمارس الجنس مع زبائن عرب وأجانب ـ جنود روس يعملون في قاعدة حميميم، ومنهم ـ كلُّهم تركوا مدارسَهم وتحوَّلوا إلى أولاد شوارع، لا علمَ ولا معرفة، لصوصٌ ومُدمنو مخدرات.
من المسؤول عن هذه الجرائم، وعن هذا الخراب؟ ما هذه الأرجوحة في زِيِّ عروسٍ في مدينة الألعاب، كما لو أنَّها طفلة مقطوعة اليدين، كيف سنتعانق؟ كيف ستعانقنا؟ لعلَّها أكثر لقطات الفيلم إثارة وقسوةً وهي تجيء في آخره للتحديق بما جرى لهذه الـ(سورية)، للتحديق في المناطق التي لا تزال تكتنفها العتمة؛ أَلَمْ تنتهِ لعبة النرد، لعبة الدومينو، لعبة البوكر؟
أنور محمد 2 مارس 2023
سينما
المخرج غسان شميط أثناء تصوير "ياسمين شوكي"
شارك هذا المقال
حجم الخط
فيلم "ياسمين شوكي"، أيْ وردةُ الياسمين، وقد جرحَها الشوك، ليس فيلمًا فلسفيًا، أو سياسيًا، وإن اتَّخذ شكل جماليات السينما الوثائقية. الفيلم من إنتاج المؤسَّسة العامة للسينما دمشق، ومن سيناريو وإخراج غسان شميط (1956)، الذي تخرج في المعهد العالي للسينما في أوكرانيا، وله أكثر من 25 فيلمًا سينمائيًا بين روائي قصير وطويل وتسجيلي. وهذا فيلمه الثالث، بعد فيلميه التسجيليين "حكايا من مراكز الإيواء"، و"أبطال الحامية"، من تصوير وإضاءة عمار خضور، وتأليف موسيقي خالد رزق. الفيلم ليس بحثًا نظريًا وعمليًا ـ تأمليًا للذي جرى للسوريين من مآسٍ وآلام طيلة سنوات الحرب 2011 ـ 2022 بوصفها حربًا لا أخلاقية، بقدر ما هو رأي سياسي.
الأطفال السوريون هم ضحايا الحرب السورية المشتعلة منذ 2011 في هذا الفيلم الوثائقي (60 د)؛ الذي صوَّر وقائع مُجيَّرة، صوَّر الضراوة، ولم يصوِّر الشهية، صوَّر النفور، ولم يصوِّر الجاذبية، صوَّر الألم، ولم يصوِّر اللذَّة التي تنعَّمَ بها صانعو الحرب، صانعو هذه المصائر التي ذهب إليها الأطفال على الأرض السورية، وعلى بعض من الأرض اللبنانية. لذّة مشحونة بِحُزَمٍ من الأحاسيس المستترة والمتوارية، أطفال ينبشون في حاويات الزبالة، ليس بحثًا عن اللحظة التي ستنتهي فيها الحرب، ولكن بحثًا عن الذي أشعلها، وسبَّب لهم كلَّ هذه الآلام. الأطفال يزفرون ما استنشقوه؛ الطفلة حلا عامر (12 سنة) تستنشق دخان مواد مشتعلة في نهر بردى وهي الطفلة التي عُرِفت على مواقع التواصل بـ"فتاة الشعلة"، التي تقبع مع غيرها في دار للرعاية الاجتماعية (غسان شميط لم يَنْفذ إلى القهر، ليرينا صدى احتجاجها وهي ترسله إلى السماء في زفيرها). لقطات لعائلات في مخيمات اللجوء التي نزحت إليها من مدن سورية، إنْ في الشرق، أو الشمال، أو الجنوب، ولقطات لفتيات قاصرات شردتهنَّ الحرب، وتعرَّضن للتحرُّش والاغتصاب، كما رَوَيْنَ وهُنَّ في سجن أحداث قدسيا، لقطات لأطفال كانوا في الضفة المُعارِضة، وقد تمَّ حرق أحلامهم، تمَّ قرضها وقضمها، ليس تمثيلًا، ولا تصويرًا لتمثيل؛ هي وقائع يرويها الأطفال، يحاكون، أو يقلدون، بالصوت/ اللغة ما جرى لهم، إذ تحوَّلوا إلى قطع غيار بشرية في غياب العقل الحقوقي، فصار الطفل السوري مُسْتَلَبًا، أو غنيمة حرب. طبعًا، هذا ممَّا يرويه الأطفال في الفيلم، فيلم وإن كان من صورة/ حركة، ولكنَّه يُوثِّق فعل الكلام الذي يجري على اللسان، كلام، اعترافات لأولادٍ وبناتٍ في سنِّ الصبا، يروون وقد شرَّدتهم الحرب، وجمعتهم معاهد وسجون الأحداث، أمام آلة التصوير السينمائية بلجلجةٍ ومن دون لعثمة، وبدموع، كيف تمَّ قهرهم وإذلالهم؟
المخرج غسان شميط يُقيم خطوطًا درامية سرعان ما يقطعها بخيوط، فتتقطَّع الخطوط بالخيوط، إذا بآلة التصوير مع أطفال كانوا تحت سيطرة المسلحين فيسردون حكاياتٍ وحكايات، كل حكاية أفظع من التي قبلها، لصبيان، ولفتيان، منهم طفل وضعوه في دولاب وأشعلوا النار فيه. هنا نسمع أخبارًا كما في بقية الصور/ اللقطات؛ بنات يَهرُبْنَ من منازل آبائِهنَّ بحثًا عن الأمن، وقد رفضن العودة لأنَّ الأبَ لا يستحق لقب إنسان، لقب الأبوَّة، فيقعن فرائس في غوطة دمشق لعديمي الضمير.
"الحكايات على كثرتها في شريط "ياسمين شوكي" لا تعمِّق المأساة، ولا تزيد من غضب المتفرِّج؛ لا تؤزِّمه ليتعاطف معها" |
هذه الحكايات على كثرتها في شريط "ياسمين شوكي" لا تعمِّق المأساة، ولا تزيد من غضب المتفرِّج؛ لا تؤزِّمه ليتعاطف معها. فنحن في حالات السلم، وليس الحرب، نسمعُ ونقرأُ أخبارًا عن مثل هذه الجرائم، وإنَّ المخرج غسان شميط بقي في حقل الكلام الذي ينسخُ أو يعكسُ مثل هذه الوقائع الجرمية، لنبقى مع فيلم أقرب إلى التحقيق المصوَّر. مخلفات الحرب من الجرائم لا تقلُّ عنها في حالة السلم حين يتحكَّم الفاسدون ويتنمَّرون على البشر والحجر، وتسقط قيم الحق والجمال، فيحكمون من دون وجدانٍ، أو ضميرٍ. بعضهم كانَ ما كانَ يُنظِّر للحريَّة والثورة والعدالة، فيما يخبِّئُ في أعماقه وحوشًا، كذلك الأبُ الذي يحاول اغتصاب ابنته فتهرب منه، لتقعَ في أسر مجرمٍ فيفعل فيها ما لا تفعله الوحوش بالوحوش.
الحرب السورية صارت تجارة، والتاجرُ فيها صار طاغوتًا، وهو مَنْ يمنحك صكوك الاتهام والبراءة. والسينما، وثائقية، أو روائية، لا تقوِّض العلاقة الإنسانية بين الخطاب الفكري والواقع، وبين الخطاب والمعنى. الصحيح أنَّ المُخرج شميط قدَّم شهادات موجعة ومؤلمة لأطفالٍ بعضُهم سجناء أحداث في دمشق شرَّدتهم الحرب، وبعضهم في المنافي الاختيارية والإجبارية؛ منهم من كان أسيرًا عند المسلحين، فتمَّ تدريبهم رغمًا عنهم على القتال ضد القوات السورية، ومنهم، أو منهنَّ، من هربت إلى الساحل السوري لتقع بيد أحد القوادين ليشغِّلها لحسابه، فتمارس الجنس مع زبائن عرب وأجانب ـ جنود روس يعملون في قاعدة حميميم، ومنهم ـ كلُّهم تركوا مدارسَهم وتحوَّلوا إلى أولاد شوارع، لا علمَ ولا معرفة، لصوصٌ ومُدمنو مخدرات.
من المسؤول عن هذه الجرائم، وعن هذا الخراب؟ ما هذه الأرجوحة في زِيِّ عروسٍ في مدينة الألعاب، كما لو أنَّها طفلة مقطوعة اليدين، كيف سنتعانق؟ كيف ستعانقنا؟ لعلَّها أكثر لقطات الفيلم إثارة وقسوةً وهي تجيء في آخره للتحديق بما جرى لهذه الـ(سورية)، للتحديق في المناطق التي لا تزال تكتنفها العتمة؛ أَلَمْ تنتهِ لعبة النرد، لعبة الدومينو، لعبة البوكر؟