في رثاء النوتة الروحيّة: كيشلوفسكي
١٣ / مارس
مازلتُ أذكر عصر ذلك اليوم حين وقفتُ على قدميّ مأخوذاً منبهراً بعد أن شاهدت بمحض الصدفة (فيلم قصير عن الحبّ) تساءلتُ: (ما هذا الذي رأيته للتو)!! لتكون لحظة "الانبهار" تلك بداية رحلة شعريّة فاتنة ومجيدة في عالم البولندي الساحر، المولود في وارسو في السابع والعشرين من يونيو عام ١٩٤١، والمتوفى في الثالث عشر من مارس ١٩٩٦.. في وارسو أيضاً، اسمه كريستوف ولقبه كيشلوفسكي.
مثل نوتات تبلغ بالروح مالا تبلغه الكلمات حتى أشدّها اكتمالاً وجمالاً "الشعر". كانت شخصياته، نوتات تسمو بك إلى مصافّ الفكرة دون أن تمسك بها، فالجمال عنده في ما لا يُدرك ولا يُفهم، ولا اعنّي الغامض والمبهم، بل تلك الأفكار الناجية من مصير أن تتحوّل بفعل التكرار إلى جمال مبتذل..
نوتات عالقة في محنة الوجود، باحثة في حيرتها عن سُدادات عزاء ممكنة (قد تكون في جلّها ذات طبيعة خلاصيّة) كالحب والموسيقى والتجاذب الصوفيّ في عالم ما برح يهدّدها بالفقد والموت والانحناء واللا معنى والهتك الروحي. إذ يحفر هذا البولنديّ الاستثنائي بصوره الآسرة العمق الخفيّ فينا، حتى يدعنا مغمورين بأسى فاتح اللون، فاتر وأنيق، في غضونه سنكتشف أن ما نعيشه يخلو من ذلك السُمك الأخلاقيّ الذي باستطاعته أنً يحصّننا من يأس الحقيقة العارية القائلة: إنّ حياتنا واقعة غير جديرة بالإكبار، إنّما ظلال لمعنى عميق يتخفّى داخلنا، وداخل الاشياء والكلمات والآخرين، والألوان والصور.
تلك الظلال نراها تتخايل في الجَلَبة الروحية في الحياة الساكنة نوعاً ما حيث الأسئلة التي تشرّح بحذق ونباهة الوضع البشري، في وصاياه العشر، المسلسل الذي قال عنه يوماً ما "كوبريك" بأنه ( أفضل شيء قد يراه الإنسان)، وأوافقه تماماً.
ونرى تلك الظلال في خبايا الحكمة الروحانيّة في "الحياة المزدوجة لفيرونيكا" حيث يعلّمنا هذا الروحانيّ الجميل، أن أسانا مجهول السبب دليل على أنّ لنا شبيهاً يتألم، أو يحزن في مكان ما، أو ربما يموت. يساوقه دليل آخر على أنّ في داخل كلّ إنسانٍ ميلاً فطرياً لمواساة كلّ إنسان حزين في المعمورة، حيث كربه يكون كربنا نحن أنفسنا. جزءاً من التضامن الفطريّ البشريّ.
فيما تجاوزت ظلال ألوانه أفق السينما والفلسفة والأدب معاً، إذ وهب للعالم ثلاثية رائعة عن الحرية والمساواة والأخاء (شعار الثورة الفرنسيّة)، لكن ليس بفجاجة السينما الشعاراتية، إنّما بعمق الفيلسوف الرائي، والفنّان الساحر، إنّ إنساناً مُنِح قليلاً من رهافة الحسّ سيقع لاشكّ في غرام تلك الصور الآسرة، حيث أناقة الأسى الرفيع، والتسامح النبيل والتجاوز الحرّ لفكرة الفقد في (أزرق / حرية) وحيث المساواة المهدورة بفعل المال والاستعلاء البشري الفارغ ، وماسعي البطل كارول إلّا أن يعزّز قيمته ككائن يليق بشيء ما لم يعد مهماً لكنه يُشعره بالمساواة على أقلّ تقدير في (ابيض/ مساواة)، وحيث فداحة الغربة الروحيّة، والانشداد الجليل لألفة تشبه عالماً قد ولّى كان التواصل الإنساني فيه القيمة العليا للرابطة البشريّة (أحمر/الاخاء). ولعل هذه الثلاثية تمثّل -برأيي المتواضع- الغاية والذروة التي تطمح لها السينما منذ ميلادها...
يقول كيشلوفسكي عن نفسه: "بغض النظر عن موضوع أفلامي، دائما ما تطلعت لتوحيد مشاعري أنا وجمهوري، أحب أن يشعر المشاهد بالأسف والعجز الذي أشعر به عندما أرى شخصا يبكي في المحطة، وعندما أشاهد الناس يحاولون عبثا التقرب من الآخرين، وعندما أرى أشخاصا يأكلون بقايا الطعام في المطاعم الرخيصة، وعندما أرى المرارة على وجه امرأة تملك بقعا على يديها، وأرى الذعر على وجه البشر بسبب العدالة التي لا تتحقق، أريد أن يصل هذا الألم إلى المشاهد، وهذا ما أظنني قد نجحت في جعله يتسرب إلى المتلقين".
ميثم
١٣ / مارس
مازلتُ أذكر عصر ذلك اليوم حين وقفتُ على قدميّ مأخوذاً منبهراً بعد أن شاهدت بمحض الصدفة (فيلم قصير عن الحبّ) تساءلتُ: (ما هذا الذي رأيته للتو)!! لتكون لحظة "الانبهار" تلك بداية رحلة شعريّة فاتنة ومجيدة في عالم البولندي الساحر، المولود في وارسو في السابع والعشرين من يونيو عام ١٩٤١، والمتوفى في الثالث عشر من مارس ١٩٩٦.. في وارسو أيضاً، اسمه كريستوف ولقبه كيشلوفسكي.
مثل نوتات تبلغ بالروح مالا تبلغه الكلمات حتى أشدّها اكتمالاً وجمالاً "الشعر". كانت شخصياته، نوتات تسمو بك إلى مصافّ الفكرة دون أن تمسك بها، فالجمال عنده في ما لا يُدرك ولا يُفهم، ولا اعنّي الغامض والمبهم، بل تلك الأفكار الناجية من مصير أن تتحوّل بفعل التكرار إلى جمال مبتذل..
نوتات عالقة في محنة الوجود، باحثة في حيرتها عن سُدادات عزاء ممكنة (قد تكون في جلّها ذات طبيعة خلاصيّة) كالحب والموسيقى والتجاذب الصوفيّ في عالم ما برح يهدّدها بالفقد والموت والانحناء واللا معنى والهتك الروحي. إذ يحفر هذا البولنديّ الاستثنائي بصوره الآسرة العمق الخفيّ فينا، حتى يدعنا مغمورين بأسى فاتح اللون، فاتر وأنيق، في غضونه سنكتشف أن ما نعيشه يخلو من ذلك السُمك الأخلاقيّ الذي باستطاعته أنً يحصّننا من يأس الحقيقة العارية القائلة: إنّ حياتنا واقعة غير جديرة بالإكبار، إنّما ظلال لمعنى عميق يتخفّى داخلنا، وداخل الاشياء والكلمات والآخرين، والألوان والصور.
تلك الظلال نراها تتخايل في الجَلَبة الروحية في الحياة الساكنة نوعاً ما حيث الأسئلة التي تشرّح بحذق ونباهة الوضع البشري، في وصاياه العشر، المسلسل الذي قال عنه يوماً ما "كوبريك" بأنه ( أفضل شيء قد يراه الإنسان)، وأوافقه تماماً.
ونرى تلك الظلال في خبايا الحكمة الروحانيّة في "الحياة المزدوجة لفيرونيكا" حيث يعلّمنا هذا الروحانيّ الجميل، أن أسانا مجهول السبب دليل على أنّ لنا شبيهاً يتألم، أو يحزن في مكان ما، أو ربما يموت. يساوقه دليل آخر على أنّ في داخل كلّ إنسانٍ ميلاً فطرياً لمواساة كلّ إنسان حزين في المعمورة، حيث كربه يكون كربنا نحن أنفسنا. جزءاً من التضامن الفطريّ البشريّ.
فيما تجاوزت ظلال ألوانه أفق السينما والفلسفة والأدب معاً، إذ وهب للعالم ثلاثية رائعة عن الحرية والمساواة والأخاء (شعار الثورة الفرنسيّة)، لكن ليس بفجاجة السينما الشعاراتية، إنّما بعمق الفيلسوف الرائي، والفنّان الساحر، إنّ إنساناً مُنِح قليلاً من رهافة الحسّ سيقع لاشكّ في غرام تلك الصور الآسرة، حيث أناقة الأسى الرفيع، والتسامح النبيل والتجاوز الحرّ لفكرة الفقد في (أزرق / حرية) وحيث المساواة المهدورة بفعل المال والاستعلاء البشري الفارغ ، وماسعي البطل كارول إلّا أن يعزّز قيمته ككائن يليق بشيء ما لم يعد مهماً لكنه يُشعره بالمساواة على أقلّ تقدير في (ابيض/ مساواة)، وحيث فداحة الغربة الروحيّة، والانشداد الجليل لألفة تشبه عالماً قد ولّى كان التواصل الإنساني فيه القيمة العليا للرابطة البشريّة (أحمر/الاخاء). ولعل هذه الثلاثية تمثّل -برأيي المتواضع- الغاية والذروة التي تطمح لها السينما منذ ميلادها...
يقول كيشلوفسكي عن نفسه: "بغض النظر عن موضوع أفلامي، دائما ما تطلعت لتوحيد مشاعري أنا وجمهوري، أحب أن يشعر المشاهد بالأسف والعجز الذي أشعر به عندما أرى شخصا يبكي في المحطة، وعندما أشاهد الناس يحاولون عبثا التقرب من الآخرين، وعندما أرى أشخاصا يأكلون بقايا الطعام في المطاعم الرخيصة، وعندما أرى المرارة على وجه امرأة تملك بقعا على يديها، وأرى الذعر على وجه البشر بسبب العدالة التي لا تتحقق، أريد أن يصل هذا الألم إلى المشاهد، وهذا ما أظنني قد نجحت في جعله يتسرب إلى المتلقين".
ميثم