حين توفي أبي كنت في السادسة والعشرين من عمري، طالباً جامعياً وموظفاً مؤقتاً في القصر العدلي. وإلى ذلك الحين كان شعور غامض بالسعادة يملأ روحي كلما مددت يدي أول يوم العيد لآخذ من يده (العيدية). لم يتعلق الأمر يوماً بمبلغ هذه العيدية، فهو أقل بكثير من الراتب الذي كنت أتقاضاه. وإنما يتعلق بدلالة هذا الأمر المرتبط بمفاهيمه عن مسؤولية الأب، تلك المفاهيم النبيلة التي ورثها عن أبيه، حيث بقي جدي رحمه الله يعطيه مصروفاً شهرياً، أو (خرجية) كما كنا نسميها، حتى آخر يوم من حياة جدي، رغم أن أبي كان موظفاً، وكان يعيش وأمي وأبنائهما الخمسة في كنف جدي وبيته. لم يكن أبي ثرياً ولا صاحب أملاك واستثمارات، ولم يكن يعمل في دولة نفطية. كان راتبه كموظف بالكاد يغطي نفقاته. لكنه كان نبعاً من السخاء، كما كان نبعاً من العاطفة الأبوية المتوارية خلف مظهر رجولي تقليدي حقيقته الشهامة والشجاعة والنبل. في وجه أبي كنت - ولا أزال – أرى وجوه كل الآباء العطوفين الذين يمتزج في صوغهم الكرم والكرامة. فلا يكف عن الجود بكل موجود. ولا يصغر أمام نفسه وفي عيون أبنائه بموقف لا يليق بكرامة أب. وجه نقي نقيض لكل الوجوه التي لا تعرف المعنى الجوهري للأبوة.
كل عيد والآباء الحقيقيون الذين يفهمون الأبوة عطاء بخير وكرم وكرامة
كل عيد والآباء الحقيقيون الذين يفهمون الأبوة عطاء بخير وكرم وكرامة