هنغاريا (موسيقي في)
Hungary - Hongrie
هنغاريا (الموسيقى في ـ)
تتميز الموسيقى الهنغارية بخصوصيتها، وتختلف في نشأتها وأصولها عن الموسيقى الأوربية بسبب اختلاف تاريخ الشعب الهنغاري عن تاريخ بقية الشعوب التي استوطنت أوربا بعد سقوط الامبراطورية الرومانية القديمة. فالموسيقى الهنغارية لم تنشأ من التراتيل الكنسية الغريغورية؛ وإنما من الألحان القديمة لمجموعة من القبائل الشرقية التي توحدت على يد أتيلا Attila ت(405-453م) ملك الهون في القرن الخامس الميلادي، وغزت وسط أوربا، ومدت سيطرتها حتى روما، وجذورها مرتبطة بالأغاني والرقصات الشعبية لتلك القبائل، وتصل إلى ألحان القبائل التترية وإيقاعاتها حتى إلى الألحان الصينية القديمة، وتسبق التراتيل الغريغورية التي نشأت منها الموسيقى الغربية الحديثة بمئة عام على الأقل. وبعد استقرار الهون فيما يعرف اليوم باسم هنغاريا ودخولهم في الديانة المسيحية وصلتهم التراتيل الغريغورية؛ ولكن تأثيرها بقي ضعيفاً مقارنة بالدور الذي أدّته في غرب أوربا، ثم امتزجت ألحانهم بألحان الشعوب المجاورة؛ ولاسيما بالألحان الشعبية للشعوب السلوڤاكية، ولكنها حافظت على طابعها المميز المعروف اليوم في قوالب الموسيقى الشعبية الهنغارية التي انتشرت، وأثّرت في موسيقى وسط أوربا (النمسا، سلوڤاكيا، تشيكيا). والنموذج الأشهر لتلك القوالب هو «التشارداش» Tchardach. أما الموسيقى المتعددة الأصوات «البوليفوني» Polyphonie فقد تأخر وصولها إلى الموسيقى الهنغارية بعض الشيء، مثلها مثل التراتيل الغريغورية من قبلها بسبب سيطرة الألحان والأغاني الشعبية. واعتمد البلاط الهنغاري حتى هزيمة موهاتش Mohacs عام 1526- التي دمر فيها جيش السلطان العثماني سليمان الأول الجيش الهنغاري- على الموسيقيين الأجانب حصراً؛ ولاسيما الفلمنكيين منهم، وأسهمت هزيمة موهاتش ووقوع البلاد تحت السيطرة العثمانية في نشوء نوع من الفن الشعبي المركّب، هو مزيج من الألحان التركية والأغاني الدينية البروتستنتية القادمة من ألمانيا التي كانت نواة لما عرف فيما بعد بالرقصات الهنغارية Ungaresca.
في بداية القرن الثامن عشر- وبعد نحو مئتي عام من الوجود العثماني - بدأ اهتمام النبلاء الهنغار الذين غادروا هنغاريا فراراً من العثمانيين، وأقاموا في سلوڤاكيا والنمسا يتركز على الموسيقى الغربية الحديثة بعد عقود طويلة كانت فيها الموسيقى الشعبية هي السائدة في الأراضي الهنغارية، وتبلور في نهاية القرن الثامن عشر قالب الـ«فيربونك» Verbuñk الراقص الذي نشأ من الألحان والأغاني الشعبية المورافية والهنغارية والتركية، وامتزج بألحان غجر وسط أوربا، وعُرِف بنوعين: الأول لرجل أو لمجموعة رجال راقصة، والثاني للرقص الثنائي (شاب وفتاة في مقتبل العمر)، واختلط أحياناً بألحان قالب «التشارداش» الذي صار قالباً وطنياً، وتأثر به الموسيقيون الهنغار وعازفو الكمان الأوائل، مثل يانوش بيهاري Janos Bihari ت(1764-1827)، وأنتال تشيرماك Antal Csermák ت(1774-1822) اللذين ألفا معظم أعمالهما لآلة الكمان وبقالب الـ«فيربونك». ولم تخرج الموسيقى الهنغارية عن قوالب الأغاني والألحان الشعبية «التشارداش» والـ«فيربونك» إلا في منتصف القرن التاسع عشر على يد ثلاثة مؤلفين من أساتذة الجيل الأول من الموسيقيين الهنغار، وهم فرانتس إيركل Ferenc Erkel ت(1810-1893) وفرانتس ليست[ر] Ferenc Liszt ت(1811-1886) وميهالي موسونيي Mihaly Mosonyi ت(1815-1870) الذين حاولوا المزج بين عناصر الموسيقى الشعبية الهنغارية وما جاءت به الموسيقى الغربية من عهد باخ حتى بتهوڤن، وألّف إيركل ثماني أوبرات أشهرها «بانك بان» Bánk bán ت(1861) التي تعدّ اليوم الأوبرا الوطنية الهنغارية الأولى، ولم يستغن في أعماله عن قالب الـ«فيربونك» الشعبي الراقص. ومن ألحانه اقتُبِسَ النشيد الوطني الهنغاري الذي ألّفه عام 1844، واعُتمِد نشيداً لهنغاريا عام 1903. كذلك كان مواطنه موسونيي متحمساً لموسيقى هنغارية أصيلة، وقد نشر عدداً كبيراً من المقالات دافع فيها عن الموسيقى الهنغارية والأفكار الوطنية، وكانت النزعة القومية هي السائدة في أعماله، وقد ألّف ثلاث أوبرات وسمفونيتين وعدداً من الأغاني الوطنية. أما فرانتس ليست - وهو أشهر أساتذة الجيل الأول من المؤلفين الهنغار - فقد تأثر في بداية حياته ببتهوڤن وأساتذة الموسيقى الألمانية، وقضى طفولته في فرنسا، واكتشف بعد عودته إلى هنغاريا التي كان قد غادرها طفلاً صغيراً أنه لا يجيد اللغة الهنغارية! ويعدّ تأثيره في الموسيقى الأوربية وفي معاصريه ڤاغنر وبرليوز وشوبان وشومان أكبر بكثير من تأثيره في الموسيقى الهنغارية التي لم يشأ أن يعترف بأنه لا يمت إليها إلا باسمه وبمهارته في العزف على البيانو؛ لذا فقد حاول دراسة اللغة الهنغارية بعد عودته إلى بلاده، وألّف كتاباً ممتلئاً بالأغلاط عن الألحان الشعبية وموسيقى الغجر كان على بارتوك[ر] Béla Bártok وكوداي[ر] Z.Kodaly أن يصححاه بعد عدة عقود.
كان موسيقيو الجيل الثاني من أساتذة المدرسة الهنغارية أكثر تمسكاً بالتقاليد الأصيلة للموسيقى الهنغارية المتحدرة من الألحان والقوالب الشعبية، وحاولوا التخلص من تأثيرات المدرسة الرومنسية الألمانية التي جاء بها ليست إلى هنغاريا، فانصب اهتمام زولتان كوداي على دراسة تاريخ الموسيقى الشعبية جذورها ومصادرها، وألّف أعمالاً غنية بالألحان الشعبية التي عرفها بوساطة دراساته أشهرها أوبرا «هاري يانوش» Háry János، وبعضاً من المصنفات «الأوركسترالية» المتميزة الغنية بالألحان الشعبية، مثل «رقصات غالانتا» Dances of Galánta و«رقصات ماروشيك» Dances of Marosszék، وشاركه في أبحاثه على الموسيقى الشعبية بيلا بارتوك الذي شملت دراساته ألحان الشعوب المجاورة والبعيدة وأغانيها، وقد ألّف في هذا المجال عدداً من الأعمال النظرية المهمة مثل: «الأغاني الشعبية الهنغارية» و«موسيقانا الشعبية» و«الموسيقى الشعبية للشعوب المجاورة» و«لماذا وكيف نجمع الموسيقى الشعبية؟»، وجمع نحو 8000 تسجيل مختلف للموسيقى الشعبية، وألّف أعمالاً تميزت باستقلاليتها عن جميع مدارس التأليف الموسيقي المعروفة بأسلوب تعبيري تجريبي، اعتمد فيه على معرفته الواسعة بالألحان والأغاني الشعبية، وإن كان على خلاف غيره من معاصريه الذين اهتموا بالموسيقى الشعبية مثل ياناتشيك أو كوداي لم يستخدم أيّ لحن شعبي بصيغته الأصلية. وقد تميزت الموسيقى الهنغارية على يديه باستقلاليتها، وانفردت في تطورها عبر التاريخ باعتمادها على الموسيقى الشعبية أكثر من اعتمادها على الموسيقى التي تطورت داخل جدران الكنائس حتى وصلت إلى ذروتها، وتأثر بأعماله الفريدة - ولاسيما الأوركسترالية منها مثل «موسيقى لفرقـة وتـريات وآلات إيقاعية وسلسلتا» (1936) و«حوارية[ر] (كونشرتو) الأوركسترا» (1943) و«الحوارية الثالثة للبيانو والأوركسترا» (1944) - جيل طويل من الموسيقيين ليس في هنغاريا وحدها؛ وإنما في أوربا كلها وفي الولايات المتحدة حيث تُوفِّي فقيراً معدماً عام 1945.
شهد النصف الثاني من القرن العشرين تحولاً في الطريق التي سلكتها الموسيقى الهنغارية منذ نشأتها حيث اتخذت طريقاً أوربياً أقل اعتماداً على إرث الموسيقى الشعبية، وفقدت بذلك شيئاً من خصوصيتها وبريقها. فقد تأثر الجيل الجديد من الموسيقيين الشباب الذين جاؤوا بعد الحرب العالمية الثانية بالموسيقى اللالحنية وموسيقى الاثني عشر صوتاً القادمة من ڤيينا والغريبة عن روح الموسيقى الهنغارية اللحنية. ويعدّ غيورغي ليغيتي György Ligeti ت(1923-2006) - وهو هنغاري يهودي ولد في رومانيا، وعاش في ڤيينا، وألّف أعمالاً أوربية أكثر منها هنغارية - أبرز ممثلي هذه المدرسة، وربما جعله انتماؤه اليهودي أكثر قرباً وتأثراً بالموسيقى اللالحنية التي جاء بها اليهودي النمساوي أرنولد شونبرغ Arnold Schonberg من الموسيقى التي جاء بها مواطنه بارتوك. ومن أشهر مؤلفي جيل ما بعد الحرب أيضاً رودولف ماروش Rudolf Maros ت(1917-1982) الذي درس عند كوداي، وحاول المزج بين الموسيقى الشعبية الهنغارية والموسيقى المعاصرة، ثم إميل بيتروفيتش (1930) الذي يعدّ اليوم الممثل الأول للموسيقى الهنغارية الحديثة في أعماله التي عرفت نجاحاً كبيراً في هنغاريا، مثل أوبرا «هذه هي الحرب» C’est la guerre، وعشر كانتاتات متميزة الأخيرة منها مخصصة لذكرى فرانتس ليست.
زيد الشريف
Hungary - Hongrie
هنغاريا (الموسيقى في ـ)
تتميز الموسيقى الهنغارية بخصوصيتها، وتختلف في نشأتها وأصولها عن الموسيقى الأوربية بسبب اختلاف تاريخ الشعب الهنغاري عن تاريخ بقية الشعوب التي استوطنت أوربا بعد سقوط الامبراطورية الرومانية القديمة. فالموسيقى الهنغارية لم تنشأ من التراتيل الكنسية الغريغورية؛ وإنما من الألحان القديمة لمجموعة من القبائل الشرقية التي توحدت على يد أتيلا Attila ت(405-453م) ملك الهون في القرن الخامس الميلادي، وغزت وسط أوربا، ومدت سيطرتها حتى روما، وجذورها مرتبطة بالأغاني والرقصات الشعبية لتلك القبائل، وتصل إلى ألحان القبائل التترية وإيقاعاتها حتى إلى الألحان الصينية القديمة، وتسبق التراتيل الغريغورية التي نشأت منها الموسيقى الغربية الحديثة بمئة عام على الأقل. وبعد استقرار الهون فيما يعرف اليوم باسم هنغاريا ودخولهم في الديانة المسيحية وصلتهم التراتيل الغريغورية؛ ولكن تأثيرها بقي ضعيفاً مقارنة بالدور الذي أدّته في غرب أوربا، ثم امتزجت ألحانهم بألحان الشعوب المجاورة؛ ولاسيما بالألحان الشعبية للشعوب السلوڤاكية، ولكنها حافظت على طابعها المميز المعروف اليوم في قوالب الموسيقى الشعبية الهنغارية التي انتشرت، وأثّرت في موسيقى وسط أوربا (النمسا، سلوڤاكيا، تشيكيا). والنموذج الأشهر لتلك القوالب هو «التشارداش» Tchardach. أما الموسيقى المتعددة الأصوات «البوليفوني» Polyphonie فقد تأخر وصولها إلى الموسيقى الهنغارية بعض الشيء، مثلها مثل التراتيل الغريغورية من قبلها بسبب سيطرة الألحان والأغاني الشعبية. واعتمد البلاط الهنغاري حتى هزيمة موهاتش Mohacs عام 1526- التي دمر فيها جيش السلطان العثماني سليمان الأول الجيش الهنغاري- على الموسيقيين الأجانب حصراً؛ ولاسيما الفلمنكيين منهم، وأسهمت هزيمة موهاتش ووقوع البلاد تحت السيطرة العثمانية في نشوء نوع من الفن الشعبي المركّب، هو مزيج من الألحان التركية والأغاني الدينية البروتستنتية القادمة من ألمانيا التي كانت نواة لما عرف فيما بعد بالرقصات الهنغارية Ungaresca.
دار الأوبرا الهنغارية في بودابست |
كان موسيقيو الجيل الثاني من أساتذة المدرسة الهنغارية أكثر تمسكاً بالتقاليد الأصيلة للموسيقى الهنغارية المتحدرة من الألحان والقوالب الشعبية، وحاولوا التخلص من تأثيرات المدرسة الرومنسية الألمانية التي جاء بها ليست إلى هنغاريا، فانصب اهتمام زولتان كوداي على دراسة تاريخ الموسيقى الشعبية جذورها ومصادرها، وألّف أعمالاً غنية بالألحان الشعبية التي عرفها بوساطة دراساته أشهرها أوبرا «هاري يانوش» Háry János، وبعضاً من المصنفات «الأوركسترالية» المتميزة الغنية بالألحان الشعبية، مثل «رقصات غالانتا» Dances of Galánta و«رقصات ماروشيك» Dances of Marosszék، وشاركه في أبحاثه على الموسيقى الشعبية بيلا بارتوك الذي شملت دراساته ألحان الشعوب المجاورة والبعيدة وأغانيها، وقد ألّف في هذا المجال عدداً من الأعمال النظرية المهمة مثل: «الأغاني الشعبية الهنغارية» و«موسيقانا الشعبية» و«الموسيقى الشعبية للشعوب المجاورة» و«لماذا وكيف نجمع الموسيقى الشعبية؟»، وجمع نحو 8000 تسجيل مختلف للموسيقى الشعبية، وألّف أعمالاً تميزت باستقلاليتها عن جميع مدارس التأليف الموسيقي المعروفة بأسلوب تعبيري تجريبي، اعتمد فيه على معرفته الواسعة بالألحان والأغاني الشعبية، وإن كان على خلاف غيره من معاصريه الذين اهتموا بالموسيقى الشعبية مثل ياناتشيك أو كوداي لم يستخدم أيّ لحن شعبي بصيغته الأصلية. وقد تميزت الموسيقى الهنغارية على يديه باستقلاليتها، وانفردت في تطورها عبر التاريخ باعتمادها على الموسيقى الشعبية أكثر من اعتمادها على الموسيقى التي تطورت داخل جدران الكنائس حتى وصلت إلى ذروتها، وتأثر بأعماله الفريدة - ولاسيما الأوركسترالية منها مثل «موسيقى لفرقـة وتـريات وآلات إيقاعية وسلسلتا» (1936) و«حوارية[ر] (كونشرتو) الأوركسترا» (1943) و«الحوارية الثالثة للبيانو والأوركسترا» (1944) - جيل طويل من الموسيقيين ليس في هنغاريا وحدها؛ وإنما في أوربا كلها وفي الولايات المتحدة حيث تُوفِّي فقيراً معدماً عام 1945.
شهد النصف الثاني من القرن العشرين تحولاً في الطريق التي سلكتها الموسيقى الهنغارية منذ نشأتها حيث اتخذت طريقاً أوربياً أقل اعتماداً على إرث الموسيقى الشعبية، وفقدت بذلك شيئاً من خصوصيتها وبريقها. فقد تأثر الجيل الجديد من الموسيقيين الشباب الذين جاؤوا بعد الحرب العالمية الثانية بالموسيقى اللالحنية وموسيقى الاثني عشر صوتاً القادمة من ڤيينا والغريبة عن روح الموسيقى الهنغارية اللحنية. ويعدّ غيورغي ليغيتي György Ligeti ت(1923-2006) - وهو هنغاري يهودي ولد في رومانيا، وعاش في ڤيينا، وألّف أعمالاً أوربية أكثر منها هنغارية - أبرز ممثلي هذه المدرسة، وربما جعله انتماؤه اليهودي أكثر قرباً وتأثراً بالموسيقى اللالحنية التي جاء بها اليهودي النمساوي أرنولد شونبرغ Arnold Schonberg من الموسيقى التي جاء بها مواطنه بارتوك. ومن أشهر مؤلفي جيل ما بعد الحرب أيضاً رودولف ماروش Rudolf Maros ت(1917-1982) الذي درس عند كوداي، وحاول المزج بين الموسيقى الشعبية الهنغارية والموسيقى المعاصرة، ثم إميل بيتروفيتش (1930) الذي يعدّ اليوم الممثل الأول للموسيقى الهنغارية الحديثة في أعماله التي عرفت نجاحاً كبيراً في هنغاريا، مثل أوبرا «هذه هي الحرب» C’est la guerre، وعشر كانتاتات متميزة الأخيرة منها مخصصة لذكرى فرانتس ليست.
زيد الشريف