فنانان يعيدان قراءة التاريخ من خلال أجساد ذكورية وظلالها
الهندي فيفيان سوندارام والأميركي ديدريك باركنز يحرران أفكارنا من النمطية.
الخميس 2023/02/09
أجساد تكشف حقائق نخفيها
يواصل بينالي الشارقة الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون تقديم أعمال فنية معاصرة تؤكد قوة الفن وأدواره الأساسية في تغيير رؤانا سواء للجماليات المألوفة أو حتى لعناصر اعتيادية، مثل الجسد الذكوري والأنثوي، وللعائلة والطفولة وغيرها من المكاشفات التي تعيد حتى قراءة التاريخ المعلوم من زوايا غير اعتيادية.
ضمن معارض بينالي الشارقة في دورته الخامسة عشرة المقامة بالشارقة، يعرض العديد من الفنانين أعمالا معاصرة تتجاوز الجماليات التقليدية وتصر على استنطاق المسكوت عنه في التاريخ والأفراد، محررة إيانا من الصور النمطية الكثيرة التي ترسخت عبر السنين.
ومن أبرز التجارب التي تلفت الانتباه تجربة الفنانين الهندي فيفيان سوندارام والأميركي ديدريك باركنز اللذين استنطقا الأجساد بطرق مختلفة للحكي من خلالها بأساليب متنوعة بين الرسم والفوتوغرافيا والنسيج.
أجساد الرجال
سوندارام يدفعنا مع سجينه إلى الانفعال والاختناق وإلى التساؤل أيضا: من منهما يسكن الآخر القفص أم الرجل؟
قدم الفنان الهندي فيفيان سوندارام خمس محطات في معرض متعدد القاعات يجمع بين الأعمال التشكيلية الخاصة وأعمال فوتوغرافية وصولا إلى عرض ثلاثة أقفاص صدئة في قاعة صغيرة مثل زنزانة.
في المحطة الأولى بعنوان “خياطة” يقدم الفنان جذوع أجساد ذكورية من الخلف، وتبدو على بعضها آثار تعذيب وعلى الأخرى التمزق وعلامات الخياطة وأجساد أخرى منقوشة وكأنها رخام، كلها مبتورة فلا نرى منها عدا الظهر وأحيانا يكون الرأس مفقودا، أو مكسوا بعدة السباحة.
في معرضه “خياطة” يخيط الفنان حكايات مؤلمة للإنسان المعذب والمبتور، الإنسان المنهك الذي نكاد نلمس كدماته التي تظهرها اللوحات ونسمع صمته وهو محني الظهر مكسور القامة، ولا تنجح آثار الخياطة في رتق تمزقاته التي تملأ ظهره بندوب يبدو أنها لن تزول أبدا.
محطة أخرى يقدمها سوندارام بعنوان “بينومبرا” بالتعاون مع المصورين عمران كوكيلو وأنيتا خيمكا وابنتيهما أزاه وزارا، في معظم الصور الفوتوغرافية ترتدي الفتاتان لباسا أسود ضيقا وتؤديان تمثيلية مع والدهما، ألعاب عفوية مثل الغميضة والركوب وتسلق جسد الأب، بينما يبدو هو ثابتا في حزن.
باركنز ينسج مساحة للتأمل في حكايات ترويها ظلال العبيد من بشر نسيهم التاريخ أو صوّرهم بشكل نمطي
إننا أمام أداء عائلي غاية في الصدق، تتناقض فيه المشاعر بين المرح والألم، والحيرة والوثوق، والثبات والحركة، بين شخصية الأب الذي يتوسط الصور عاري الجذع وشخصيتيْ الفتاتين بلباسهما الأسود وحركاتهما الطفولية، هناك تكمن الحكاية التي يرصدها الفنان تاركا للمتلقي حرية التأويل خاصة من خلال الأمكنة التي يصور فيها حقيقة أو يركب فيها صوره، أغلبها شوارع باردة، لا تملؤها سوى حميمية الأطفال، بينما الأب إما منخرط في اللعب أو منهمك في التفكير أو حتى يمثل دور الميت الممدد على الأرض.
ويطرح سوندارام حكاية العائلة من منطق مختلف تماما، فهي ليست تلك التي تعيش سعادتها البسيطة في البيت، بل هي أيضا في الشارع، حيث شخصية الأب الحاضر دائما في أماكن غير مألوفة مع فتاتيه، وحيث اللعب واللهو والعفوية، ولكن أيضا هناك نكشف عن آلام الأب العاري الجذع، إنها حكاية الأبوة التي يخلصها الفنان من تشويهات الأبوية التي صارت تتكرر كأفكار جاهزة، وتختصر الأب في صورة السيد المتحكم والقاسي، أب سوندارام ليس كذلك مطلقا، إنه الأب في عفويته وتفاعلاته وحتى في فقدانه المؤلم.
محطة أخرى في قاعة ثالثة يقدمها الفنان بعنوان “المحطة” ويعرض خلالها ثماني صور بحجم طبيعي لرجل مسجون في قفص ويؤدي الممثل هاريش خانا دور السجين في حيز ضيق، حيث الأقفاص لا تتجاوز مساحة الجسد الذي تحيطه وينكمش داخلها، وأحيانا يخرج نصفه منها، ونجده في حالات متعددة من الأمل واليأس والتأمل والانكسار وحتى الحب وغيرها من التعابير التي يؤديها السجين.
وتتنوع الأقفاص؛ ففيها الحديدي الصدئ وفيها ما هو مغلق بشكل يتحول معه إلى علبة وفيها أيضا الخشبي المفتوح، وأقافص أخرى تعوض قضبانها الستائر. هذا اللعب في تغيير طبيعة القفص وتنويع مادته وشكله هو في النهاية محاولة لمواكبة مشاعر وتغيرات السجين، المتقلب بين حالات مختلفة كليا، والذي لا يهرب من القفص المفتوح الذي يحيطه إما الظلام أو حتى الحديقة كما هو الحال في إحدى الصور.
ويدفعنا سوندارام مع سجينه إلى الانفعال والاختناق وإلى التساؤل أيضا: من منها يسكن الآخر القفص أم الرجل؟
وفي قاعة صغيرة للغاية تجعلك تشعر بالاختناق يكدس الفنان الأقفاص التي استخدمها في عمله، بقضبانها الملوية وصدئها محاطة بشيء من العتمة تتحول هذه الأقفاص إلى وثائق أو هي شاهدة أو حتى عناصر حية لها قصصها التي تحكيها، قصص من احتضنتهم واعتصرت إنسانيتهم إلى درجة الصدأ.
حكايات العبيد
ظلال قطنية تحكي بحركاتها
يقدم ديدريك باركنز منسوجات معقدة يلعب القطن فيها دور البطولة، إذ يستحضر في معرضه بعنوان “على إيقاع القبول” إرثا كاملا من تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، مستعيدا تقليد أدينكرا الرمزي في غرب أفريقيا، ومقدما ظلالا متداخلة للأجساد وهي تؤدي حركات مختلفة من الانحناء للعمل في الحقول أو الرقص أو حتى التصارع تحت الشمس.
لا نلمح من الأجساد إلا ظلالها السوداء المنسوجة على خلفيات مختلفة الألوان وخاصة الأزرق أو الوردي وفي الخلفية نجد دائما ألوانا ترابية باردة، إذ ينتشل الفنان أبطالها من حكايات قديمة عبرت المحيط لتعيش أقسى حالات الاستعباد في أميركا بين حقولها وتحت شمسها الحارقة حيث العمل بلا شفقة.
وينجح باركنز في أن يحرر أبطاله من الصور النمطية للعبيد، في عالم البؤس والشقاء، ويصورهم من خلال ظلالهم في حالات مختلفة من المرح أو اللهو أو الرقص، وحتى العمل في الحقول يجسده بمهارة من خلال حركات الأيدي المنسابة التي يملؤها عاطفة، متجاوزا الاستعباد ومتناولا خفايا إنسانية من حيوات هؤلاء.
ويعلق الفنان أعماله ويحررها من التثبيت على الجدران، جاعلا إياها مساحة للتأمل في حكايات ترويها ظلال العبيد من بشر نسيهم التاريخ أو صورهم فقط في نمطية البؤس والامتهان وذل الاستعباد، ونسي حالاتهم الإنسانية التي قاوموا بها كل ذلك.
الهندي فيفيان سوندارام والأميركي ديدريك باركنز يحرران أفكارنا من النمطية.
الخميس 2023/02/09
أجساد تكشف حقائق نخفيها
يواصل بينالي الشارقة الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون تقديم أعمال فنية معاصرة تؤكد قوة الفن وأدواره الأساسية في تغيير رؤانا سواء للجماليات المألوفة أو حتى لعناصر اعتيادية، مثل الجسد الذكوري والأنثوي، وللعائلة والطفولة وغيرها من المكاشفات التي تعيد حتى قراءة التاريخ المعلوم من زوايا غير اعتيادية.
ضمن معارض بينالي الشارقة في دورته الخامسة عشرة المقامة بالشارقة، يعرض العديد من الفنانين أعمالا معاصرة تتجاوز الجماليات التقليدية وتصر على استنطاق المسكوت عنه في التاريخ والأفراد، محررة إيانا من الصور النمطية الكثيرة التي ترسخت عبر السنين.
ومن أبرز التجارب التي تلفت الانتباه تجربة الفنانين الهندي فيفيان سوندارام والأميركي ديدريك باركنز اللذين استنطقا الأجساد بطرق مختلفة للحكي من خلالها بأساليب متنوعة بين الرسم والفوتوغرافيا والنسيج.
أجساد الرجال
سوندارام يدفعنا مع سجينه إلى الانفعال والاختناق وإلى التساؤل أيضا: من منهما يسكن الآخر القفص أم الرجل؟
قدم الفنان الهندي فيفيان سوندارام خمس محطات في معرض متعدد القاعات يجمع بين الأعمال التشكيلية الخاصة وأعمال فوتوغرافية وصولا إلى عرض ثلاثة أقفاص صدئة في قاعة صغيرة مثل زنزانة.
في المحطة الأولى بعنوان “خياطة” يقدم الفنان جذوع أجساد ذكورية من الخلف، وتبدو على بعضها آثار تعذيب وعلى الأخرى التمزق وعلامات الخياطة وأجساد أخرى منقوشة وكأنها رخام، كلها مبتورة فلا نرى منها عدا الظهر وأحيانا يكون الرأس مفقودا، أو مكسوا بعدة السباحة.
في معرضه “خياطة” يخيط الفنان حكايات مؤلمة للإنسان المعذب والمبتور، الإنسان المنهك الذي نكاد نلمس كدماته التي تظهرها اللوحات ونسمع صمته وهو محني الظهر مكسور القامة، ولا تنجح آثار الخياطة في رتق تمزقاته التي تملأ ظهره بندوب يبدو أنها لن تزول أبدا.
محطة أخرى يقدمها سوندارام بعنوان “بينومبرا” بالتعاون مع المصورين عمران كوكيلو وأنيتا خيمكا وابنتيهما أزاه وزارا، في معظم الصور الفوتوغرافية ترتدي الفتاتان لباسا أسود ضيقا وتؤديان تمثيلية مع والدهما، ألعاب عفوية مثل الغميضة والركوب وتسلق جسد الأب، بينما يبدو هو ثابتا في حزن.
باركنز ينسج مساحة للتأمل في حكايات ترويها ظلال العبيد من بشر نسيهم التاريخ أو صوّرهم بشكل نمطي
إننا أمام أداء عائلي غاية في الصدق، تتناقض فيه المشاعر بين المرح والألم، والحيرة والوثوق، والثبات والحركة، بين شخصية الأب الذي يتوسط الصور عاري الجذع وشخصيتيْ الفتاتين بلباسهما الأسود وحركاتهما الطفولية، هناك تكمن الحكاية التي يرصدها الفنان تاركا للمتلقي حرية التأويل خاصة من خلال الأمكنة التي يصور فيها حقيقة أو يركب فيها صوره، أغلبها شوارع باردة، لا تملؤها سوى حميمية الأطفال، بينما الأب إما منخرط في اللعب أو منهمك في التفكير أو حتى يمثل دور الميت الممدد على الأرض.
ويطرح سوندارام حكاية العائلة من منطق مختلف تماما، فهي ليست تلك التي تعيش سعادتها البسيطة في البيت، بل هي أيضا في الشارع، حيث شخصية الأب الحاضر دائما في أماكن غير مألوفة مع فتاتيه، وحيث اللعب واللهو والعفوية، ولكن أيضا هناك نكشف عن آلام الأب العاري الجذع، إنها حكاية الأبوة التي يخلصها الفنان من تشويهات الأبوية التي صارت تتكرر كأفكار جاهزة، وتختصر الأب في صورة السيد المتحكم والقاسي، أب سوندارام ليس كذلك مطلقا، إنه الأب في عفويته وتفاعلاته وحتى في فقدانه المؤلم.
محطة أخرى في قاعة ثالثة يقدمها الفنان بعنوان “المحطة” ويعرض خلالها ثماني صور بحجم طبيعي لرجل مسجون في قفص ويؤدي الممثل هاريش خانا دور السجين في حيز ضيق، حيث الأقفاص لا تتجاوز مساحة الجسد الذي تحيطه وينكمش داخلها، وأحيانا يخرج نصفه منها، ونجده في حالات متعددة من الأمل واليأس والتأمل والانكسار وحتى الحب وغيرها من التعابير التي يؤديها السجين.
وتتنوع الأقفاص؛ ففيها الحديدي الصدئ وفيها ما هو مغلق بشكل يتحول معه إلى علبة وفيها أيضا الخشبي المفتوح، وأقافص أخرى تعوض قضبانها الستائر. هذا اللعب في تغيير طبيعة القفص وتنويع مادته وشكله هو في النهاية محاولة لمواكبة مشاعر وتغيرات السجين، المتقلب بين حالات مختلفة كليا، والذي لا يهرب من القفص المفتوح الذي يحيطه إما الظلام أو حتى الحديقة كما هو الحال في إحدى الصور.
ويدفعنا سوندارام مع سجينه إلى الانفعال والاختناق وإلى التساؤل أيضا: من منها يسكن الآخر القفص أم الرجل؟
وفي قاعة صغيرة للغاية تجعلك تشعر بالاختناق يكدس الفنان الأقفاص التي استخدمها في عمله، بقضبانها الملوية وصدئها محاطة بشيء من العتمة تتحول هذه الأقفاص إلى وثائق أو هي شاهدة أو حتى عناصر حية لها قصصها التي تحكيها، قصص من احتضنتهم واعتصرت إنسانيتهم إلى درجة الصدأ.
حكايات العبيد
ظلال قطنية تحكي بحركاتها
يقدم ديدريك باركنز منسوجات معقدة يلعب القطن فيها دور البطولة، إذ يستحضر في معرضه بعنوان “على إيقاع القبول” إرثا كاملا من تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، مستعيدا تقليد أدينكرا الرمزي في غرب أفريقيا، ومقدما ظلالا متداخلة للأجساد وهي تؤدي حركات مختلفة من الانحناء للعمل في الحقول أو الرقص أو حتى التصارع تحت الشمس.
لا نلمح من الأجساد إلا ظلالها السوداء المنسوجة على خلفيات مختلفة الألوان وخاصة الأزرق أو الوردي وفي الخلفية نجد دائما ألوانا ترابية باردة، إذ ينتشل الفنان أبطالها من حكايات قديمة عبرت المحيط لتعيش أقسى حالات الاستعباد في أميركا بين حقولها وتحت شمسها الحارقة حيث العمل بلا شفقة.
وينجح باركنز في أن يحرر أبطاله من الصور النمطية للعبيد، في عالم البؤس والشقاء، ويصورهم من خلال ظلالهم في حالات مختلفة من المرح أو اللهو أو الرقص، وحتى العمل في الحقول يجسده بمهارة من خلال حركات الأيدي المنسابة التي يملؤها عاطفة، متجاوزا الاستعباد ومتناولا خفايا إنسانية من حيوات هؤلاء.
ويعلق الفنان أعماله ويحررها من التثبيت على الجدران، جاعلا إياها مساحة للتأمل في حكايات ترويها ظلال العبيد من بشر نسيهم التاريخ أو صورهم فقط في نمطية البؤس والامتهان وذل الاستعباد، ونسي حالاتهم الإنسانية التي قاوموا بها كل ذلك.