هوغو ( فكتور)
Hugo (Victor-) - Hugo (Victor-)
هوغو (ڤكتور ـ)
(1802 ـ 1885)
ڤكتور هوغو Victor Hugo من أبرز الأدباء الفرنسيين وأكثرهم شهرة على الصعيدين المحلي والعالمي. لم يكتفِ بجنس أدبي واحد، بل كان الشاعر والناثر والكاتب المسرحي والمؤرخ والصحفي والناقد والرسّام الساخر caricaturiste، في عصر تلازمت الفنون فيه وعدّ الرسم والموسيقى والشعر وحدة للمبدعين. إضافة إلى أنه كان من رجالات الثورة السياسيين، ناضل إلى جانب الضعفاء والمظلومين، وأمضى نحو عشرين عاماً من حياته في المنفى في سبيل نصرة الحرية والديمقراطية وإعلاء كلمة الجمهورية وكلمة الحق. ووضع بياناً للحركة الإبداعية[ر] (الرومنسية) Romantisme الصاعدة وتولى زعامتها.
ولد هوغو في مدينة بيزانسون Besançon شرقي فرنسا، وكان والده ضابطاً في جيش نابليون بونابرت، فامتلأت مخيلة الصبي الناشئ برؤى خلقت كل منها رواسب في وجدانه. وعانى منذ طفولته تمزق الحياة العائلية عند ظهور امرأة ثانية في حياة والده، وانتهى الخلاف بين الوالدين بالانفصال. كان مولعاً جداً بوالدته، فقد أورد في مذكراته أنه تلقى منها شغفه بالقراءة وحرية التفكير.
أُدخل هوغو بأمر من والده في مدرسة «كوردييه» Cordier الداخلية، فصب جلّ اهتمامه في الدراسة، يراوده حلم التفوق على أقرانه. وأرسل وهو في الرابعة عشرة إلى الأكاديمية الفرنسية قصيدة من ثلاثمئة بيت لتكون بداية له في إدراج اسمه بين الشعراء. وتتابعت قصائده مثيرة الإعجاب بهذا «الفتى النابغة» على حسب ما أسماه الأديب الفرنسي شاتوبريان[ر]. شارك عام 1817 في مسابقة الأكاديمية الفرنسية وفاز بقصيدة عنوانها «السعادة التي تمنحها الدراسة» Du bonheur que procure L’étude. كما منحته أكاديمية تولوز للألعاب الزهرية Académie des jeux floraux de Toulouse جائزة عام 1819 مما أقنع والده - الذي اختار له مدرسة «البوليتكنيك» Polytechnique - بموهبته الأدبية ورضخ لاختياره. أسس مع أشقائه في هذا العام الصحيفة الدورية «كونسرڤاتور أو المحافظ الأدبي» Le Conservateur littéraire، ضمنها نتاجه الأول من الشعر والقصة والبحوث الأدبية والفنية.
تزوج هوغو عام 1822 حبيبته أديل فوشيه Adèle Foucher. لكن سعادته لم تكتمل ليلة زفافه، بسبب إصابة شقيقه أوجين - الذي كان يكتم حباً عنيفاًً للعروس - بنوبة عصبية ذهبت بقواه العقلية. كما صُدم لاحقاً بخيانة صديقه الناقد سانت بوڤ[ر] Sainte- Beuve الذي نجح في إغواء زوجته. غفر هوغو لأديل ضعفها حتى لا يكرر مع أولاده مأساة طفولته وتابع حياته الزوجية، إلا أن مشاعر الشباب النبيلة تحولت إلى رغبة في التحرر من القيود الاجتماعية. سكن هوغو في النهاية إلى صداقة عاطفية قوية ربطته بالممثلة جولييت دروييه Juliette Drouet التي لازمته منذ عام 1833 حتى وفاتها عام 1883. وكانت زوجته على علم بهذه العلاقة وقبلت بها تفانياً في حب زوجها وأولادها.
ذهن نيّر وقلم بليغ، يُضاف إليهما جرأة كبيرة دفعت هوغو إلى المشاركة في النزاعات السياسية الكبرى التي شهدها العصر، قبل أن يصبح في أيامه الأخيرة الشاعر الرسمي للجمهورية الثالثة. عاصر هوغو ألواناً مختلفة من الحكم وعايش ثورتَيْ 1830 و1848 ثم انقلاب عام 1851، وساند في البداية حزب اليمين المقرّب من السلطة، وصار عضواً في الأكاديمية الفرنسية عام 1841 ونائباً في الجمعية التأسيسية وفي الجمعية الوطنية. كما دعم لويس نابليون في الوصول إلى رئاسة الجمهورية عام 1851 آملاً أن يحقق أحلام الجيل الصاعد من الثوريين الجمهوريين. وكان هوغو قد فجع عام 1843 بغرق ابنته البكر ليوبولدين، فتوقف عن الكتابة وركز على دوره السياسي مناضلاً في سبيل الحرية والديمقراطية والجمهورية. وعند تحول الحكم إلى امبراطورية تقرب هوغو من حزب اليسار وبدأ معركته الطويلة والعنيدة ضد انقلاب نابليون الثالث، وندد بطموحاته ودسائسه في صحيفته السياسية «الحدث» L’Événement. أودت به المعركة إلى المنفى في بروكسل ثم في جزيرتي جيرسي Jersey وغيرنسي Guernesey في بحر المانش (1851-1870). استعاد الشاعر سكينته في المنفى وبدأ بالمهمة التي وجدها أكثر إلحاحاً وهي فضح الانقلاب في كتابه «تاريخ جريمة» Histoire d’un crime ت(1877)، حيث وصم نابليون الثالث الذي خان ثقته في فصل بعنوان «نابليون الصغير» Napoléon le Petit. ولا يروي هوغو من منطلق المراقب الراصد بل من منطلق المشارك في الثورة؛ تصفيةً لحسابٍ مع الذين كما قال: «خانوا الوطن والدين وأنفسهم قبل أن يخونوا الشعب».
استكمل هوغو روائعه من الشعر والنثر في منفاه وأبى أن يعود إلا مع عودة الحكم الجمهوري عام 1870، حين أُعيد انتخابه وصار عضواً في مجلس الشيوخ وتبنى قرار إلزامية التعليم الابتدائي ومجانيته، ونادى بالعدالة الاجتماعية وحرية الانتخاب والتعليم والصحافة والتعبير. وإن وجد في سنواته الأخيرة بعض الاستقرار في حياته السياسية فإن حياته الأسروية قد انهارت، إذ توفيت زوجته عام 1868 ثم فَقَدَ ابنيه تباعاً وأصيبت ابنته الصغرى أديل بالجنون ولم يبقَ له في شيخوخته سوى حفيديه، فنظم لهما ديواناً بعنوان: «الفن في أن تكون جَدّاً» L’art d’être grand-père ت(1877).
إذا كان القرن التاسع عشر قد بدأ بتساؤلات فقد كان هو الأول والأجرأ في طرحها، حول شرعية النزاعات، وها هو ذا يطلق صرخة أخيرة في وصيته في عام 1878 داعياً «البشرية إلى السلام» Paix aux hommes.
ودع الفرنسيون هوغو في جنازة رسمية وجماهيرية عظيمة ودُفن في مقبرة البانتيون Panthéon حيث يرقد العظماء.
تجربة المسرح
أعلن هوغو في مقدمته الشهيرة - التي ألحقها بمسرحيته التاريخية «كرومويل» Cromwell ت(1827) باكورة أعماله المسرحية - أنه سيحرر المسرح من قيوده الاتباعية (الكلاسية) classique مراعياً نقاطاً ثلاثاً:
1- العودة إلى التاريخ.
2- استخدام لغة الشعر الجزلة.
3- الإفاضة من الصور الغريبة والمثيرة للضحك (غروتسك grotesque) في الدراما الإبداعية romantique.
أراد تحديث المسرح وإطلاق حرية التعبير، ولكن مسرحية «كرومويل» التي تتناول حياة الإنكليزي الجمهوري الثائر في سبيل إعلاء كلمة الشعب لم تنل النجاح المرتقب. وقد ضمت من الأبيات ستة عشر ألفاً صَعُبَ اختصارها وتقديمها على المسرح. ورفض هوغو الإخفاق وسارع إلى خوض تجربة من نوع آخر في مسرحية رومنسية تُعد الأولى من نوعها، من حيث خروجها على وحدتي الزمان والمكان بعنوان «هرناني» Hernani ت(1829) وقد عُرضت في مسرح الكوميدي فرانسيز Comédie Française. وأُطلق على ما جرى في عرضها الأول اسم «معركة هرناني»، إذ انقسم الجمهور إلى فريقين: الكلاسيون القدامى والرومانسيون المحدثون. أما موضوعها فيُلخص في تنافس ثلاثة عشاق هم قاطع طريق شاب تحمل المسرحية اسمه، وعجوز من النبلاء ذو جاه وثراء، ومَلِك ذو حولٍ وطَوْل على حب شابة حسناء. و يفوز بها في النهاية قاطع الطريق. قدّم هوغو فيه مواقف يتحكم ببعضها السمو الخلقي والخير وإنكار الذات. وقد قام أبو خليل القباني[ر] بإعداد نص هرناني وقدمه في الإسكندرية والقاهرة في آخر القرن التاسع عشر.
طرق هوغو باب المسرح الشعبي في مسرحية تاريخية بعنوان «ماريون دي لورم» Marion de Lorme ت(1831)، تقبلها الجمهور بحماسة ووصمها الاتباعيون بأنها خروج على التقاليد وجرح للوقار. يزعم فيها هوغو أن الحب في مواقفه الإنسانية يطهّر من رجَس الرذيلة، ثم كتب مسرحيتين، وجّه الأولى «الملك يلهو» Le roi s’amuse ت(1832) إلى النخبة المثقفة، والثانية إلى جمهوره الشعبي وهي مسرحية نثرية بعنوان «لوكريس بورجيا» Lucrèce Borgia ت(1832). وقد ورطته الأولى في نزاع مع السلطات التنفيذية فثار هوغو وقاضى الحكومة لكنه خسر الدعوى. ثم كتب نثراً دراما تاريخية أخرى عن ثورة 1830 بعنوان «ماري تودور» Marie Tudor ت(1833)، غصت حبكتها بتعقيدات أربكت الجمهور. تبعتها مسرحية «أنجيلو» Angelo ت(1835)، التي أرادها أن تكون مصالحة مع جمهوره لاستعادة ثقته، واستبعد فيها التاريخ وطابع الغرابة. ثم عاد إلى المسرحية الشعرية في «روي بلاس» Ruy Blas ت(1838) التي تطرح مسألة احتضار سياسة الملكية من خلال قصة حب كبير يسمو بصاحبه إلى فعل الخير وإسعاد الآخرين. بعد ثلاث سنوات عاد هوغو إلى المسرح بثلاثية ملحمية بعنوان «الغطاريف» أو «أمراء القلعة» Les Burgraves ت(1842) اتبع فيها تسلسلاً زمنياً يجمع بين مآسي الماضي وصراعات الحاضر وأمل المستقبل في الخلاص، وقد رأى هوغو فيها أن الشر يتجسد جهراً في صورة صراع الإخوة. لم تحظَ المسرحية بالنجاح الذي قدّره كاتبها، ولعل أهم الأسباب هو أفول الإبداعية فهجر على أثرها المسرح ليتفرغ للشعر.
الشعر رسالة
ترأس هوغو بداية مجموعة الشعراء الشباب الذين اعتمدوا نظرية «الفن للفن» L’art pour l’ art قائلاً في مقدمة ديوانه الأول «أودات وقصائد مختلفة» Odes et Poésies diverses ت(1822) «إن الشعر ميدان لا حدود له».
خاض معركة القدامى والمحدثين محاولاً التوفيق بينهما، وعند إخفاقه انضم إلى المحدثين استجابة لردود فعل مناهضة للاتباعية (الكلاسية)، وأطلق صيحة جديدة في بيانه الشهير عبّر فيه عن رغبته في تحرير الشعر من قيوده ودفعه نحو آفاق جديدة، تكون الكلمة العليا فيها للعاطفة المشبوبة التي تستمد وحيها من الطبيعة ومن المشاعر الإنسانية مباشرة. وأحدث هوغو ثورة في قواعد الشعر وأصول نظمه فأخذ عن الاتباعيين البيت الإسكندري Alexandrin ذا الاثني عشر مقطعاً الرباعي Tétramètre ليجعله خماسي Pentamètre التفعيلة أو ثلاثيها Trimètre. وحَفِلَ شعره بالمعاظلة enjambement وبأصناف الصور البلاغية، وقد عُرِفَ بأنه شاعر الطباق antithèse، كما أكثر من علامات الترقيم وطرح تساؤلات حول قضايا جوهرية. وبدا أسلوبه سلساً تارة وغامضاً صعب الفهم تارةً أخرى. أما مفرداته فكانت ذات دلالات استمدها من لغته الأم ومن واقع الحياة رافضاً الاستعانة بأي كلمة أجنبية دخيلة. يكمن إلهامه وهاجسه في نظرته إلى العالم من منظور مانويّ[ر. ماني] Manichéisme إذ رأى أن في تعارض الأشياء وتضادها تكمن الحقيقة. وأسعفته مخيلته - ملكة إبداعه - في وصف صراع الإنسان الأزلي بين النور والظلمة، وكان يغالي أحياناً في الوصف hyperbole ويغني صوره بالاستعراض بما يثري متعة العين.
صدرت أولى دواوينه الغنائية lyrique: «أوراق الخريف» Les Feuilles d’Automne ت(1831) و«أغاني الغسق» Chants du Crépuscule ت(1835) و«الأصوات الداخلية» Les Voix intérieures ت(1838) و«إشعاعات وظلال» Les Rayons et les ombres ت(1840) متضمنة انطباعاته حول أحداث عصره وناسه. لم يترك هوغو موضوعاً إلا وتناوله في شعره. لازمته فكرة الإله الخالق Dieu Créateur منذ أن بدأ ينظم الشعر حتى يومه الأخير، إلى درجة أنه لُقّب بـ«الشاعر في سبيل نصرة الله». فبدأ مسيرته باحثاً عن الحقيقة المطلقة التي شغلته طوال حياته. عندما صدر ديوانه «الشرقيات» Les Orientales ت(1829) سُئل عن سبب هذه التسمية وما الفائدة التي يقدمها للقارئ، فأجاب إنه: «يرى في الأفق شعراً رفيع المستوى». وذكر في ديوانه هذا المعلقات والمتنبي وديوان البحتري، كما بيّن أنه يريد «أن يغرف من هذا المنجم الكبير، الشرق الذي يزخر بالأحجار الكريمة (الكنوز)». وإن كان قد اهتم في «الشرقيات» بالصور الشاعرية لجذب انتباه قارئ عصره التواق إلى سماع حكايات «ألف ليلة وليلة»، إلا أنه أشار في مقدمة ديوانه أن ما يثير فضوله هو: «المسجد الشرقي بآياته القرآنية على كل باب».
كان هوغو حائراً في البداية بين الشعر الوصفي والشعر التأملي، ثم نظم ألواناً مختلفة من الأنواع الشعرية كالرثاء والهجاء والشعر الملحمي إلى جانب الغنائي منه، وغالباً ما كان يمزج هذه الأنواع كما يظهر جلياً في ديوانه الشهير «القِصاص» Les Châtiments ت(1853) حيث تفجرت قريحته الهجائية ضد مرتكبي الجرائم. كان الشاعر يعتقد في قرارة نفسه أنه يحمل رسالة إنسانية لجيله ولأجيال المستقبل. وكان قد بدأ نظم قصائد ديوانه الثاني الشهير «التأملات» Les Contemplations ت(1856) الذي استغرقت كتابة قصائده ربع قرن 1830- 1855، وفصل فيه ماضيه عن حاضره، إذ حملت قصائد الماضي الأحلام والآمال، ثم برزت صورة اللحد في قصائد سنوات 1846- 1848 التي غلب عليها التشاؤم والانكسار، ثم انطلق نحو أحاسيس تعم الكون في قصائد أكثر شمولية Poésie cosmique مستبدلاً بالحديث عن الذات الحديث عن المشاعر الإنسانية جمعاء ليصبح الشاعرَ المتحدث بألسنة الجميع. وكان قد أعلن عندما بدأه أنه «مسلح بروح قوية لا تعرف الخوف لأن النفحة الإلهية غالبة فيها». فقد كان هوغو يؤمن بيوم الحساب وبوجود حياة أخرى. ولم تكن فكرة الموت تخيفه، لقد منحته فكرة يوم القيامة وانبعاث الموتى أملاً جديداً في اللقاء، ولاح في فكره لوهلة أن الشاعر بما أوتي من ملكات وقدرات يستطيع أن يطرق باب المجهول ليصل إلى الحقيقة الكامنة فيما وراء الطبيعة، الأمر الذي جعله ينصت إلى ما يروّجه بعضهم حول ظاهرة استحضار الأرواح Le spiritisme. لكن الباحثين المهتمين بتفاصيل هذه الظاهرة أكدوا تحفظ هوغو حيال نتائج الجلسات التي كانت تعقد في داره.
بعد أن تجاوز هوغو محنته بدأ يفكر في ملحمة إنسانية تلخص القرن التاسع عشر. فأغنى الأدب الفرنسي بـ«ملحمة الأجيال» أو «أسطورة العصور» La Légende des Siècles، التي جمعت بين التاريخ والأسطورة والميتافيزيقيا، وحملت طابعاً ديمقراطياً تجاوز النزاع التقليدي بين الديانات وتحدث عن عجائب الدين المسيحي وغير المسيحي وعن معجزات هذه الأديان. ويقول الشاعر الذي يطمح إلى تفسير الفكر البشري عبر العصور «إنها ملحمة الإنسان» بطابعيه المقدس والمستشرس معاً. ونجح الشاعر حيث أخفق شعراء معاصرون آخرون في تقديم ملحمة حديثة عندما بدأ بـ«ملاحم صغيرة» (العنوان الأول لملحمته) جعلها مترابطة حول موضوع واحد هو «ارتقاء الإنسان من الظلمة إلى النور». وفي حديثه عن التاريخ استعان هوغو بمخيلته مؤكداً للقارئ أنه قصد «الخيال أحياناً، ولكن لا وجود للتشويه أو التحريف». واتبع تسلسلاً زمنياً فبدأ على الصعيد الديني بالوثنية Paganisme في قصيدته «الساتير» Le Satyre على سبيل المثال؛ ليصور الإنسان في المرحلة الأولى من تفكيره فاقد البصيرة، سجين المادة يستهويه الإثم والعدوان، ثم يردد في مرحلة ثانية ما يسود في محيطه الاجتماعي من معتقدات ويتوه وسط حكايات وخرافات. وخلاصة قول الشاعر أن الفكر البشري ضلّ دون بلوغ الحقيقة وفقد التمييز بين الحق والباطل واكتسب الإنسان صفات تتناسب وعقيدته العابرة، الهشة، والميالة إلى الشر بحكم ارتباطها بالمادة. ولا يخفي هوغو ثورته عندما يقول في نهاية قصيدته «إن السماء ليست ملكية وهناك نور لمن يفكر».
النثر: مرآة للبؤس
كانت الرواية السوداء أو رواية الرعب Le roman noir رائجة في فرنسا، واقتداء بالكاتب الاسكتلندي وولتر سكوت[ر] نشر هوغو أولى رواياته «هان إيسلاندا» Han d’Islande ت(1823) مع إغفال اسمه. حملت الرواية اسم شخصيتها السفّاح المتعطش للدماء في أجواء اسكندنافية أسطورية مثيرة. تبعتها رواية «بوغ جرغال» Bug Jargal ت(1826) التي حكى فيها عن صراع العرقين الأبيض والأسود وصراع الطبقات في سانتو دومينغو وتضحية المُستعبدين. أما في عالم القصة الطويلة فنادى هوغو بوجوب إلغاء عقوبة الإعدام في قصته «اليوم الأخير للمحكوم عليه بالإعدام» Le dernier jour d’un condamné ت(1829). وتضعه رواية «أحدب نوتردام باريس» Notre Dame de Paris ت(1831) في مصاف الروائي بلزاك[ر] وهي أكثر رواياته طرافة في أحداثها وسلوك شخصياتها، فبطلها كزيمودو الأحدب الدميم يحمل بين جوانحه قلباً جميلاً يقدم أروع آيات السمو بحيث مثَّل الأضداد التي حملها في كيانه الظاهر والباطن. وأبرز هوغو عندما أطلق اسم كاتدرائية نوتردام على روايته جمال الفن القوطي.
ولعل أشهر ما كتب هوغو نثراً هو رواية «البؤساء» Les Misérables ت(1862) التي تُرجمت إلى معظم اللغات الحية ومنها العربية، وتحولت إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفازية، وكانت سبباً في ذيوع صيته وتبوئه المكانة المرموقة في مصاف الأدباء العالميين المتميزين. تفوق هوغو في أسلوب عرضه وتناوله حيوات أبطال هذه الملحمة النثرية التي تُعد من أروع إبداعات الأدب العالمي الحديث. ليست «البؤساء» قصة حب فحسب، بل تحليل لآفات المجتمع من فقر وجهل ومرض، والتي تغتال الحياة كل يوم على مرأى من العالم المتحضر، وتشيع جواً من القتامة المخيفة. إنها كتاب موجه إلى عامة القراء وأيضاً إلى أصحاب الاختصاص، وهذا ما عبّر عنه هوغو قائلاً: «أريد نثراً يقول كل شيء، إلى أوسع شرائح ممكنة من القراء من دون تقديم أي تنازلات لغوية أو تقنية». الشخصية الرئيسية فيها جان ڤالجان، من الشعب، سجين تمت تبرئته وبقي سجيناً في نظر المجتمع ضحية ماضيه الذي لاحقه وحوّل حياته إلى جحيم. جريمته الأولى أنه سرق رغيف خبز ليسد جوع أفواه أحفاده الجائعة. وبقيت السرقة تلازمه، يحلّلها في مجتمع ظالم لم تتبدل نظرته إليه، إلى أن اجتمع بالأسقف ميرييل الذي يجسّد المشاعر الإنسانية والقيم الأخلاقية، فقد آواه في منزله وادعى أنه أهداه إناء الفضة - كل ما يملكه - الذي سرقه منه وهو في منزله. عندئذٍ فقط يحدث تطور في داخله، فبعد أن كانت النفس أمارة بالسوء اتجهت الآن نحو الخير واكتسبت قداسة. صورة أبرزها هوغو وسط أحداث سياسية واجتماعية لا تقل عنها أهمية، ليقول «إن الحب في الحياة لا يكفي» فقد أدخل شخصياته الروائية في عجلة «البرجوازية الحمقاء» كما يقول. شخوص «لا تصنع شيئاً للغد ولا ترى أن كل شيء فانٍ، وأن الأعشاب وحدها تبقى لتغطي القبور كلها من دون استثناء». ثم جمع هوغو في كتاب عنوانه «وليم شكسبير» William Shakespeare ت(1864) خلاصة نظريته الأدبية والفلسفية التي نادت بالمساواة على مستوى الشعوب والحضارات، فالعباقرة كما يقول سواسية كل منهم شغل زمناً ومكانة وسط سباق بين الحضارات. أما في «عمّال البحر» Les Travailleurs de la mer ت(1866) فوصف صراع الإنسان مع الطبيعة وشرف العمل وعظمته في رفع شأنه. ووجد هوغو متعته في تطبيق لعبة الطباق في «الرجل الضاحك» L’Homme qui rit ت(1869) فأبدع في إبراز الأضداد في إنكلترا في زمن الملكة آن. فأبطال الرواية هم مشعوذ فيلسوف ووحش ذو عقل نيّر ويتيمة طاهرة فاقدة البصر ودوقة منحرفة. أما روايته الأخيرة «ثلاث وتسعون» Quatrevingt-Treize ت(1874) فتُعد ملحمة الثورة الفرنسية. تمثل شخصياتها الثلاث قيماً أخلاقية وسياسية، فاستقامة هؤلاء الرجال من الحكام والشعب وسلامة سلوكهم وفق ما يمليه وجدانهم قد خففت الكثير من ويلات الحرب وما سببته الثورة من إراقة دماء. مُثُلٌ لا تُقدّر بثمن ولا تضاهيها عظمة في رأي هوغو، عندما يمتثل الإنسان للطيبة العفوية التي فُطر عليها.
فكر تجاوز عصره
مَلَكَ هوغو عصره بنتاجه الأدبي الغزير، وبعمره المعطاء المديد. استعادت كتاباته اهتمام الدارسين في النصف الثاني من القرن العشرين ليضاف إلى مواهبه الشعرية والنثرية مواهب أخرى؛ فقد اكتشف النقاد أنه كاتب «سيناريو» رفيع المستوى، كما جُمعت رسوماته الساخرة التي تزيد على ثلاثمئة لوحة في منزله الذي تحوّل إلى متحف.
وسط فيض من الدراسات والمؤلفات الصادرة تباعاً وخاصة في كل ذكرى مئوية له تبقى سيرته الخاصة والإبداعية غير مكتملة، وأحياناً غير منسجمة ومتناقضة نتيجة الحذوفات والإضافات في مؤلفاته، باعتراف أكبر باحثَين اختصاصيين، رنيه جورنيه R.Journet وغي روبير G.Robert اللذين كرّسا جلّ وقتهما لاستكمال ما لم يُنشر من كتاباته ومخطوطاته وإصدارها. وقد يتساءل القارئ ما الهدف من إخفاء حقيقة تفكيره والوقوف طويلاً عند شطحات خياله ونزواته وتخاذل قواه إزاء تقلبات الدهر ومآسيه؟ لم يكن هوغو برومنسيته التي يحمل لواءها بعيداً عن المثالية التي تحرص على أن يتغلب العقل على جموح العاطفة ويتحكم بها، وبالتالي كان هوغو يخاطب العقل البشري. وكان الشاعر ابن بيئته أولاً، وهي في أحد وجوهها أخلاط من مخلفات قديمة ذات جذور في الوعي العام. درس التاريخ فوجده حافلاً بالصراعات السياسية والدينية، وبرزت صورتا نمرود وقابيل في تاريخ البشرية فوقف الشاعر عندهما. وغصّ حاضره أمامه بالأقنعة وزيف المشاعر، وبدا هوغو ناقماً على الإنسان المسؤول الأول في قناعته عن النزاعات والخلافات التي أوصلت البشرية إلى الهلاك والدمار، فكانت ردود فعله عنيفة في كتاباته الأخيرة: «ديانات ودين» Religions et Religion ت(1880)، «الحمار» L’âne ت(1880)، «رياح الفكر الأربعة» Les Quatre vents de l’esprit ت(1881)، «نهاية الشيطان» La Fin de Satan ت(1886).
أُخذ على هوغو إقحام الفلسفة في الشعر، ففي عام 1834 أصدر كتاباً بعنوان «تمازج الأدب والفلسفة» Littérature et philosophie mêlées، ولكن ما شغله في الفلسفة طوال حياته هو موضوع واحد: الإله. فعندما قال وهو في الرابعة والسبعين: «أبدأ مسيرتي المهنية الآن» أراد أن يتوج أعماله ويختمها بقصيدته «الإله» Dieu ت(1891) التي نشرت بعد وفاته بست سنوات. ثم أضافت دار النشر الوطنية بعد عشرين عاماً مئات من الأبيات غير المنشورة سابقاً، جسد الشاعر فيها ارتقاء الفكر وسط الغياهب، بأصوات ثمانية يقول الأول: «هناك ظلمة ولا يوجد شيء»، ويختم الصوت الأخير قائلاً «الإله نور». عندما سألته الأديبة جورج صاند[ر] عن حقيقة نواياه وما هو هدفه من الدفاع عن الخالق، أجاب في رسالة كتبها في الثامن عشر من أيار/مايو عام 1862: «أنا متأكد من وجود الإله أكثر من تأكدي من وجودي». وقد تعب هوغو من تساؤلات المحيطين به حول إلهه وديانته فأجاب القارئَ في بداية قصيدته: «إذا كنت لا تشعر بالإله في خلقه فلا يوجد عندي شيء أقوله لك». ولم يأبه هوغو للنقاد الذين نسبوا إليه الألوهية déisme أو الحلولية (وحدة الوجود) panthéisme أو ادعوا أنه من أنصار فيثاغورس Pythagore؛ لأنه كان مهتماً بالقارئ فقط، وكان جوابه لمن يريد أن يفهم أي إله يمجد: «إنه الإله خالقي وخالقك وأنا وأنت خُلقنا من صلصال».
رأى هوغو أن الفكر البشري في حالة اضطراب؛ لأنه لا يدرك جوهر الإيمان ويقتصر دينه على الدفاع عن بعض الشعائر والعبادات التي يؤديها آلياً حُباً في الجنة وهروباً من نار جهنم. لذا وجد هوغو حاجة إلى الانفتاح على كل المعتقدات في الماضي والحاضر، مع ضرورة دراسة الكتب المقدسة، وإن كان هناك من اتهمه بالابتعاد عن الدين، فهناك أيضاً من فهم ما أراد هوغو إيصاله إلى القارئ. إذ كتب الباحث دُني سورا Denis Saurat حول موضوع قصيدة «الإله» عام 1952 قائلاً: «أمر مستحيل أن يُطرح موضوع هذه القصيدة قبل القرن التاسع عشر لأنها تطرح تعاطفاً عميقاً مع جميع الديانات ويستند هذا التعاطف إلى جوهر تدور حوله العقائد وهو الإيمان بوجود إله خالق».
طلب هوغو من الشاعر لامارتين[ر] قبل سفره إلى الشرق أن يبحث في العالم البعيد عن الشكل الذي يكتسبه الكائن L’Être الموجود في كل مكان. وقال لامارتين حين عاد من رحلته: «وجدت في صورة «الله» Allah ـ كما كتبها ـ الإله الخالق والإله الأب». وأراد هوغو أن يعرف أكثر فقرأ ترجمة دو رييه Du Ryer وترجمة كازيميرسكي Kasimirski للقرآن الكريم واقتبس منه سورة «الزلزلة» التي ذكّرته بيوم الحساب الذي يؤمن به؛ ليدرجها في قالب شاعري في «ملحمة الأجيال» (الطبعة الصادرة عام 1877) تحت عنوان «آية من القرآن» Verset du Koran. ويُحتمل وجود مقبوسات قرآنية أخرى طمسها المغرضون. أكد هوغو أنه لن يسهم في صراع الحضارات، ففي قناعته، كما قال في كتابه «وليم شكسبير»: «جاء الوقت الذي يُفترض فيه أن يقدم التاريخ الحقيقة التي تقود إلى تقارب الشعوب». حقيقة واحدة كان يؤمن بوجودها وأراد الإسهام في تعزيزها واثقاً من أن البشرية تدركها، إلا أن التعبير عنها يأتي مختلفاً نتيجة اختلاف العقول والحضارات. فسعى الأديب إلى توسيع دائرة الفكر ليعرف ما تقوله حضارة الشرق والإسلام عن هذه الحقيقة التي تقرّب في قناعته بين الغرب والشرق وتتلاقى أمامها العقول الكبرى.
كان هوغو سباقاً إلى الدعوة قبل نحو قرن ونصف إلى الحوار بين الحضارات والديانات، وكلمته الأخيرة كانت دعوة للسلام قبل اندلاع الحروب من جديد.
حنان المالكي
Hugo (Victor-) - Hugo (Victor-)
هوغو (ڤكتور ـ)
(1802 ـ 1885)
ولد هوغو في مدينة بيزانسون Besançon شرقي فرنسا، وكان والده ضابطاً في جيش نابليون بونابرت، فامتلأت مخيلة الصبي الناشئ برؤى خلقت كل منها رواسب في وجدانه. وعانى منذ طفولته تمزق الحياة العائلية عند ظهور امرأة ثانية في حياة والده، وانتهى الخلاف بين الوالدين بالانفصال. كان مولعاً جداً بوالدته، فقد أورد في مذكراته أنه تلقى منها شغفه بالقراءة وحرية التفكير.
أُدخل هوغو بأمر من والده في مدرسة «كوردييه» Cordier الداخلية، فصب جلّ اهتمامه في الدراسة، يراوده حلم التفوق على أقرانه. وأرسل وهو في الرابعة عشرة إلى الأكاديمية الفرنسية قصيدة من ثلاثمئة بيت لتكون بداية له في إدراج اسمه بين الشعراء. وتتابعت قصائده مثيرة الإعجاب بهذا «الفتى النابغة» على حسب ما أسماه الأديب الفرنسي شاتوبريان[ر]. شارك عام 1817 في مسابقة الأكاديمية الفرنسية وفاز بقصيدة عنوانها «السعادة التي تمنحها الدراسة» Du bonheur que procure L’étude. كما منحته أكاديمية تولوز للألعاب الزهرية Académie des jeux floraux de Toulouse جائزة عام 1819 مما أقنع والده - الذي اختار له مدرسة «البوليتكنيك» Polytechnique - بموهبته الأدبية ورضخ لاختياره. أسس مع أشقائه في هذا العام الصحيفة الدورية «كونسرڤاتور أو المحافظ الأدبي» Le Conservateur littéraire، ضمنها نتاجه الأول من الشعر والقصة والبحوث الأدبية والفنية.
تزوج هوغو عام 1822 حبيبته أديل فوشيه Adèle Foucher. لكن سعادته لم تكتمل ليلة زفافه، بسبب إصابة شقيقه أوجين - الذي كان يكتم حباً عنيفاًً للعروس - بنوبة عصبية ذهبت بقواه العقلية. كما صُدم لاحقاً بخيانة صديقه الناقد سانت بوڤ[ر] Sainte- Beuve الذي نجح في إغواء زوجته. غفر هوغو لأديل ضعفها حتى لا يكرر مع أولاده مأساة طفولته وتابع حياته الزوجية، إلا أن مشاعر الشباب النبيلة تحولت إلى رغبة في التحرر من القيود الاجتماعية. سكن هوغو في النهاية إلى صداقة عاطفية قوية ربطته بالممثلة جولييت دروييه Juliette Drouet التي لازمته منذ عام 1833 حتى وفاتها عام 1883. وكانت زوجته على علم بهذه العلاقة وقبلت بها تفانياً في حب زوجها وأولادها.
ذهن نيّر وقلم بليغ، يُضاف إليهما جرأة كبيرة دفعت هوغو إلى المشاركة في النزاعات السياسية الكبرى التي شهدها العصر، قبل أن يصبح في أيامه الأخيرة الشاعر الرسمي للجمهورية الثالثة. عاصر هوغو ألواناً مختلفة من الحكم وعايش ثورتَيْ 1830 و1848 ثم انقلاب عام 1851، وساند في البداية حزب اليمين المقرّب من السلطة، وصار عضواً في الأكاديمية الفرنسية عام 1841 ونائباً في الجمعية التأسيسية وفي الجمعية الوطنية. كما دعم لويس نابليون في الوصول إلى رئاسة الجمهورية عام 1851 آملاً أن يحقق أحلام الجيل الصاعد من الثوريين الجمهوريين. وكان هوغو قد فجع عام 1843 بغرق ابنته البكر ليوبولدين، فتوقف عن الكتابة وركز على دوره السياسي مناضلاً في سبيل الحرية والديمقراطية والجمهورية. وعند تحول الحكم إلى امبراطورية تقرب هوغو من حزب اليسار وبدأ معركته الطويلة والعنيدة ضد انقلاب نابليون الثالث، وندد بطموحاته ودسائسه في صحيفته السياسية «الحدث» L’Événement. أودت به المعركة إلى المنفى في بروكسل ثم في جزيرتي جيرسي Jersey وغيرنسي Guernesey في بحر المانش (1851-1870). استعاد الشاعر سكينته في المنفى وبدأ بالمهمة التي وجدها أكثر إلحاحاً وهي فضح الانقلاب في كتابه «تاريخ جريمة» Histoire d’un crime ت(1877)، حيث وصم نابليون الثالث الذي خان ثقته في فصل بعنوان «نابليون الصغير» Napoléon le Petit. ولا يروي هوغو من منطلق المراقب الراصد بل من منطلق المشارك في الثورة؛ تصفيةً لحسابٍ مع الذين كما قال: «خانوا الوطن والدين وأنفسهم قبل أن يخونوا الشعب».
استكمل هوغو روائعه من الشعر والنثر في منفاه وأبى أن يعود إلا مع عودة الحكم الجمهوري عام 1870، حين أُعيد انتخابه وصار عضواً في مجلس الشيوخ وتبنى قرار إلزامية التعليم الابتدائي ومجانيته، ونادى بالعدالة الاجتماعية وحرية الانتخاب والتعليم والصحافة والتعبير. وإن وجد في سنواته الأخيرة بعض الاستقرار في حياته السياسية فإن حياته الأسروية قد انهارت، إذ توفيت زوجته عام 1868 ثم فَقَدَ ابنيه تباعاً وأصيبت ابنته الصغرى أديل بالجنون ولم يبقَ له في شيخوخته سوى حفيديه، فنظم لهما ديواناً بعنوان: «الفن في أن تكون جَدّاً» L’art d’être grand-père ت(1877).
إذا كان القرن التاسع عشر قد بدأ بتساؤلات فقد كان هو الأول والأجرأ في طرحها، حول شرعية النزاعات، وها هو ذا يطلق صرخة أخيرة في وصيته في عام 1878 داعياً «البشرية إلى السلام» Paix aux hommes.
ودع الفرنسيون هوغو في جنازة رسمية وجماهيرية عظيمة ودُفن في مقبرة البانتيون Panthéon حيث يرقد العظماء.
تجربة المسرح
أعلن هوغو في مقدمته الشهيرة - التي ألحقها بمسرحيته التاريخية «كرومويل» Cromwell ت(1827) باكورة أعماله المسرحية - أنه سيحرر المسرح من قيوده الاتباعية (الكلاسية) classique مراعياً نقاطاً ثلاثاً:
1- العودة إلى التاريخ.
2- استخدام لغة الشعر الجزلة.
3- الإفاضة من الصور الغريبة والمثيرة للضحك (غروتسك grotesque) في الدراما الإبداعية romantique.
أراد تحديث المسرح وإطلاق حرية التعبير، ولكن مسرحية «كرومويل» التي تتناول حياة الإنكليزي الجمهوري الثائر في سبيل إعلاء كلمة الشعب لم تنل النجاح المرتقب. وقد ضمت من الأبيات ستة عشر ألفاً صَعُبَ اختصارها وتقديمها على المسرح. ورفض هوغو الإخفاق وسارع إلى خوض تجربة من نوع آخر في مسرحية رومنسية تُعد الأولى من نوعها، من حيث خروجها على وحدتي الزمان والمكان بعنوان «هرناني» Hernani ت(1829) وقد عُرضت في مسرح الكوميدي فرانسيز Comédie Française. وأُطلق على ما جرى في عرضها الأول اسم «معركة هرناني»، إذ انقسم الجمهور إلى فريقين: الكلاسيون القدامى والرومانسيون المحدثون. أما موضوعها فيُلخص في تنافس ثلاثة عشاق هم قاطع طريق شاب تحمل المسرحية اسمه، وعجوز من النبلاء ذو جاه وثراء، ومَلِك ذو حولٍ وطَوْل على حب شابة حسناء. و يفوز بها في النهاية قاطع الطريق. قدّم هوغو فيه مواقف يتحكم ببعضها السمو الخلقي والخير وإنكار الذات. وقد قام أبو خليل القباني[ر] بإعداد نص هرناني وقدمه في الإسكندرية والقاهرة في آخر القرن التاسع عشر.
طرق هوغو باب المسرح الشعبي في مسرحية تاريخية بعنوان «ماريون دي لورم» Marion de Lorme ت(1831)، تقبلها الجمهور بحماسة ووصمها الاتباعيون بأنها خروج على التقاليد وجرح للوقار. يزعم فيها هوغو أن الحب في مواقفه الإنسانية يطهّر من رجَس الرذيلة، ثم كتب مسرحيتين، وجّه الأولى «الملك يلهو» Le roi s’amuse ت(1832) إلى النخبة المثقفة، والثانية إلى جمهوره الشعبي وهي مسرحية نثرية بعنوان «لوكريس بورجيا» Lucrèce Borgia ت(1832). وقد ورطته الأولى في نزاع مع السلطات التنفيذية فثار هوغو وقاضى الحكومة لكنه خسر الدعوى. ثم كتب نثراً دراما تاريخية أخرى عن ثورة 1830 بعنوان «ماري تودور» Marie Tudor ت(1833)، غصت حبكتها بتعقيدات أربكت الجمهور. تبعتها مسرحية «أنجيلو» Angelo ت(1835)، التي أرادها أن تكون مصالحة مع جمهوره لاستعادة ثقته، واستبعد فيها التاريخ وطابع الغرابة. ثم عاد إلى المسرحية الشعرية في «روي بلاس» Ruy Blas ت(1838) التي تطرح مسألة احتضار سياسة الملكية من خلال قصة حب كبير يسمو بصاحبه إلى فعل الخير وإسعاد الآخرين. بعد ثلاث سنوات عاد هوغو إلى المسرح بثلاثية ملحمية بعنوان «الغطاريف» أو «أمراء القلعة» Les Burgraves ت(1842) اتبع فيها تسلسلاً زمنياً يجمع بين مآسي الماضي وصراعات الحاضر وأمل المستقبل في الخلاص، وقد رأى هوغو فيها أن الشر يتجسد جهراً في صورة صراع الإخوة. لم تحظَ المسرحية بالنجاح الذي قدّره كاتبها، ولعل أهم الأسباب هو أفول الإبداعية فهجر على أثرها المسرح ليتفرغ للشعر.
الشعر رسالة
ترأس هوغو بداية مجموعة الشعراء الشباب الذين اعتمدوا نظرية «الفن للفن» L’art pour l’ art قائلاً في مقدمة ديوانه الأول «أودات وقصائد مختلفة» Odes et Poésies diverses ت(1822) «إن الشعر ميدان لا حدود له».
خاض معركة القدامى والمحدثين محاولاً التوفيق بينهما، وعند إخفاقه انضم إلى المحدثين استجابة لردود فعل مناهضة للاتباعية (الكلاسية)، وأطلق صيحة جديدة في بيانه الشهير عبّر فيه عن رغبته في تحرير الشعر من قيوده ودفعه نحو آفاق جديدة، تكون الكلمة العليا فيها للعاطفة المشبوبة التي تستمد وحيها من الطبيعة ومن المشاعر الإنسانية مباشرة. وأحدث هوغو ثورة في قواعد الشعر وأصول نظمه فأخذ عن الاتباعيين البيت الإسكندري Alexandrin ذا الاثني عشر مقطعاً الرباعي Tétramètre ليجعله خماسي Pentamètre التفعيلة أو ثلاثيها Trimètre. وحَفِلَ شعره بالمعاظلة enjambement وبأصناف الصور البلاغية، وقد عُرِفَ بأنه شاعر الطباق antithèse، كما أكثر من علامات الترقيم وطرح تساؤلات حول قضايا جوهرية. وبدا أسلوبه سلساً تارة وغامضاً صعب الفهم تارةً أخرى. أما مفرداته فكانت ذات دلالات استمدها من لغته الأم ومن واقع الحياة رافضاً الاستعانة بأي كلمة أجنبية دخيلة. يكمن إلهامه وهاجسه في نظرته إلى العالم من منظور مانويّ[ر. ماني] Manichéisme إذ رأى أن في تعارض الأشياء وتضادها تكمن الحقيقة. وأسعفته مخيلته - ملكة إبداعه - في وصف صراع الإنسان الأزلي بين النور والظلمة، وكان يغالي أحياناً في الوصف hyperbole ويغني صوره بالاستعراض بما يثري متعة العين.
صدرت أولى دواوينه الغنائية lyrique: «أوراق الخريف» Les Feuilles d’Automne ت(1831) و«أغاني الغسق» Chants du Crépuscule ت(1835) و«الأصوات الداخلية» Les Voix intérieures ت(1838) و«إشعاعات وظلال» Les Rayons et les ombres ت(1840) متضمنة انطباعاته حول أحداث عصره وناسه. لم يترك هوغو موضوعاً إلا وتناوله في شعره. لازمته فكرة الإله الخالق Dieu Créateur منذ أن بدأ ينظم الشعر حتى يومه الأخير، إلى درجة أنه لُقّب بـ«الشاعر في سبيل نصرة الله». فبدأ مسيرته باحثاً عن الحقيقة المطلقة التي شغلته طوال حياته. عندما صدر ديوانه «الشرقيات» Les Orientales ت(1829) سُئل عن سبب هذه التسمية وما الفائدة التي يقدمها للقارئ، فأجاب إنه: «يرى في الأفق شعراً رفيع المستوى». وذكر في ديوانه هذا المعلقات والمتنبي وديوان البحتري، كما بيّن أنه يريد «أن يغرف من هذا المنجم الكبير، الشرق الذي يزخر بالأحجار الكريمة (الكنوز)». وإن كان قد اهتم في «الشرقيات» بالصور الشاعرية لجذب انتباه قارئ عصره التواق إلى سماع حكايات «ألف ليلة وليلة»، إلا أنه أشار في مقدمة ديوانه أن ما يثير فضوله هو: «المسجد الشرقي بآياته القرآنية على كل باب».
كان هوغو حائراً في البداية بين الشعر الوصفي والشعر التأملي، ثم نظم ألواناً مختلفة من الأنواع الشعرية كالرثاء والهجاء والشعر الملحمي إلى جانب الغنائي منه، وغالباً ما كان يمزج هذه الأنواع كما يظهر جلياً في ديوانه الشهير «القِصاص» Les Châtiments ت(1853) حيث تفجرت قريحته الهجائية ضد مرتكبي الجرائم. كان الشاعر يعتقد في قرارة نفسه أنه يحمل رسالة إنسانية لجيله ولأجيال المستقبل. وكان قد بدأ نظم قصائد ديوانه الثاني الشهير «التأملات» Les Contemplations ت(1856) الذي استغرقت كتابة قصائده ربع قرن 1830- 1855، وفصل فيه ماضيه عن حاضره، إذ حملت قصائد الماضي الأحلام والآمال، ثم برزت صورة اللحد في قصائد سنوات 1846- 1848 التي غلب عليها التشاؤم والانكسار، ثم انطلق نحو أحاسيس تعم الكون في قصائد أكثر شمولية Poésie cosmique مستبدلاً بالحديث عن الذات الحديث عن المشاعر الإنسانية جمعاء ليصبح الشاعرَ المتحدث بألسنة الجميع. وكان قد أعلن عندما بدأه أنه «مسلح بروح قوية لا تعرف الخوف لأن النفحة الإلهية غالبة فيها». فقد كان هوغو يؤمن بيوم الحساب وبوجود حياة أخرى. ولم تكن فكرة الموت تخيفه، لقد منحته فكرة يوم القيامة وانبعاث الموتى أملاً جديداً في اللقاء، ولاح في فكره لوهلة أن الشاعر بما أوتي من ملكات وقدرات يستطيع أن يطرق باب المجهول ليصل إلى الحقيقة الكامنة فيما وراء الطبيعة، الأمر الذي جعله ينصت إلى ما يروّجه بعضهم حول ظاهرة استحضار الأرواح Le spiritisme. لكن الباحثين المهتمين بتفاصيل هذه الظاهرة أكدوا تحفظ هوغو حيال نتائج الجلسات التي كانت تعقد في داره.
بعد أن تجاوز هوغو محنته بدأ يفكر في ملحمة إنسانية تلخص القرن التاسع عشر. فأغنى الأدب الفرنسي بـ«ملحمة الأجيال» أو «أسطورة العصور» La Légende des Siècles، التي جمعت بين التاريخ والأسطورة والميتافيزيقيا، وحملت طابعاً ديمقراطياً تجاوز النزاع التقليدي بين الديانات وتحدث عن عجائب الدين المسيحي وغير المسيحي وعن معجزات هذه الأديان. ويقول الشاعر الذي يطمح إلى تفسير الفكر البشري عبر العصور «إنها ملحمة الإنسان» بطابعيه المقدس والمستشرس معاً. ونجح الشاعر حيث أخفق شعراء معاصرون آخرون في تقديم ملحمة حديثة عندما بدأ بـ«ملاحم صغيرة» (العنوان الأول لملحمته) جعلها مترابطة حول موضوع واحد هو «ارتقاء الإنسان من الظلمة إلى النور». وفي حديثه عن التاريخ استعان هوغو بمخيلته مؤكداً للقارئ أنه قصد «الخيال أحياناً، ولكن لا وجود للتشويه أو التحريف». واتبع تسلسلاً زمنياً فبدأ على الصعيد الديني بالوثنية Paganisme في قصيدته «الساتير» Le Satyre على سبيل المثال؛ ليصور الإنسان في المرحلة الأولى من تفكيره فاقد البصيرة، سجين المادة يستهويه الإثم والعدوان، ثم يردد في مرحلة ثانية ما يسود في محيطه الاجتماعي من معتقدات ويتوه وسط حكايات وخرافات. وخلاصة قول الشاعر أن الفكر البشري ضلّ دون بلوغ الحقيقة وفقد التمييز بين الحق والباطل واكتسب الإنسان صفات تتناسب وعقيدته العابرة، الهشة، والميالة إلى الشر بحكم ارتباطها بالمادة. ولا يخفي هوغو ثورته عندما يقول في نهاية قصيدته «إن السماء ليست ملكية وهناك نور لمن يفكر».
النثر: مرآة للبؤس
كانت الرواية السوداء أو رواية الرعب Le roman noir رائجة في فرنسا، واقتداء بالكاتب الاسكتلندي وولتر سكوت[ر] نشر هوغو أولى رواياته «هان إيسلاندا» Han d’Islande ت(1823) مع إغفال اسمه. حملت الرواية اسم شخصيتها السفّاح المتعطش للدماء في أجواء اسكندنافية أسطورية مثيرة. تبعتها رواية «بوغ جرغال» Bug Jargal ت(1826) التي حكى فيها عن صراع العرقين الأبيض والأسود وصراع الطبقات في سانتو دومينغو وتضحية المُستعبدين. أما في عالم القصة الطويلة فنادى هوغو بوجوب إلغاء عقوبة الإعدام في قصته «اليوم الأخير للمحكوم عليه بالإعدام» Le dernier jour d’un condamné ت(1829). وتضعه رواية «أحدب نوتردام باريس» Notre Dame de Paris ت(1831) في مصاف الروائي بلزاك[ر] وهي أكثر رواياته طرافة في أحداثها وسلوك شخصياتها، فبطلها كزيمودو الأحدب الدميم يحمل بين جوانحه قلباً جميلاً يقدم أروع آيات السمو بحيث مثَّل الأضداد التي حملها في كيانه الظاهر والباطن. وأبرز هوغو عندما أطلق اسم كاتدرائية نوتردام على روايته جمال الفن القوطي.
ولعل أشهر ما كتب هوغو نثراً هو رواية «البؤساء» Les Misérables ت(1862) التي تُرجمت إلى معظم اللغات الحية ومنها العربية، وتحولت إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفازية، وكانت سبباً في ذيوع صيته وتبوئه المكانة المرموقة في مصاف الأدباء العالميين المتميزين. تفوق هوغو في أسلوب عرضه وتناوله حيوات أبطال هذه الملحمة النثرية التي تُعد من أروع إبداعات الأدب العالمي الحديث. ليست «البؤساء» قصة حب فحسب، بل تحليل لآفات المجتمع من فقر وجهل ومرض، والتي تغتال الحياة كل يوم على مرأى من العالم المتحضر، وتشيع جواً من القتامة المخيفة. إنها كتاب موجه إلى عامة القراء وأيضاً إلى أصحاب الاختصاص، وهذا ما عبّر عنه هوغو قائلاً: «أريد نثراً يقول كل شيء، إلى أوسع شرائح ممكنة من القراء من دون تقديم أي تنازلات لغوية أو تقنية». الشخصية الرئيسية فيها جان ڤالجان، من الشعب، سجين تمت تبرئته وبقي سجيناً في نظر المجتمع ضحية ماضيه الذي لاحقه وحوّل حياته إلى جحيم. جريمته الأولى أنه سرق رغيف خبز ليسد جوع أفواه أحفاده الجائعة. وبقيت السرقة تلازمه، يحلّلها في مجتمع ظالم لم تتبدل نظرته إليه، إلى أن اجتمع بالأسقف ميرييل الذي يجسّد المشاعر الإنسانية والقيم الأخلاقية، فقد آواه في منزله وادعى أنه أهداه إناء الفضة - كل ما يملكه - الذي سرقه منه وهو في منزله. عندئذٍ فقط يحدث تطور في داخله، فبعد أن كانت النفس أمارة بالسوء اتجهت الآن نحو الخير واكتسبت قداسة. صورة أبرزها هوغو وسط أحداث سياسية واجتماعية لا تقل عنها أهمية، ليقول «إن الحب في الحياة لا يكفي» فقد أدخل شخصياته الروائية في عجلة «البرجوازية الحمقاء» كما يقول. شخوص «لا تصنع شيئاً للغد ولا ترى أن كل شيء فانٍ، وأن الأعشاب وحدها تبقى لتغطي القبور كلها من دون استثناء». ثم جمع هوغو في كتاب عنوانه «وليم شكسبير» William Shakespeare ت(1864) خلاصة نظريته الأدبية والفلسفية التي نادت بالمساواة على مستوى الشعوب والحضارات، فالعباقرة كما يقول سواسية كل منهم شغل زمناً ومكانة وسط سباق بين الحضارات. أما في «عمّال البحر» Les Travailleurs de la mer ت(1866) فوصف صراع الإنسان مع الطبيعة وشرف العمل وعظمته في رفع شأنه. ووجد هوغو متعته في تطبيق لعبة الطباق في «الرجل الضاحك» L’Homme qui rit ت(1869) فأبدع في إبراز الأضداد في إنكلترا في زمن الملكة آن. فأبطال الرواية هم مشعوذ فيلسوف ووحش ذو عقل نيّر ويتيمة طاهرة فاقدة البصر ودوقة منحرفة. أما روايته الأخيرة «ثلاث وتسعون» Quatrevingt-Treize ت(1874) فتُعد ملحمة الثورة الفرنسية. تمثل شخصياتها الثلاث قيماً أخلاقية وسياسية، فاستقامة هؤلاء الرجال من الحكام والشعب وسلامة سلوكهم وفق ما يمليه وجدانهم قد خففت الكثير من ويلات الحرب وما سببته الثورة من إراقة دماء. مُثُلٌ لا تُقدّر بثمن ولا تضاهيها عظمة في رأي هوغو، عندما يمتثل الإنسان للطيبة العفوية التي فُطر عليها.
فكر تجاوز عصره
مَلَكَ هوغو عصره بنتاجه الأدبي الغزير، وبعمره المعطاء المديد. استعادت كتاباته اهتمام الدارسين في النصف الثاني من القرن العشرين ليضاف إلى مواهبه الشعرية والنثرية مواهب أخرى؛ فقد اكتشف النقاد أنه كاتب «سيناريو» رفيع المستوى، كما جُمعت رسوماته الساخرة التي تزيد على ثلاثمئة لوحة في منزله الذي تحوّل إلى متحف.
وسط فيض من الدراسات والمؤلفات الصادرة تباعاً وخاصة في كل ذكرى مئوية له تبقى سيرته الخاصة والإبداعية غير مكتملة، وأحياناً غير منسجمة ومتناقضة نتيجة الحذوفات والإضافات في مؤلفاته، باعتراف أكبر باحثَين اختصاصيين، رنيه جورنيه R.Journet وغي روبير G.Robert اللذين كرّسا جلّ وقتهما لاستكمال ما لم يُنشر من كتاباته ومخطوطاته وإصدارها. وقد يتساءل القارئ ما الهدف من إخفاء حقيقة تفكيره والوقوف طويلاً عند شطحات خياله ونزواته وتخاذل قواه إزاء تقلبات الدهر ومآسيه؟ لم يكن هوغو برومنسيته التي يحمل لواءها بعيداً عن المثالية التي تحرص على أن يتغلب العقل على جموح العاطفة ويتحكم بها، وبالتالي كان هوغو يخاطب العقل البشري. وكان الشاعر ابن بيئته أولاً، وهي في أحد وجوهها أخلاط من مخلفات قديمة ذات جذور في الوعي العام. درس التاريخ فوجده حافلاً بالصراعات السياسية والدينية، وبرزت صورتا نمرود وقابيل في تاريخ البشرية فوقف الشاعر عندهما. وغصّ حاضره أمامه بالأقنعة وزيف المشاعر، وبدا هوغو ناقماً على الإنسان المسؤول الأول في قناعته عن النزاعات والخلافات التي أوصلت البشرية إلى الهلاك والدمار، فكانت ردود فعله عنيفة في كتاباته الأخيرة: «ديانات ودين» Religions et Religion ت(1880)، «الحمار» L’âne ت(1880)، «رياح الفكر الأربعة» Les Quatre vents de l’esprit ت(1881)، «نهاية الشيطان» La Fin de Satan ت(1886).
أُخذ على هوغو إقحام الفلسفة في الشعر، ففي عام 1834 أصدر كتاباً بعنوان «تمازج الأدب والفلسفة» Littérature et philosophie mêlées، ولكن ما شغله في الفلسفة طوال حياته هو موضوع واحد: الإله. فعندما قال وهو في الرابعة والسبعين: «أبدأ مسيرتي المهنية الآن» أراد أن يتوج أعماله ويختمها بقصيدته «الإله» Dieu ت(1891) التي نشرت بعد وفاته بست سنوات. ثم أضافت دار النشر الوطنية بعد عشرين عاماً مئات من الأبيات غير المنشورة سابقاً، جسد الشاعر فيها ارتقاء الفكر وسط الغياهب، بأصوات ثمانية يقول الأول: «هناك ظلمة ولا يوجد شيء»، ويختم الصوت الأخير قائلاً «الإله نور». عندما سألته الأديبة جورج صاند[ر] عن حقيقة نواياه وما هو هدفه من الدفاع عن الخالق، أجاب في رسالة كتبها في الثامن عشر من أيار/مايو عام 1862: «أنا متأكد من وجود الإله أكثر من تأكدي من وجودي». وقد تعب هوغو من تساؤلات المحيطين به حول إلهه وديانته فأجاب القارئَ في بداية قصيدته: «إذا كنت لا تشعر بالإله في خلقه فلا يوجد عندي شيء أقوله لك». ولم يأبه هوغو للنقاد الذين نسبوا إليه الألوهية déisme أو الحلولية (وحدة الوجود) panthéisme أو ادعوا أنه من أنصار فيثاغورس Pythagore؛ لأنه كان مهتماً بالقارئ فقط، وكان جوابه لمن يريد أن يفهم أي إله يمجد: «إنه الإله خالقي وخالقك وأنا وأنت خُلقنا من صلصال».
رأى هوغو أن الفكر البشري في حالة اضطراب؛ لأنه لا يدرك جوهر الإيمان ويقتصر دينه على الدفاع عن بعض الشعائر والعبادات التي يؤديها آلياً حُباً في الجنة وهروباً من نار جهنم. لذا وجد هوغو حاجة إلى الانفتاح على كل المعتقدات في الماضي والحاضر، مع ضرورة دراسة الكتب المقدسة، وإن كان هناك من اتهمه بالابتعاد عن الدين، فهناك أيضاً من فهم ما أراد هوغو إيصاله إلى القارئ. إذ كتب الباحث دُني سورا Denis Saurat حول موضوع قصيدة «الإله» عام 1952 قائلاً: «أمر مستحيل أن يُطرح موضوع هذه القصيدة قبل القرن التاسع عشر لأنها تطرح تعاطفاً عميقاً مع جميع الديانات ويستند هذا التعاطف إلى جوهر تدور حوله العقائد وهو الإيمان بوجود إله خالق».
طلب هوغو من الشاعر لامارتين[ر] قبل سفره إلى الشرق أن يبحث في العالم البعيد عن الشكل الذي يكتسبه الكائن L’Être الموجود في كل مكان. وقال لامارتين حين عاد من رحلته: «وجدت في صورة «الله» Allah ـ كما كتبها ـ الإله الخالق والإله الأب». وأراد هوغو أن يعرف أكثر فقرأ ترجمة دو رييه Du Ryer وترجمة كازيميرسكي Kasimirski للقرآن الكريم واقتبس منه سورة «الزلزلة» التي ذكّرته بيوم الحساب الذي يؤمن به؛ ليدرجها في قالب شاعري في «ملحمة الأجيال» (الطبعة الصادرة عام 1877) تحت عنوان «آية من القرآن» Verset du Koran. ويُحتمل وجود مقبوسات قرآنية أخرى طمسها المغرضون. أكد هوغو أنه لن يسهم في صراع الحضارات، ففي قناعته، كما قال في كتابه «وليم شكسبير»: «جاء الوقت الذي يُفترض فيه أن يقدم التاريخ الحقيقة التي تقود إلى تقارب الشعوب». حقيقة واحدة كان يؤمن بوجودها وأراد الإسهام في تعزيزها واثقاً من أن البشرية تدركها، إلا أن التعبير عنها يأتي مختلفاً نتيجة اختلاف العقول والحضارات. فسعى الأديب إلى توسيع دائرة الفكر ليعرف ما تقوله حضارة الشرق والإسلام عن هذه الحقيقة التي تقرّب في قناعته بين الغرب والشرق وتتلاقى أمامها العقول الكبرى.
كان هوغو سباقاً إلى الدعوة قبل نحو قرن ونصف إلى الحوار بين الحضارات والديانات، وكلمته الأخيرة كانت دعوة للسلام قبل اندلاع الحروب من جديد.
حنان المالكي