باحثون وفنانون عالميون: الفن المعاصر لم تنجبه أوروبا وحدها
بينالي الشارقة يطلق لقاء مارس حول "منظومة ما بعد الاستعمار: الفن والثقافة والسياسة".
السبت 2023/03/11
أفريقيا مساهمة في ولادة الفن المعاصر
إن الفن المعاصر على علاقة وثيقة بالتاريخ والثقافة والسياسة، إذ هو في عمقه فكرة وبالتالي هو وعي، لكن داخل حركة التاريخ وغير سابق لها. ولفهم أعمق للفن المعاصر وتجلياته ينظم بينالي الشارقة لقاء مارس الذي يقدم وجهات نظر من مختلف أصقاع العالم حول ظواهر الفن المعاصر، ويثبت صلته الأساسية بالتاريخ والسياسة والثقافة، لا كراصد لها بل كفاعل في حركتها وديناميكيتها.
افتتح الخميس التاسع من مارس الجاري لقاء مارس الذي ينظمه بينالي الشارقة من التاسع إلى الثالث عشر من مارس الجاري، بينما يتواصل البينالي الذي انطلق في السابع من فبراير الماضي تحت شعار “التاريخ حاضرا”.
ويأتي لقاء مارس الذي افتتحته الخميس الشيخة حور القاسمي، رئيس مؤسسة الشارقة للفنون، تحت شعار “منظومة ما بعد الاستعمار: الفن والثقافة والسياسة بعد 1960″، بمشاركة تشكيلة واسعة من الفنانين والقيمين الفنيين والأكاديميين والباحثين والكتّاب، ليضيء على مناطق ملحة اليوم في الثقافة والفن، تأكيدا على أنهما رهان وعي قبل كل شيء، وعي يمكنه الإنجاز والتغيير.
حركات فنية أخرى
لا بد من حوار حول الفن
إثر الكلمة الترحيبية للشيخة حور القاسمي، انطلقت أولى الجلسات الحوارية الرئيسية بعنوان “تجديد الخطاب الفني الأفريقي ضمن منظومة ما بعد الاستعمار”، حيث قدم من خلالها تيري سميث، أستاذ الكلية الأوروبية للدراسات العليا وأستاذ فخري في جامعة سيدني وجامعة بيتسبرغ، جولة في أهم معالم وأعلام الفن الأفريقي الحديث والمعاصر.
وكانت الجلسة الثانية بعنوان “إعادة النظر في ستينات القرن الماضي عالميا”، وكانت بمشاركة ماهفيش أحمد، أستاذ مساعد في حقوق الإنسان والعلوم السياسية كلية لندن للعلوم الاقتصادية، ويلينا فيسيتش، قيمة مستقلة وكاتبة ومحررة، بينما شاركت عن بعد زينة معاصري، محاضرة أولى في تاريخ الفن جامعة بريستول، بينما ترأس الجلسة كريستوف جيلي، أستاذ التاريخ الأفريقي بمعهد أفريقيا.
جولة ممتعة قدمتها مثلا زينة معاصري في تاريخ متشابك جمع القضية الفلسطينية بغيرها من القضايا التحررية في العالم على غرار الفيتنام أو دول من أميركا الجنوبية، دول جمعتها القضايا والتعبير عنها بالفن، الذي كان له تأثير قوي، وما اغتيال ناجي العلي لاحقا إلا دلالة على قوة الفن المؤثرة.
ماهفيش أحمد بدورها قدمت بسطا تاريخيا هاما جامعة بين قضايا متباعدة من تونس إلى آسيا إلى أميركا الجنوبية وغيرها، كلها كان الفن فيها مناصرا لقضايا الشعوب تحرريا دافعا إلى الثورة على الاستعمار والاستبداد، وهو ما أكدته حتى يلينا فيسيتش في قراءتها التاريخية التي ركزت فيها على دول أوروبا الشرقية بشكل أساسي.
فنانون وباحثون يعيدون النظر في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وظهور الفن المعاصر بمعزل عن المركزية الأوروبية
وتأتي هذه الجلسة لتضيء على ما شهده العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة فترتي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وما رافقها من تحولات كبرى ومن صراعات بداية بالحرب الباردة إلى اندلاع الثورات في أميركا الجنوبية وفي الدول الرازحة تحت الاستعمار في أفريقيا.
مشهد عالمي جديد تطلب فنا جديدا يواكبه، فكانت لاحقا بدايات الفن المعاصر لا معبرا عن الأحداث فحسب، بل محركا لها وصوتا تحرريا متمردا على كل القيود الاستعمارية بشكل خاص، فكان الاستعمار وما تركه من آثار مادية وغير مادية الدافع الأبرز لولادة تيارات الفن الجديدة التي بدأت شيئا فشيئا تتجاوز الجماليات الجامدة، إلى الانخراط في التغيير الاجتماعي والسياسي من خلال التغيير الجمالي والفكري الذي طرحه الفنانون الجدد وتطور لاحقا إلى ما سنبينه تباعا.
وامتدت الجلسة الثانية مساء الخميس بعنوان “حالات الاستثناء والحالات الطارئة، الفن والثقافة البصرية منذ السبعينات”، انطلقت مع أستاذ الدارسات الفنية بجامعة الفلبين باتريك فلوريس، وكل من أنطوني غاردنر، أستاذ تاريخ الفن المعاصر بجامعة أكسفورد، وأتريه غويتا، أستاذة مساعدة للفن الحديث العالمي ببركلي، وانتهت منع أنيسة رهدينينجتياس، قيمة مساعدة من سانغافورا.
وإن توقفت الجلسة الأولى عند حدود عقدي الخمسينات والستينات، اللذين شهدا الإرهاصات الأولى للفن المعاصر، مهما أحاط بالمجتمعات البشرية من تغييرات، ستتواصل ما بعد الاستقلال، فكان عقد السبعينات مرتبطا أساسا بدول ومجتمعات ناشئة، بعضها خارج من الاستعمار، وبعضها الآخر تناسى جراح الحرب الكونية الطاحنة، وقد انطلقت حركات ثقافية وفنية في شتى أصقاع العالم لا في أوروبا فحسب كما يريد البعض أن يروج لذلك.
الحركات الجديدة حينها كانت بلورة لعقود ما بعد الحرب ولصراعات من نوع آخر، مع دكتاتوريات عسكرية وأموج من الهجرات ما انفكت تتصاعد وتيرتها، وبالتالي حراك عالمي مختلف، نشأت عنه العديد من الحركات الفنية والتجارب الجريئة، وظهرت معها قاعات العرض والمتاحف والتظاهرات الفنية والثقافية على غرار البينالي الذي باتت أعداده بالعشرات.
وقد ركز المتحدثون أساسا على الحركات التي تم تجاهلها ومركزة التيارات الحديثة في أوروبا، في تناس كلي للأطراف التي كانت هي مهد التغيير في الفن الحديث والمعاصر كما ستكشف جلسة لاحقة من لقاء مارس.
الهوية وحداثة النخبة
مواجهة الحقائق
كانت جلسة الجمعة العاشر من مارس بعنوان “بناء المخيلة ما بعد الاستعمارية التاريخ المبكر لمعهد الفنون البصرية إنيفا 1994 – 2004″، قدمت الجلسة الرئيسية جيلين تاوادروس مديرة غاليري وايت تشابل للفنون عن بعد، تحدثت فيها عن تاريخ المعهد منذ إنشائه في لندن، مؤكدة الدور الخاص الذي لعبه في دعم الفنانين والتيارات الفنية غير المكرسة.
وقالت “كان التركيز لمعظم المؤسسات بعد الحرب على العلاقات الأميركية – الأوروبية. وبعدها ظهر الفن المعاصر في الاقتصاد في سوق بمليارات الدولارات.
وتكاثرت التظاهرات. هناك أكثر من مئتي بينالي للفنون المعاصرة. هذا متأت من وعي بأن النظام الدولي الجديد يمكن صياغته. نظام دولي يركز على الفن المعاصر”.
ولكنها تتساءل حول هذا الفن المعاصر، الذي صرنا عبر هذه السنوات معتادين عليه نوعا ما وعلى استيعابه والتنظير له.
الفن المعاصر منذ ظهوره كان وما زال مناصرا لقضايا الشعوب تحرريا دافعا إلى الثورة على الاستعمار والاستبداد
وأضافت “إذا كنا جديين في البحث عن أجوبة واضحة، يجب القبول أولا بالتغيرات الدينامية. فهذه الأعمال الفنية المعاصرة تشكل مشروعا كاملا. نحتاج إلى الكتابة للتنظير لهذا الفن”.
وتحدثت تاوادروس عن ظهور الفن المعاصر في لندن وتبلوره، خاصة في منتصف التسعينات وظهور مهاجرين جدد، وفنانين من بلدان أخرى في بريطانيا. فنانون من دول الكومنوالث وأفريقيا طوروا أفكارا وممارسات فنية جديدة. وهم نتيجة لحقبة نهاية السبعينات والثمانينات والتحول الجذري الذي طرأ على لندن، التي صارت تحمل هويات مختلفة جدا.
وقالت “تمكنت لندن من خلق مواءمة بين الموجودين وأجيال جديدة من الفنانين والمفكرين. مؤسسة الفنون في لندن أصبح فيها فنانون من أفريقيا. صارت لندن المركز الأساسي للكفاح الفني لإعادة صياغة الثقافة”.
وتستشهد هنا بالفنان ستيود هولد، الذي أنشأ نظاما جديدا للدراسات الاجتماعية وصاغ مواقف مهمة، جعلتنا نقر بأن كل الهويات يتم تشكيلها من خلال الاختلافات، كالاختلافات العرقية، فالهوية، في رأيها، اختلاف، متابعة “نرفض الحواجز. جعل الفنانين يتدخلون بأشكال طبيعية مختلفة تجاه جماهير مختلفة”.
وتحدثت جيلين تاوادروس عن الحداثة الكوسموبوليتانية التي شهدتها مدن عديدة على غرار لندن. لكنها في نفس الوقت تثير السؤال الأهم “كيف نحدد ماهو حديث هل هو صورة أم نمط للعيش والعمل؟”، مضيفة “أحتج ضد مفهوم الحداثة على أنها تعبير للنخبة في الشمال”. ذاكرة مشاريع مهمة من نشر الكتب والمعارض التي تجاوز دورها عرض الأعمال إلى خلق حركية فنية.
تاريخ الفن والتحضر
الجلسة الثانية ليوم الجمعة كانت حول “الخرائط الفنية العالمية وتواريخ الفن الجديدة”، تحدث فيها كل من أنا أرييندان كيسون، أستاذة مساعدة في الفن الأميركي - الأفريقي بجامعة برينستون، وإيدي تشامبرز، أستاذ تاريخ الفن وفن الشتات الأفريقي، والفنانة ميثيو سين، ونينا تونغا قيمة للفن المعاصر في متحف نيوزيلاندا.
وانطلقت كيسون من تأكيد العلاقة الوثيقة بين الفن المعاصر والجغرافيا، مشددة على ما يشهده الفن من صراع مع الحاضر وبحث عن المستقبل، قائلة “التاريخ يحضر بشكل كبير في حاضرنا”.
وأضافت “تأثير الاستعمار والعبودية واضح في الفن”، لتحكي إثر ذلك عن تجربة مهمة تتمثل في عودة بعض الفنانين المعاصرين إلى مزارع العبيد، لاستنطاق ماضيها واستشراف المستقبل البشري عبر أعمال غنية منتجة بوسائط متعددة.
وإن رصد إيدي تشامبرز تاريخ الفن الأفريقي وعلاقته بحركات الفن العالمية، فقد طرحت ميثيو سين تاريخ الفنانين السود من ناحية تأثيرهم في بريطانيا، متطرقة إلى تاريخ السود البريطانيين والفنانين الأفارقة في بريطانيا، والذين توجوا بالعديد من الجوائز المرموقة ولهم حضور بارز.
جلسات حوارية تلقي الضوء على ما شهده العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وما رافقها من تحولات كبرى ومن صراعات بداية بالحرب الباردة
أما نينا تونغا فنوهت بالشعوب الأصلية، مستعيدة ذكرى الاستعمار المؤلم حد التأثر، وقد أثبتت القيّمة أن التوجه إلى الماضي للبحث حول الفن ليس رومنسيا، محللة باستفاضة تاريخ الفن الجديد خلال العقدين الماضيين، متطرقة إلى التونغا وهي ممارسة روحية تؤكد أهمية التعاون.
وكانت الجلسة المسائية حول “المدن الكبرى: التحضر والتحديات والفرص”، شارك فيها كل من نادي أبوسعدة، زميل ما بعد الدكتوراه معهد تاريخ ونظرية العمارة زيوريخ، ونانسي لين، زميلة برنامج كلارمان ما بعد الدكتوراه جامعة كورنيل، وباميلا نجوين كوري، أستاذة مساعدة في تاريخ الفن جامعة فلبرايت فيتنام.
وجاء في بيان المنظمين أن “المدن في العصر النيوليبرالي تفرض المزيد من التحديات المستحدثة على سكانها، وتفرض لهم فرصا لم تخطر على البال من قبل، مثل التطورات المهنية والتعليمية والظروف المعيشية”، وفي المقابل “لا يزال المهاجرون الجدد إلى المدن يواجهون تمييزا مستمرا وعدم المساواة”.
إن هذه الإشكالية في تنزيلها في عالم الثقافة والفن لها ثقل كبير يحتاج إلى جلسات أخرى لتفكيكه، إذ لا تزال إلى اليوم تلك العلاقة الضدية بين المدن وحزامها من الأرياف. علاقة شوهت كلا الطرفين وترسخت في الفن والثقافة بشكل لا واع. فنانون ضد المدينة وآخرون ينتصرون لها بعماء. مثقفون يصورون الريف جنة وآخرون يصورونه مهد التمرد على الحضر. والصدامات متواصلة نجدها في لوحات أعمال فنية عن الأرياف وفي أعمال جدارية مثلا في المدن.
عن علاقة الفن والثقافة بالتحضر علاقة وثيقة، ولكن هذا لا يعني انتفاء علاقتهما بالأرياف. وفي العموم فتح بينالي الشارقة فرصة هامة للنقاش حول هذه القضايا وتستمر الجلسات الحوارية يومي السبت والأحد، رفقة عروض أدائية وفنية.
محمد ناصر المولهي
كاتب تونسي
بينالي الشارقة يطلق لقاء مارس حول "منظومة ما بعد الاستعمار: الفن والثقافة والسياسة".
السبت 2023/03/11
أفريقيا مساهمة في ولادة الفن المعاصر
إن الفن المعاصر على علاقة وثيقة بالتاريخ والثقافة والسياسة، إذ هو في عمقه فكرة وبالتالي هو وعي، لكن داخل حركة التاريخ وغير سابق لها. ولفهم أعمق للفن المعاصر وتجلياته ينظم بينالي الشارقة لقاء مارس الذي يقدم وجهات نظر من مختلف أصقاع العالم حول ظواهر الفن المعاصر، ويثبت صلته الأساسية بالتاريخ والسياسة والثقافة، لا كراصد لها بل كفاعل في حركتها وديناميكيتها.
افتتح الخميس التاسع من مارس الجاري لقاء مارس الذي ينظمه بينالي الشارقة من التاسع إلى الثالث عشر من مارس الجاري، بينما يتواصل البينالي الذي انطلق في السابع من فبراير الماضي تحت شعار “التاريخ حاضرا”.
ويأتي لقاء مارس الذي افتتحته الخميس الشيخة حور القاسمي، رئيس مؤسسة الشارقة للفنون، تحت شعار “منظومة ما بعد الاستعمار: الفن والثقافة والسياسة بعد 1960″، بمشاركة تشكيلة واسعة من الفنانين والقيمين الفنيين والأكاديميين والباحثين والكتّاب، ليضيء على مناطق ملحة اليوم في الثقافة والفن، تأكيدا على أنهما رهان وعي قبل كل شيء، وعي يمكنه الإنجاز والتغيير.
حركات فنية أخرى
لا بد من حوار حول الفن
إثر الكلمة الترحيبية للشيخة حور القاسمي، انطلقت أولى الجلسات الحوارية الرئيسية بعنوان “تجديد الخطاب الفني الأفريقي ضمن منظومة ما بعد الاستعمار”، حيث قدم من خلالها تيري سميث، أستاذ الكلية الأوروبية للدراسات العليا وأستاذ فخري في جامعة سيدني وجامعة بيتسبرغ، جولة في أهم معالم وأعلام الفن الأفريقي الحديث والمعاصر.
وكانت الجلسة الثانية بعنوان “إعادة النظر في ستينات القرن الماضي عالميا”، وكانت بمشاركة ماهفيش أحمد، أستاذ مساعد في حقوق الإنسان والعلوم السياسية كلية لندن للعلوم الاقتصادية، ويلينا فيسيتش، قيمة مستقلة وكاتبة ومحررة، بينما شاركت عن بعد زينة معاصري، محاضرة أولى في تاريخ الفن جامعة بريستول، بينما ترأس الجلسة كريستوف جيلي، أستاذ التاريخ الأفريقي بمعهد أفريقيا.
جولة ممتعة قدمتها مثلا زينة معاصري في تاريخ متشابك جمع القضية الفلسطينية بغيرها من القضايا التحررية في العالم على غرار الفيتنام أو دول من أميركا الجنوبية، دول جمعتها القضايا والتعبير عنها بالفن، الذي كان له تأثير قوي، وما اغتيال ناجي العلي لاحقا إلا دلالة على قوة الفن المؤثرة.
ماهفيش أحمد بدورها قدمت بسطا تاريخيا هاما جامعة بين قضايا متباعدة من تونس إلى آسيا إلى أميركا الجنوبية وغيرها، كلها كان الفن فيها مناصرا لقضايا الشعوب تحرريا دافعا إلى الثورة على الاستعمار والاستبداد، وهو ما أكدته حتى يلينا فيسيتش في قراءتها التاريخية التي ركزت فيها على دول أوروبا الشرقية بشكل أساسي.
فنانون وباحثون يعيدون النظر في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وظهور الفن المعاصر بمعزل عن المركزية الأوروبية
وتأتي هذه الجلسة لتضيء على ما شهده العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة فترتي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وما رافقها من تحولات كبرى ومن صراعات بداية بالحرب الباردة إلى اندلاع الثورات في أميركا الجنوبية وفي الدول الرازحة تحت الاستعمار في أفريقيا.
مشهد عالمي جديد تطلب فنا جديدا يواكبه، فكانت لاحقا بدايات الفن المعاصر لا معبرا عن الأحداث فحسب، بل محركا لها وصوتا تحرريا متمردا على كل القيود الاستعمارية بشكل خاص، فكان الاستعمار وما تركه من آثار مادية وغير مادية الدافع الأبرز لولادة تيارات الفن الجديدة التي بدأت شيئا فشيئا تتجاوز الجماليات الجامدة، إلى الانخراط في التغيير الاجتماعي والسياسي من خلال التغيير الجمالي والفكري الذي طرحه الفنانون الجدد وتطور لاحقا إلى ما سنبينه تباعا.
وامتدت الجلسة الثانية مساء الخميس بعنوان “حالات الاستثناء والحالات الطارئة، الفن والثقافة البصرية منذ السبعينات”، انطلقت مع أستاذ الدارسات الفنية بجامعة الفلبين باتريك فلوريس، وكل من أنطوني غاردنر، أستاذ تاريخ الفن المعاصر بجامعة أكسفورد، وأتريه غويتا، أستاذة مساعدة للفن الحديث العالمي ببركلي، وانتهت منع أنيسة رهدينينجتياس، قيمة مساعدة من سانغافورا.
وإن توقفت الجلسة الأولى عند حدود عقدي الخمسينات والستينات، اللذين شهدا الإرهاصات الأولى للفن المعاصر، مهما أحاط بالمجتمعات البشرية من تغييرات، ستتواصل ما بعد الاستقلال، فكان عقد السبعينات مرتبطا أساسا بدول ومجتمعات ناشئة، بعضها خارج من الاستعمار، وبعضها الآخر تناسى جراح الحرب الكونية الطاحنة، وقد انطلقت حركات ثقافية وفنية في شتى أصقاع العالم لا في أوروبا فحسب كما يريد البعض أن يروج لذلك.
الحركات الجديدة حينها كانت بلورة لعقود ما بعد الحرب ولصراعات من نوع آخر، مع دكتاتوريات عسكرية وأموج من الهجرات ما انفكت تتصاعد وتيرتها، وبالتالي حراك عالمي مختلف، نشأت عنه العديد من الحركات الفنية والتجارب الجريئة، وظهرت معها قاعات العرض والمتاحف والتظاهرات الفنية والثقافية على غرار البينالي الذي باتت أعداده بالعشرات.
وقد ركز المتحدثون أساسا على الحركات التي تم تجاهلها ومركزة التيارات الحديثة في أوروبا، في تناس كلي للأطراف التي كانت هي مهد التغيير في الفن الحديث والمعاصر كما ستكشف جلسة لاحقة من لقاء مارس.
الهوية وحداثة النخبة
مواجهة الحقائق
كانت جلسة الجمعة العاشر من مارس بعنوان “بناء المخيلة ما بعد الاستعمارية التاريخ المبكر لمعهد الفنون البصرية إنيفا 1994 – 2004″، قدمت الجلسة الرئيسية جيلين تاوادروس مديرة غاليري وايت تشابل للفنون عن بعد، تحدثت فيها عن تاريخ المعهد منذ إنشائه في لندن، مؤكدة الدور الخاص الذي لعبه في دعم الفنانين والتيارات الفنية غير المكرسة.
وقالت “كان التركيز لمعظم المؤسسات بعد الحرب على العلاقات الأميركية – الأوروبية. وبعدها ظهر الفن المعاصر في الاقتصاد في سوق بمليارات الدولارات.
وتكاثرت التظاهرات. هناك أكثر من مئتي بينالي للفنون المعاصرة. هذا متأت من وعي بأن النظام الدولي الجديد يمكن صياغته. نظام دولي يركز على الفن المعاصر”.
ولكنها تتساءل حول هذا الفن المعاصر، الذي صرنا عبر هذه السنوات معتادين عليه نوعا ما وعلى استيعابه والتنظير له.
الفن المعاصر منذ ظهوره كان وما زال مناصرا لقضايا الشعوب تحرريا دافعا إلى الثورة على الاستعمار والاستبداد
وأضافت “إذا كنا جديين في البحث عن أجوبة واضحة، يجب القبول أولا بالتغيرات الدينامية. فهذه الأعمال الفنية المعاصرة تشكل مشروعا كاملا. نحتاج إلى الكتابة للتنظير لهذا الفن”.
وتحدثت تاوادروس عن ظهور الفن المعاصر في لندن وتبلوره، خاصة في منتصف التسعينات وظهور مهاجرين جدد، وفنانين من بلدان أخرى في بريطانيا. فنانون من دول الكومنوالث وأفريقيا طوروا أفكارا وممارسات فنية جديدة. وهم نتيجة لحقبة نهاية السبعينات والثمانينات والتحول الجذري الذي طرأ على لندن، التي صارت تحمل هويات مختلفة جدا.
وقالت “تمكنت لندن من خلق مواءمة بين الموجودين وأجيال جديدة من الفنانين والمفكرين. مؤسسة الفنون في لندن أصبح فيها فنانون من أفريقيا. صارت لندن المركز الأساسي للكفاح الفني لإعادة صياغة الثقافة”.
وتستشهد هنا بالفنان ستيود هولد، الذي أنشأ نظاما جديدا للدراسات الاجتماعية وصاغ مواقف مهمة، جعلتنا نقر بأن كل الهويات يتم تشكيلها من خلال الاختلافات، كالاختلافات العرقية، فالهوية، في رأيها، اختلاف، متابعة “نرفض الحواجز. جعل الفنانين يتدخلون بأشكال طبيعية مختلفة تجاه جماهير مختلفة”.
وتحدثت جيلين تاوادروس عن الحداثة الكوسموبوليتانية التي شهدتها مدن عديدة على غرار لندن. لكنها في نفس الوقت تثير السؤال الأهم “كيف نحدد ماهو حديث هل هو صورة أم نمط للعيش والعمل؟”، مضيفة “أحتج ضد مفهوم الحداثة على أنها تعبير للنخبة في الشمال”. ذاكرة مشاريع مهمة من نشر الكتب والمعارض التي تجاوز دورها عرض الأعمال إلى خلق حركية فنية.
تاريخ الفن والتحضر
الجلسة الثانية ليوم الجمعة كانت حول “الخرائط الفنية العالمية وتواريخ الفن الجديدة”، تحدث فيها كل من أنا أرييندان كيسون، أستاذة مساعدة في الفن الأميركي - الأفريقي بجامعة برينستون، وإيدي تشامبرز، أستاذ تاريخ الفن وفن الشتات الأفريقي، والفنانة ميثيو سين، ونينا تونغا قيمة للفن المعاصر في متحف نيوزيلاندا.
وانطلقت كيسون من تأكيد العلاقة الوثيقة بين الفن المعاصر والجغرافيا، مشددة على ما يشهده الفن من صراع مع الحاضر وبحث عن المستقبل، قائلة “التاريخ يحضر بشكل كبير في حاضرنا”.
وأضافت “تأثير الاستعمار والعبودية واضح في الفن”، لتحكي إثر ذلك عن تجربة مهمة تتمثل في عودة بعض الفنانين المعاصرين إلى مزارع العبيد، لاستنطاق ماضيها واستشراف المستقبل البشري عبر أعمال غنية منتجة بوسائط متعددة.
وإن رصد إيدي تشامبرز تاريخ الفن الأفريقي وعلاقته بحركات الفن العالمية، فقد طرحت ميثيو سين تاريخ الفنانين السود من ناحية تأثيرهم في بريطانيا، متطرقة إلى تاريخ السود البريطانيين والفنانين الأفارقة في بريطانيا، والذين توجوا بالعديد من الجوائز المرموقة ولهم حضور بارز.
جلسات حوارية تلقي الضوء على ما شهده العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وما رافقها من تحولات كبرى ومن صراعات بداية بالحرب الباردة
أما نينا تونغا فنوهت بالشعوب الأصلية، مستعيدة ذكرى الاستعمار المؤلم حد التأثر، وقد أثبتت القيّمة أن التوجه إلى الماضي للبحث حول الفن ليس رومنسيا، محللة باستفاضة تاريخ الفن الجديد خلال العقدين الماضيين، متطرقة إلى التونغا وهي ممارسة روحية تؤكد أهمية التعاون.
وكانت الجلسة المسائية حول “المدن الكبرى: التحضر والتحديات والفرص”، شارك فيها كل من نادي أبوسعدة، زميل ما بعد الدكتوراه معهد تاريخ ونظرية العمارة زيوريخ، ونانسي لين، زميلة برنامج كلارمان ما بعد الدكتوراه جامعة كورنيل، وباميلا نجوين كوري، أستاذة مساعدة في تاريخ الفن جامعة فلبرايت فيتنام.
وجاء في بيان المنظمين أن “المدن في العصر النيوليبرالي تفرض المزيد من التحديات المستحدثة على سكانها، وتفرض لهم فرصا لم تخطر على البال من قبل، مثل التطورات المهنية والتعليمية والظروف المعيشية”، وفي المقابل “لا يزال المهاجرون الجدد إلى المدن يواجهون تمييزا مستمرا وعدم المساواة”.
إن هذه الإشكالية في تنزيلها في عالم الثقافة والفن لها ثقل كبير يحتاج إلى جلسات أخرى لتفكيكه، إذ لا تزال إلى اليوم تلك العلاقة الضدية بين المدن وحزامها من الأرياف. علاقة شوهت كلا الطرفين وترسخت في الفن والثقافة بشكل لا واع. فنانون ضد المدينة وآخرون ينتصرون لها بعماء. مثقفون يصورون الريف جنة وآخرون يصورونه مهد التمرد على الحضر. والصدامات متواصلة نجدها في لوحات أعمال فنية عن الأرياف وفي أعمال جدارية مثلا في المدن.
عن علاقة الفن والثقافة بالتحضر علاقة وثيقة، ولكن هذا لا يعني انتفاء علاقتهما بالأرياف. وفي العموم فتح بينالي الشارقة فرصة هامة للنقاش حول هذه القضايا وتستمر الجلسات الحوارية يومي السبت والأحد، رفقة عروض أدائية وفنية.
محمد ناصر المولهي
كاتب تونسي