بعد عودته من روما إلى الوطن فاتح المدرس الفنان المثال 3 …
(كفرجنة) اللوحة التي أرخت للحداثة في الفن التشكيلي السوري سبقتها تجارب انطباعية حداثية، لكن الحداثة بدأت بها
سعد القاسم
«لقد كان حدثاً فنياً مهماً عودة فاتح المدرس من روما إلى الوطن. كنا يومها طلاباً في معهد الفنون الجميلة والهندسة المعمارية قادمين من محافظات أخرى مدفوعين بشوق دراسة الفن الذي لم يكن له فيها حضور إلا في أذهاننا وفي الكتب والمجلات وفيما يتناقله الأصدقاء الهواة وخفية في منازلنا. وكانت لوحة (كفر جنة) عالقة في ذاكرتنا ضاجة باللون وعبق أرض الشمال».
أقوال متناقضة
هذا المقتطف من مقالة الفنان رضا حسحس يشير إلى الأهمية التي شغلتها لوحة (كفر جنة) لدى الرعيل الأول من طلاب المعهد العالي للفنون الجميلة (كلية الفنون الجميلة – فيما بعد) بعد ثماني سنوات من فوزها بالجائزة الأولى في المعرض السنوي لعام 1952 والذي أثار يومذاك جدلاً واسعاً وحاداً ومتناقضاً بين استصغار شأن اللوحة، إلى القول إنها منسوخة عن لوحة من أميركا اللاتينية. وتترجم هذه الأقوال المتناقضة ردة الفعل على ذلك الحدث، التي انطلقت أساساً من موقف الفنانين الواقعيين، وأحياناً غيرتهم، إلى حد أن أحد النصوص يتحدث عن أن فناناً واقعياً كبيراً قد أقدم لشدة غيظه على تمزيق اللوحة بسكين جلبها من أجل ذلك. لكن ما ينفي صحة هذه الرواية ليس فقط أنها لم توثق في أي مصدر، أو تذكر على لسان أي من الفنانين: صاحب اللوحة، والمعتدي عليها. وإنما – ببساطة – لأن اللوحة مرسومة على لوح خشبي، لا على القماش. وهي محفوظة من دون أي خدش في المتحف الوطني بدمشق.
الجدل حول لوحة
خصوصية الجدل التاريخي الذي أثاره فوز (كفر جنة) يكمن أساساً في أن اللجنة التي منحتها الجائزة كانت تتأثر إلى حد كبير برأي الرائد المعلم محمود جلال، المنحاز إلى الواقعية الدقيقة، وحتى الكلاسيكية. وهذا ما يضاعف أهمية الحدث – من جهة – ويشير – من جهة ثانية – إلى رحابة المعلم جلال وأفقه المفتوح على المستقبل، وهو من كان له الفضل الأكبر على نهضة الفن السوري بإيفاده الشبان الموهوبين للدراسة في ايطاليا وفرنسا ومصر.
وإذ اُعتبر فوز (كفر جنة) تاريخاً للحداثة في الفن التشكيلي السوري، فلأن ذلك التاريخ يختلف عن تاريخها في الفن الأوروبي، والذي يُربط بظهور الانطباعية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ويُؤرخ أحياناً بلوحة كلود مونيه الشهيرة (انطباع شروق الشمس) عام 1874 رغم وجود تجارب انطباعية أوروبية سابقة لها زمنياً، أو ممهدة لها. وهذا ما ينطبق أيضاً على (كفر جنة) إذ لم يكن اعتبارها بداية للحداثة في الفن التشكيلي السوري ليعني بأي حال من الأحوال أنه لم تكن هناك تجارب حداثية سابقة لها، والأمر هذا لا يشمل التجارب الانطباعية السورية، فالفنان المعلم ميشيل كرشة رائد الانطباعية في الفن التشكيلي السوري بدأ بعرض لوحاته الانطباعية في العشرينيات، أي بعد نحو نصف قرن من ظهور الانطباعية في فرنسا. فيما كان فاتح المدرس – والحال ليست مقارنة بين فنانين معلمين أو تفضيل أحدهما على الآخر – منذ بداياته المبكرة يسعى إلى حرية أكبر في التعبير، بدأ بتلمسها بعد مرحلة سيريالية لم تدم طويلاً، فمزج في لوحته بين المفاهيم الانطباعية التي كانت سائدة يومذاك وبين توجهاته التعبيرية، كأنه أراد ألا يبقيها أسيرة الحالة البصرية الفيزيائية للانطباعية، التي سعى فنانون أمثال فان كوخ وغوغان وماتيس لتحميلها بُعداً شخصياً، فاختار تلك المقاربة المشهدية بين الشجرة الراسخة في الأرض وبين المرأة الريفية المتحدة بدورها بالأرض، على خلفية من واقع الطبيعة في الشمال السوري حيث تمتد سهول القمح الصفراء، التي تكاد تخلو إلا من بضع أشجار متناثرة. وبصرف النظر إن كان لوجود القمح دلالة تتعلق بثقافة منطقتنا أو كان هذا الوجود مجرد مصادفة فإنه أظهر الهوية البيئية المحلية التي ظهرت جلية أيضاً في ثوب الفلاحة، رغم غياب التفاصيل.
اللوحة والريف البعيد
تصور لوحة (كفر جنة)، وهي على اسم قرية صغيرة جميلة من ريف حلب، منظراً طبيعياً لما اختزنته ذاكرة المدرس البصرية في طفولته الأولى في قريته (حريتا)، حيث تبدو السهول ممتدة على اللانهاية تتماوج بين ألوانها الصفراء والخضراء، متحدة مع السماء المشرقة، تتناثر فيها أشجار قليلة متفرقة، تتوسط اللوحة امرأة لا نكاد نرى ملامحها تحمل على رأسها طبقاً من القش متجهة إلى عملها في الحقل، وتتناغم ألوان ثوبها الذي يطغى عليه اللون الأحمر مع الطبيعة المحيطة، ويتميز فيها، كما يتناغم امتشاقها مع امتشاق شجرة ضخمة مجاورة باسقة ترتفع إلى ما بعد أعلى حدود اللوحة. وفي عمق اللوحة خيال امرأة ثانية تكاد تبدو بدورها كأنها مزروعة بالأرض كالأشجار.
اللون والدور الفاعل
في مقالة نُشرت في العدد الأحدث من مجلة (الحياة التشكيلية) يقول الفنان والناقد محمود مكي متحدثاً عن اللوحة: «رسم فاتح لوحة (كفر جنة) في بداية عام 1952 بقياس (50 × 70) سم بالألوان الزيتية. اللوحة كمنظر تبدو عادية بألوانها وأشكالها، ولكن الذي ميزها ذلك الأسلوب الفني، والتقنية الجديدة، التي رسمها بها فاتح المدرس، والتي فتحت الباب على مصراعيه لولوج أساليب الفن الحديث في الذائقة البصرية السورية. تتوسط اللوحة امرأة تحمل على رأسها طبقاً من القش وهي تتجه إلى عملها في الحقل، يتماهى شكلها مع مساحات الألوان الأخرى، هي شكل إنساني لا نكاد نرى فيه أي معالم للوجه والجسد اللذين امتزجا مع ضربات الريشة العريضة السريعة والنزقة، ومع تأثيرات ضوء الشمس خلالها. وفي الجانب الأيمن من اللوحة شجرة ضخمة باسقة ترتفع إلى عنان السماء بألوانها الخضراء، وقد أخذ شكلها الجميل أكبر مساحة من اللوحة، تنغرس جذورها تحت الأرض بثبات وتنطلق جذوعها بقوة إلى الفضاء لتتقارب مع ضوء الشمس في وحدة تلاحمية جميلة بينهما، في آخر خط الأفق البعيد عنها، وضمن ضربات ريشة سريعة ونزقة لتتماهى بدورها مع المساحات اللونية المحيطة. وفي نهاية اللوحة خيال امرأة ثانية مسرعة الخطا، كأنها تلاحق المرأة الأولى التي توازي خط جذع الشجرة وتبدو منطلقة معها للأعلى. مساحة السماء الواسعة تتخللها خطوط لونية طولية من مشتقات اللون الأزرق الجميلة، تتصعد مع الشجرة والمرأة إلى الأعلى كمن يتحدى قوة الجاذبية الأرضية.
البيئة المحلية والتقنيات
اللوحة اشتغلها فاتح المدرس بمفاهيم البيئة المحلية التي سادت وانتشرت في الفن السوري، وبأساليب وتقنيات المدرسة الواقعية التأثيرية (الانطباعية) ومزجها بجمالية توافقية خاصة مع مفاهيم المدرسة التجريدية الحديثة التي ظهرت في الفن العالمي في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، ضمن رؤيته الفكرية المعبّرة جداً بوضوح الفكرة مع الرؤية الجمالية الجديدة في الفن التشكيلي السوري. وهذا ما ظهر واضحاً أيضاً من خلال اللمسات اللونية الكثيفة التي تظهر في المساحات اللونية الكبيرة. إن الحالة الانفعالية التي رسم بها الفنان فاتح المدرس هذه اللوحة الرائعة أكسبت اللوحة بتصميمها الكلي الحالة المأساوية التي تعيشها المرأة الريفية المقيدة بقيود اجتماعية وحياتية قاسية.. وبهذه اللوحة الجميلة بدأت الحركة التشكيلية السورية مرحلة جديدة في الحداثة الفنية، في مضمار الذائقة البصرية السورية».
وبقيت اللوحة خالدة
عادت (كفر جنة) لتشغل الاهتمام إثر إقامة الموسم الخامس لأيام الفن التشكيلي السوري العام الماضي تحت عنوان (سبعون عاماً من الحداثة) اعتماداً على مرور سبعين سنة على فوز اللوحة في المعرض السنوي. وقد اعتبر كثير من الباحثين والنقاد هذا الفوز بدايةً لتاريخ الحداثة في الفن التشكيلي السوري، إذ أعلن عن الاعتراف رسمياً بالحداثة، بعد أن كانت الجوائز حكراً على اللوحات الواقعية والانطباعية، كما أعلن عن انطلاق اتجاه يستمد مصادره من الطبيعة والناس في البيئة المحلية، ومن أساطير الأقدمين فيها وتراثهم الإبداعي المتمثل في نتاجات الفن الآشوري والآرامي والتدمري، وكذلك من أحداث الزمن الراهن.
وبصرف النظر عن الجدل السابق واللاحق، فإن لوحة (كفر جنة) أضحت أيقونة للحداثة في الفن التشكيلي السوري، الذي احتفى موسم أيامه الخامس بها، فاستعارها من المتحف الوطني بدمشق لتعرض في البهو الفخم لقاعة الأوبرا، بين سبع من لوحات المدرس المقتناة من وزارة الثقافة، والمتنوعة في موضوعاتها وألوانها.. والمتحدة في روحها وسموها الإبداعي.
(كفرجنة) اللوحة التي أرخت للحداثة في الفن التشكيلي السوري سبقتها تجارب انطباعية حداثية، لكن الحداثة بدأت بها
سعد القاسم
«لقد كان حدثاً فنياً مهماً عودة فاتح المدرس من روما إلى الوطن. كنا يومها طلاباً في معهد الفنون الجميلة والهندسة المعمارية قادمين من محافظات أخرى مدفوعين بشوق دراسة الفن الذي لم يكن له فيها حضور إلا في أذهاننا وفي الكتب والمجلات وفيما يتناقله الأصدقاء الهواة وخفية في منازلنا. وكانت لوحة (كفر جنة) عالقة في ذاكرتنا ضاجة باللون وعبق أرض الشمال».
أقوال متناقضة
هذا المقتطف من مقالة الفنان رضا حسحس يشير إلى الأهمية التي شغلتها لوحة (كفر جنة) لدى الرعيل الأول من طلاب المعهد العالي للفنون الجميلة (كلية الفنون الجميلة – فيما بعد) بعد ثماني سنوات من فوزها بالجائزة الأولى في المعرض السنوي لعام 1952 والذي أثار يومذاك جدلاً واسعاً وحاداً ومتناقضاً بين استصغار شأن اللوحة، إلى القول إنها منسوخة عن لوحة من أميركا اللاتينية. وتترجم هذه الأقوال المتناقضة ردة الفعل على ذلك الحدث، التي انطلقت أساساً من موقف الفنانين الواقعيين، وأحياناً غيرتهم، إلى حد أن أحد النصوص يتحدث عن أن فناناً واقعياً كبيراً قد أقدم لشدة غيظه على تمزيق اللوحة بسكين جلبها من أجل ذلك. لكن ما ينفي صحة هذه الرواية ليس فقط أنها لم توثق في أي مصدر، أو تذكر على لسان أي من الفنانين: صاحب اللوحة، والمعتدي عليها. وإنما – ببساطة – لأن اللوحة مرسومة على لوح خشبي، لا على القماش. وهي محفوظة من دون أي خدش في المتحف الوطني بدمشق.
الجدل حول لوحة
خصوصية الجدل التاريخي الذي أثاره فوز (كفر جنة) يكمن أساساً في أن اللجنة التي منحتها الجائزة كانت تتأثر إلى حد كبير برأي الرائد المعلم محمود جلال، المنحاز إلى الواقعية الدقيقة، وحتى الكلاسيكية. وهذا ما يضاعف أهمية الحدث – من جهة – ويشير – من جهة ثانية – إلى رحابة المعلم جلال وأفقه المفتوح على المستقبل، وهو من كان له الفضل الأكبر على نهضة الفن السوري بإيفاده الشبان الموهوبين للدراسة في ايطاليا وفرنسا ومصر.
وإذ اُعتبر فوز (كفر جنة) تاريخاً للحداثة في الفن التشكيلي السوري، فلأن ذلك التاريخ يختلف عن تاريخها في الفن الأوروبي، والذي يُربط بظهور الانطباعية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ويُؤرخ أحياناً بلوحة كلود مونيه الشهيرة (انطباع شروق الشمس) عام 1874 رغم وجود تجارب انطباعية أوروبية سابقة لها زمنياً، أو ممهدة لها. وهذا ما ينطبق أيضاً على (كفر جنة) إذ لم يكن اعتبارها بداية للحداثة في الفن التشكيلي السوري ليعني بأي حال من الأحوال أنه لم تكن هناك تجارب حداثية سابقة لها، والأمر هذا لا يشمل التجارب الانطباعية السورية، فالفنان المعلم ميشيل كرشة رائد الانطباعية في الفن التشكيلي السوري بدأ بعرض لوحاته الانطباعية في العشرينيات، أي بعد نحو نصف قرن من ظهور الانطباعية في فرنسا. فيما كان فاتح المدرس – والحال ليست مقارنة بين فنانين معلمين أو تفضيل أحدهما على الآخر – منذ بداياته المبكرة يسعى إلى حرية أكبر في التعبير، بدأ بتلمسها بعد مرحلة سيريالية لم تدم طويلاً، فمزج في لوحته بين المفاهيم الانطباعية التي كانت سائدة يومذاك وبين توجهاته التعبيرية، كأنه أراد ألا يبقيها أسيرة الحالة البصرية الفيزيائية للانطباعية، التي سعى فنانون أمثال فان كوخ وغوغان وماتيس لتحميلها بُعداً شخصياً، فاختار تلك المقاربة المشهدية بين الشجرة الراسخة في الأرض وبين المرأة الريفية المتحدة بدورها بالأرض، على خلفية من واقع الطبيعة في الشمال السوري حيث تمتد سهول القمح الصفراء، التي تكاد تخلو إلا من بضع أشجار متناثرة. وبصرف النظر إن كان لوجود القمح دلالة تتعلق بثقافة منطقتنا أو كان هذا الوجود مجرد مصادفة فإنه أظهر الهوية البيئية المحلية التي ظهرت جلية أيضاً في ثوب الفلاحة، رغم غياب التفاصيل.
اللوحة والريف البعيد
تصور لوحة (كفر جنة)، وهي على اسم قرية صغيرة جميلة من ريف حلب، منظراً طبيعياً لما اختزنته ذاكرة المدرس البصرية في طفولته الأولى في قريته (حريتا)، حيث تبدو السهول ممتدة على اللانهاية تتماوج بين ألوانها الصفراء والخضراء، متحدة مع السماء المشرقة، تتناثر فيها أشجار قليلة متفرقة، تتوسط اللوحة امرأة لا نكاد نرى ملامحها تحمل على رأسها طبقاً من القش متجهة إلى عملها في الحقل، وتتناغم ألوان ثوبها الذي يطغى عليه اللون الأحمر مع الطبيعة المحيطة، ويتميز فيها، كما يتناغم امتشاقها مع امتشاق شجرة ضخمة مجاورة باسقة ترتفع إلى ما بعد أعلى حدود اللوحة. وفي عمق اللوحة خيال امرأة ثانية تكاد تبدو بدورها كأنها مزروعة بالأرض كالأشجار.
اللون والدور الفاعل
في مقالة نُشرت في العدد الأحدث من مجلة (الحياة التشكيلية) يقول الفنان والناقد محمود مكي متحدثاً عن اللوحة: «رسم فاتح لوحة (كفر جنة) في بداية عام 1952 بقياس (50 × 70) سم بالألوان الزيتية. اللوحة كمنظر تبدو عادية بألوانها وأشكالها، ولكن الذي ميزها ذلك الأسلوب الفني، والتقنية الجديدة، التي رسمها بها فاتح المدرس، والتي فتحت الباب على مصراعيه لولوج أساليب الفن الحديث في الذائقة البصرية السورية. تتوسط اللوحة امرأة تحمل على رأسها طبقاً من القش وهي تتجه إلى عملها في الحقل، يتماهى شكلها مع مساحات الألوان الأخرى، هي شكل إنساني لا نكاد نرى فيه أي معالم للوجه والجسد اللذين امتزجا مع ضربات الريشة العريضة السريعة والنزقة، ومع تأثيرات ضوء الشمس خلالها. وفي الجانب الأيمن من اللوحة شجرة ضخمة باسقة ترتفع إلى عنان السماء بألوانها الخضراء، وقد أخذ شكلها الجميل أكبر مساحة من اللوحة، تنغرس جذورها تحت الأرض بثبات وتنطلق جذوعها بقوة إلى الفضاء لتتقارب مع ضوء الشمس في وحدة تلاحمية جميلة بينهما، في آخر خط الأفق البعيد عنها، وضمن ضربات ريشة سريعة ونزقة لتتماهى بدورها مع المساحات اللونية المحيطة. وفي نهاية اللوحة خيال امرأة ثانية مسرعة الخطا، كأنها تلاحق المرأة الأولى التي توازي خط جذع الشجرة وتبدو منطلقة معها للأعلى. مساحة السماء الواسعة تتخللها خطوط لونية طولية من مشتقات اللون الأزرق الجميلة، تتصعد مع الشجرة والمرأة إلى الأعلى كمن يتحدى قوة الجاذبية الأرضية.
البيئة المحلية والتقنيات
اللوحة اشتغلها فاتح المدرس بمفاهيم البيئة المحلية التي سادت وانتشرت في الفن السوري، وبأساليب وتقنيات المدرسة الواقعية التأثيرية (الانطباعية) ومزجها بجمالية توافقية خاصة مع مفاهيم المدرسة التجريدية الحديثة التي ظهرت في الفن العالمي في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، ضمن رؤيته الفكرية المعبّرة جداً بوضوح الفكرة مع الرؤية الجمالية الجديدة في الفن التشكيلي السوري. وهذا ما ظهر واضحاً أيضاً من خلال اللمسات اللونية الكثيفة التي تظهر في المساحات اللونية الكبيرة. إن الحالة الانفعالية التي رسم بها الفنان فاتح المدرس هذه اللوحة الرائعة أكسبت اللوحة بتصميمها الكلي الحالة المأساوية التي تعيشها المرأة الريفية المقيدة بقيود اجتماعية وحياتية قاسية.. وبهذه اللوحة الجميلة بدأت الحركة التشكيلية السورية مرحلة جديدة في الحداثة الفنية، في مضمار الذائقة البصرية السورية».
وبقيت اللوحة خالدة
عادت (كفر جنة) لتشغل الاهتمام إثر إقامة الموسم الخامس لأيام الفن التشكيلي السوري العام الماضي تحت عنوان (سبعون عاماً من الحداثة) اعتماداً على مرور سبعين سنة على فوز اللوحة في المعرض السنوي. وقد اعتبر كثير من الباحثين والنقاد هذا الفوز بدايةً لتاريخ الحداثة في الفن التشكيلي السوري، إذ أعلن عن الاعتراف رسمياً بالحداثة، بعد أن كانت الجوائز حكراً على اللوحات الواقعية والانطباعية، كما أعلن عن انطلاق اتجاه يستمد مصادره من الطبيعة والناس في البيئة المحلية، ومن أساطير الأقدمين فيها وتراثهم الإبداعي المتمثل في نتاجات الفن الآشوري والآرامي والتدمري، وكذلك من أحداث الزمن الراهن.
وبصرف النظر عن الجدل السابق واللاحق، فإن لوحة (كفر جنة) أضحت أيقونة للحداثة في الفن التشكيلي السوري، الذي احتفى موسم أيامه الخامس بها، فاستعارها من المتحف الوطني بدمشق لتعرض في البهو الفخم لقاعة الأوبرا، بين سبع من لوحات المدرس المقتناة من وزارة الثقافة، والمتنوعة في موضوعاتها وألوانها.. والمتحدة في روحها وسموها الإبداعي.