أفلام كارلوس ساورا: إرثٌ كبيرٌ بتاريخ السينما الإسبانية والعالمية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أفلام كارلوس ساورا: إرثٌ كبيرٌ بتاريخ السينما الإسبانية والعالمية

    أفلام كارلوس ساورا: إرثٌ كبيرٌ بتاريخ السينما الإسبانية والعالمية
    جورج كعدي 24 فبراير 2023
    سينما
    كارلوس ساورا (GettyImages, Spain, 20/3/2020)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    في العاشر من شباط/ فبراير الحالي رحل السينمائيّ الإسبانيّ ذو الشهرة العالمية كارلوس ساورا Carlos Saura (1932 - 2023) عن إحدى وتسعين سنة زاخرة بالإبداعات السينمائية والروائيّة والفوتوغرافية وبحصاد مهمّ جدًا من الجوائز السينمائية القيّمة التي توّجت أفلامه بها في أبرز المهرجانات العالمية، إذ نال، مثلًا، الجائزة الأولى في مهرجان برلين (الدبّ الذهبيّ) عن فيلمه "العيش سريعًا"، بعد فوزه في المهرجان العريق نفسه بجائزتي أفضل مخرج عام 1966 عن فيلم "الصيد" وعام 1968 عن فيلم "نعناع مبرّد"، فضلًا عن جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كانّ عام 1974 لفيلمه "النسيبة الملائكية"، والجائزة نفسها أيضًا في مهرجان كانّ عام 1976 عن تحفته المشهورة عالميًا "تربية الغربان" (Cria Cuervos)، إلى جائزتين إضافيتين في مهرجان سان سيباستيان الإسباني العالميّ. كما رشّح مرتين لجوائز سيزار الفرنسية لأفضل فيلم أجنبيّ، الأولى عام 1977 عن "تربية الغربان"، وعام 1984 عن فيلم "كارمن" الأوبراليّ الكوريغرافيّ الراقص الذي أتبعه بفيلمين مماثلين رائعين كوريغرافيًا وموسيقيًّا ومشهديًّا، "فلامنكو" (1995) و"تانغو" (1998) وسواهما، لاهتمامه بإرث بلاده الراقص والموسيقيّ الإسبانيوليّ الممتدّ من إسبانيا (الفلامنكو) إلى الأرجنتين (التانغو).

    ساورا متحدّر من عائلة فنانين، فأمّه كانت عازفة بيانو محترفة، وأخوه أنطونيو ساورا رسّام تعبيريّ وتجريديّ معروف. وطوّر كارلوس في طفولته حسّه الفني من خلال الفوتوغرافيا، وتركت الحرب الأهليّة الإسبانية أثرًا في نفسه، لذا استعاد في العديد من أفلامه ذكريات من طفولته في تلك الحقبة المأساوية من تاريخ إسبانيا التي انتشر فيها الموت والجوع وأصوات القصف المرعبة. ومع ذلك، تلقّى مع أخوته وأخواته تربيةً حرّة منفتحة جدًا على الثقافة والعالم. درس السينما في مدريد، وبعد تصويره فيلمًا قصيرًا عام 1958 أنجز فيلمه الروائيّ الطويل الأول "Los Golfos" (الزقاقيّون) عام 1960، معالجًا فيه قضيّة الشبّان الجانحين في أحياء مدريد البائسة. وكرّت سبحة فيلموغرافيته الطويلة والغنيّة لتبلغ واحدًا وخمسين فيلمًا آخرها عام 2022، أي قبل سنة من وفاته، وعنوانه "الجدران تتكلّم".

    كيف يمكن في عجالة مختصرة، لا يتسع المجال لأكثر منها، اختزال عالم كارلوس ساورا الغنيّ جدًا بالثيمات والقضايا والذكريات والأشكال التعبيريّة والمناخات المتنوّعة؟ فالإحاطة الكاملة بإرثه السينمائيّ تستلزم دراسة طويلة، ليس هنا مجالها، لذا أكتفي بمحورين أساسيين من المحاور العديدة المهمة في أفلامه، هما أهميّة المكان بالنسبة إليه (أعني هنا مدريد) وأهميّة الموسيقى والكوريغرافيا والتراث الإسبانيولي الموسيقى والراقص (الفلامنكو والتانغو تحديدًا وقد منحهما كعنوانين لأكثر من فيلمين من أفلامه)، فضلًا عن عرضٍ لمضمون تحفته المميزة "تربية الغربان".
    كارلوس ساورا (GettyImages, Spain, 1966) وبعض ملصقات أفلامه
    المدينة وتحوّلاتها

    بمدريد، نبدأ. فالعاصمة الإسبانية العريقة هي مثل باريس، روما، أو نيويورك، تحتلّ مكانةً على حدة في الأفلام الفرنسية، الإيطالية، أو الأميركية، فارضةً نفسها منذ بدايات السينما الإسبانية واحدةً من "الديكورات" المقدّرة لدى السينمائيين الإسبان، فالمدينة هذه منحتهم ألف وجه لمنظر مدينيّ متنوّع حيث التقليديّ والتراثيّ القديم متّصل بالحداثة، وبأحياء ضواحيها البعيدة عن قلب المدينة والتي لا طابع شخصيًّا لها، مرورًا بوسطها المعماريّ القديم والمراكز التجاريّة الحديثة. للعديد من السينمائيين، تمثّل مدريد ديكورًا فريدًا تظهر جوانبه من فيلم إلى فيلم، وهذا ما نراه لدى سينمائيّ إسبانيّ آخر ومشهور هو بدرو ألمودوفار، ومواطنه أليخاندرو أمينابار. في حين أنّ سينما كارلوس ساورا تنتمي إلى خطّ ثالث، فإذا كانت المدينة التي يقيم فيها هذا السينمائيّ القادم من منطقة أراغون هي أبعد من أن تكون الديكور الوحيد في أفلامه، فإنّها لا تلعب في الأثناء سوى دور ظرفيّ، وهذه تحديدًا حال ثلاثة من أفلامه، المنجزة في مراحل متفرّقة من حرفته: "Los Golfos" ̸ "الزقاقيّون" (1959) و" Deprisa, Deprisa " ̸ "أسرع، أسرع" (1980) و"Taxi" (1996)، يمكن اعتبارها ثلاثيّة مدريديّة حقيقيّة. يعي ساورا في أفلامه هذه واقع مدينة في طور التحوّل خلال الثلث الأخير من القرن العشرين. كلٌّ منها أُنجز على مسافة زمنية لعقدين من السنين تقريبًا، ومدريد في هذه الأفلام هي الخيط الرابط للتأمّل في هامشيّة المجتمع، وفي الواقع السوسيو – سياسيّ الذي يتبدّل: نهاية الخمسينيّات في "الزقاقيّون"، والتحوّل الديمقراطي في "أسرع، أسرع"، والتسعينيّات من القرن الفائت في "تاكسي". كأنّ ساورا يشرّح أحوال هذه المدينة في أطوارها المتعاقبة التي تميّزها عن باقي المساحات المدينيّة الأوروبية الغربيّة في الحقبة ذاتها، إذ شهدت مدريد فترة حكم فرانكو الديكتاتوريّ التي طبعت لزمن طويل مجمل النسيج الاجتماعيّ والاقتصاديّ، وبالتالي علاقة ذلك بحياة سكان مدريد. في هذه "الرسمات" الثلاث للمدينة يلجأ ساورا إلى الاختبارات الشكلانيّة التي وسمت أفلامه منذ البداية، إنْ لناحية الصورة أو لناحية الشريط الصوتيّ. يمكننا بالتالي اعتبار أفلام هذه الثلاثية المدريديّة مثل تنويعات موسيقيّة ثلاثة للحن واحد، في خدمة أبعاد سوسيولوجيّة، سرديّة وجماليّة. الكادرات، طول اللقطات، حركة الكاميرا وزاويتها، الإضاءة، اعتماد الأسود والأبيض أو الألوان، كلّها ملامح مشهديّة تخلق مساحات مختلفة تمامًا عن أماكن مرجعيّة مماثلة.
    كأنّ ساورا يشرّح أحوال مدينة مدريد في أطوارها المتعاقبة التي تميّزها عن باقي المساحات المدينيّة الأوروبية الغربيّة في الحقبة ذاتها
    كذلك بالنسبة إلى الشريط الصوتيّ: انطلاقًا من مكان، من مدينة صاخبة بالضجيج، يبرز الفرق بينها وبين مدينة يعمّها السكون. أمّا الموسيقى فإنّ دورها في بنية المكان أساسيّ إذ تسهم بقوّة في تشكيل تلك البنية وتوقظ الانفعالات التي يبغي المخرج إيقاظها. ومع ذلك، فإنّ مدريد خاصّته، على عكس مدريد ألمودوفار أو مدريد أمينابار، ليست المركز السينمائيّ المنتفخ الحضور في أفلام كارلوس ساورا، لكونها مجرّد مساحة مشهديّة ذات دور استيطيقيّ جماليّ وسرديّ أساسيّ لإظهار تحوّلات مدينة عبر الحقب الزمنية المختلفة، بين قلب المدينة وضواحيها. مدريد ترمز لديه إلى واقع كل إسبانيا التي يجدر إعادة اكتشاف تحوّلاتها، من الحكم الديكتاتوري إلى التحوّل نحو الديمقراطية. وعبر الهامشيّة والعنف رمى ساورا إلى إبراز تحوّلات المدينة، فالوطن بأكمله، مقحمًا أحيانًا مقاطع تسجيليّة (أو وثائقية) في أفلامه الروائية، ومستعينًا بممثلين غير محترفين وأحيانًا بشبّان منحرفين حقيقيين، سعيًا إلى واقعيّة شبيهة بالواقعية الجديدة الإيطالية مع روسليني ودي سيكا.

    الفيلم التحفة Cria Cuervos

    يصف ساورا تحفته السينمائية المعروفة "Cria Cuervos" (تربية الغربان) من بطولة جيرالدين شابلن (ابنة الكبير تشارلي شابلن، وإحدى زوجات ساورا الأربع بين عامي 1967 و1979) ومونيكا راندال وآنا تورّنت بأنّه عن مسار الدمار والموت. فذات صيف، كانت ثلاث أخوات يعشن في منزل قديم في مدريد، ومعهنّ والدهنّ العسكريّ، وعمّتهن التي تربّيهن في غياب أمّهن المتوفّاة، وجدّتهن المقعدة والبكماء. وفي هذا الجوّ العائليّ المغلق، آنا تختنق فتلوذ بأحلامها وذكرياتها. فهي لا تزال تحيا في ظلّ وفاة أمّها الباكرة وتبحث دومًا في أعماقها عن حضورها الذي ما فتئ حيويًّا في ذهنها والذي يجلب لها الراحة وإرادة التصدّي لهذا العالم المتداعي. هي فتاة صغيرة، تقف باستمرار عند النافذة ناظرةً إلى الخارج في حالة تأمّل. مأساة غياب الأم ما فتئت حيّة ولا تزال الفتاة الصغيرة تشعر بنَفَس أمّها على عنقها، وبحضورها المريح، وبحبّها. تدور حوادث الفيلم صيفًا، داخل هذا المكان المغلق حيث الزمن جامد في انتظار شيء ما، زلزال، ثورة. ثم يموت الأب في أحضان عشيقته ويحضر جنازته عسكريون ورجال دين كلٌّ منهم أكثر غمًّا وكآبة من الآخرين. وآنا، منذ البداية، لا تتعلّق بعالم الراشدين هذا ولا تتحمّل جوّه الخانق. لديها طقوسها الخاصة، عالمها الخاص، مواجهةً هذا النظام العائلي الذي لا تفقه معانيه. تمرّدها الأول كان يوم أبصرت والدها عشية وفاته مضاجعًا امرأة مجهولة. وبعد حشرجته المميتة هربت المرأة، وتتجه آنا إلى المطبخ بهدوء وترى تصرّفًا غريبًا: تنظّف كوبًا رفعته لتوّها من قرب سرير أبيها، تضعه إلى جانب الأكواب الأخرى مبدّلة أماكنها. ماذا يعني ذلك؟ لن نعرف أبدًا، مثلما لن نفهم البتّة الظهور المفاجئ لشبح أمّها (جيرالدين شابلن) في المطبخ. في بضع دقائق يُغرقنا ساورا في اللغز، في اللامتوقع. وسيكون لدينا الكثير من ذلك في الفيلم.

    "Cria Cuervos" فيلم سياسيّ بالعمق، متّصل بالحقبة الزمنية التي يعالجها (حقبة فرانكو). يصف عالمًا ينطفئ وهو يطلق صرخة ولادة جديدة. إنّه فيلم عن الفرانكويّة المنقضية. في تلك اللحظة التاريخية من تاريخ إسبانيا كان كلّ شيء مجمّدًا، والبلاد مشلولة بالقيم البورجوازية، وبثقل حضور العسكر ورجال الدين. بولينا، عمّة آنا، الباردة غالبًا والبعيدة عاطفيًا، تمثّل تلك البورجوازيّة المنسجمة مع السلطة العسكرية. تريد احترامًا لآداب التصرّف والنظام، فيما ترفض آنا المتمرّدة هذه السلطة الصادرة عن امرأة راشدة هي الثائرة ضدّ عالم الراشدين. يصف ساورا إسبانيا تلك المرحلة كمكان خانق للنساء. والدة آنا أرغمها زوجها قبل وفاتها على ترك مهنتها كعازفة بيانو. كلّ ما يمكن أن يهبه العالم من جمال، وفنّ، وأشياء ممكنة، دمّرته الفرانكويّة والبورجوازيّة والفاشيّة. غير أنّ قوة التدمير هذه تموت بدورها، وساورا يستمتع بأنّ يكون حفّار قبرها. فالفيلم، رغم كآبته وألمه الأصمّ، هو فيلم محمول بالأمل، بالنهوض من جديد. مقابل العالم المتماثل الذي يحلم به الطغاة، يضع ساورا عوالم أخرى. هناك عالم آنا الداخليّ (من أحلام وذكريات)، عالم الطفولة، عالم ذكريات جدّة صامتة، عالم مسكون بحضور الأم الميتة... وهذه العوالم كلّها، التي هي العالم، ستطفو مجددًا على السطح وستعثر على قوة الانبعاث، والكفاح ضدّ ما يبدو مجمّدًا. تستردّ الحياة قوّتها ضدّ الموت، فوالدة آنا تجتاز الحدود (بين الموت والحياة) وتأتي لمرافقة ابنتها. البلاد التي محوا تاريخها عادت تتذكر. نساء (ورجال) سُلبت منهم حرّيتهم يولدون من جديد، يأملون، يبتكرون، يلمحون حركة ستكسر الجمود. بلا ماضٍ، بلا مستقبل، لا تمرّدَ ممكنًا، لا حرية، لا حياة. الأشباح، التاريخ، القصص، المستقبل، الأحلام، كلّها تولد من جديد طالما أنّ عقارب الساعة عادت لتدور. ففي ذاك الصيف (زمن الفيلم) كانت الساعات تمرّ وتمتزج. الماضي، الذاكرة، لم يبقيا موجودين. الجدّة العجوز مقعدة وبكماء. بسماتها الوحيدة تتجه صوب آنا، أو حين تغوص في الصور المصفرّة من ماضيها. لم يبقَ لإسبانيا ماضٍ، ولا مستقبل. لا شيء سوى الحاضر الذي لا ينتهي.
    "Cria Cuervos" فيلم سياسيّ بالعمق، متّصل بالحقبة الزمنية التي يعالجها (حقبة فرانكو)، يصف عالمًا ينطفئ وهو يطلق صرخة ولادة جديدة. إنّه فيلم عن الفرانكويّة المنقضية...
    الماضي، الحاضر، المستقبل، في وجود متزامن، يُشعرنا كارلوس ساورا به عبر جعل جيرالدين شابلن تؤدي شخصية والدة آنا، ثم تؤدي شخصية آنا التي أصبحت كبيرة. إنّه يُشعرنا بما هو وعد اليقظة، الثورة التي تتشكّل، والتي تُبتكر على أيدي الأكثر هشاشة وتجرّدًا: الأطفال. يعثر الفيلم على عنوانه في مثلٍ شعبيّ إسبانيّ: "قم بتربية الغربان فتقتلع عينيك". في نهاية الفيلم تخرج الأخوات الثلاث بإباء الى الشارع، على صوت أغنية "Porque te vas"، شرسات، عازمات، جاهزات لمواجهة النظام. ندرك أنهنّ اللاتي سيدمّرن عالم الراشدين الذين حاصروهنّ. إنّهن الآن طفلات الحياة.
    مشهد من فيلم Cria Cuervos وملصقه
    فلامنكو وجماليات

    تمثّل الموسيقى لكارلوس ساورا ركيزة جمالية أساسيّة في أفلامه. "جميع أفلامي موسيقية" يقول. الموسيقى في أفلامه تتنافس مع الصورة. هي حاضرة بكثرة، ليس عبر الشريط الصوتيّ فحسب، إنّما كذلك لكون العديد من مشاهد الرقص تعبر أفلامه. هي ذات وظيفة سرديّة أيضًا مثل رافعة توجّه الحكاية، وتملي على الفيلم إيقاعه. كما أنّ الموسيقى مستخدمة لتحديد المكان وإعطائه ملامحه الماثلة أمامنا على الشاشة. وكلمات الأغاني تتلاءم مع الحكاية. الموسيقى لدى ساورا تُدخل مبدأ وجهة النظر، تشكّل شخوص الفيلم وتضمن كذلك الوظيفة التعبيرية. وهي في شكل اساسيّ تقليديّة أو شعبيّة.

    بعد المرحلة "المدريديّة" دخل مرحلة السينما الموسيقية والراقصة (الميوزيكال المختلف عن ذاك الهوليوودي، والخاص بالتراث الإسبانيوليّ من الفلامنكو إلى التانغو). أسهم في إدخال الفلامنكو إلى الحداثة، مقدّمًا عام 1983 "كارمن" للشاشة الكبيرة ويتضمّن باليه فلامنكو يؤدّيها تسعة عشر راقصًا وراقصة وأربعة مغنين وموسيقيّان، مستندًا دومًا إلى قصة بروسبير ميريميه وموسيقى جورج بيزيه إنّما مرسلًا في الوقت عينه تحيّة إلى فنّ الفلامنكو. لا يجهل ساورا أنّ ثمة جانبًا مصطنعًا في كلّ فنّ، لذا يشير إلى التناقض بين الخيال والواقع، طارحًا السؤال حول الفن الواقعي كبناء روائيّ متخيّل، من خلال تكوين بُعد ما بَعْد روائيّ لحكاية كارمن، فالتمييز بين الراقصين وأدوارهم يتلاشى تباعًا خلال الفيلم.

    كارلوس ساورا اختصاصيّ حقيقيّ في الصورة. حتى وإن عُرف أكثر بحرفته السينمائية، إلاّ أنّه كان فنانًا فوتوغرافيًّا كبيرًا قبل ذلك: جمع أكثر من ستمئة كاميرا فوتوغرافية، وتصف فوتوغرافياته تحديدًا إسبانيا الخمسينيّات. لكن في عام 1957، مع اكتشافه أفلام مواطنه الكبير والرائد والمعلّم لويس بونويل غلب لديه الميل إلى السينما مبتعدًا عن الفوتوغرافيا. لذا، حين تكون الصورة أداته المفضلة لإبراز جمالياته في السينما فلا عجب في الأمر.

    كرّت سبحة أفلام ساورا الموسيقية الراقصة مع "Sevillanas" أو "إشبيليّات" (1992) وفيه دهشة بصريّة لا تقاوم، ثم مع فيلم "Flamenco" (1995) الذي بدأ فيه لعبة المرايا التي تعكس "السمع الملوّن" لنوتات الغيتار. وأضيفَ على هذا الفيلم إبداع مدير التصوير الكبير والمعلّم فيتوريو ستورارو، أحد أعظم مديري التصوير في العالم (عشرات الأفلام التحف تشهد لعبقريته من "الامتثاليّ" لبرتولوتشي إلى "القيامة الآن" لكوبولا) وقد تعاون معه ساورا مرارًا. ساورا وستورارو يعليان معًا شأن الفلامنكو تكوينًا بصريًّا جماليًّا مدهشًا يظهر أيضًا في "فلامنكو، فلامنكو" (2010) عبر "البارافانات" الخلفيّة الملوّنة بألوان شتى بواسطة انعكاس الضوء وفيلتراته. لوحات سينمائية مشعّة، وسط ديكورات مبنيّة في الاستوديو. الرسالة واضحة: المشاهد مدعوّ إلى رحلة نحو أعماق الفلامنكو، كوريغرافيًّا وبصريًّا. والفلامنكو غير مستند هنا إلى قصة، بل إلى إيقاع حياة رجل سحابة دورةٍ شمسية، فنبدأ مع الضوء القويّ لما بعد الظهيرة، ونكمل على ضوء المغيب، وصولًا إلى ضوء الشروق الحيويّ، وتتبدّل الألوان وفق الزمن، إنّما كذلك وفق مراحل الحياة، من المراهقة إلى البلوغ، وصولًا إلى الموت الذي يُعبّر عنه باللون الأسود عقب توالي ألوان الأزرق والأخضر والأبيض والبنفسجيّ للمراحل السابقة. ولا أحد في تاريخ السينما قدّم الفلامنكو جوهرًا ورموزًا ومعاني مثلما فعل ساورا، بفهمه العميق لتاريخ هذه الرقصة الإسبانية (ذات الصلة بالحضارة العربية التي مرّت في الأندلس) وتقنياتها وأسرارها، داعمًا الجمالية العالية، التي يهواها، ببراعة ستورارو وابتكاراته وألوانه.

    تحتاج سينما كارلوس ساورا إلى بحث مستفيض ليس هنا مجاله، لكنّ هذه الإضاءة المختصرة على نواحٍ محدّدة من سينماه تهبنا فكرة ما عن موقعه الخاص والمميّز في تاريخ السينما العالمية.

    ٭ ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.
يعمل...
X