بينالي الشارقة يعرض أعمالا فنية معاصرة في مستشفى قديم
الصور الفنية لا تدفعنا إلى التذكر فقط بل إلى التساؤل أيضا.
السبت 2023/02/11
انشرWhatsAppTwitterFacebook
رسالة إلى الرجل الأبيض
يواصل بينالي الشارقة الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون تقديم عروض دورته الخامسة عشرة، وذلك في أمكنة غير مألوفة، إذ كانت عروض الخميس التاسع من فبراير الجاري بشكل خاص في منطقة الذيد، في ساحة مفتوحة ومن ثم في مبنى لمستشفى قديم تحولت قاعاته إلى قاعات عرض فنية.
في منطقة الذيد كان جمهور بينالي الشارقة في دورته الخامسة عشرة من فنانين على موعد مع عرض أدائي جديد للفنان الأميركي من أصل عراقي مايكل راكوفيتز، عرض أعاد فيه الفنان سرد جزء من تاريخ العراق الحديث.
استحضر راكوفيتز بداية ما اعتبره طقس طبخ السمك المسكوف في العراق، ومن ثم قدم على طاولة نصا طويلا مؤثرا حول سيرة والده وجده في بغداد قديما، من خلال منظارة قديمة وساعتين يقارب عمرهما المئة سنة وطربوش ووثيقة هوية، عائدا بنا إلى أجواء سابقة في العراق وخاصة داخل المجتمع اليهودي العراقي الذي لم يعد موجودا، عناصر ينطلق من خلالها في الحكي ليقدمها للجمهور ليتناقلها في ما بينه، تاريخ حي وجارح من خلال تلك العناصر البسيطة.
وبعد عرض الفنان الأميركي، كانت العيادة القديمة معرضا للعديد من الأعمال التركيبية والفنية المختلفة التي سنختار بعضها لقراءته أو التساؤل معه حول ما طرحه من أفكار.
ذكريات مبتورة
التكامل بين الكلمة والفيديو في فيلم هندا القصير أنجز لنا رسالة عميقة يمكن تعميمها لنشر الوعي لوقف العنف
من الأعمال التي ضمها المستشفى القديم والذي تحولت غرفه إلى غرف عرض، عمل فيلمي للفنان الأنغولي كيلونجي كيا هندا، الذي يرسل رسالة مؤثرة إلى السياسي الأميركي هنري كيسنجر في عامه المئة، وهو الذي شغل منصب وزير الخارجية في حكومتين لرئيسين مختلفين، والداهية اليهودي الذي رسم الكثير من معالم السياسة الخارجية الأميركية ونال جائزة نوبل للسلام في ظروف مثيرة للجدل بسبب ما اعتبر مساهمته في التفاوض لوقف إطلاق النار في فيتنام.
من لواندا المدينة المنسية في أنغولا، حيث تخالط التراب كائنات خبيثة قاتلة هي الألغام، وتنتشر القنابل التي لم تنفجر بعد بدل الدمى القديمة، واحدة منها راحت بحياة صديقين للفنان، بينما كانا يحاولان تفكيكها، ولم يبق منها سوى دوي أبدي للانفجار في ذاكرة هندا، ومشهد الدم الذي بقي على الجدران المهدمة بعد أن أسرع الناس لكنس ما بقي من الجثث.
العمل بعنوان “ألم ووهمي – رسالة إلى هنري كاسنجر” يعيدني حتما إلى مشهد فاتن في رواية “قلم النجار” لمانويل ريفاس، حيث كان البطل الدكتور في السجن يحاول أن يخفف آلام أحد السجناء المرضى، ألم أصاب قدمه بشكل مفزع، ولكن ما من قدم، فقد كانت مبتورة أصلا.
أطراف وهمية تؤلم أصحابها إلى الأبد
ربما يبقى الدماغ على حالة اتصال بالعضو المبتور، ينسجه من الذكرى، ويحس بالألم فيه أو حتى الوخز، بينما هو لم يعد موجودا، هكذا كان المئات من الأطفال والرجال والنساء والفتيات في لواندا، حكاية يحكيها الفنان ببراعة من خلال الدخول بنا إلى المستشفى، حيث بقايا الأعضاء المبتورة من أقدام خشب وبلاستيك مهترئة ما عادت صالحة للوقوف أو المشي أو الاستعمال في شيء، لكنها بشكل واثق تقودنا إلى الذكرى، وتقف شاهدة بجرأة على ما حدث، وتسائل رأسا الغرب.
كيسنجر كان صاحب نظرية تأجيج الصراعات حين تفشل السيطرة المباشرة. السياسة الأميركية في منتصف القرن الماضي كلها قامت على مخاتلات هذا الرجل، الذي يخاطبه الفنان رأسا وبشكل مباشر عن مدينته وشوارعها الترابية وذكرياتها المبتورة.
هناك الكثير من السخرية في خطاب هندا لكيسنجر، مثل حديثه عن ربط حيه المهمش بشخصية الأميرة ديانا التي حاولت تقديم المساعدة تحت أضواء الكاميرا في زيارتها إلى مركز معالجة ضحايا الألغام والمتفجرات المتروكة هنا وهناك، من شوارعها الخلفية المليئة بالحفر وأشلاء الحديد ومن داخل أروقة المستشفى التي يشطفها عامل نظافة مسن ومن ساحة نفس المستشفى وعبر شوارع مهملة وصولا إلى تخطيطات قديمة لمرضى بترت سيقانهم، يقودنا الفنان في رحلته عبر صوته وهو يقرأ الرسالة المؤثرة إلى الداهية الأميركي.
الفنان الأميركي من أصل عراقي مايكل راكوفيتز يواصل مشروعه في سرد أجزاء خاصة من تاريخ العراق الحديث
ماذا ينفع الدهاء أمام كم الخراب الروحي والجسدي للأشخاص والمدن؟ ماذا ينفع الرجل المخضرم والنظام الداعي إلى بناء الديمقراطيات حين يؤجج الصراعات ويخلف المآسي باسم الحرية؟ ماذا يفيد تاريخ البشر زرع التراجيديات المفزعة في كل مكان؟ هكذا نتساءل وأبعد حين نتذكر مع هندا آلامنا المبرحة التي تسكن كل ما يبتر منا، سنوات أعمارنا، أماكننا الأولى من قرى ومدن وبيوت وعائلات، ذكريات لا تتوقف عن نخز البدن والخيال.
الفنان أقام فيلمه على مشاهد بطيئة شبه ثابتة، من الطابع الوثائقي، حيث يكبر عين الكاميرا على العناصر التي يريد من خلالها تقوية روايته أو بالأحرى رسالته، عناصر رمزية يلتقطها بعناية فائقة، نجد عامل النظافة المسن والتركيز على قدميه والمكنسة والماء الذي يحاول عبثا غسل الأرضية، نجد الأعضاء الاصطناعية القديمة المكومة في ساحة المستشفى، وكذلك يركز على الشارع الترابي المهمش الذي مرت منه سابقا الأميرة ديانا، دون ذاك هو بلا قيمة عند أحد غيره، (يا للسخرية)، نجد كذلك لقطات بعيدة وقريبة للمدينة من الخلف، بمبانيها المهترئة وبنيتها التحتية البالية وناسها الذين يقطع تأملاتهم طنين الذباب.
صور بسيطة ولكنها حاسمة تدعمها الرسالة القوية التي يوجهها الفنان إلى الوزير الأميركي في عامه المئة، ومن خلفه إلى الرجل الأبيض ككل، وهو الذي يؤجج الحروب في أفريقيا لتسهيل نهب ثرواتها، وهو الذي استعبد ناسها سابقا، وحملهم في قطعان من العبيد عبر مراكبه إلى حقول الشمس الأميركية، هو الذي بارك انتشار العنف والحروب الأهلية وتفاقم أزمة الألغام التي حتى وإن انتزع الكثير منها من الأرض، فإنها باقية إلى مدى سيطول في الوعي الذي نشأ على التفتت والخوف والصدام.
إن التكامل بين الكلمة والفيديو في فيلم هندا القصير أنجز لنا رسالة عميقة أدعو إلى تعميمها، لا لاستثارة العواطف، وإنما لاستثارة الوعي لوقف العنف، إذ تؤكد بشكل كبير على دور الفن المعاصر التحريضي على التفكير والمساءلة لا على البكاء.
الطين والخلق
هل تعني البرلمانات حقا الديمقراطية
عمل فيلمي آخر يقدمه الفنان اللبناني علي الشري بعنوان “من الناس والآلهة والطين”، عمل يأتي على نفس شاكلة عمل الفنان الكونغولي هندا، لكنه مرفوق بنص شاعري وشعري أيضا، بجمل قوية ومؤثرة، تحاول أن ترصد ذاكرة الطين الخارج من الحرائق.
يأخذنا الفنان إلى مجال صناعة الطوب وإلى الحقول البعيدة على ضفاف النيل في السودان، حيث يعزق الرجل الأرض لاستخراج الطين وتشكيله في قوالب، يصبونها ويشعلون تحتها النار لتطبخ على مهل الطوب الذي تشيد به المنازل.
يمكننا اعتبار هذا العمل بيئيا قبل كل شيء، رغم أن النص المرافق لا يحاكم أحدا، ولا يقدم قراءة مباشرة أو محددة، بل يحاول استنطاق الصور الكثيرة التي يلاحقها الفنان بدقة، للوصول إلى عمق آخر، هو عمق تلك العلاقة بين الإله والطين والإنسان، أي عمق الأسطورة التي تناقلتها ما يمكن تسميتها بالديانات الإبراهيمية، من أن الله خلق آدم من طين.
طين الفنان الشري حكايات أخرى تماما، لا تسعىلأن تكون أسطورة كبرى، نجد مثلا من العمال من يرتدي قميص فريق برشلونة الإسباني، وآخرين يتحركون بلا ألم أو فرح، بينما يشعلون النار في الأعشاب والطوب. مساءلة ذكية وإيماءات شعرية موجهة تقود حتما إلى إعادة تقييمنا لمنسوب الطين في أجسادنا وأرواحنا التي غزتها أتربة المدن والنسيان.
برلمانات شبحية