نفسيه (حرب)
Psychological warfare - Guerre psychologique
النفسية (الحرب ـ)
الحرب النفسية psychological warfare نوع من النشاط النفسي الحربي يمارسه كل طرف من الأطراف المتعادية ضد عدوه مهما كانت قوة هذا الطرف أو ذاك، لتحقيق أهداف الدولة وسياستها أو الدول المستخدمة لها. وهي جزء من الحرب الشاملة وتعد عاملاً من عوامل الإخفاق أو النجاح فيها، وتمارس قبل الحرب وفي أثنائها وتستمر معها بلا توقف، وقد لا تنتهي بانتهائها.
وتستخدم الحرب النفسية الدعاية [ر] والتأثير النفسي في آراء العدو وعواطفه واتجاهاته بالتنسيق مع التدابير العسكرية والاقتصادية والسياسية الهادفة إلى إخضاع العدو وتثبيط معنوياته وشل إرادة القتال والمقاومة لديه، وإجباره على التخلي عن مواقفه أو الاستسلام الكامل لإرادة الخصم.
لمحة تاريخية
استخدمت الحرب النفسية قبل اللجوء إلى السلاح وفي أثنائه وبعده، وهي قديمة قدم النزاعات بين البشر. فقد استغلها الإنسان البدائي في صراعه مع الآخرين بالصراخ والتمويه والتهويل وتلوين جلده واستخدام الأقنعة المخيفة. كما عرف رجال السياسة والدين وقادة الحرب الآثار التي تترتب على الأقوال والأفعال التي تدفع الإنسان إلى اليأس أو التفاؤل، وتحرك مشاعره وتحفز انفعالاته. وهي توجه ضد مقومات الشخصية كالصحة والذكاء والإرادة والشعور. وقد لجأ تحوتمس الثالث في مصر القديمة إلى الحيلة والخديعة والمباغتة في حروبه، ولاسيما عند فتح يافا في فلسطين. ووظف قورش الكبير الإشاعة في حربه ضد بابل، واستخدم الصينيون ـ قبل الميلاد بقرون ـ السحر والعرافة بأساليب تقترب من مبادئ الحرب النفسية الحديثة. ومارسها خسرو الأول في حربه مع اليونان. كما لجأ إليها الملك فيليب الثاني المقدوني في حربه مع أثينا، والإسكندر الكبير في فتوحاته، والهنود القدماء في نزاعاتهم. وطبقها العرب في الجاهلية وفي الإسلام. ومن أشهر ما أثر عنهم في هذا المجال قول عنترة العبسي: «أضرب الجبان ضربة ينخلع لها قلب الشجاع»، وقول الرسولr لنعيم بن مسعود في وقعة الخندق: «إنما أنت فينا رجل واحد، فخذِّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة». وكذلك ما أثر عن المسلمين في فتوحاتهم من الصدق في إنذارهم خصومهم والبر بما وعدوا به، والإقدام والشجاعة والتصميم في إرادة القتال والمعنويات العالية والثقة بالقادة، وإلقاء الخطب الحماسية قبل المعارك لحفز همة المقاتلين وغير ذلك. ومع أن قوة جنكيز خان الحقيقية لم تكن في المستوى الذي صورته الروايات فقد تمكن من تحقيق انتصاراته المذهلة بفضل مقدرته على بث الرعب في قلوب الشعوب التي غزاها، وعن طريق الشائعات التي بثها عن ضراوة مقاتليه من فرسان المغول والعنف والتدمير الذي مارسه في إبادة من حاول الوقوف في وجهه. وبعد قرون من الحروب الكثيرة التي شهدها العالم أخذت الحرب النفسية تكتسب شيئاً من التنسيق العلمي والتخطيط المدروس والتوجيه النفسي والمعنوي. واستخدمت في حرب الاستقلال الأمريكية منشورات لرفع الروح المعنوية لقوات المستعمرات وتثبيط روح القتال لدى القوات الإنكليزية. ومع تقدم وسائل الاتصال ووسائل الإعلام وتزايد القدرة على إيصال المعلومة عن طريق البث الإذاعي، إلى جانب تطور أساليب التحليل النفسي ودراسة الرأي العام والتنبؤ بالسلوك الجماهيري أصبح للحرب النفسية تقانات ومبادئ بوأتها مكانتها رديفاً لا يستغنى عنه في أي صراع مسلح أو غير مسلح.
تبلورت مبادئ الحرب النفسية الحديثة في حقيقة الأمر في الحرب العالمية الأولى، وتحولت إلى مادة علمية ذات فن واختصاصات متعددة الأوجه. ففي سنة 1917 أصدر الرئيس الأمريكي ولسون قراراً بتشكيل لجنة الدعاية والنشر. وفي سنة 1918 تأسس في بريطانيا قسم الدعاية ضد العدو. وشاعت بعيد تلك الحرب تسمية «الحرب النفسية». وأعطاها الأمريكيون في الحرب العالمية الثانية مفهوماً جديداً انطلاقاً من فكرة التبشير، فأصبحت تعرف باسم «الدعاية» Propaganda، ويقصد بها نشر الأفكار والمعلومات والإشاعات خدمة للقوات الصديقة وإيذاء للعدو. وأوجد في مقر قيادة الحلفاء قسم خاص بالحرب النفسية يدير شؤونها في المستويين الاستراتيجي والتكتيكي. ولم تكن ألمانيا أقل شأناً في خوض تلك الحرب النفسية، فقد كانت وزارة الدعاية التي تزعمها غوبلز Joseph Goebbels سلاحاً فعالاً في يد هتلر Adolf Hitler مكنه من السيطرة على أكثر شعوب أوربا، وعاملاً من عوامل تردد الحلفاء في خوض الحرب ضد هتلر إلى أن اضطروا إلى ذلك. واستعمل اليابانيون الشائعات والمنشورات التي تتعرض للحياة الشخصية لجنود الحلفاء وما يمكن أن ينتظرهم ليشلوا إرادة القتال لديهم.
أهداف الحرب النفسية
يمكن تحديد الهدف الرئيس للحرب النفسية بأنه مؤازرة التدابير السياسية والعسكرية والاقتصادية والعقائدية الموجهة ضد العدو، والمساعدة على إنجاحها بالتأثير في أفكار العدو ومواقفه ووجهات نظره وسلوكياته، وإضعاف إرادة القتال لدى المدنيين والقوات المسلحة وضعضعة الثقة بالقيادة العسكرية والسياسية.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية رائدة في استخدام رسائل البحث الاجتماعي التجريبي (تحليل المضمون) content analysis والبحث في مدى تأثير الحرب النفسية وتقديرها بدقة، وأول من أدرك ضرورة تنويع الدعاية تبعاً لطبيعة الناس الذين توجه إليهم. فكانت الدعاية التي يوجهونها إلى شعوب آسيا تختلف عن تلك الموجهة إلى شعوب أوربا.
وفي ظل الحرب الباردة Cold War ـ التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ـ اكتسبت الحرب النفسية أهمية خاصة خارج إطار الصراع العسكري المباشر. ومورست فيها كل أشكال الدعاية والتهديد والوعيد والكذب والافتراء والشائعات بوسائل مختلفة. لذلك تعد الحرب النفسية من أخطر أنواع الحروب الموجهة ضد الإنسان، فهي تستهدف عقل الإنسان وتفكيره وقلبه، لكي تحطم روحه المعنوية وتقضي على إرادة المواجهة لديه وتقوده نحو الهزيمة والاستسلام. والحرب النفسية لا تستهدف التأثير في السلوك الاجتماعي للفرد أو الجماعة والعوامل المؤثرة فيها فحسب، بل تستهدف كسب الرأي العام العالمي أيضاً، وذلك وفقاً لقاعدة سيكولوجية مكملة للعمل العسكري والاقتصادي والسياسي، بأساليب دعائية نفسية ترمي إلى التأثير في سلوك الدول وإحداث تغييرات في مواقفها وأيديولوجيتها. كما تلجأ الحرب النفسية إلى تشويش الأفكار وخلق الأقاويل والشائعات المغرضة، وممارسة الإرهاب النفسي والجسدي واتباع وسائل الترغيب والترهيب. مما يجعل هذه الحرب أشد فتكاً من المواجهة العسكرية في ميادين القتال.
ومع ذلك، فإن من الصعوبة بمكان تفهم ماهية الحرب النفسية ومدلولاتها التي اتسعت في عصرنا الحاضر، ولاسيما بعد التطور الهائل في جميع فروع المعرفة الإنسانية، إلى جانب المجموعة الكبيرة من المصطلحات التي شاعت إثر الصراع الإيديولوجي الذي يسود العالم اليوم. وما يمكن تسميته «المعارك الكلامية» و«صراع العقائد» و«صراع الثقافات».
وسائل الحرب النفسية
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبعد الحرب الكورية أصبحت الحرب النفسية الشغل الشاغل للدول الكبرى، فاتسع معناها ومداها بحيث أصبحت تشمل الدعاية والإعلام وغسيل الأدمغة، واستغلال الأسرى، وتحويل ولاء العملاء والمواطنين وشراء الضمائر بهدف تحطيم معنويات الناس في الحرب والسلم بجميع الوسائل المتاحة لفرض الهيمنة. ومن أمثلة الحرب النفسية المتبادلة بين المعسكرات الدولية، استغلال أمريكا للمنشقين الروس، والمناورات السياسية والقيام بمناورات عسكرية في مناطق حساسة للخصم أو ذات تأثير في الأحداث العالمية، واستعراض القوة والتهديد باستعمالها وغير ذلك من وسائل مثل:
ـ الدعاية: وهي الاستخدام المخطط لأشكال التعبير بمختلف وسائل الاتصال للتأثير في عقول الناس ومشاعرهم لغرض معين، أو تغيير قناعات الأشخاص الموجهة إليهم واستمالتهم أو تخويفهم أو تبديل ولائهم لجهة أخرى. ويشترط في الدعاية فهم طريقة تفكير الناس المخاطبين واهتماماتهم ومصالحهم واستثمارها لتحقيق الغاية المنشودة منها بأسلوب مدروس ومخطط إضافة إلى مصادر يثق بها المعنيون. ولا تقتصر الدعاية على فضح مساوئ الخصم، بل تتعداها إلى إظهار الجهة صاحبة الدعاية بمظهر الصديق المدافع عن مصلحة المخاطبين واهتمامه بهم.
ـ الإشاعة: وهي كلمات يتناقلها الناس مجهولة المصدر من دون التثبت من صحتها. وهي أسرع وسائل الحرب النفسية انتشاراً وتأثيراً، وأشدها فتكاً، ولاسيما إذا ما كانت مدروسة دراسة جيدة. وتعد الشائعة من الظواهر النفسية التي لها دلالة ومعنى، ولها دوافع تغري بالاستماع إليها وتناقلها. ولا بد لها من أسباب ودلالات ونتائج تستند إلى نقاط الضعف عند العدو ونواقصه. ومن الإشاعات ما يثير الخوف والرهبة وانعدام الأمن لدى الأفراد والجماعات، ومنها ما يدغدغ آمالهم وأحلامهم، ومنها ما يثير لديهم السخط على قادتهم وأولي الأمر منهم.
ـ الأفراد والعملاء: ويعد هؤلاء وسيلة لبث الأفكار التي ترغب الجهة المعنية في نشرها بين جماعات محددة من البشر بالاتصال الشخصي وكسب ثقتهم وتقصي الأخبار وتلفيقها وغير ذلك، وينضوي تحت هذه الفئة من أطلق عليهم اسم الطابور الخامس والجواسيس والأسرى بعد غسيل أدمغتهم وأصحاب الضمائر الضعيفة المشتراة بالمال وغيرهم.
تملك معظم الدول الحديثة تنظيمات ووحدات متخصصة وعالية التدريب والتجهيز لتولي شؤون الحرب النفسية في السلم والحرب، وتساند أجهزة الاستخبارات وتكمل عملها أو تكون جزءاً منها. وهي تتولى تحليل كل ما يبثه العدو المحتمل وينشره وما يقوم به من نشاط، كما تدرس طبيعة الدعاية الصديقة وفاعليتها ومستوى منافستها للدعاية المعادية، ومسارها العام، ودرجة تقبلها من الجماهير الموجهة إليها ومختلف التفاصيل التي لها صلة بها.
تصنف الحرب النفسية من قبل ممارسيها في مستويات تظهر المساحات التي يتوقع أن تفعل الدعاية فيها أو تتفاعل معها. فيطلق مصطلح الحرب النفسية الاستراتيجية على الإعلام الجماهيري المرتبط بجماعات كبيرة من المتلقين وعلى مساحات شاسعة من الأرض. أما الحرب النفسية التكتيكية فتقتصر على الارتباط المباشر بالعمليات الحربية وهدفها المباشر إكراه العدو على الاستسلام وإلقاء السلاح بطريقة أو أخرى، وكذلك حماية مؤخرات القوات المتقدمة وخطوط مواصلاتها وإمدادها ببث رسائل تحض على تقبل الإدارة العسكرية الجديدة وتسهيل أمور إدارة المناطق المحتلة أو المحررة.
محمد وليد الجلاد
Psychological warfare - Guerre psychologique
النفسية (الحرب ـ)
الحرب النفسية psychological warfare نوع من النشاط النفسي الحربي يمارسه كل طرف من الأطراف المتعادية ضد عدوه مهما كانت قوة هذا الطرف أو ذاك، لتحقيق أهداف الدولة وسياستها أو الدول المستخدمة لها. وهي جزء من الحرب الشاملة وتعد عاملاً من عوامل الإخفاق أو النجاح فيها، وتمارس قبل الحرب وفي أثنائها وتستمر معها بلا توقف، وقد لا تنتهي بانتهائها.
وتستخدم الحرب النفسية الدعاية [ر] والتأثير النفسي في آراء العدو وعواطفه واتجاهاته بالتنسيق مع التدابير العسكرية والاقتصادية والسياسية الهادفة إلى إخضاع العدو وتثبيط معنوياته وشل إرادة القتال والمقاومة لديه، وإجباره على التخلي عن مواقفه أو الاستسلام الكامل لإرادة الخصم.
لمحة تاريخية
استخدمت الحرب النفسية قبل اللجوء إلى السلاح وفي أثنائه وبعده، وهي قديمة قدم النزاعات بين البشر. فقد استغلها الإنسان البدائي في صراعه مع الآخرين بالصراخ والتمويه والتهويل وتلوين جلده واستخدام الأقنعة المخيفة. كما عرف رجال السياسة والدين وقادة الحرب الآثار التي تترتب على الأقوال والأفعال التي تدفع الإنسان إلى اليأس أو التفاؤل، وتحرك مشاعره وتحفز انفعالاته. وهي توجه ضد مقومات الشخصية كالصحة والذكاء والإرادة والشعور. وقد لجأ تحوتمس الثالث في مصر القديمة إلى الحيلة والخديعة والمباغتة في حروبه، ولاسيما عند فتح يافا في فلسطين. ووظف قورش الكبير الإشاعة في حربه ضد بابل، واستخدم الصينيون ـ قبل الميلاد بقرون ـ السحر والعرافة بأساليب تقترب من مبادئ الحرب النفسية الحديثة. ومارسها خسرو الأول في حربه مع اليونان. كما لجأ إليها الملك فيليب الثاني المقدوني في حربه مع أثينا، والإسكندر الكبير في فتوحاته، والهنود القدماء في نزاعاتهم. وطبقها العرب في الجاهلية وفي الإسلام. ومن أشهر ما أثر عنهم في هذا المجال قول عنترة العبسي: «أضرب الجبان ضربة ينخلع لها قلب الشجاع»، وقول الرسولr لنعيم بن مسعود في وقعة الخندق: «إنما أنت فينا رجل واحد، فخذِّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة». وكذلك ما أثر عن المسلمين في فتوحاتهم من الصدق في إنذارهم خصومهم والبر بما وعدوا به، والإقدام والشجاعة والتصميم في إرادة القتال والمعنويات العالية والثقة بالقادة، وإلقاء الخطب الحماسية قبل المعارك لحفز همة المقاتلين وغير ذلك. ومع أن قوة جنكيز خان الحقيقية لم تكن في المستوى الذي صورته الروايات فقد تمكن من تحقيق انتصاراته المذهلة بفضل مقدرته على بث الرعب في قلوب الشعوب التي غزاها، وعن طريق الشائعات التي بثها عن ضراوة مقاتليه من فرسان المغول والعنف والتدمير الذي مارسه في إبادة من حاول الوقوف في وجهه. وبعد قرون من الحروب الكثيرة التي شهدها العالم أخذت الحرب النفسية تكتسب شيئاً من التنسيق العلمي والتخطيط المدروس والتوجيه النفسي والمعنوي. واستخدمت في حرب الاستقلال الأمريكية منشورات لرفع الروح المعنوية لقوات المستعمرات وتثبيط روح القتال لدى القوات الإنكليزية. ومع تقدم وسائل الاتصال ووسائل الإعلام وتزايد القدرة على إيصال المعلومة عن طريق البث الإذاعي، إلى جانب تطور أساليب التحليل النفسي ودراسة الرأي العام والتنبؤ بالسلوك الجماهيري أصبح للحرب النفسية تقانات ومبادئ بوأتها مكانتها رديفاً لا يستغنى عنه في أي صراع مسلح أو غير مسلح.
تبلورت مبادئ الحرب النفسية الحديثة في حقيقة الأمر في الحرب العالمية الأولى، وتحولت إلى مادة علمية ذات فن واختصاصات متعددة الأوجه. ففي سنة 1917 أصدر الرئيس الأمريكي ولسون قراراً بتشكيل لجنة الدعاية والنشر. وفي سنة 1918 تأسس في بريطانيا قسم الدعاية ضد العدو. وشاعت بعيد تلك الحرب تسمية «الحرب النفسية». وأعطاها الأمريكيون في الحرب العالمية الثانية مفهوماً جديداً انطلاقاً من فكرة التبشير، فأصبحت تعرف باسم «الدعاية» Propaganda، ويقصد بها نشر الأفكار والمعلومات والإشاعات خدمة للقوات الصديقة وإيذاء للعدو. وأوجد في مقر قيادة الحلفاء قسم خاص بالحرب النفسية يدير شؤونها في المستويين الاستراتيجي والتكتيكي. ولم تكن ألمانيا أقل شأناً في خوض تلك الحرب النفسية، فقد كانت وزارة الدعاية التي تزعمها غوبلز Joseph Goebbels سلاحاً فعالاً في يد هتلر Adolf Hitler مكنه من السيطرة على أكثر شعوب أوربا، وعاملاً من عوامل تردد الحلفاء في خوض الحرب ضد هتلر إلى أن اضطروا إلى ذلك. واستعمل اليابانيون الشائعات والمنشورات التي تتعرض للحياة الشخصية لجنود الحلفاء وما يمكن أن ينتظرهم ليشلوا إرادة القتال لديهم.
أهداف الحرب النفسية
يمكن تحديد الهدف الرئيس للحرب النفسية بأنه مؤازرة التدابير السياسية والعسكرية والاقتصادية والعقائدية الموجهة ضد العدو، والمساعدة على إنجاحها بالتأثير في أفكار العدو ومواقفه ووجهات نظره وسلوكياته، وإضعاف إرادة القتال لدى المدنيين والقوات المسلحة وضعضعة الثقة بالقيادة العسكرية والسياسية.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية رائدة في استخدام رسائل البحث الاجتماعي التجريبي (تحليل المضمون) content analysis والبحث في مدى تأثير الحرب النفسية وتقديرها بدقة، وأول من أدرك ضرورة تنويع الدعاية تبعاً لطبيعة الناس الذين توجه إليهم. فكانت الدعاية التي يوجهونها إلى شعوب آسيا تختلف عن تلك الموجهة إلى شعوب أوربا.
وفي ظل الحرب الباردة Cold War ـ التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ـ اكتسبت الحرب النفسية أهمية خاصة خارج إطار الصراع العسكري المباشر. ومورست فيها كل أشكال الدعاية والتهديد والوعيد والكذب والافتراء والشائعات بوسائل مختلفة. لذلك تعد الحرب النفسية من أخطر أنواع الحروب الموجهة ضد الإنسان، فهي تستهدف عقل الإنسان وتفكيره وقلبه، لكي تحطم روحه المعنوية وتقضي على إرادة المواجهة لديه وتقوده نحو الهزيمة والاستسلام. والحرب النفسية لا تستهدف التأثير في السلوك الاجتماعي للفرد أو الجماعة والعوامل المؤثرة فيها فحسب، بل تستهدف كسب الرأي العام العالمي أيضاً، وذلك وفقاً لقاعدة سيكولوجية مكملة للعمل العسكري والاقتصادي والسياسي، بأساليب دعائية نفسية ترمي إلى التأثير في سلوك الدول وإحداث تغييرات في مواقفها وأيديولوجيتها. كما تلجأ الحرب النفسية إلى تشويش الأفكار وخلق الأقاويل والشائعات المغرضة، وممارسة الإرهاب النفسي والجسدي واتباع وسائل الترغيب والترهيب. مما يجعل هذه الحرب أشد فتكاً من المواجهة العسكرية في ميادين القتال.
ومع ذلك، فإن من الصعوبة بمكان تفهم ماهية الحرب النفسية ومدلولاتها التي اتسعت في عصرنا الحاضر، ولاسيما بعد التطور الهائل في جميع فروع المعرفة الإنسانية، إلى جانب المجموعة الكبيرة من المصطلحات التي شاعت إثر الصراع الإيديولوجي الذي يسود العالم اليوم. وما يمكن تسميته «المعارك الكلامية» و«صراع العقائد» و«صراع الثقافات».
وسائل الحرب النفسية
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبعد الحرب الكورية أصبحت الحرب النفسية الشغل الشاغل للدول الكبرى، فاتسع معناها ومداها بحيث أصبحت تشمل الدعاية والإعلام وغسيل الأدمغة، واستغلال الأسرى، وتحويل ولاء العملاء والمواطنين وشراء الضمائر بهدف تحطيم معنويات الناس في الحرب والسلم بجميع الوسائل المتاحة لفرض الهيمنة. ومن أمثلة الحرب النفسية المتبادلة بين المعسكرات الدولية، استغلال أمريكا للمنشقين الروس، والمناورات السياسية والقيام بمناورات عسكرية في مناطق حساسة للخصم أو ذات تأثير في الأحداث العالمية، واستعراض القوة والتهديد باستعمالها وغير ذلك من وسائل مثل:
ـ الدعاية: وهي الاستخدام المخطط لأشكال التعبير بمختلف وسائل الاتصال للتأثير في عقول الناس ومشاعرهم لغرض معين، أو تغيير قناعات الأشخاص الموجهة إليهم واستمالتهم أو تخويفهم أو تبديل ولائهم لجهة أخرى. ويشترط في الدعاية فهم طريقة تفكير الناس المخاطبين واهتماماتهم ومصالحهم واستثمارها لتحقيق الغاية المنشودة منها بأسلوب مدروس ومخطط إضافة إلى مصادر يثق بها المعنيون. ولا تقتصر الدعاية على فضح مساوئ الخصم، بل تتعداها إلى إظهار الجهة صاحبة الدعاية بمظهر الصديق المدافع عن مصلحة المخاطبين واهتمامه بهم.
ـ الإشاعة: وهي كلمات يتناقلها الناس مجهولة المصدر من دون التثبت من صحتها. وهي أسرع وسائل الحرب النفسية انتشاراً وتأثيراً، وأشدها فتكاً، ولاسيما إذا ما كانت مدروسة دراسة جيدة. وتعد الشائعة من الظواهر النفسية التي لها دلالة ومعنى، ولها دوافع تغري بالاستماع إليها وتناقلها. ولا بد لها من أسباب ودلالات ونتائج تستند إلى نقاط الضعف عند العدو ونواقصه. ومن الإشاعات ما يثير الخوف والرهبة وانعدام الأمن لدى الأفراد والجماعات، ومنها ما يدغدغ آمالهم وأحلامهم، ومنها ما يثير لديهم السخط على قادتهم وأولي الأمر منهم.
ـ الأفراد والعملاء: ويعد هؤلاء وسيلة لبث الأفكار التي ترغب الجهة المعنية في نشرها بين جماعات محددة من البشر بالاتصال الشخصي وكسب ثقتهم وتقصي الأخبار وتلفيقها وغير ذلك، وينضوي تحت هذه الفئة من أطلق عليهم اسم الطابور الخامس والجواسيس والأسرى بعد غسيل أدمغتهم وأصحاب الضمائر الضعيفة المشتراة بالمال وغيرهم.
تملك معظم الدول الحديثة تنظيمات ووحدات متخصصة وعالية التدريب والتجهيز لتولي شؤون الحرب النفسية في السلم والحرب، وتساند أجهزة الاستخبارات وتكمل عملها أو تكون جزءاً منها. وهي تتولى تحليل كل ما يبثه العدو المحتمل وينشره وما يقوم به من نشاط، كما تدرس طبيعة الدعاية الصديقة وفاعليتها ومستوى منافستها للدعاية المعادية، ومسارها العام، ودرجة تقبلها من الجماهير الموجهة إليها ومختلف التفاصيل التي لها صلة بها.
تصنف الحرب النفسية من قبل ممارسيها في مستويات تظهر المساحات التي يتوقع أن تفعل الدعاية فيها أو تتفاعل معها. فيطلق مصطلح الحرب النفسية الاستراتيجية على الإعلام الجماهيري المرتبط بجماعات كبيرة من المتلقين وعلى مساحات شاسعة من الأرض. أما الحرب النفسية التكتيكية فتقتصر على الارتباط المباشر بالعمليات الحربية وهدفها المباشر إكراه العدو على الاستسلام وإلقاء السلاح بطريقة أو أخرى، وكذلك حماية مؤخرات القوات المتقدمة وخطوط مواصلاتها وإمدادها ببث رسائل تحض على تقبل الإدارة العسكرية الجديدة وتسهيل أمور إدارة المناطق المحتلة أو المحررة.
محمد وليد الجلاد