"الخلاط +": خطوة في حداثة سينمائية عربية
فارس الذهبي 19 فبراير 2023
سينما
ملصق فيلم "الخلاط +"
شارك هذا المقال
حجم الخط
تبدو الإنتاجات التي تقوم بها السينما السعودية في السنوات القليلة الماضية كافية لإحداث قفزات نوعية في المستوى الفني العام، في بلد استعاد قدرته على العطاء الفني بسرعة خلال السنوات العشر الأخيرة. وتبدو لمسات بعثات الطلاب في الخارج لدراسة السينما بمختلف اختصاصاتها، خصوصًا في الولايات المتحدة الأميركية، واضحة. إذْ نجد التأثير الفني العالي لسينما هوليوود بكثرة في الأعمال السعودية السينمائية، وعلى سبيل المثال لا الحصر في فيلم "الخلاط +"(2023)، من إخراج فهد العماري.
من خلال حركة الكاميرا السريعة والمتصلة، يعتمد المخرج أسلوب الأفلام القصيرة، والتي تُمكِّن المشاهد من قراءة فكرة ما أراد المخرج والكاتب إيصالها إلى المشاهد. بشكل شخصي، أجد نفسي منجذبًا لهذا النوع من الأفلام التي تعتمد على أربع، أو خمس، قصص، منفصلة في الشكل متصلة في المعنى، تتخذ من المكان، أو الموضوع، فكرة خفيّة لخلق خيطٍ رفيعٍ يصل بين جميع المسارات في الفيلم، تمامًا مثل أفلام سبق أن اعتمدت هذا النوع، كـ"كراش" (2004)، و"وايلد تايلز" (2014).
يأتي "الخلاط +" كمنعطف حداثي في السينما الخليجية والسعودية بشكل خاص، وربما، بشكل أو بآخر، في السينما المستقلة في الشرق الأوسط عمومًا. جاء "الخلاط +" بعد مخاض طويل في السرد البصري المعاصر تولّدت من تجربة "تلفاز 11"، وهي شركة رائدة في مجال الإنتاج الإعلامي الترفيهي في السعوديَّة، إذْ حقّقت نجاحاتٍ غير محدودة، وإقبالًا غير مسبوق من الشباب العربي. والآن، تقوم "نيتفلكس" بإنتاج "الخلاط +" بوحي من نجاح تجربة "تلفاز 11".
الفيلم يعتمد مقاربة عصرية تخاطب هموم جيل الألفية بشكل واضح ودون مواربة. مقاربة تركّز على الصراع بين الأجيال من حيث طرائق العيش وأنماط الحياة. اليمين المحافظ يتألف في الفيلم من طبقة الآباء والأمهات. الطبقة التي تتبنّى أسلوب حياة يختلف بشكل جذري عن طبقة الأبناء الذين يعيشون حياة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي. الفيلم يلقي الضوء على صراع القيم في عالم يتبدَّل كلّ يوم، إذْ يحاول من خلال عرض أربع قصص طويلة نسبيَّا أن يشرّح النسيج المجتمعي الخليجي.
الحكاية الأولى تمتد لساعتين تقريبًا. نجد أنفسنا في عرس تقليدي، حيث عائلة العروس في حالة من الفوضى والارتباك بسبب التنسيق والملابس والمواعيد. الشقيق الأكبر يبحث عن مساحة لتدخين سيجارة، والتي يبدو أنّها محرمة على الجميع لأسباب صحية. أثناء بحث الأخ الأكبر عن غرفة للتدخين، تظهر الشجارات البسيطة وأوامر الأب، وأخيرًا مواجهة الشقيق لعصابة تقوم بسرقة إطارات السيارات الموضوعة في الخارج.
يتصاعد التوتر بحرفية كبيرة، إذْ تتم ملاحقة سيارة العصابة حتّى الإمساك باللص، ومن ثم ننتقل إلى العرس في مفارقة عجيبة. العائلة التي تنقل العروس إلى الحفل، تضع السارق في المقعد الأمامي مربوطًا بين الأخ الأكبر والأب، إذْ يتم أخذه إلى العرس بشكل مؤقت قبل تسليمه للشرطة. اللص الذي يدخل العرس هو "الخلاط"، اللص المحتجز بشكل مؤقت في العرس. تتبعه عصابته في محاولة لإنقاذه. وهذه المفارقات هي التي تصنع للفيلم طزاجته وطرافته، وتجعل إيقاعه مشدودًا بلا انقطاع.
الفيلم الثاني متداخلٌ مع الأوّل، إذْ يبدأ بعد حادث سيارة تمرّ بجوار سيارة الشرطة التي تنقل لصّ الفيلم الأوّل. في الحادث، نتعرّف على زوجة المتوفى في الحادث وصديقه. طوال الفيلم الثاني، نجد الصديق يتستّر على صديقه الراحل، والذي يبدو أنّه كان على علاقة غير معلنة مع سيّدة أخرى. والأخيرة تحاول في دورها الاتّصال بعشيقها الذي توفّي في الحادث للتو. ومن خلال هذا السرد، تظهر مجموعة من المفارقات بين الزوجة والصديق في كشف ما يحدث. مفارقات مضحكة ومؤلمة في الوقت نفسه، إذْ تحصل كثير من المواقف الكوميدية في أروقة دار الموتى، المكان الذي يتم فيه غسلُ المتوفين، حيث أعلى درجات الخشوع والخوف مطلوبة.
في دار المتوفى، تتوضّح سخرية الموت. مع مَنْ يجب أن نتعاطف؟ مع الصديق الذي يتستّر على صديقه، ضحيّة الحادث، أم مع الزوجة المخدوعة؟ إذْ أنَّ الصديق وفيّ بالنسبة لمعشر الرجال، ومخادع وكذّاب لمعشر النساء. الفيلم الثاني يوضّح بدقة كيف يمكن أن تختلط قيم الوفاء والخداع.
القصة الثالثة تحمل بعدًا إنسانيًا عميقًا، إذْ نجد أنفسنا في فكرة غير اعتياديّة في الخليج عمومًا. ثمّة مطعم فاخر في مدينة خليجية، وجميع العاملين في المطعم سعوديون! "سارة"، نادلة في المطعم، تحاول حجز طاولة في هذا المطعم من أجل إجراء صلحٍ بين والدها ووالدتها. ولكن هذه الطاولة، لسوء الحظ، محجوزة لوالدي صاحب المطعم نفسه. ويظهر الصراع بين النادلة "سارة" التي لا تملك كثيرًا من المال لإنجاح مشروعها، وبين مدير المطعم الصارم الذي يريد أن تسير الأمور في مؤسسته بحرفة وإتقان. القصة ناجحة فعلًا، ويختلط فيها صراع الأجيال بين الآباء والأبناء، من ناحية أنواع الطعام، وطرق الملبس، والتعامل مع الحشمة. القصة أيضًا تظهر صراعًا طبقيًا بين الفقر والثراء، وكيف يتمّ سحق المشاعر الإنسانية من أجل النجاح الوظيفي.
الفيلم الرابع يدور حول عائلة سعودية تقليديّة فازت بإجازة لمدة أسبوع في فندق في دبي، لتحصل كثير من المواقف المضحكة. الأب يطارد ابنه في الملهى الليلي ليدخل في متاهات مجهولة تمامًا بالنسبة لشخص محافظ. يمسك الأب بابنه لعقابه على ما يفعل، ليصبح الأب نفسه ضحيةً لسوء التفاهم، وليتعرف عليه رفاقه القدامى، إذْ سيقدمون له كثيرًا من زجاجات الشمبانيا وسط الرقص الصاخب وحضور الفتيات. تنتهي القصة بإمساك الأم بالأب وابنه!
في "الخلاط +" حكايات مختلفة مصنّعة في قالب واحد، قالب يمزج المتناقضات ويضاعف الاحتمالات الساخرة.
"الخلاط +" يشكل تجربة سرد سينمائية عربية جريئة، ويستحق المشاهدة بلا شك.
فارس الذهبي 19 فبراير 2023
سينما
ملصق فيلم "الخلاط +"
شارك هذا المقال
حجم الخط
تبدو الإنتاجات التي تقوم بها السينما السعودية في السنوات القليلة الماضية كافية لإحداث قفزات نوعية في المستوى الفني العام، في بلد استعاد قدرته على العطاء الفني بسرعة خلال السنوات العشر الأخيرة. وتبدو لمسات بعثات الطلاب في الخارج لدراسة السينما بمختلف اختصاصاتها، خصوصًا في الولايات المتحدة الأميركية، واضحة. إذْ نجد التأثير الفني العالي لسينما هوليوود بكثرة في الأعمال السعودية السينمائية، وعلى سبيل المثال لا الحصر في فيلم "الخلاط +"(2023)، من إخراج فهد العماري.
من خلال حركة الكاميرا السريعة والمتصلة، يعتمد المخرج أسلوب الأفلام القصيرة، والتي تُمكِّن المشاهد من قراءة فكرة ما أراد المخرج والكاتب إيصالها إلى المشاهد. بشكل شخصي، أجد نفسي منجذبًا لهذا النوع من الأفلام التي تعتمد على أربع، أو خمس، قصص، منفصلة في الشكل متصلة في المعنى، تتخذ من المكان، أو الموضوع، فكرة خفيّة لخلق خيطٍ رفيعٍ يصل بين جميع المسارات في الفيلم، تمامًا مثل أفلام سبق أن اعتمدت هذا النوع، كـ"كراش" (2004)، و"وايلد تايلز" (2014).
يأتي "الخلاط +" كمنعطف حداثي في السينما الخليجية والسعودية بشكل خاص، وربما، بشكل أو بآخر، في السينما المستقلة في الشرق الأوسط عمومًا. جاء "الخلاط +" بعد مخاض طويل في السرد البصري المعاصر تولّدت من تجربة "تلفاز 11"، وهي شركة رائدة في مجال الإنتاج الإعلامي الترفيهي في السعوديَّة، إذْ حقّقت نجاحاتٍ غير محدودة، وإقبالًا غير مسبوق من الشباب العربي. والآن، تقوم "نيتفلكس" بإنتاج "الخلاط +" بوحي من نجاح تجربة "تلفاز 11".
الفيلم يعتمد مقاربة عصرية تخاطب هموم جيل الألفية بشكل واضح ودون مواربة. مقاربة تركّز على الصراع بين الأجيال من حيث طرائق العيش وأنماط الحياة. اليمين المحافظ يتألف في الفيلم من طبقة الآباء والأمهات. الطبقة التي تتبنّى أسلوب حياة يختلف بشكل جذري عن طبقة الأبناء الذين يعيشون حياة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي. الفيلم يلقي الضوء على صراع القيم في عالم يتبدَّل كلّ يوم، إذْ يحاول من خلال عرض أربع قصص طويلة نسبيَّا أن يشرّح النسيج المجتمعي الخليجي.
الحكاية الأولى تمتد لساعتين تقريبًا. نجد أنفسنا في عرس تقليدي، حيث عائلة العروس في حالة من الفوضى والارتباك بسبب التنسيق والملابس والمواعيد. الشقيق الأكبر يبحث عن مساحة لتدخين سيجارة، والتي يبدو أنّها محرمة على الجميع لأسباب صحية. أثناء بحث الأخ الأكبر عن غرفة للتدخين، تظهر الشجارات البسيطة وأوامر الأب، وأخيرًا مواجهة الشقيق لعصابة تقوم بسرقة إطارات السيارات الموضوعة في الخارج.
"في "الخلاط +" حكايات مختلفة مصنّعة في قالب واحد، قالب يمزج المتناقضات ويضاعف الاحتمالات الساخرة. "الخلاط +" يشكل تجربة سرد سينمائية عربية جريئة، ويستحق المشاهدة" |
يتصاعد التوتر بحرفية كبيرة، إذْ تتم ملاحقة سيارة العصابة حتّى الإمساك باللص، ومن ثم ننتقل إلى العرس في مفارقة عجيبة. العائلة التي تنقل العروس إلى الحفل، تضع السارق في المقعد الأمامي مربوطًا بين الأخ الأكبر والأب، إذْ يتم أخذه إلى العرس بشكل مؤقت قبل تسليمه للشرطة. اللص الذي يدخل العرس هو "الخلاط"، اللص المحتجز بشكل مؤقت في العرس. تتبعه عصابته في محاولة لإنقاذه. وهذه المفارقات هي التي تصنع للفيلم طزاجته وطرافته، وتجعل إيقاعه مشدودًا بلا انقطاع.
الفيلم الثاني متداخلٌ مع الأوّل، إذْ يبدأ بعد حادث سيارة تمرّ بجوار سيارة الشرطة التي تنقل لصّ الفيلم الأوّل. في الحادث، نتعرّف على زوجة المتوفى في الحادث وصديقه. طوال الفيلم الثاني، نجد الصديق يتستّر على صديقه الراحل، والذي يبدو أنّه كان على علاقة غير معلنة مع سيّدة أخرى. والأخيرة تحاول في دورها الاتّصال بعشيقها الذي توفّي في الحادث للتو. ومن خلال هذا السرد، تظهر مجموعة من المفارقات بين الزوجة والصديق في كشف ما يحدث. مفارقات مضحكة ومؤلمة في الوقت نفسه، إذْ تحصل كثير من المواقف الكوميدية في أروقة دار الموتى، المكان الذي يتم فيه غسلُ المتوفين، حيث أعلى درجات الخشوع والخوف مطلوبة.
في دار المتوفى، تتوضّح سخرية الموت. مع مَنْ يجب أن نتعاطف؟ مع الصديق الذي يتستّر على صديقه، ضحيّة الحادث، أم مع الزوجة المخدوعة؟ إذْ أنَّ الصديق وفيّ بالنسبة لمعشر الرجال، ومخادع وكذّاب لمعشر النساء. الفيلم الثاني يوضّح بدقة كيف يمكن أن تختلط قيم الوفاء والخداع.
القصة الثالثة تحمل بعدًا إنسانيًا عميقًا، إذْ نجد أنفسنا في فكرة غير اعتياديّة في الخليج عمومًا. ثمّة مطعم فاخر في مدينة خليجية، وجميع العاملين في المطعم سعوديون! "سارة"، نادلة في المطعم، تحاول حجز طاولة في هذا المطعم من أجل إجراء صلحٍ بين والدها ووالدتها. ولكن هذه الطاولة، لسوء الحظ، محجوزة لوالدي صاحب المطعم نفسه. ويظهر الصراع بين النادلة "سارة" التي لا تملك كثيرًا من المال لإنجاح مشروعها، وبين مدير المطعم الصارم الذي يريد أن تسير الأمور في مؤسسته بحرفة وإتقان. القصة ناجحة فعلًا، ويختلط فيها صراع الأجيال بين الآباء والأبناء، من ناحية أنواع الطعام، وطرق الملبس، والتعامل مع الحشمة. القصة أيضًا تظهر صراعًا طبقيًا بين الفقر والثراء، وكيف يتمّ سحق المشاعر الإنسانية من أجل النجاح الوظيفي.
الفيلم الرابع يدور حول عائلة سعودية تقليديّة فازت بإجازة لمدة أسبوع في فندق في دبي، لتحصل كثير من المواقف المضحكة. الأب يطارد ابنه في الملهى الليلي ليدخل في متاهات مجهولة تمامًا بالنسبة لشخص محافظ. يمسك الأب بابنه لعقابه على ما يفعل، ليصبح الأب نفسه ضحيةً لسوء التفاهم، وليتعرف عليه رفاقه القدامى، إذْ سيقدمون له كثيرًا من زجاجات الشمبانيا وسط الرقص الصاخب وحضور الفتيات. تنتهي القصة بإمساك الأم بالأب وابنه!
في "الخلاط +" حكايات مختلفة مصنّعة في قالب واحد، قالب يمزج المتناقضات ويضاعف الاحتمالات الساخرة.
"الخلاط +" يشكل تجربة سرد سينمائية عربية جريئة، ويستحق المشاهدة بلا شك.