"تل أبيب بيروت": تبعات الحروب على مصائر وأفراد
ندى الأزهري 18 فبراير 2023
سينما
لقطة من فيلم "تل أبيب ـ بيروت"
شارك هذا المقال
حجم الخط
هناك، حيث حرب تقلّب أحوالًا وتوحّد أفرادًا، تتقاطع مصائر عائلة تانيا اللبنانية مع عائلة إسرائيلية. حياتُها كلُّها كانت في ظلّ الحروب. الولادة والدراسة، الحبّ والانفصال، الآلام والفقدان. حرمتْها من أمّها صغيرة، وكانت سببًا في طردها من أرضها، وأشعرتها بالإنكسار، حيث تنقّلتْ تلاحقها الإهانات والنظرات، فاتهامات الخيانة لا توفّر الصغار حتى حين يرتكبها الكبار.
المخرجة الإسرائيلية الفرنسية من أصول مغربية، ميشال بو غانم، تنشغل في فيلمها "تل أبيب ـ بيروت" (2022) بتبعات الحروب على المصائر والأفراد. تهتمّ بقضايا اللجوء والمنفى والانخلاع عن الجذور أكثر مما تلقي بالًا إلى المعارك والصراعات العسكرية على الأرض. هي ذاتها شهدتْ حروبًا عدة في إسرائيل، صدمتها على الأخصّ "همجيّة" حرب 2006 وقد شهدتْها في الطرف اللبناني. دفعتها لتساؤلات عن هذه السنوات الثماني عشر التي انقضت في حروب لا تنتهي بين طرفين. معها، اكتشفتْ بو غانم قضية المتعاملين مع "العدو" وقصصهم، هؤلاء الذين استخدمهم الجيش الإسرائيلي لمصلحته، ثم خدعهم بالانسحاب، من دون إعلامهم، وتخلّى عنهم قبل أن يسمح لهم، مكرهًا، باللجوء إلى إسرائيل.
تقترب بو غانم في سردها السينمائي من حرب في جنوب لبنان قاربت العقدين، وتبني فيلمها على ثلاث مراحل تاريخية تغطي الفترة، تبدأ بالحرب وتنتهي بها. كأنها حلقة جهنمية تنفتح مع الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، واحتلال الجنوب 1984، فالانسحاب عام 2000، وانتهاءً بالحرب الأخيرة في 2006. لكن الفيلم لا يبدي المعارك، ويتجنب مخاطر تصوير عمليات عسكرية ضخمة لا يهتم لها في الأصل، إلا بقدرٍ ضروريّ للبناء الفيلمي. هكذا يكتفي بمشاهد لبضع مناوشات وتفجيرات ومعارك صغيرة يفرضها تواجد الاحتلال. من جهةٍ، تخلق تلك المشاهد توترًا يُعرّف بأجواء المنطقة، وتتبيّن من خلالها مواقف الفرقاء الثلاثة المتواجهين فيها: المحتلّ والمقاوم والمتعاون. ومن أخرى، تبرر علاقة صداقة ناشئة، تقوّي منها وحدة مصير، بين الضابط الإسرائيلي يوسي، ومساعده اللبناني المتعاون من "جيش لبنان الحرّ" فؤاد (الممثل المغربي يونس بواب). علاقة وديّة على رغم عدم تكافؤها بين رئيس يأمر ويدفع أجورًا، ومرؤوس يتلقّى رواتب ومساعدات وأسلحة. بين رئيس هو هنا ليخدم جيشًا يراه "مقدّسًا" و"فوق كل شيء"، ومرؤوس مستعد ليقدّم مع عائلته كل واجبات الطاعة والضيافة للمحتل. لكن التساؤلات المشككة لدى الطرفين تطفو على السطح من وقت لآخر. زوجة فؤاد تلحّ بسؤال: وماذا لو تخلّوا عنا؟ والضابط، في لحظات صفاء وإعادة نظر بعد معارك عنيفة مع المقاومة، يراجع نفسه: "ولكن، ماذا أفعل هنا؟".
كانت معاناة المرأة، من الطرفين، ورؤيتها ومواجهتها للحرب، أحد أهمّ ما تعمّق فيه الفيلم. فهو ليس فقط عن خيانة إسرائيل للمتعاونين اللبنانيين، بل كذلك فيلمٌ عن الحرب من وجهة نظر نسائية. زوجة فؤاد وابنته تانيا من جهة، وزوجة يوسي من أخرى. الرجل يقاتل يَقتلُ ويُقتل، يُهزم وينتصر، يدمن الحرب كمخدر لا خلاص له منه (الضابط الزوج يوسي..)، أو يلبّي نداءها كواجب وطني "نبيل" (ابن يوسي). فيما تعيش المرأة صراعات فرضت عليها، تتحمل نتائجها، من وحدة، وهلع من فقد عزيز فيها. وسواء كانت زوجة، أو أمًا، أو ابنة، فالمرأة خاسرة دومًا. تانيا (الممثلة اللبنانية الفرنسية زلفا سورات) ممزقةٌ بين وطنها الأمّ وبين أبيها، ترافقه هاربًا من الجنوب اللبناني مع أمثاله من المتعاملين مع العدو بعد الانسحاب الاسرائيلي. تانيا، التي كبرت مع الحرب شخصيّة مركزيّة في الفيلم، مشتتة بين حبها لشاب مسلم، وبين وقوفها مع أبيها في محنته الأخيرة، تقف معه ذليلة أمام الشريط الحدودي في انتظار أن تفتح لهم إسرائيل الأبواب. الحدود حاضرة في مشاهد عدة في الفيلم، تكتسب أبعادًا جديدة، كأنها حدود غير مشتركة، مجرد بوابة إسرائيلية تُفتح وتُغلق فقط أمام الموت، تبادل الأموات، أو نقل أسلحته.
لا يتوانى الفيلم عن انتقاد إسرائيل ممثلة بالضابط يوسي، وتخاذلها عن مدّ العون تجاه من ساعدها، أذلّتهم ورمتهم في الشمال ونسيتهم. في معالجة يسودها بعدٌ إنسانيّ في رصد أثر الأحداث على الشخصيات، تستعين المخرجة بمؤثرات صوتية. يحضر المذياع كخلفيّة لرواية خطوط عريضة لما يحدث عبر نشرات إخبارية كافية (فقط لدى من يعرف المنطقة وصراعاتها)، أمّا الموسيقى فهي هنا لخلق أجواء عاطفية رقيقة توازن قسوة المواقف، وليس أفضل من نجاة الصغيرة، التي تلقى هوى في قلوب المخرجين، ومنهم إيليا سليمان في أفلامه، بصوتها الساحر، وأنغامها العذبة، وبما يثيرانه من أجواء محمّلة بالحنين والشجن، لا سيما مع أغنية "أنا بعشق البحر"، التي كانت تتردد مع معاناة تانيا وافتقادها لوطنها وهي مرميّة مهملة مع أبيها في "الشمال الإسرائيلي".
التقطت المخرجة جيدًا أسلوب اللبناني في تعامله مع الحرب، وتجلّى هذا في شخصيات ثانوية أضافت حيوية ومرحًا لفيلم مأساوي. حبيب تانيا الشاب اللبناني، على سبيل المثال، الذي وإن كره الإسرائيليين، فهذا لا يمنعه من التعامل الخفيّ معهم عبر المتاجرة بالحشيش، وأيضًا مع عجوز لبناني، ولا مبالاته وهو يتناول عشاءه فيما كل شيء ينهار حوله من وقع القنابل والانفجارات، ساخرًا من خوف وتوتر الجندي الإسرائيلي الشاب لعدم معرفته بالحروب.
قضايا المنفيين والمخلوعين من جذورهم، سواء كانوا يهودًا من المغرب، أم عملاء من جنوب لبنان، تأخذ حيزًا في أعمال المخرجة (مقالة "مزراحيم"، في ضفة ثالثة، 2 أغسطس/ آب)، وهي لا تتورع عن انتقاد إسرائيل بصدق وإخلاص، وتقول إنها أرادت، في "تل أبيب ـ بيروت" رواية القصة من جهتي الحدود، وليس من جهة وحدة "كي نرى في النهاية عبثية هذه الحدود التي تعد مستحيلة العبور".
عبثية الحدود؟ نعم، لاسيما بالنسبة لمحتلٍ.
قد لا يكون كشف الاحتلال وتعامله، بل وانتقاده، شيئًا جديدًا، إنّما الميزة هنا هي تمحيص السلوك البشري للمحتل، وميزة أخرى في كون هذا التمحيص المنتقد، اللاذع أحيانًا، آت من داخله (المحتل)، ما يثير مشاعر إعجاب المرء، وربما تضامنه مع المنفيين (وإن كانوا هنا عملاء)، وربما كذلك تعاطفه مع العدو، ومع الخائن. هذا يدعو إلى التفكير إن كان هؤلاء الإسرائيليون مهما كان مدى صدقهم وشجاعتهم المنتقِدون لأوضاع اجتماعية وسياسية في بلدهم، لا يخاطرون بأن يكونوا، على الرغم منهم، أدوات الدعاية الإسرائيلية؟ إنهم يعطون الانطباع بأن العديد من الإسرائيليين مستاؤون من الظلم الذي ترتكبه حكومتهم بحق أنفسهم وحق الآخرين، إنهم يتوهمون بأن الإحساس بالعدالة والحقيقة أمرٌ شائع في إسرائيل، على الأقل بين المثقفين. بل إن هؤلاء المثقفين الناقدين قد يثيرون مقارنات لدى الآخرين، من المؤكد أنها لا تخدم مصلحة بعض المثقفين العرب، أو الأنظمة... وباختصار، يحافظ وجود هؤلاء المنتقدين في رأيي على أسطورة الشعب الإسرائيلي العادل والصادق، الذي سيُبتلى، من يدري في أيّ فرصة، بحكومة من الأشرار. لكن الواقع مختلف تمامًا، فالغالبية العظمى من الإسرائيليين وأصدقائهم خارج إسرائيل يوافقون على كلّ جرائم إسرائيل، ويبررونها ويرفضون تمامًا فتح أعينهم على حقيقتها. والمثقفون بمواقفهم هذه، وعدم التعمق حقًا في انتقاد أسس الدولة نفسها، فإنهم بمواقفهم "الصادقة والشجاعة" يجعلون الحق منسيًا... في اختصار، أيضًا، فإن الدعاية الإسرائيلية فعّالة للغاية، لدرجة أنه حتى انتقادات الإسرائيليين الشرفاء لا بدّ إلا وأن تزيّن صورة الدولة!
ندى الأزهري 18 فبراير 2023
سينما
لقطة من فيلم "تل أبيب ـ بيروت"
شارك هذا المقال
حجم الخط
هناك، حيث حرب تقلّب أحوالًا وتوحّد أفرادًا، تتقاطع مصائر عائلة تانيا اللبنانية مع عائلة إسرائيلية. حياتُها كلُّها كانت في ظلّ الحروب. الولادة والدراسة، الحبّ والانفصال، الآلام والفقدان. حرمتْها من أمّها صغيرة، وكانت سببًا في طردها من أرضها، وأشعرتها بالإنكسار، حيث تنقّلتْ تلاحقها الإهانات والنظرات، فاتهامات الخيانة لا توفّر الصغار حتى حين يرتكبها الكبار.
المخرجة الإسرائيلية الفرنسية من أصول مغربية، ميشال بو غانم، تنشغل في فيلمها "تل أبيب ـ بيروت" (2022) بتبعات الحروب على المصائر والأفراد. تهتمّ بقضايا اللجوء والمنفى والانخلاع عن الجذور أكثر مما تلقي بالًا إلى المعارك والصراعات العسكرية على الأرض. هي ذاتها شهدتْ حروبًا عدة في إسرائيل، صدمتها على الأخصّ "همجيّة" حرب 2006 وقد شهدتْها في الطرف اللبناني. دفعتها لتساؤلات عن هذه السنوات الثماني عشر التي انقضت في حروب لا تنتهي بين طرفين. معها، اكتشفتْ بو غانم قضية المتعاملين مع "العدو" وقصصهم، هؤلاء الذين استخدمهم الجيش الإسرائيلي لمصلحته، ثم خدعهم بالانسحاب، من دون إعلامهم، وتخلّى عنهم قبل أن يسمح لهم، مكرهًا، باللجوء إلى إسرائيل.
تقترب بو غانم في سردها السينمائي من حرب في جنوب لبنان قاربت العقدين، وتبني فيلمها على ثلاث مراحل تاريخية تغطي الفترة، تبدأ بالحرب وتنتهي بها. كأنها حلقة جهنمية تنفتح مع الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، واحتلال الجنوب 1984، فالانسحاب عام 2000، وانتهاءً بالحرب الأخيرة في 2006. لكن الفيلم لا يبدي المعارك، ويتجنب مخاطر تصوير عمليات عسكرية ضخمة لا يهتم لها في الأصل، إلا بقدرٍ ضروريّ للبناء الفيلمي. هكذا يكتفي بمشاهد لبضع مناوشات وتفجيرات ومعارك صغيرة يفرضها تواجد الاحتلال. من جهةٍ، تخلق تلك المشاهد توترًا يُعرّف بأجواء المنطقة، وتتبيّن من خلالها مواقف الفرقاء الثلاثة المتواجهين فيها: المحتلّ والمقاوم والمتعاون. ومن أخرى، تبرر علاقة صداقة ناشئة، تقوّي منها وحدة مصير، بين الضابط الإسرائيلي يوسي، ومساعده اللبناني المتعاون من "جيش لبنان الحرّ" فؤاد (الممثل المغربي يونس بواب). علاقة وديّة على رغم عدم تكافؤها بين رئيس يأمر ويدفع أجورًا، ومرؤوس يتلقّى رواتب ومساعدات وأسلحة. بين رئيس هو هنا ليخدم جيشًا يراه "مقدّسًا" و"فوق كل شيء"، ومرؤوس مستعد ليقدّم مع عائلته كل واجبات الطاعة والضيافة للمحتل. لكن التساؤلات المشككة لدى الطرفين تطفو على السطح من وقت لآخر. زوجة فؤاد تلحّ بسؤال: وماذا لو تخلّوا عنا؟ والضابط، في لحظات صفاء وإعادة نظر بعد معارك عنيفة مع المقاومة، يراجع نفسه: "ولكن، ماذا أفعل هنا؟".
كانت معاناة المرأة، من الطرفين، ورؤيتها ومواجهتها للحرب، أحد أهمّ ما تعمّق فيه الفيلم. فهو ليس فقط عن خيانة إسرائيل للمتعاونين اللبنانيين، بل كذلك فيلمٌ عن الحرب من وجهة نظر نسائية. زوجة فؤاد وابنته تانيا من جهة، وزوجة يوسي من أخرى. الرجل يقاتل يَقتلُ ويُقتل، يُهزم وينتصر، يدمن الحرب كمخدر لا خلاص له منه (الضابط الزوج يوسي..)، أو يلبّي نداءها كواجب وطني "نبيل" (ابن يوسي). فيما تعيش المرأة صراعات فرضت عليها، تتحمل نتائجها، من وحدة، وهلع من فقد عزيز فيها. وسواء كانت زوجة، أو أمًا، أو ابنة، فالمرأة خاسرة دومًا. تانيا (الممثلة اللبنانية الفرنسية زلفا سورات) ممزقةٌ بين وطنها الأمّ وبين أبيها، ترافقه هاربًا من الجنوب اللبناني مع أمثاله من المتعاملين مع العدو بعد الانسحاب الاسرائيلي. تانيا، التي كبرت مع الحرب شخصيّة مركزيّة في الفيلم، مشتتة بين حبها لشاب مسلم، وبين وقوفها مع أبيها في محنته الأخيرة، تقف معه ذليلة أمام الشريط الحدودي في انتظار أن تفتح لهم إسرائيل الأبواب. الحدود حاضرة في مشاهد عدة في الفيلم، تكتسب أبعادًا جديدة، كأنها حدود غير مشتركة، مجرد بوابة إسرائيلية تُفتح وتُغلق فقط أمام الموت، تبادل الأموات، أو نقل أسلحته.
"الفيلم ليس فقط عن خيانة إسرائيل للمتعاونين اللبنانيين، بل كذلك عن الحرب من وجهة نظر نسائية" |
لا يتوانى الفيلم عن انتقاد إسرائيل ممثلة بالضابط يوسي، وتخاذلها عن مدّ العون تجاه من ساعدها، أذلّتهم ورمتهم في الشمال ونسيتهم. في معالجة يسودها بعدٌ إنسانيّ في رصد أثر الأحداث على الشخصيات، تستعين المخرجة بمؤثرات صوتية. يحضر المذياع كخلفيّة لرواية خطوط عريضة لما يحدث عبر نشرات إخبارية كافية (فقط لدى من يعرف المنطقة وصراعاتها)، أمّا الموسيقى فهي هنا لخلق أجواء عاطفية رقيقة توازن قسوة المواقف، وليس أفضل من نجاة الصغيرة، التي تلقى هوى في قلوب المخرجين، ومنهم إيليا سليمان في أفلامه، بصوتها الساحر، وأنغامها العذبة، وبما يثيرانه من أجواء محمّلة بالحنين والشجن، لا سيما مع أغنية "أنا بعشق البحر"، التي كانت تتردد مع معاناة تانيا وافتقادها لوطنها وهي مرميّة مهملة مع أبيها في "الشمال الإسرائيلي".
التقطت المخرجة جيدًا أسلوب اللبناني في تعامله مع الحرب، وتجلّى هذا في شخصيات ثانوية أضافت حيوية ومرحًا لفيلم مأساوي. حبيب تانيا الشاب اللبناني، على سبيل المثال، الذي وإن كره الإسرائيليين، فهذا لا يمنعه من التعامل الخفيّ معهم عبر المتاجرة بالحشيش، وأيضًا مع عجوز لبناني، ولا مبالاته وهو يتناول عشاءه فيما كل شيء ينهار حوله من وقع القنابل والانفجارات، ساخرًا من خوف وتوتر الجندي الإسرائيلي الشاب لعدم معرفته بالحروب.
قضايا المنفيين والمخلوعين من جذورهم، سواء كانوا يهودًا من المغرب، أم عملاء من جنوب لبنان، تأخذ حيزًا في أعمال المخرجة (مقالة "مزراحيم"، في ضفة ثالثة، 2 أغسطس/ آب)، وهي لا تتورع عن انتقاد إسرائيل بصدق وإخلاص، وتقول إنها أرادت، في "تل أبيب ـ بيروت" رواية القصة من جهتي الحدود، وليس من جهة وحدة "كي نرى في النهاية عبثية هذه الحدود التي تعد مستحيلة العبور".
عبثية الحدود؟ نعم، لاسيما بالنسبة لمحتلٍ.
قد لا يكون كشف الاحتلال وتعامله، بل وانتقاده، شيئًا جديدًا، إنّما الميزة هنا هي تمحيص السلوك البشري للمحتل، وميزة أخرى في كون هذا التمحيص المنتقد، اللاذع أحيانًا، آت من داخله (المحتل)، ما يثير مشاعر إعجاب المرء، وربما تضامنه مع المنفيين (وإن كانوا هنا عملاء)، وربما كذلك تعاطفه مع العدو، ومع الخائن. هذا يدعو إلى التفكير إن كان هؤلاء الإسرائيليون مهما كان مدى صدقهم وشجاعتهم المنتقِدون لأوضاع اجتماعية وسياسية في بلدهم، لا يخاطرون بأن يكونوا، على الرغم منهم، أدوات الدعاية الإسرائيلية؟ إنهم يعطون الانطباع بأن العديد من الإسرائيليين مستاؤون من الظلم الذي ترتكبه حكومتهم بحق أنفسهم وحق الآخرين، إنهم يتوهمون بأن الإحساس بالعدالة والحقيقة أمرٌ شائع في إسرائيل، على الأقل بين المثقفين. بل إن هؤلاء المثقفين الناقدين قد يثيرون مقارنات لدى الآخرين، من المؤكد أنها لا تخدم مصلحة بعض المثقفين العرب، أو الأنظمة... وباختصار، يحافظ وجود هؤلاء المنتقدين في رأيي على أسطورة الشعب الإسرائيلي العادل والصادق، الذي سيُبتلى، من يدري في أيّ فرصة، بحكومة من الأشرار. لكن الواقع مختلف تمامًا، فالغالبية العظمى من الإسرائيليين وأصدقائهم خارج إسرائيل يوافقون على كلّ جرائم إسرائيل، ويبررونها ويرفضون تمامًا فتح أعينهم على حقيقتها. والمثقفون بمواقفهم هذه، وعدم التعمق حقًا في انتقاد أسس الدولة نفسها، فإنهم بمواقفهم "الصادقة والشجاعة" يجعلون الحق منسيًا... في اختصار، أيضًا، فإن الدعاية الإسرائيلية فعّالة للغاية، لدرجة أنه حتى انتقادات الإسرائيليين الشرفاء لا بدّ إلا وأن تزيّن صورة الدولة!