نحل ادبي (عالميا)
Plagiarism - Plagiat
النحل الأدبي (عالمياً)
النحل أو الانتحال أو السرقة الأدبية، مسميات متعددة في تاريخ الأدب، لكنها تدل على فعل محددٍ صار له توصيف قانوني يحدد ماهيته وما يترتب عليه من مسؤولية، في إطار حقوق التأليف والنشر والاتفاقات الدولية المتعلقة بها.
والمقصود بالنحل الأدبي plagiarism (باللاتينية plagium = سرقة البشر وبيعهم على أنهم ملكية خاصة) هو السطو على عمل أدبي/ فكري أو على جزء منه وتقديمه أو نشره باسم من ارتكب عملية السطو؛ أو تأليف عمل أدبي/ فكري بقلم كاتب مغمور أو معروف ونسْبه ـ لأسباب معينة ـ إلى كاتب آخر، غالباً من زمن سابق [ر. النحل في الأدب العربي].
تعود أقدم عملية نحل معروفة إلى القرن الأول الميلادي في روما عندما نشر المدعو فيدِنِْتينوس Fidentinus باسمه مجموعة قصائد تعود إلى الشاعر مارتياليس Martialis ت(40ـ102م) الذي كان قد وصف عملية نشر قصيدة بمنزلة منح عبدٍ حريته، وعملية النحل بمنزلة اختطاف الأحرار وبيعهم رقيقاً. يتبين من هذا المثال مدى ازدراء الناس عملية النحل منذ القديم واحتقارهم مُمارسِه، مهما كان موقعه الاجتماعي؛ ولاشك في أن الأمر كان كذلك في الحضارات الأخرى.
إلا أنه لابد من التمييز بين النحل والاقتباس، حتى وإن لم يُشِر المقتبس إلى مصدره، واضعاً في حسبانه كون المصدر معروفاً من قبل الجميع، إلا أن هدف الاقتباس هو تقديم المادة المقتبسة في رؤية فنية وفكرية جديدة تختلف عن الأصل. وهذه هي حال جميع كتّاب المأساة الإغريقية في القرن الخامس قبل الميلاد، ولاسيما منهم أسخيلوس [ر] وسوفوكليس [ر] وأوربيديس [ر] الذين اقتبسوا معظم موضوعات مسرحياتهم من الملاحم والأساطير الإغريقية. إلا أن كلاً منهم عالج المادة نفسها وقدمها بتأويله الخاص، دينياً واجتماعياً وفلسفياً، بل حتى على صعيد الشكل المسرحي؛ وكما هي حال كُتّاب الملهاة، وبالتحديد أريستوفانِس [ر] الذي سخر في مسرحياته تحديداً من انتحالات الفلاسفة، فيما بينهم، أفكار بعضهم بعضاً، ولاسيما منهم السفسطائيون الذين أفسدوا أخلاق شباب أثينا فأضعفوها في المواجهة الحاسمة مع العدو، أي إسبارطة التي تبنت نظاماً تربوياً عسكرياً يتناقض مع نظام أثينا الديمقراطي.
أما في عصر الباروك [ر] فقد كان الاقتباس أمراً شائعاً جداً، ولكن غالباً بقصد المحاكاة الساخرة [ر] ومن دون إثارة مشكلات من جانب المقتَبَس منهم، الذين وجدوا في العملية إحياءً غير مباشر لأعمالهم، يسهم في شهرتهم.
إن للنحل أسباباً مختلفة، منها الربح المادي، أو تحقيق الشهرة، أو الكسب المعنوي؛ ولكن يُحتمل أن تكمن وراءه محفزات سياسية لخدمة أغراض معينة، قد تكون عامة وقد تكون شخصية، ويحتمل أن تتداخل طبيعة الأغراض وتنوعها لمصلحة هدف واحد مشترك. ومن أحدث الأمثلة على ذلك استخدام المخابرات الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش الابن، رسالة تخرج في درجة الإجازة في العلوم السياسية حول مشروعات التسلح في العراق، قدمها طالب عراقي قبل عشر سنوات خلت، من دون ذكر المرجع ونسبت المعلومات فيها إلى استخباراتها، وذلك لتبرير غزوها العراق للقضاء على أسلحة الدمار الشامل التي زعمت وجودها فيه.
أما على صعيد البحث العلمي فإن الاقتباس لا يعد نحلاً، بل هو أمر شائع وقانوني، بشرط أن يشير صاحب البحث إلى المصادر والمراجع التي اقتبس منها، وعلى نحو علمي دقيق، إما في الهوامش أو في البيبلوغرافيا bibliography الملحقة بمتن البحث. والهدف من الاقتباس في البحوث العلمية هو تأكيد رأي الباحث بصدد مسألة ما، أو دحض رأي المقتبس منه بالتحليل والمناقشة أو استعراض وجهات نظر متقاربة أو متباينة في موضوع معين. وقد ورد في قانون حماية الملكية الفكرية النص التالي: «إن الاستخدام الحر لعمل فكري - خاضع لقانون حماية الملكية - أمر مسموح به، إذا كان الهدف إبداع عمل جديد مستقل؛ بشرط أن تتوافر في هذا العمل الجديد جميع شروط العمل الفكري وأن يتفوق إبداعياً على العمل المستخدم، وإن كان التفوق نسبياً» (اتفاقية جنيڤ الدولية لحماية حقوق الملكية الفكرية، باللغة الألمانية). وفي مجال البحث العلمي ـ وليس في الإبداع الفني ـ يُعد الأمر نحلاً إذا غيَّر الباحث صياغة نص ما من دون الإشارة إلى مصدر النص، أو إذا تبنى حجة أو رأياً لباحث آخر من دون ذكر صاحبه ومكان وروده. وثمة تمييز بين النحل الكامل (السطو على نص بأكمله) وبين النحل الجزئي، وكذلك بين النحل اللفظي (السطو على صياغة المؤلف حَرْفياً) وبين نحل الأفكار (في صياغة لغوية مختلفة عن الأصل ومن دون ذكر هذا الأصل). إضافة إلى ذلك هناك أنواع خاصة من النحل، مثل النحل الذاتي، حينما يستغل الباحث كتاباته السابقة في عمله الجديد. وغالباً ما يحاول بعضهم تبرير عملية النحل بقولهم: إنهم قرأوا هذه الفكرة ذات مرة في مكان ما، لكنهم نسوا أين كان ذلك. وثمة تمييز آخر بين النحل من جهة والتزييف من جهة أخرى، إذ إن العمل المزيَّف لا يتطابق مع الأصل تطابقاً كاملاً، كما أن المزيِّف لا ينسب إنتاجه إلى نفسه بل إلى شخص آخر. كما لابد من التمييز أيضاً بين النحل والتقليد (كثرَ ما قلّد الشعراء الشباب أسلوب نزار قباني مثلاً).
إلا أنه من الصعب وضع حدود واضحة المعالم بين حالة نحل وحالة تعدٍ على حقوق الملكية، عندما يقوم كاتب ما بأخذ فكرة أو موضوع ما من مؤلِّف شهير ـ تخضع مؤلفاته لحقوق الملكية ـ ولكن خارج السياق التخييلي الأدبي لهذا المؤلف، ويعالجها بأسلوبه الخاص انطلاقاً من موقفه الفكري، في رواية أو قصة أو قصيدة.
وعلى صعيد المدارس الثانوية والجامعات عالمياً ثمة ظاهرة متفشية إلى درجة الخطورة، أطلق عليها في الدراسات التربوية تسمية «ثقافة النحل»؛ وهي تدل من جهة على تدني الوعي لدى الطلبة بضرورة الأمانة العلمية في الأعمال البحثية المختلفة التي يقدمونها في أثناء دراستهم، وتدل من جهة أخرى كذلك على تقصير المدرسين المربين في القيام بواجبهم تجاه طلبتهم، سواء على صعيد تنبيههم إلى واجبات الباحث العلمية، أو على صعيد قصورهم في الكشف عن كثير من حالات النحل الفاضحة، واتخاذ الإجراءات التربوية اللازمة حيال ذلك. والأدهى من ذلك هو انتحال بعض المدرسين أعمال طلبتهم ونشرها بأسمائهم بعد إجراء التصحيحات اللغوية والأسلوبية الضرورية.
وبالعودة إلى تاريخ الأدب العالمي يعثر المرء على حالات مذهلة من عمليات النحل الأدبي التي تركت بصمات واضحة التأثير في الحركة الأدبية، منها على سبيل المثال «قصائد توماس راولي» The Poems of Thomas Rowley التي نظمها الشاعر الإنكليزي الشاب توماس تشاترتُن Thomas Chatterton ت(1752ـ1770) بأسلوب شعراء القرون الوسطى ونَسَبها إلى رجل دين مزعوم من ذلك العصر. وقد تسببت هذه القصائد آنذاك في نزاعات علمية بين المختصين استمرت عدة سنوات، حتى اكتُشف النحل، فلوحق الشاعر اليافع من جهات عدة، وعندما ازدادت عليه الضغوط فلم يعد قادراً على احتمالها انتحر وهو في التاسعة عشرة من عمره، لكن دور أشعاره في إحياء التراث الغوطي (القوطي) Gothic revival كان بالغ الأهمية، ومنحه مكانة خاصة في تاريخ الأدب الإنكليزي. وبعده بثلاثة عقود نَسب وليم هنري آيرلند William Henry Ireland ت(1777ـ1835) عدداً سخياً من مسرحياته إلى شكسبير[ر]، إلى أن كُشفت عملية النحل عند عرض مأساته «فورتيغرن وروينا» Vortigern and Rowena على خشبة مسرح دروري لين Drury Lane Theatre في عام 1896، فانفضح الكاتب الناحل، وسرعان ما صارت أعماله طي النسيان. أما تشارلز بِرترام Charles Bertram فقد كان أكثر دهاءً وحظاً من سابقه عندما وضع في مطلع القرن التاسع عشر مؤلفاً عن تاريخ بريطانيا الرومانية ونَسَبه إلى راهب متخيل أسماه رتشارد أُف وستمنستر Richard of Westminster؛ وإذا بجامع العاديات الغريب الأطوار الدكتور وليم سْتكلي W.Stukeley يطابق بين شخصية الراهب المتخيل وبين الراهب المؤرخ رتشارد أُف سايرِينْسِِستر Richard of Cirencester، المعروف أنه أقام في القرن الرابع عشر في وستمنستر. وقد ظهر دهاء برترام في نشره مؤلفه في مجلد واحد مع كتابين أصليين لمؤلِفين قديمين هما غيلداس Gildas ونِنْيوس Nennius. والمشكلة في الموضوع هو أن هذا العمل المنحول قد عُد مرجعاً للباحثين في تاريخ بريطانيا الرومانية، حتى القرن العشرين، في حين أن واضعه هو أحد هواة التاريخ القديم ولا يتصف بأي مصداقية توثيقية لما أورده في مؤلفه. وثمة مثال مشابه أكثر قدماً، لابدّ من ذكره هنا كنوع من النحل، فنحو عام 1135م نشر جِفري أُف مونْمث Jeoffrey of Monmouth ـ هو مؤرخ غير متخصص - كتاباً باللاتينية بعنوان «تاريخ المملكة البريطانية» Historia Regnum Britanniae، وَلَّف فيه حكايات سِلْتية (كِلْتية) Celtic مع أساطير إغريقية ورومانية وأقاصيص توراتية وإنجيلية، وقدمها على أنها التاريخ البريطاني القديم. وصار هذا الكتاب في العصر الوسيط من أكثر الكتب رواجاً، ومرجعاً في الوقت نفسه لكثير من حكايات البطولة التي نسجت عن شخصية الملك آرثر [ر].
ويرى بعض الباحثين في التراث الشكسبيري أن عملاق المسرح الإنكليزي عبر العصور هو أحد سادة النحل عالمياً، فباستثناء مسرحية «العاصفة» تعود مسرحيات شكسبير السبع والثلاثون من حيث حكاياتها وحبكاتها وجزء كبير من حواراتها إلى قصص وروايات ومسرحيات إيطالية وإسبانية وفرنسية وإنكليزية؛ في حين يبرز إنجازه الحقيقي بصفته رجل مسرح ومفكراً في عصره في صياغته اللغوية الشعرية المميزة وفي موقفه الفكري التنويري تجاه قضايا الإنسان عامة وعصره خاصة.
وفي هذا السياق أيضاً يندرج إبداع المسرحي الألماني برتولد بريشت [ر:بريخت] الذي استقى معظم موضوعاته من التراث الصيني والهندي والشكسبيري، وكذلك أيضاً المسرحي الفرنسي جان جيرودو [ر] والمسرحي العربي توفيق الحكيم [ر]، وغيرهم كثير في الآداب العالمية.
وحتى اليوم مازالت مسألة النحل موضع جدل فكري من جهة وقانوني من جهة أخرى، سواء على الصعيد العالمي أم المحلي. ولابد هنا في الختام من الإشارة إلى التداعيات التي نتجت عن كتاب طه حسين [ر] «في الشعر الجاهلي» من مقالات وبحوث وأطروحات علمية ـ على مستوى الماجستير والدكتوراه ـ اهتمت بمناقشة آراء طه حسين ودعمها أو تفنيدها.
نبيل الحفار
Plagiarism - Plagiat
النحل الأدبي (عالمياً)
النحل أو الانتحال أو السرقة الأدبية، مسميات متعددة في تاريخ الأدب، لكنها تدل على فعل محددٍ صار له توصيف قانوني يحدد ماهيته وما يترتب عليه من مسؤولية، في إطار حقوق التأليف والنشر والاتفاقات الدولية المتعلقة بها.
والمقصود بالنحل الأدبي plagiarism (باللاتينية plagium = سرقة البشر وبيعهم على أنهم ملكية خاصة) هو السطو على عمل أدبي/ فكري أو على جزء منه وتقديمه أو نشره باسم من ارتكب عملية السطو؛ أو تأليف عمل أدبي/ فكري بقلم كاتب مغمور أو معروف ونسْبه ـ لأسباب معينة ـ إلى كاتب آخر، غالباً من زمن سابق [ر. النحل في الأدب العربي].
تعود أقدم عملية نحل معروفة إلى القرن الأول الميلادي في روما عندما نشر المدعو فيدِنِْتينوس Fidentinus باسمه مجموعة قصائد تعود إلى الشاعر مارتياليس Martialis ت(40ـ102م) الذي كان قد وصف عملية نشر قصيدة بمنزلة منح عبدٍ حريته، وعملية النحل بمنزلة اختطاف الأحرار وبيعهم رقيقاً. يتبين من هذا المثال مدى ازدراء الناس عملية النحل منذ القديم واحتقارهم مُمارسِه، مهما كان موقعه الاجتماعي؛ ولاشك في أن الأمر كان كذلك في الحضارات الأخرى.
إلا أنه لابد من التمييز بين النحل والاقتباس، حتى وإن لم يُشِر المقتبس إلى مصدره، واضعاً في حسبانه كون المصدر معروفاً من قبل الجميع، إلا أن هدف الاقتباس هو تقديم المادة المقتبسة في رؤية فنية وفكرية جديدة تختلف عن الأصل. وهذه هي حال جميع كتّاب المأساة الإغريقية في القرن الخامس قبل الميلاد، ولاسيما منهم أسخيلوس [ر] وسوفوكليس [ر] وأوربيديس [ر] الذين اقتبسوا معظم موضوعات مسرحياتهم من الملاحم والأساطير الإغريقية. إلا أن كلاً منهم عالج المادة نفسها وقدمها بتأويله الخاص، دينياً واجتماعياً وفلسفياً، بل حتى على صعيد الشكل المسرحي؛ وكما هي حال كُتّاب الملهاة، وبالتحديد أريستوفانِس [ر] الذي سخر في مسرحياته تحديداً من انتحالات الفلاسفة، فيما بينهم، أفكار بعضهم بعضاً، ولاسيما منهم السفسطائيون الذين أفسدوا أخلاق شباب أثينا فأضعفوها في المواجهة الحاسمة مع العدو، أي إسبارطة التي تبنت نظاماً تربوياً عسكرياً يتناقض مع نظام أثينا الديمقراطي.
أما في عصر الباروك [ر] فقد كان الاقتباس أمراً شائعاً جداً، ولكن غالباً بقصد المحاكاة الساخرة [ر] ومن دون إثارة مشكلات من جانب المقتَبَس منهم، الذين وجدوا في العملية إحياءً غير مباشر لأعمالهم، يسهم في شهرتهم.
إن للنحل أسباباً مختلفة، منها الربح المادي، أو تحقيق الشهرة، أو الكسب المعنوي؛ ولكن يُحتمل أن تكمن وراءه محفزات سياسية لخدمة أغراض معينة، قد تكون عامة وقد تكون شخصية، ويحتمل أن تتداخل طبيعة الأغراض وتنوعها لمصلحة هدف واحد مشترك. ومن أحدث الأمثلة على ذلك استخدام المخابرات الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش الابن، رسالة تخرج في درجة الإجازة في العلوم السياسية حول مشروعات التسلح في العراق، قدمها طالب عراقي قبل عشر سنوات خلت، من دون ذكر المرجع ونسبت المعلومات فيها إلى استخباراتها، وذلك لتبرير غزوها العراق للقضاء على أسلحة الدمار الشامل التي زعمت وجودها فيه.
أما على صعيد البحث العلمي فإن الاقتباس لا يعد نحلاً، بل هو أمر شائع وقانوني، بشرط أن يشير صاحب البحث إلى المصادر والمراجع التي اقتبس منها، وعلى نحو علمي دقيق، إما في الهوامش أو في البيبلوغرافيا bibliography الملحقة بمتن البحث. والهدف من الاقتباس في البحوث العلمية هو تأكيد رأي الباحث بصدد مسألة ما، أو دحض رأي المقتبس منه بالتحليل والمناقشة أو استعراض وجهات نظر متقاربة أو متباينة في موضوع معين. وقد ورد في قانون حماية الملكية الفكرية النص التالي: «إن الاستخدام الحر لعمل فكري - خاضع لقانون حماية الملكية - أمر مسموح به، إذا كان الهدف إبداع عمل جديد مستقل؛ بشرط أن تتوافر في هذا العمل الجديد جميع شروط العمل الفكري وأن يتفوق إبداعياً على العمل المستخدم، وإن كان التفوق نسبياً» (اتفاقية جنيڤ الدولية لحماية حقوق الملكية الفكرية، باللغة الألمانية). وفي مجال البحث العلمي ـ وليس في الإبداع الفني ـ يُعد الأمر نحلاً إذا غيَّر الباحث صياغة نص ما من دون الإشارة إلى مصدر النص، أو إذا تبنى حجة أو رأياً لباحث آخر من دون ذكر صاحبه ومكان وروده. وثمة تمييز بين النحل الكامل (السطو على نص بأكمله) وبين النحل الجزئي، وكذلك بين النحل اللفظي (السطو على صياغة المؤلف حَرْفياً) وبين نحل الأفكار (في صياغة لغوية مختلفة عن الأصل ومن دون ذكر هذا الأصل). إضافة إلى ذلك هناك أنواع خاصة من النحل، مثل النحل الذاتي، حينما يستغل الباحث كتاباته السابقة في عمله الجديد. وغالباً ما يحاول بعضهم تبرير عملية النحل بقولهم: إنهم قرأوا هذه الفكرة ذات مرة في مكان ما، لكنهم نسوا أين كان ذلك. وثمة تمييز آخر بين النحل من جهة والتزييف من جهة أخرى، إذ إن العمل المزيَّف لا يتطابق مع الأصل تطابقاً كاملاً، كما أن المزيِّف لا ينسب إنتاجه إلى نفسه بل إلى شخص آخر. كما لابد من التمييز أيضاً بين النحل والتقليد (كثرَ ما قلّد الشعراء الشباب أسلوب نزار قباني مثلاً).
إلا أنه من الصعب وضع حدود واضحة المعالم بين حالة نحل وحالة تعدٍ على حقوق الملكية، عندما يقوم كاتب ما بأخذ فكرة أو موضوع ما من مؤلِّف شهير ـ تخضع مؤلفاته لحقوق الملكية ـ ولكن خارج السياق التخييلي الأدبي لهذا المؤلف، ويعالجها بأسلوبه الخاص انطلاقاً من موقفه الفكري، في رواية أو قصة أو قصيدة.
وعلى صعيد المدارس الثانوية والجامعات عالمياً ثمة ظاهرة متفشية إلى درجة الخطورة، أطلق عليها في الدراسات التربوية تسمية «ثقافة النحل»؛ وهي تدل من جهة على تدني الوعي لدى الطلبة بضرورة الأمانة العلمية في الأعمال البحثية المختلفة التي يقدمونها في أثناء دراستهم، وتدل من جهة أخرى كذلك على تقصير المدرسين المربين في القيام بواجبهم تجاه طلبتهم، سواء على صعيد تنبيههم إلى واجبات الباحث العلمية، أو على صعيد قصورهم في الكشف عن كثير من حالات النحل الفاضحة، واتخاذ الإجراءات التربوية اللازمة حيال ذلك. والأدهى من ذلك هو انتحال بعض المدرسين أعمال طلبتهم ونشرها بأسمائهم بعد إجراء التصحيحات اللغوية والأسلوبية الضرورية.
وبالعودة إلى تاريخ الأدب العالمي يعثر المرء على حالات مذهلة من عمليات النحل الأدبي التي تركت بصمات واضحة التأثير في الحركة الأدبية، منها على سبيل المثال «قصائد توماس راولي» The Poems of Thomas Rowley التي نظمها الشاعر الإنكليزي الشاب توماس تشاترتُن Thomas Chatterton ت(1752ـ1770) بأسلوب شعراء القرون الوسطى ونَسَبها إلى رجل دين مزعوم من ذلك العصر. وقد تسببت هذه القصائد آنذاك في نزاعات علمية بين المختصين استمرت عدة سنوات، حتى اكتُشف النحل، فلوحق الشاعر اليافع من جهات عدة، وعندما ازدادت عليه الضغوط فلم يعد قادراً على احتمالها انتحر وهو في التاسعة عشرة من عمره، لكن دور أشعاره في إحياء التراث الغوطي (القوطي) Gothic revival كان بالغ الأهمية، ومنحه مكانة خاصة في تاريخ الأدب الإنكليزي. وبعده بثلاثة عقود نَسب وليم هنري آيرلند William Henry Ireland ت(1777ـ1835) عدداً سخياً من مسرحياته إلى شكسبير[ر]، إلى أن كُشفت عملية النحل عند عرض مأساته «فورتيغرن وروينا» Vortigern and Rowena على خشبة مسرح دروري لين Drury Lane Theatre في عام 1896، فانفضح الكاتب الناحل، وسرعان ما صارت أعماله طي النسيان. أما تشارلز بِرترام Charles Bertram فقد كان أكثر دهاءً وحظاً من سابقه عندما وضع في مطلع القرن التاسع عشر مؤلفاً عن تاريخ بريطانيا الرومانية ونَسَبه إلى راهب متخيل أسماه رتشارد أُف وستمنستر Richard of Westminster؛ وإذا بجامع العاديات الغريب الأطوار الدكتور وليم سْتكلي W.Stukeley يطابق بين شخصية الراهب المتخيل وبين الراهب المؤرخ رتشارد أُف سايرِينْسِِستر Richard of Cirencester، المعروف أنه أقام في القرن الرابع عشر في وستمنستر. وقد ظهر دهاء برترام في نشره مؤلفه في مجلد واحد مع كتابين أصليين لمؤلِفين قديمين هما غيلداس Gildas ونِنْيوس Nennius. والمشكلة في الموضوع هو أن هذا العمل المنحول قد عُد مرجعاً للباحثين في تاريخ بريطانيا الرومانية، حتى القرن العشرين، في حين أن واضعه هو أحد هواة التاريخ القديم ولا يتصف بأي مصداقية توثيقية لما أورده في مؤلفه. وثمة مثال مشابه أكثر قدماً، لابدّ من ذكره هنا كنوع من النحل، فنحو عام 1135م نشر جِفري أُف مونْمث Jeoffrey of Monmouth ـ هو مؤرخ غير متخصص - كتاباً باللاتينية بعنوان «تاريخ المملكة البريطانية» Historia Regnum Britanniae، وَلَّف فيه حكايات سِلْتية (كِلْتية) Celtic مع أساطير إغريقية ورومانية وأقاصيص توراتية وإنجيلية، وقدمها على أنها التاريخ البريطاني القديم. وصار هذا الكتاب في العصر الوسيط من أكثر الكتب رواجاً، ومرجعاً في الوقت نفسه لكثير من حكايات البطولة التي نسجت عن شخصية الملك آرثر [ر].
ويرى بعض الباحثين في التراث الشكسبيري أن عملاق المسرح الإنكليزي عبر العصور هو أحد سادة النحل عالمياً، فباستثناء مسرحية «العاصفة» تعود مسرحيات شكسبير السبع والثلاثون من حيث حكاياتها وحبكاتها وجزء كبير من حواراتها إلى قصص وروايات ومسرحيات إيطالية وإسبانية وفرنسية وإنكليزية؛ في حين يبرز إنجازه الحقيقي بصفته رجل مسرح ومفكراً في عصره في صياغته اللغوية الشعرية المميزة وفي موقفه الفكري التنويري تجاه قضايا الإنسان عامة وعصره خاصة.
وفي هذا السياق أيضاً يندرج إبداع المسرحي الألماني برتولد بريشت [ر:بريخت] الذي استقى معظم موضوعاته من التراث الصيني والهندي والشكسبيري، وكذلك أيضاً المسرحي الفرنسي جان جيرودو [ر] والمسرحي العربي توفيق الحكيم [ر]، وغيرهم كثير في الآداب العالمية.
وحتى اليوم مازالت مسألة النحل موضع جدل فكري من جهة وقانوني من جهة أخرى، سواء على الصعيد العالمي أم المحلي. ولابد هنا في الختام من الإشارة إلى التداعيات التي نتجت عن كتاب طه حسين [ر] «في الشعر الجاهلي» من مقالات وبحوث وأطروحات علمية ـ على مستوى الماجستير والدكتوراه ـ اهتمت بمناقشة آراء طه حسين ودعمها أو تفنيدها.
نبيل الحفار