الرجل المعلق في الفضاء، فقاعة في معرض التشكيلي اللبناني فادي شمعة
رؤية فنية لعالم ناج من ثقل الأرض وهمومها.
هموم ومشاكل على هيئة فقاعات
يصور لنا الفنان اللبناني فادي شمعة في معرضه الجديد مدى انبهاره بالفقاعات وخفتها وأشكالها اللعوبة، وهو يحاول رصد تحولاتها المختلفة قبل تلاشيها، مطوعا الفقاعات ليخلق منها أشكالا وشخوصا معلقة في الفضاء.
افتتحت صالة “جانين ربيز” في بيروت يوم العاشر من نوفمبر معرضا فرديا للفنان التشكيلي اللبناني فادي شمعة وهو الأول له في هذا الحيّز الفني. عنوان المعرض هو “فقاعة” ويستمر حتى مطلع ديسمبر المقبل.
عندما نذكر كلمة فقاعة في المحيط التشكيلي الفني العالمي أول ما يخطر على البال هو حضورها كرمز للعابر ولفناء الأشياء المادية وقصر عمر الإنسان على حد السواء. أما “فقاعة” الفنان فادي شمعة فهي في مكان آخر. لا حزن يهدّج من ملامحها، بل فرح متواصل قادم من فهم الفنان للحياة على أنها لهو لا يخلو من الدرامية.
يدخل الفنان الفقاعة إلى لوحاته بألوانها وشفافيتها لتحل محل رؤوس شخوصه وكأنها في مكانها العادي جدا. لا بل هي تبدو، أي الفقاعات، وكأنها كانت ها هنا منذ البداية وليست بديلا عن رؤوس أصحاب القمصان الحاضرة في لوحاته والمموجّة ببساطة رسم الأطفال. وتكاد أن تكون أنصاف الأجساد التي رسمها الفنان مجرد مبرر ونقطة انطلاق لرؤوس هلامية تتفنن في تصاعدها في أفق اللوحات.
الفنان يدخل الفقاعة إلى لوحاته بألوانها وشفافيتها لتحل محل رؤوس شخوصه، وكأنها في مكانها العادي جدا
قدم الفنان معرضه بهذه الكلمات “أنا مأخوذ بالفقاعات وخفتها غير المُحتملة وبشفافيتها وأشكالها اللعوبة المتحولة وحالة العبور التي تعبر عنها. هي مثل الأحاسيس والأوهام، والقناعات، والأحلام، والأفكار. تتجاذب الفقاعات حتى الاندماج والذوبان مع بعضها البعض حتى حلول لحظة التلاشي والاختفاء.. إنها الحياة في حالات اللعب المستمر”.
بهذه الكلمات يحضّر الفنان زوّار معرضه لرؤية عالم ناج من ثقل الأرض وهمومها. عالم مُعلق في الفضاء قبيل اختفائه. ويبرع فادي شمعة في جعل هذا العالم شديد الحضور بألوانه واستداراته رغم أنه على وشك الاختفاء. عالم مُحيّر وطارئ لأنه استطاع أن يجمع عنصرين أساسيين وهما الماء والهواء أما الوسيط الذي أحسن إظهار هذا التلاقي فهو الضوء الذي يومض هنا أو هناك في اللوحات ويذكر بقناديل البحر المنتفخة بالماء والهواء وجمال التلاقي ما بين الاثنين.
أول ما يلفت النظر في أعماله هو قدرته على إقناعنا بأن ما نراه أمامنا هو تجسيد لفانتازيا لونية على أنها واقع عادي جدا. هذه ليست أول مرة تنتشر فيها الفقاعات في لوحاته لتملأ فضاءها بسهولة وهدوء الضباب حين يدخل من النوافذ المفتوحة والمطلة على جبال خضراء. فقد رأينا سابقا له لوحات حلّت فيها الغيوم بليونتها والضباب بغشاوته مكان رؤوس الشخوص.
في معرض سابق معنون بـ”وغداً من أنا” كان فادي شمعة يمارس فنه عن قرب شديد من الواقعية التي لم تخل من الفانتازيا وكان لا يزال يتطلع إلى نوع من الأجوبة عن تساؤلاته حدّ أن أشرك زائر معرضه في صياغة أجوبة مقنعة قد تسانده في الوصول إلى قرار الأمر المتعلق بالضياع والتشرذم. فعمد إلى عرض ما يقارب مئتي لوحة من لوحاته في الصالة لينتقي منها الزوار مجموعة هي الأقرب إلى مزاجهم وإلى قلوبهم ثم قام بعرض هذه المجموعة لتكون بتجاورها أشبه بنص بصري يقادر أن يسرد خواطر مترابطة. ثم في معرض آخر ازدادت أعماله ضبابية وشعرية لتنتج ضياعا مُضاعفا في بقع لونية تميل غليظة كاللبن المُخفف بماء رقراق وصولا اليوم في معرضه الجديد إلى فقاعات متداخلة وملونة شديدة الشفافية.
هذا المسار بتحولاته لم يكن عبثا أو ضربا من ضروب التجريد لأجل التجريد رغم جماليته العالية. بل هو إفصاح فني عن رحلة الفنان بداية بالتساؤل حول الهوية اللبنانية المتشظية. وقد قال في التمهيد لمعرض آخر سابق له عنونه بـ”كيفك؟”، “إنّه سؤال بسيط لشعورٍ معقّد. كيفك؟ سؤالٌ كان دائماً حاضراً، ولكنه صار الآن متواتراً أكثر. يبدو لي أنّنا فقدنا قدرتنا على العثور على الكلمات الصحيحة لوصف أرواحنا، لأنّنا نعيش باستمرار في حالات من النّسيان، بين هذا وذاك، أو كلّ هذا وكلّ ذلك. نسألُ ونُجيب مرّة أخرى مع الكثير من عدم اليقين”.
عالم محيّر
هذا الضياع الذي تحدث عنه الفنان آنذاك والمتمثل في “أزمة الهوية” تطور وتشعب اليوم ليصبح “أزمة وجودية / إنسانية” وهي أزمة لا يسعى الفنان في معرضه الجديد هذا إلى أن يطرح لها احتمالات حلول، بل كرسها وتبناها حتى أصبحت في شكل فقاعات شديدة الجمال والميوعة ولا تريد أن تكون إلا كذلك.
ولشدة تفاعله و”انسجامه” معها، إذا صح التعبير، انتشرت في أرجاء لوحاته بعيدا عن أصحاب القميص المُخطط. لم تعد رؤوسا، بل أصبحت فضاء لا بداية ولا نهاية له. كما أصبحت تذكر مُشاهدها بفن “الأورفيزم” حيث تحضر أشكال بعضها ثلاثية الأبعاد وشديدة التماسك في أحيان كثيرة. أما التماسك في لوحات الفنان فادي شمعة فقوامه تعبيرية مؤثرة وشديدة الحساسية ظهرت بالتداخل والامتزاج اللوني، والطبقات اللونية التي تشف بعضها على بعضها الآخر في مطلق مجهول الهوية لا يشبه السماء حتى في اشتداد زرقته.
أما هو، أي الفنان فادي شمعة، فهو الرجل المُعلق في الفضاء. وما الفقاعات إلا آثار تجواله في هذا الفراغ اللانهائي.
يُذكر أن الفنان هو من مواليد بيروت 1960. فنان عصامي دخل إلى عالم التشكيل الفني في الثمانينات من القرن الفائت بعد أن كان تركيزه على فن التصوير الفوتوغرافي. وهو أيضا قيّم ثقافي. يشارك في العديد من المعارض والفعاليات الوطنية والدولية، كما أقام معارض فردية في كلّ من مصر ولبنان، وشارك في تأسيس مجموعة “النوم مع العدوّ” الفنية في بيروت. سافر إلى بلدان عربية كثيرة ساهمت في إغناء مسيرته الفنية. من البلدان التي زار وعمل فيها: كازابلانكا وخبر ودمشق والدوحة، والمنامة، والرياض، والقاهرة.