"العين الزرقاء الشاحبة": شاعر وشرطي يحققان بجريمة بمنهجين مختلفين
محمد بنعزيز 21 فبراير 2023
سينما
لقطة من فيلم "العين الزرقاء الشاحبة"
شارك هذا المقال
حجم الخط
استخدم المخرج الأميركي سكوت كوبر الجريمة مطلعًا وطُعمًا لصيد المتفرجين في قصيدته السينمائية "العين الزرقاء الشاحبة/ The Pale Blue Eye". ولكسب الوقت، قدم المخرج بسرعة كمية معلومات تشبع كل توقعات المتفرج، حتى أنه يتساءل: وماذا بعد؟ ماذا بقي ليحكيه لنا الفيلم؟
بعدها منح المخرج الكلمة لشاعر ومحقق يحتسيان الشراب ويتجادلان حول الشعر والحياة في نيويورك عام 1830. الكلمة للشاعر ليكشف عن هواجسه، ينشغل الشاعر بالعضو الأهم في الإنسان: القلب.
القلب عضو رمزي، والباقي مجرد عضلات.
بعد القلب، يرى الشاعرُ أن الموت هو الموضوع الأعمق للشعر... يشتكي الشاعر من أن الأحياء لا يقدرونه... بعد صمت تأتي الخلاصة: "ما تعلّمه الشاعر في الحانات أهم مما تعلمه في قاعات الدراسة"، ويُستشَف من الحوار أن الشعراء يُكنون عداء مضمرًا للأكاديميات.
منهجان، وسيلتان للوصول للحقيقة
يرصد الفيلمُ سباقًا بين بصيرة الشاعر وأدلة المحقق، يتعاون الاثنان لكشف الحقيقة وقد اجتمعت لديهما جدّية الموضوع وقوة التخيّلات في فيلم عن عالم الجريمة الذي يتكيف مع قوانين مجتمع الثورة الصناعية، هل دافِعُ الجريمةِ عقلاني أم عاطفي؟
يبحث المحقق عن الوقائع البسيطة، عن الحقائق فيحدثه الشاعر، واسمه إدغار ألان بو، عن القلب والأحلام وتفسيراتها. يتجلى هنا وضوح الشرطة وغموض الشعر... من هنا ينبع منهج كل واحد. لسبب ما يستخدم المحققُ الشاعرَ وسيلة للحصول على المعلومات، كما استخدم الشاب القرد للحصول على التفاح من الشجرة الموجودة في الضفة المقابلة للنهر العميق... لكن الشاعر في الفيلم أذكى من القرد في الحكاية، ولهذا تأثير على نهاية الفيلم. بدأ الفيلم بالبطل يغسل يديه جيدًا بماء بارد جدًا. كان تلك البداية هي مسمار تشيخوف في فن الحكي. كل تعليق إضافي من الناقد سيهدد بحرْق الحبكة.
بعد مَوْقَعة المتلقي في عالم الجريمة وليسْهل عليه أن يتابع انصرف المخرج لعرض سمات المرحلة التاريخية... شرع في تشعيب الحكاية نحو التشريح والتدين والشعر لتضليل المتفرج. لا يملك المحقق البوليسي الأميركي وقتًا لقراءة الشعر... وكان هذا انعكاس للانتقال من نسق معرفي إلى آخر.
لقد حصل تحول في موقع الشعر في منتصف القرن التاسع عشر، قرن الثورة الصناعية والعقلانية وانتصار البرجوازية التي اكتسحت العالم. في تلك المرحلة زادت قيمة العلم، وتراجعت قيمة الأدب، والشاعر ابن بيئته يعي التحول، ويتصرف بتواضع زائد. يقول المؤرخ الثقافي إريك هوبزباوم "إذا كان انتصار البورجوازية مواتيًا للعلوم، فإنه لم يكن كذلك بالنسبة للآداب"، ويستشهد المؤرخ بادعاء زعيم سياسي حينها: "أحيل الشعر على المعاش، وإن النثر أكثر صدقًا وانسجامًا مع غرائز الديمقراطية"؛ إريك هوبزباوم، "عصر الثورة (أوروبا 1789 ـ 1848)"، ترجمة فايز الصُياغ، المنظمة العربية للترجمة، 2007، (ص 491 ـ 492).
لا يعتقد الشاعر في الفيلم بهذا، وهو شاعر مشبع بالأيديولوجيا الرومانسية، ويحقق في جريمة من خلال بقايا جملة منقوصة كأنها قصيدة هايكو، يُحقق من خلال مشاعر غضب وردود أفعال... كان ذلك الشاعر الأميركي إدغار ألآن بو الذي يَظهر كمحقق ثانوي في فيلم عن جريمة غامضة. تم الانتقال من اقتباس قصص الكاتب إلى اقتباس حياته.
في الطرف المقابل، يتتبع المحقق منطق السرد البرجوازي المشبع بمعقولية واحتمالية الأحداث المنطقي... يتناسق أداء المحقق (أداء الممثل كريستيان بايل) ومزاجه مع الفضاء حوله كأنه نبت من تلك التربة الصقيعية. وقد كسر المحقق أصابع القتيل لاستخراج السر من كفه، كما حصل للجثة في كيس البطاطس في فيلم هيتشكوك "فرينزي"، 1972.
يحضر رعب أجواء قصص إدغار آلان بو (1809 ـ 1849)م في الفيلم، تعيش العانس غمًا لا يُحتمل مثل بطل قصة "سقوط منزل آشر". لتعزيز هذه الأجواء بصريًا تصوّر الحكاية بحبر ضوء باهت على فضاء ثلجي... صَوّر المخرج فضاءات خريفية وصقيعا وجوا كئيبا، صوّر الحياة كمجرى مائي محجور، مجرى ملتوٍ وضبابي. تم تصوير الخوف في زمن ما قبل اختراع الكهرباء... زمن حظر التجول الليلي...
يبدو الفيلم كأنه بالأبيض والأسود، تخترقه زرقة باهتة... زرقة شاحبة في لباس الجنود، ولون ضوء الليل، مما جعل الفيلم أحادي اللون تقريبًا... هذا سهّل على المخرج نحت صور شاعرية وغامضة ومشوقة. وبفضل كفاءة الأسلوب البصري لدى المخرج تصبح المشاهدة الثانية للفيلم أكثر متعة.
الجريمة الغامضة عنصر مشوش جدًا، وهي مصدر التشويق الأول في الأدب والسينما. مهمة الناقد هي أن يفكر في العمل الفني، في أسلوبه قبل مضمونه. في صلة الأسلوب بالنسق المعرفي الذي يحيل عليه الفيلم.
يجلس المحقق العقلاني طويلًا في مسرح الجريمة، يدقق ليجد جواب اللغز، صارت الجريمة علمًا وموضوعًا طبيًا يشرّح، بينما ينصرف الشاعر للتحديق في عيون البشر ومطاردة العناصر غير العقلانية في جهاز الأمن.
شاعر وشرطي يحققان في جريمة بمنهجين مختلفين. فلقد استخدم المُحققُ الذكيُّ الشاعرَ العاطفي لتمرير مخططه، استصغره واستغله للحصول على السر، لكن الشاعر كشفه في النهاية. وهذه خاتمة مشتقة من سياق تحولات القرن التاسع عشر. كان الشاعر حينها سبّاقًا لرؤية الزلزال الاجتماعي الذي أحدثته الآلات والمصانع حسب المؤرخ الكبير.
يقول هوبزباوم دفاعًا عن الشعر:
"لقد نُبذ الشعراء خارج الإطار المرجعي الذي وضعه علماء الاقتصاد والفيزياء، بيد أن بصيرتهم لم تكن أكثر عمقًا فحسب، بل أكثر صفاء ووضوحًا أحيانًا. إذ لم ترَ إلا قلة قليلة من الناس ما رآه وليام بليك في تسعينيات القرن الثامن عشر من زلزال اجتماعي أحدثته الآلات والمصانع قبيل ذلك" (عصر الثورة ص 483). يعترف هوبزباوم بأن ملاحظات الكتاب ذوي الخيال الواسع كانت مؤشرًا قويًا لفهم المرحلة، ويضيف "إن التقييم الرومانطيقي للعالم، على ضعفه، جدير بالاعتبار" (ص 484).
هذا ما يتحقق في الفيلم الذي يعيد الاعتبار لصفاء رؤية الشاعر في وجه شكوكية الشرطي. شاعر ينظر إلى الأفق فيرى المرغوب فيه والمتوقع في السلوك البشري، شاعر يرصد ممارسات قديمة قبل علمية، يغوص في عوالم ما قبل الأنوار والثورة الصناعية. مشكوك أن تكون آليات عمل القلوب قد تغيرت بسبب الثورة الصناعية (سبق للمخرج سكوت كوبر أن قدم فيلم "قلب مجنون/ CRAZY HEART" عام 2010). صحيح أنه حصلت قطيعة إبستمولوجية واقتصادية في القرن التاسع عشر، لكن لم تحصل قطيعة وجدانية... ما زالت القلوب تعمل بالطريقة الانفعالية نفسها، وتكتشف المؤشرات الحقيقية لسلوك البشر.
محمد بنعزيز 21 فبراير 2023
سينما
لقطة من فيلم "العين الزرقاء الشاحبة"
شارك هذا المقال
حجم الخط
استخدم المخرج الأميركي سكوت كوبر الجريمة مطلعًا وطُعمًا لصيد المتفرجين في قصيدته السينمائية "العين الزرقاء الشاحبة/ The Pale Blue Eye". ولكسب الوقت، قدم المخرج بسرعة كمية معلومات تشبع كل توقعات المتفرج، حتى أنه يتساءل: وماذا بعد؟ ماذا بقي ليحكيه لنا الفيلم؟
بعدها منح المخرج الكلمة لشاعر ومحقق يحتسيان الشراب ويتجادلان حول الشعر والحياة في نيويورك عام 1830. الكلمة للشاعر ليكشف عن هواجسه، ينشغل الشاعر بالعضو الأهم في الإنسان: القلب.
القلب عضو رمزي، والباقي مجرد عضلات.
بعد القلب، يرى الشاعرُ أن الموت هو الموضوع الأعمق للشعر... يشتكي الشاعر من أن الأحياء لا يقدرونه... بعد صمت تأتي الخلاصة: "ما تعلّمه الشاعر في الحانات أهم مما تعلمه في قاعات الدراسة"، ويُستشَف من الحوار أن الشعراء يُكنون عداء مضمرًا للأكاديميات.
منهجان، وسيلتان للوصول للحقيقة
يرصد الفيلمُ سباقًا بين بصيرة الشاعر وأدلة المحقق، يتعاون الاثنان لكشف الحقيقة وقد اجتمعت لديهما جدّية الموضوع وقوة التخيّلات في فيلم عن عالم الجريمة الذي يتكيف مع قوانين مجتمع الثورة الصناعية، هل دافِعُ الجريمةِ عقلاني أم عاطفي؟
يبحث المحقق عن الوقائع البسيطة، عن الحقائق فيحدثه الشاعر، واسمه إدغار ألان بو، عن القلب والأحلام وتفسيراتها. يتجلى هنا وضوح الشرطة وغموض الشعر... من هنا ينبع منهج كل واحد. لسبب ما يستخدم المحققُ الشاعرَ وسيلة للحصول على المعلومات، كما استخدم الشاب القرد للحصول على التفاح من الشجرة الموجودة في الضفة المقابلة للنهر العميق... لكن الشاعر في الفيلم أذكى من القرد في الحكاية، ولهذا تأثير على نهاية الفيلم. بدأ الفيلم بالبطل يغسل يديه جيدًا بماء بارد جدًا. كان تلك البداية هي مسمار تشيخوف في فن الحكي. كل تعليق إضافي من الناقد سيهدد بحرْق الحبكة.
بعد مَوْقَعة المتلقي في عالم الجريمة وليسْهل عليه أن يتابع انصرف المخرج لعرض سمات المرحلة التاريخية... شرع في تشعيب الحكاية نحو التشريح والتدين والشعر لتضليل المتفرج. لا يملك المحقق البوليسي الأميركي وقتًا لقراءة الشعر... وكان هذا انعكاس للانتقال من نسق معرفي إلى آخر.
لقد حصل تحول في موقع الشعر في منتصف القرن التاسع عشر، قرن الثورة الصناعية والعقلانية وانتصار البرجوازية التي اكتسحت العالم. في تلك المرحلة زادت قيمة العلم، وتراجعت قيمة الأدب، والشاعر ابن بيئته يعي التحول، ويتصرف بتواضع زائد. يقول المؤرخ الثقافي إريك هوبزباوم "إذا كان انتصار البورجوازية مواتيًا للعلوم، فإنه لم يكن كذلك بالنسبة للآداب"، ويستشهد المؤرخ بادعاء زعيم سياسي حينها: "أحيل الشعر على المعاش، وإن النثر أكثر صدقًا وانسجامًا مع غرائز الديمقراطية"؛ إريك هوبزباوم، "عصر الثورة (أوروبا 1789 ـ 1848)"، ترجمة فايز الصُياغ، المنظمة العربية للترجمة، 2007، (ص 491 ـ 492).
"يبحث المحقق عن الوقائع البسيطة، عن الحقائق فيحدثه الشاعر، واسمه إدغار ألان بو، عن القلب والأحلام وتفسيراتها" |
لا يعتقد الشاعر في الفيلم بهذا، وهو شاعر مشبع بالأيديولوجيا الرومانسية، ويحقق في جريمة من خلال بقايا جملة منقوصة كأنها قصيدة هايكو، يُحقق من خلال مشاعر غضب وردود أفعال... كان ذلك الشاعر الأميركي إدغار ألآن بو الذي يَظهر كمحقق ثانوي في فيلم عن جريمة غامضة. تم الانتقال من اقتباس قصص الكاتب إلى اقتباس حياته.
في الطرف المقابل، يتتبع المحقق منطق السرد البرجوازي المشبع بمعقولية واحتمالية الأحداث المنطقي... يتناسق أداء المحقق (أداء الممثل كريستيان بايل) ومزاجه مع الفضاء حوله كأنه نبت من تلك التربة الصقيعية. وقد كسر المحقق أصابع القتيل لاستخراج السر من كفه، كما حصل للجثة في كيس البطاطس في فيلم هيتشكوك "فرينزي"، 1972.
يحضر رعب أجواء قصص إدغار آلان بو (1809 ـ 1849)م في الفيلم، تعيش العانس غمًا لا يُحتمل مثل بطل قصة "سقوط منزل آشر". لتعزيز هذه الأجواء بصريًا تصوّر الحكاية بحبر ضوء باهت على فضاء ثلجي... صَوّر المخرج فضاءات خريفية وصقيعا وجوا كئيبا، صوّر الحياة كمجرى مائي محجور، مجرى ملتوٍ وضبابي. تم تصوير الخوف في زمن ما قبل اختراع الكهرباء... زمن حظر التجول الليلي...
يبدو الفيلم كأنه بالأبيض والأسود، تخترقه زرقة باهتة... زرقة شاحبة في لباس الجنود، ولون ضوء الليل، مما جعل الفيلم أحادي اللون تقريبًا... هذا سهّل على المخرج نحت صور شاعرية وغامضة ومشوقة. وبفضل كفاءة الأسلوب البصري لدى المخرج تصبح المشاهدة الثانية للفيلم أكثر متعة.
الجريمة الغامضة عنصر مشوش جدًا، وهي مصدر التشويق الأول في الأدب والسينما. مهمة الناقد هي أن يفكر في العمل الفني، في أسلوبه قبل مضمونه. في صلة الأسلوب بالنسق المعرفي الذي يحيل عليه الفيلم.
يجلس المحقق العقلاني طويلًا في مسرح الجريمة، يدقق ليجد جواب اللغز، صارت الجريمة علمًا وموضوعًا طبيًا يشرّح، بينما ينصرف الشاعر للتحديق في عيون البشر ومطاردة العناصر غير العقلانية في جهاز الأمن.
شاعر وشرطي يحققان في جريمة بمنهجين مختلفين. فلقد استخدم المُحققُ الذكيُّ الشاعرَ العاطفي لتمرير مخططه، استصغره واستغله للحصول على السر، لكن الشاعر كشفه في النهاية. وهذه خاتمة مشتقة من سياق تحولات القرن التاسع عشر. كان الشاعر حينها سبّاقًا لرؤية الزلزال الاجتماعي الذي أحدثته الآلات والمصانع حسب المؤرخ الكبير.
يقول هوبزباوم دفاعًا عن الشعر:
"لقد نُبذ الشعراء خارج الإطار المرجعي الذي وضعه علماء الاقتصاد والفيزياء، بيد أن بصيرتهم لم تكن أكثر عمقًا فحسب، بل أكثر صفاء ووضوحًا أحيانًا. إذ لم ترَ إلا قلة قليلة من الناس ما رآه وليام بليك في تسعينيات القرن الثامن عشر من زلزال اجتماعي أحدثته الآلات والمصانع قبيل ذلك" (عصر الثورة ص 483). يعترف هوبزباوم بأن ملاحظات الكتاب ذوي الخيال الواسع كانت مؤشرًا قويًا لفهم المرحلة، ويضيف "إن التقييم الرومانطيقي للعالم، على ضعفه، جدير بالاعتبار" (ص 484).
هذا ما يتحقق في الفيلم الذي يعيد الاعتبار لصفاء رؤية الشاعر في وجه شكوكية الشرطي. شاعر ينظر إلى الأفق فيرى المرغوب فيه والمتوقع في السلوك البشري، شاعر يرصد ممارسات قديمة قبل علمية، يغوص في عوالم ما قبل الأنوار والثورة الصناعية. مشكوك أن تكون آليات عمل القلوب قد تغيرت بسبب الثورة الصناعية (سبق للمخرج سكوت كوبر أن قدم فيلم "قلب مجنون/ CRAZY HEART" عام 2010). صحيح أنه حصلت قطيعة إبستمولوجية واقتصادية في القرن التاسع عشر، لكن لم تحصل قطيعة وجدانية... ما زالت القلوب تعمل بالطريقة الانفعالية نفسها، وتكتشف المؤشرات الحقيقية لسلوك البشر.