خيري الذهبي كاتب سوري يكرس أدبه وفكره لرحلة الحرية
الباحث عن دمشق تحت أثواب الطغاة.
الأحد 2023/03/12
انشرWhatsAppTwitterFacebook
روائي عربي لم يبطن ولا مرة مفردات فكره
أن يتناول أحدُنا خيري الذهبي (1946-2022) مفكرا، يعني أن يغوص في الشام (دمشق) وتاريخها، وصبواتها، ومختلف تجليات حضورها في الزمان والمكان. يعني أن يسبر الأغوار التي يغرف منها روائي ما. أن يتبصر روافع معارفه، ويعاين مداميك مواقفه، ويمضي معه في رحلة التحقق وترسيخ ملامح الذات، حتى مرتقيات شموخها، دون أن يغفل مطبات تعثرها. خيري الذهبي الروائي العربي المهم، الذي تحول الكثير من رواياته إلى أعمال تلفزيونية، لم يبطن، ولا مرة، مفردات فكره. لم يجعلها متوارية كرامة لعيني الرقيب، أو خشية من غضب الغضيب.
وفكره، على وجه العموم، من النوع الأحفوري النابش في بطن الأرض، وتقلبات الأمم، النابض بمجسات الهوية العروبية الجامعة، المؤمن بالحق والعدل والمساواة، المميز بين غازٍ يحمل مع سيوف جنوده بعض ممكنات الحوار، وبين الغازي الهمجي، الذي لم يحمل معه سوى ويلات الخراب وأحقاد الدمار؛ بين الإسكندر المقدوني وبين هولاكو، أو جنكيز خان، أو تيمور لنك. وعلى “طاري” هذا الأخير، فقد حقق الذهبي في العام 2008، عندما كانت دمشق عاصمة للثقافة العربية، كتابا مهما عنه وعن جرائمه وجبال جمائمه “عجائب المقدور في أخبار تيمور”، وبعضهم يجعل العنوان “عجائب المقدور في نوائب تيمور” لمؤلفه شهاب الدين بن عرب شاه (1389-1450)، وهناك من يجعل اسمه شهاب الدين بن عربشاه (حيث عربشاه من مقطع واحد وليس من مقطعين).
◙ المتأمل في فكر خيري الذهبي لا يحتاج إلى عناء كبير قبل أن يلتقط خصوصية دمشق في ثنايا وعيه وإرهاصات فكره
ولكن المحاكمة الأهم التي يجريها الذهبي لتيمور لنك، فهي التي تحققت عند كتابته في العام 1980 مسلسل “الوحش والمصباح”، والوحش في العمل التلفزيوني الذي أخرجه علاءالدين كوكش، هو تيمور لنك، والمصباح هو ابن خلدون، يومها سأل خيري نفسه سؤالا وجوديا محيرا، ربما ظل حتى مرتقى أنفاسه دون إجابة، وأما السؤال فهو: ما الحوار الذي يمكن أن يجري بين صاحب عقل معرفي فكري بحثي من طراز ابن خلدون ووزن مقامه، وصاحب عقلية عسكرية دموية حيوانية الاندفاع على شاكلة تيمور وسلوكه التخريبي المقيت؟ وقد تفجر السؤال في رأسه فجأة، عندما كان يكتب مشهد استدعاء تيمور لنك لابن خلدون بعد دخوله دمشق يتحضر لتدميرها فوق رؤوس أهلها.
شكلت علاقة الذهبي الحميمة والعميقة مع مكتبة والده في حي القنوات الدمشقي، الروافد المبكرة لمنظومته المعرفية الفكرية. وهي العلاقة التي ما انفك يتطرق إليها، ويشجن بها في أي حوار معه، أو مداخلة له، أو استرجاع لذاكرته الشامية الحارة والخاصة والمختلفة. هناك في المكتبة السرية في غرفة متوارية خلف حائط وتحت مرتبة، بدأت ترتسم في مخيلته، أولى ملامح الجنرال الذي يكره الشام وأهلها. ومع كتاب مثل “الروض العاطر في نزهة الخاطر” لصاحبه ومرتكب جناية تأليفه أبوعبدالله محمد بن محمد النفزاوي التونسي، بدأ الذهبي صاحب الرحلة التاريخية من دمشق إلى حيفا، يلتقط أولى إرهاصات الانحدار في سياق متوالية المد والجزر التي ظل التاريخ العربي الإسلامي يتأرجح بين طرفي بندولها.
منذ افتتاحية روايته “المكتبة السرية والجنرال”، في صفحتها الأولى، في فصلها الأول الذي يحمل عنوان “الجنرال يعثر على مكان ‘الجفر’ الضائع”، يكشف الذهبي عن الكثير من أفكاره المتعلقة بالعلاقة العكسية بين المكتبة والجنرال، فكلما اتسعت مكتبة معارف الشعب، تقلصت، بحسب الذهبي، قدرة الجنرال/ السلطان، الزعيم/ الدكتاتور على المناورة ومداورة أزمان حكمه واستبداده وتحكمه بمصائر البلاد ورقاب العباد "فيعرفون بمكان المكتبة – السر، كنت أثناء ملاحقتي لأسرار الأسرة قد عرفتُ بما فعل ‘الجنرال الرابع’ بكبير الأسرة يريد تتفيهه أمام مريديه، ومنع خطبه المتحدية له، ولم ألُمه، فما أصعب أن تكون السلطان، وتعرف أن محكوميك يخفون عنك استعدادهم لحربك، وهزيمتك، والتحرر من شرعتك" ("المكتبة السرية والجنرال"، الدار الأهلية للنشر والتوزيع، عمان).
روافد مبكرة
◙ الذهبي تحرر من الرقيب إلى غير عودة بعد مغادرته شامه وحارته وبستان خلوته
من بواكير وعي الذهبي، وعناوين فكره الأولى، إيمانه بضرورة تبني المحكومين سردية تواجه سردية الحاكمين (سردية مقابل سردية)، فهذا النهج الذي يتبناه الطغاة، ينبغي أن يكون نهج من يحاربون الطغيان، ففي حين يتنبأ كتاب “الجفر” بانتهاء “دور” الجنرال الأكبر، فإن النظام قد واجه هذه النبوءة بنبوءة مضادة عن عودة العدل على يد الشهيد ابن الشهيد. وهكذا أصبحت نسخ كتاب "الجفر" الحقيقي فعلا ثوريا سريا، و”اختفت حتى من البيوت والجوامع.. ما بين ضياع غير مفهوم، وتلف غير مقصود، وسرقة صريحة حينا، واستعارة محرجة حينا آخر! والخلاصة أن النسخ المبشرة بنهاية الدور.. اختفت”.
النسخ المعدلة بورقها الأنيق وطباعتها الفاخرة، باتت، كما اكتشف من يشترونها، نسخا مخصية، لم تعد تسعد أحلامهم بنهاية عادلة لهذا الدور، “وانتشرت خيبة أمل الناس في كتاب كان يعدهم بالعدل والانتقام، فإذا به يتحول إلى أدعية ملالي مهزومين، وبكاءات لطامين مقهورين لا أمل لهم إلا انتظار القيامة، وعندئذٍ أدار الناس ظهورهم للكتاب، وأخذوا في البحث عن أمل جديد وخلاص جديد”.
ثمة، كما يتجلى واضحا، ربط في كل صفحة، وفي كل سطر، وفي كل حرف، بين الأدب الروائي، والوعي الفكري، الكفيل، إنْ حُمِل بوعي ضرورة جمعي، أن يقود خطى التغيير، ويبشر بثورة المقهورين.
ربطٌ لا يقتصر على رواية بعينها من روايات الذهبي، بل هو فعل صيرورة ظل يتطور من رواية إلى أخرى، ومن محمولٍ دلالي إلى آخر، إلى أن تفجر بطاقته القصوى بعدما تحرر الذهبي من الرقيب إلى غير عودة، بعد مغادرته شامه وحارته وبستان خلوته.
كيف لا وخزان فكره عندما كان ما يزال تحت عيني الرقيب، عمل باتجاهين متضاربين متعارضين: اتجاه تثوير وعي الناس، وترسيخ المعنى العميق والحقيقي لشامهم داخل وجدانهم، واتجاه القيام بذلك وفق مجسات حذر رشيد منتبه، لا تلتقطه ريبة أزلام الطاغية في كل مؤسسة وهيئة وجامعة ومكان. تثويرٌ حذرٌ متوجسٌ يدرك عدم تكافؤ أي معركة بين سلاح العلم والمعرفة، وسلاح القتل والسحل والخطف والاعتقال والدمار الشامل، ليس بمعنى شمولية قدرته التدميرية، بل بمعنى شمولية حكمه على موت الجميع إن كان هؤلاء الجميع ضده “أنا ومن بعدي الطوفان“.
إن أي إزاحة، وفق هذه المعادلات القاتلة، عن سردية النظام، هي، بلا أدنى شك، إزاحة شجاعة، لا بل عميقة الشجاعة، راسخة التمسك بالفكر بوصفه ساتر دفاع أخير، موقنة أن الفكر الثوري، هو ليس بالضرورة الفكر التخريبي الذي دعا إليه في مرحلة من مراحله الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905-1980)، ولا الذي تبنته الألمانية أولريكه ماينهوف (1934-1976) مؤسسة جماعة “الجيش الأحمر”، أو عصابة “بادر – ماينهوف”، حيث بادر هنا نسبة إلى مصمم شعار الجماعة أندرياس بادر (1943-1977)، متأثرة، على ما يبدو، بأطروحات الروسي/السوفييتي ليون تروتسكي (1879-1940) حول الثورة المتوالدة بلا نهاية.
◙ من بواكير وعي الذهبي، وعناوين فكره الأولى، إيمانه بضرورة تبني المحكومين سردية تواجه سردية الحاكمين
لا هذا ولا ذاك، إذ لا بد قبل كل رصاصة، وقبل كل فأس، وقبل كل مقصلة، من فكر يُنضج وعي الناس نحو حاجتهم العضوية الفطرية الجينية إلى الحرية والكرامة والعدل. هذا ما عمل عليه خيري الذهبي ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وهذا ما تضمنته كتاباته سواء الإبداعية منها، أو النقدية، أو المقالية، أو التأريخية، أو التأملية كما في “محاضرات في البحث عن الرواية” الصادر عن دار الشروق في عمان عام 2016.
بواكير فكرية ذهبية بدأت تتبلور في الطريق اليومي إلى المدرسة، انطلاقا من حي القنوات حيث بعض إغداقات بردى تصب هناك، مرورا بقرية كفر سوسة، وليس بعيدا عن بستان الحجر، ولا زقاق الجن، حيث الليل مساحة للسر والخوف والخيالات المسحوقة، وحيث السمكة الزرقاء تظهر وسواسا، وتغيب كما تفعل لعنة الحلم الطويل، وحيث ساعة الحقيقة محبوسة في مطبعة الجريدة الرسمية، بدأت تنجلي أمام عيني بصيرة الذهبي، ملامح الخلل السوري الذي يرفض أن يصحح مساراته، رغم كل الثورات التصحيحية والقومية المبشرة ببعث جديد، ورغم كل الشعارات الندية بواكير لحقت بها ستينات القرن الماضي، بواكير أخرى، التقطها خيري الذهبي، هذه المرة، أثناء إقامته في مصر للدراسة. إنها بواكير تعرفه على الثقافة الأخرى عبر اقتنائه لكتب مكتوبة بلغات أجنبية، تناثرت كيفما اتفق فوق سور الأزبكية.
في مصر أدرك الذهبي كم الإسكندرية، على سبيل المثال، وإلى حد ما القاهرة، مدنا كوزموبوليتانية، وكم دمشق محبوسة في جوانيات خصوصيتها. ومن على سور الأزبكية انفتح على عالم واسع، طور آفاق فكره، وربط شرق العالم بغربه، وجعله يتبنى سردية جديدة في العلاقة مع الآخر.
◙ علاقة الذهبي العميقة مع مكتبة والده في حي القنوات الدمشقي شكلت الروافد المبكرة لمنظومته المعرفية الفكرية
يقول في حوار قديم معه “ما كنت أعيشه في تلك السن المبكرة من نظرة كان يعيشها المجتمع بشكل عام، نظرة الأنا صح مطلق، والآخر خطأ مطلق. الآن وبعد تجارب الأيام، وبعد القراءات الطويلة، وبعد الكتابات الطويلة، أصبحت أعرف أنني لا أملك من الحق إلا بعضه، والآخر لديه البعض الآخر. وعلي أن أقبل الآخر كما أقبل الأنا، وعلي أن أدرس الآخر كما أدرس الأنا، وعلي أن أرى العالم بوصفه جزيرة لكل أبنائه، وليس حكرا على عرق من الأعراق، أو مذهب من المذاهب، أو على دين من الأديان، أو على قومية واحدة فقط. كان علي أن أعاني كثيرا، وأقرأ كثيرا، وأطلع كثيرا، وأبني فكري وثقافتي على مهلهما، وكان علي أن أتعرض لصدمات كبرى، حتى أستطيع أن أصل إلى ما وصلتُ إليه اليوم، أن هذا العالم مُلْكٌ لكل أبنائه”.
في تلك البواكير أدرك فكر الذهبي أن دمشق لا بواكي لها، وأن المكان محنة إن لم يؤنسن، فما كان منه إلا أن أنسنها في ثلاثيته الكبرى فكرا وسردا وصيحة ضد من يكرهون دمشق من قلب دمشق، ومن قلب الرعب الذي كان قد أمعن كراهها في زراعته داخل صدور الدمشقيين بشكل خاص، والسوريين بشكل عام.
في “حسيبة” و”فياض” و”هشام”، استعاد فكر خيري الذهبي دمشقه وقنواته ومكتبتي أبيه وحارته. كرس مدنية الرواية مقابل غزوها الريفي (الفحولي)، ومقابل انحباسها بين ثنائية راقصات الناي (راقصات الأمفورا أو الأمبوبايا (الأنبوبة) باللغة الأرامية)، ولابسات السواد المنغلقات على أنفسهن، اللاطمات على موتاهن. أعاد المجد للبسطاء الذين تعلم من الكاتب السوري المتمرد فارس زرزور (1930-2003) حقيقة حرارتهم الصادقة النابضة الصادحة بطهارة الأرض والمعنى.
يقدح فكره فإذا به يستعيد تاريخا دمشقيا سوريا يسبق الدعوة الإسلامية، ويعود بأمكنته إلى الفترة الهلنستينية، حيث الفليسوف السوري لوقيانوس السميساطي (125- 175م) سبق الجميع بكتابة الرواية، ومنه غرف السوري الآخر أبوالعلاء المعري (973-1057م) في “رسالة الغفران”، ومنهما غرف الشاعر والكاتب الإيطالي دانتي أليغييري (1265-1321) في “الكوميديا الإلهية”.
فكرٌ بحثي حفري رأى بعمق أن بحثه عن آباء حقيقيين قاده إلى أبي حيان التوحيدي، وإلى استنتاج مفاده أن كتاب “ألف ليلة وليلة” والمخلوقات الخيالية التي ابتكروها فيها، مثل طائر الرخ، والحوت العملاق، والأشجار التي تنبت بشرا يتدلون منها ثمارا، غرفوا من لوقيانوس، كما تأثر به كتاب الرحلات مثل غليفر وغارغانتو وبانتا غرويل وغيرهم. (كتاب “محاضرات في البحث عن الرواية”، ص 115).
خصوصية دمشق
◙ المتأمل لفكر الذهبي لا يحتاج عناء لكي يلتقط خصوصية دمشق داخل وعيه
لا يحتاج المتأمل في فكر خيري الذهبي إلى عناء كبير قبل أن يلتقط خصوصية دمشق داخل ثنايا وعيه، وإرهاصات فكره، ومخرجات معارفه. إنها الخصوصية التي جعلته، ومن دون أن تُفْتح نوافذ الناس في حاراتها، وزواريبها، وأزقتها، وبيوتاتها الكالحة من الخارج، يعرف معرفة اليقين، ما الذي يخفيه الدمشقيون خلف تلك الشبابيك: الجمال البهي المتواري خلفها، “الباحة المشرقة، البحرة الدافقة، الأشجار المترعة بالليمون والكباد والدراق الزهري. بشجيرات الورد والياسمين” (كتاب “محاضرات في البحث عن الرواية”، ص 16).
فكره في هذا السياق جعله يستنتج أن النسوة الندابات يخفين راقصات الأمبوبايا تحت ثيابهن السود، وأنهن لا يخشين الفرح، ولكن عليهن ألا يظهرنه لكل عابر سبيل، أو غاز مر من هناك، فذاكرة الدمشقيات والدمشقيين مروعة: “الآشوريون وقسوتهم الدموية، العبرانيون ومدمويتهم المرعبة، الحثيون، الميديون، الإخمينيون الـ… ما الذي كان على سكان الواحة من الأمبوبايا فعله، هل يعرضون فرحهم وجمالهم وحبهم للحياة على هؤلاء الوحوش فيأكلونهم أحياء، أم يخفونها تحت قناع التقشف والسواد والعزلة؟” (المحاضرات، ص 17).
خصوصية دمشق ليست حكرا على فكر خيري الذهبي، والحقيقة أنها لورطة حقيقية لو بدأتُ تعداد من تغنوا بدمشق شعرا ونثرا وبحثا وتصويرا ثابتا ومتحركا ونحتا وإقامة، وهوى لا يموت ولا ينتابه الضمور، فهذا ما يحتاج إلى مجلدات وما سينتج عنه من أطروحات ينال عليها الناس أعلى الدرجات الأكاديمية.
ولكنني، ولتقاطعات عديدة بينه وبين خيري الذهبي في التباس العلاقة مع دمشق وحولها، سأعود إلى بعض شعر الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي له أكثر من خمس قصائد عن دمشق، أنا لا أقصد ورود دمشق في شعره، فهذا ما لا يمكن إحصاؤه، ولكن عن قصائد بأكملها موضوعها دمشق، أو موضوعها منذ عنوانها حول دمشق وحول علاقته بها، ومنها: ”طوق الحمامة الدمشقي” آخر قصائد ديوانه “سرير الغريبة” (1999)، “في الشام”، وقصيدة “وفي الشام.. شام”.
في قصيدته “طريق دمشق” آخر قصائد ديوانه الثاني “محاولة رقم سبعة” الصادرة طبعته الأولى عام 1973، يرسم درويش صورة مرتبكة لعاصمة الأمويين. فأي استشراف قاده إلى هذه الحوارية العاتبة مع عاصمة يحبها، وينسج شعبه آمالا عراضا عليها، رغم أن تلك الحوارية العاتبة سبقت ما فعله النظام الحاكم في دمشق بتل الزعتر الفلسطيني في بيروت بسنوات عديدات: "من الأزرق ابتدأ البحرُ../ هذا النهار يعود من الأبيض السابقِ../ الآن جئتُ من الأحمرِ اللاحقِ../ اغتسلي يا دمشق بلوني/ ليولد من الزمان العربي نهار". (الأعمال الشعرية الكاملة، ص 190).
حتى يقول: "دمشق، ارتدتني يداكِ، دمشق: ارتديت يديكِ، كأن الخريطة صوتٌ يفرخ في الصخر". (ص 191). ويقول: “كوني دمشق فلا يعبرون./ يا أيها المستحيل.. يسمونك الشام/ أفتح جرحي لتبتدئ الشمسُ، دمشق/وكنت وحيدا./ ومثلي، كان وحيدا هو المستحيل”. (ص 192). ويواصل رسم ملامح تلك العلاقة الملتبسة: "هذا طريق الشام.. وهذا هديل الحمام/ وهذا أنا، هذه جثتي/ والتحمنا/ فمُروا../ خذوها إلى الحرب كي أنهي الحرب بيني وبيني”. (ص 194).
وفي مرة تتبدى دمشق كأنها ضياع: “ويسألني المتعبون، أو المارة الحائرون عن اسمي/ فأجهلهُ../ اسألوا عشبة في طريق دمشق!/ وأمشي غريبا/ وتسألني الفتيات الصغيرات عن بلدي/ فأقول: أفتش فوق طريق دمشق،/وأمشي غريبا./ ويسألني الحكماء المملون عن زمني/فأشير إلى حجر أخضر في طريق دمشق. وأمشي غريبا./ ويسألني الخارجون من الدير عن لغتي/ فأعد ضلوعي وأخطئ/ إني تهجيتُ هذي الحروف. فكيف أركبها؟/ دال. ميم. شين. قاف. فقالوا: عرفنا – دمشق!/ ابتسمتُ. شكوتُ دمشق إلى الشام:/ كيف محوتِ ألوف الوجوه/ ومازال وجهكِ واحدْ!/ لماذا انحنيت لدفن الضحايا/ ومازال صدركِ صاعدْ!/ وأمشي وراء دمي. وأطيع دليلي/ وأمشي وراء دمي نحو مشنقتي/ هذه مهنتي يا دمشق..". (ص 195).
وعما بناه وشعبه من آمال عريضات تحملها إلى تغريبتهم الكبرى دمشق، يقول: "دمشق! انتظرناك كي تخرجي منك/ كي نلتقي مرة خارج المعجزات/ انتظرناكِ../ والوقت نام على الوقتِ/ والحب جاء، فجئنا إلى الحربِ/ نغسل أجنحة الطير بين أصابعك الذهبيةِ/ يا امرأة لونها الزبد العربي الحزين./ دمشق الندى والدماءِ/ دمشق النداء/ دمشق الزمان./ دمشق العرب!" (ص 198).
شمولية التكوين والطغيان
◙ التباسات علاقة فكر خيري الذهبي موضوعنا الأساسي مع شامه
إطالة في الاقتباس أعتذر عنها، ولكن، ربما كان لا بد منها، لسبر أغوار علاقة غريبة الأطوار بين فلسطيني وبين دمشق، علما أن سوريا وفلسطين تنتميان إلى وحدة قديمة اسمها بلاد الشام. واليوم تصل الغرابة ذراها، والغربة أوجع لحظاتها، حيث اضمحل القرب وأصبح بطعم الجفاء بعد سيطرة حزب البعث بنسخته الأسدية على الشام وكل سوريا، صاحب الشعارات البراقة حول أمة عربية واحدة، وصاحب الأحلام القومية، والنزعات الثورية، وهذا ما يفسر لنا كثيرا من التباسات علاقة فكر خيري الذهبي، موضوعنا الأساسي مع شامه، فشامه لم تعد كذلك بعد الغزو الريفي البعثي الآتي من فقر الساحل وجوعه للسلطة والثروة والتاريخ، يريد أن يستحوذ على هذه الضرورات جميعها، ويغتصب أي مقاسمة بينه وبين أهل الشام أنفسهم على هذه المطالب وهذه الحقوق. يجتثها من جذورها. هذا ما أدركه الذهبي مبكرا، وهذا ما جعله لا يترك فرصة سانحة مهما تجبر الطغيان إلا وأشار إليه تورية، أو إيماء، أو تعبيرا صادحا صارخا لا لبس فيه. أما اللبس فقد اعترى العلاقة نفسها مع مدينة طفولته وشبابه وشغف كل أيامه، فهل هذه شامه فعلا؟ هل سرقوا منها بعض بهائها ومدنيتها وعنفوان ضربها في التاريخ والعمارة والحياة؟
في هذه الزواريب العجيبة ظل فكر الذهبي مشغولا، في البحث عن معادل معرفي يعيد له شامه وأيامه. في كتابه “التدريب على الرعب”، الذي يجمع داخل صفحاته الـ372، 62 مقالا له، يحاول الذهبي الإجابة عن بعض أسئلة فكره القلقة حول دمشق وتاريخها؛ هذا ما يفعله وهو يكتب عن أحمد بن محمد بن عبدالله الدمشقي الأنصاري، الذي يكشف في مقاله “التدريب على الصمود” عن دوره الفذ في حض الدمشقيين على مواجهة الهجمة الغوغائية الوحشية لتيمور لنك وجيشه الحامل نذر الخراب:
“ومع الصباح سمع الناس قبل الأذان من يُنادي على مآذن المدينة: يا نِعاج المدينة أفيقي.. تذكري أن حتى النعاج لها قرون تستطيع لو تجمعت أن تبقر بطن الذئب. اختفى الصوت، بحث العسس عن المنادين ولا أثر لهم، وكان أشد الباحثين حماسة مفتي المدينة تقي الدين بن الحنبلي؛ هذا الرجل الذي سنقرأ له في ما بعد كتابا اسمه ‘البرهان على أن مصائب الإنسان من عمل الشيطان’، وكأن هنالك شيطانا أشد أذى من الخائن لشعبه ودينه وجماعته، فابن الحنبلي هذا هو من سيذهب إلى تيمور مفاوضا ومساوما ومبايعا ومشاريا؛ شريطة أن يتسلم المدينة حاكما من تيمور، ووُعِد خيرا ولكنه كان أول قتلى تيمور”.
ويتابع “هذا الأذان الذي انطلق يستصرخ النعاج لاستنهاض قرونها، لم يلبث أن جعل صغار اللحامين والخبازين والمنجدين والنجارين والحدادين والرخامين والنحاتين والنساجين يتجمعون في نقاباتهم ويقررون المقاومة، وكانت الصدمة لتيمور حين رأى أبواب المدينة تنفتح، وحرافيشها تندفع مهاجمة جيشه، طاردة له حتى الكسوة، ثم وفي اليوم التالي تهاجمه من باب آخر، وتطرد جيشه حتى سعسع” (كتاب “التدريب على الرعب”، ص 18).
◙ في مصر أدرك الذهبي كم الإسكندرية، على سبيل المثال، وإلى حد ما القاهرة، مدنا كوزموبوليتانية ودمشق محبوسة
فكر الذهبي في معظم مقالات كتابه “التدريب على الرعب”، يأخذ بعدا حيويا منتجا قادرا على التقاطع مع رموز ومعانٍ وتجليات تجعل دمشق أكثر إمكانية، وأرفع قيمة، وأعمق ضربا في صخور التاريخ ورسوبياته وأوابده. خيري الذهبي ينبه دمشق أن مساومتها على فرادتها قد تؤدي إلى سقوطها مرة أخرى، تماما كما سقطت في فخ المساومة مع تيمور. وهذا ملمح آخر من ملامح فكره الفذ: لا مساومة، دون أن يقصد المعنى الحرفي للمقاومة المسلحة، بل لعله يقصد لا مساومة فكرية معرفية ضاربة جذورها في التاريخ والجغرافيا والعزيمة الإنسانية التي لا تهزم ولا ينتابها الفتور. هذا لا يعني أن الذهبي ينكر على أصحاب الحق انتزاع حقوقهم بالقوة، بل يسعى في أدبياته الفكرية لتحصين هذه المقاومة بالعلم والمعرفة والفكر الرشيد، وتجنيبها الجهل والعصبية والوقوع في فخ الإثنيات القاتلة.
في سياق مواجهته لشمولية الطغيان التي تحدث عنها المفكر الفلسطيني الراحل سلامه كيلة (1955-2018) في كتابه “مصائر الشمولية/ سورية في صيرورة الثورة” الصادر عام 2014، عن دار الريس للكتب والنشر في بيروت، يطرح الذهبي معادلا موضوعيا مغايرا، يتمثل بشمولية المرجعيات والصيرورات (التحولات، والمضي قدما، والتطورات الكمية والنوعية) التي كونت سوريا عبر الأزمان، وشكلت ملامح واجهتها الأشمل والأوجع: دمشق.
من هنا نجده مرة يستنجد بلوقيانوس ابن حلب، ومرة بزينون الرواقي الفينيقي ابن مدينة صور اللبنانية الشامية، ومرة بالشاعر ملياغروس الجداري (ابن مدينة جدارا/أم قيس قرب الحمّة السورية – الأردنية)، ومرة بأبي العلاء المعري ابن معرة النعمان، ومرة بتقاطعات الشتات السوري الجديد، مع الشتات الفلسطيني القديم المتجدد. فكر شمولي يحتاج السوريون، كما يرى، إلى كل تفصيلة من تفاصيله في سياق مواجهتهم كل هذا الطغيان الشمولي الذي يحتكر المدنية والعسكرتارية والحركة الإعلامية واللحظة الإبداعية، ويريد أن يجير كل فعل ونأمة وتنهيدة شهيق لصالح تكريس أبديته. إنه شمولي إلى الدرجة التي اختصر بها بلدا بحجم سوريا إلى اسم طاغية صغير فصار اسمها بحسب ما يكرسه النظام ويزرعه في جينات التلقي: سوريا الأسد، تماما كما يريد أن يكرس شعارا آخر أكثر بشاعة: إلى الأبد يا حافظ الأسد، والآن يا بشار الأسد. إنها الأبدية الدهرية القدرية التي لا يجد الإنسان العاقل (كما هو حال رجلنا خيري الذهبي) منها فكاكا إلا بالمزيد من الغوص داخل منعطفات التاريخ، والتبحر في دروسه، وإلا بالعلم والمعرفة والفكر الحُر الأصيل.
فكر الرحلة
◙ خيري الذهبي يتبنى وجها آخر من وجوه فكره
في كتابه “من دمشق إلى حيفا/ 300 يوم في إسرائيل” الصادر عام 2019، عن دار السويدي للنشر والتوزيع في أبوظبي، وعن منشورات المتوسط في مدينة ميلانو الإيطالية، يتبنى خيري الذهبي وجها آخر من وجوه فكره؛ إنه فكر الرحلة. في الكتاب عدة فصول يبحر خلالها الذهبي في حوارات مرة مع نفسه، ومرات مع الآخر اليهودي/ الإسرائيلي، الآخر في الكتاب المتقاطع مع أدب الرحلات، حتى أنه نال جائزة عليه تتعلق بهذا النوع من الأدب، هو كولونيل (عقيد) إسرائيلي يُدعى نهاري، يساق إليه خلال أسره في فلسطين لمدة 300 يوم، عدة مرات، وفي كل مرة يتذاكى عليه هذا العقيد أنه ابن الشام، وأنه يعرف أكثر من غيره عن سوريا “الريفية التي تحولت إلى عسكرية متخلية عن البرلمانية والحزبية وحرية الصحافة” (كتاب الرحلة، ص 125).
يريد أن يجره إلى الحوار جرا، باحثا عن نقاط التقاء بينه وبين الأسير لديه خيري الذهبي، من هنا تتشكل لدى الأسير حوصلة دفاع مجساتية لا تريد له أن يقع في حبال خدعة حوار من طرف واحد حتما، فهل يعقل أن يقود الحوار، لو قرر الذهبي المضي فيه، إلى تخلي العقيد عن فكرة أرض الميعاد، وعن حقوق أبناء دينه المدعاة في فلسطين بوصفها أرض صهيون ويعقوب وأنبياء بني إسرائيل جميعهم؟
حقيقة خواء هذا الحوار، تقود الذهبي إلى حوار بينه وبين نفسه، يتخلص خلاله من عقد الخوف من الطغمة الحاكمة في بلده، كونه بعيدا عن الديار، والبعد هنا لا يقاس بالحسابات الجغرافية، بل بحسابات سيطرة العصابات الصهيونية على فلسطين التاريخية، سيطرة تجعله بعدا لا يمكن تقدير مسافته المدججة بالدشم والحراسة والمنع الكامل.
الحوار الذاتي يقود الذهبي إلى المزيد من فكر التحرر من الطغيان والطغاة، وفيه يتطرق إلى الجريدة الرسمية وساعتها التي تدل على وقت غير صحيح، وفيه يعاين صورة اليهودي في الوعي العربي المتأثر بقومية مصر وبعثية سوريا، وعن أوجه الشبه بين اليهودي والمملوكي في وجدان الذهبي وفكره الخاص، فكر الثرثرة خوفا من العتمة، الفكر الذي يميز بين الأشكنازي والسفرديمي.
الذهبي تخيل الحوار المفترض بين شخص يمثل العسكرية السورية و”كولونيل” يمثل العسكرية الإسرائيلية، بأسئلة استخبارية، وظروف غير طبيعية. أما الحوارات الأكثر تعقيدا التي أجبر الذهبي على خوضها خلال تلك الأيام الثلاثمئة، فهي التي قابله لإجرائها البروفيسور الإسرائيلي غيدو (جدعون)، وفي تلك الحوارات، أو المقابلات، يجري التطرق إلى معنى كلمة فدائي، أو على رأي الذهبي فداوي، وفيه يبحر فكر الذهبي في تتبع الأبعاد التاريخية للمصطلح الذي يعود بجذوره إلى أيام الحروب الصليبية. حديث الفداوية حوله الذهبي في ما بعد إلى واحد من مقالات كتابه “التدريب على الرعب”، وفيه يحمل نفسا تفاؤليا، يؤمن بالأمة، ويستبشر بشبابها وفداويتها خيرا:
“ما لم يعرفه العدو، ولم يستطع التنبؤ به، هو أن الأمة ليست هذا الفصيل ولا ذاك، ليست أولئك التعبين، ولا أولئك السئمين، بل الأمة بحر يزخر بالعجائب؛ فيوما فدائيون فلسطينيون، ويوما فدائيون سوريون، أو لبنانيون، ويوما ليبيون، ويوما سودانيون، أو مصريون، إنهم كل أولئك الذين يضعون لأنفسهم قضية، ولا يرون حاجزا واحدا لها إلا هذا المستوطن الأوروبي المتغلل بصليب سداسي يسميه صهيونية” (كتاب “التدريب على الرعب”، ص 93).
فكر الرحلة هو مرحلة من فكر خيري الذهبي طورها عبر التجربة، وصقلها بالصبر والتأمل، واستنشاق فكرة وجوده في قلب فلسطين التاريخية، وخلُص فيها إلى أن الطغاة لا يختلفون عن الغزاة، بل إن وجود هؤلاء الطغاة هو أحد أهم أسباب قدوم الغزاة، فـ”الطغاة يجلبون الغزاة” كما تقول الحكمة القديمة المتجددة.
منمنمات تراكمية
◙ الذهبي لا يترك كتابا يقع بين يديه إلا ويلتهم محتوياته ويقلب غاياته ويعاين رسائله
على شكل منمنمات تراكمية بنى الذهبي منظومته الفكرية. جمع شتاتها من قراءات غزيرة وكثيرة، لا يترك كتابا يقع بين يديه إلا ويلتهم محتوياته ويقلب غاياته ويعاين رسائله. تلك المنمنات انتشرت في رواياته، وفي مختلف مقولاته ولقاءاته وتنظيراته.
في واحدة من المقابلات التلفزيونية التي أجريت معه، يسأله الشاعر السوري المخضرم شوقي بغدادي (1928-2023) عن أصول شخصياته الروائية ومدى واقعيتها الخارجية، أو أنها كاملة الخيالية. فإذا بِرد خيري الذهبي يتجلى بوصفه فرعا جديدا من فروع فكره؛ يشبه الشخصيات بنوعٍ من نباتات الزينة الدمشقية يدعى “الشاب الظريف”، وبحسب الذهبي، يتكاثر هذا النبات بواسطة بذرة سوداء صغيرة، الذهبي يسأل بغدادي: “لو أمسكت بيدي هذه البذرة السوداء، فهل أستطيع رؤية الأوراق الخضر والورود الحمر التي ستنبثق عنها؟ إن هذه الأوراق والورود هي البذرة السوداء بعد دفنها في التراب وإعطائها بعض الماء، وبعض الدفء، وبعض الضوء، والكثير من الصبر والترقب والحنان، فإذا بك تفاجأ بالتراب ينشق عن قلبيْن أخضريْن ما يلبثان أن يمتدا ويكبرا ليصبحا نبتة تحمل الورود الحمر” (محاضرات في البحث عن الرواية، ص 119).
هكذا تولد شخصيات خيري الذهبي، وهكذا يرى الكون من حوله، ويفهم صيرورة الناموس. وأينما حل، يزرع نباتا سريع النمو، هذا ما فعله في عمان أثناء إقامته فيها محولا فسحة صغيرة خلف بيته العماني، إلى واحة من الخضرة وحب الحياة والتمسك بالأمل. مخطئ من يرى أن زراعة الحاكورة ليست فعلا فكريا ناضجا عميق الدلالات. مخطئ من يظن (وإن بعض الظن إثم)، أن عشق الذهبي للكثير من أنواع الطيور، هو ليس قدحا فكريا وجوديا متناغما مع مفردات الكون وجماليات الوجود.
تخضيره للبيئة من حوله فِكْر. قدرته على خلق لغة ما بينه وبين كائنات متناهية الوداعة فِكْر. حفره في أصول القوميات ودلالات المفردات فِكْر. ربطه بين تواريخ متباينة (قد تبدو متباينة)، واكتشافه الخيط الذي يربط دلالة بدلالة أخرى فِكْر. انحيازه النهائي لروح دمشق فِكْر. إيمانه أن الرواية ليست تأريخا فقط فِكْر. دفقه الغزير حتى مرتقى الأنفاس من رواياتٍ وآراء ومقالاتٍ وتبويباتٍ وحفرياتِ معرفةٍ فِكْر. فكرٌ نبت من حقول الإبداع، وإبداع تحصن بالفكر، في جدلية خيرية ذهبية أصبح لها مع الأيام والأعوام والأحلام، نكهتها الخاصة، ومذاقها المختلف، وهويتها الفريدة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد جميل خضر
قاص وصحافي من الأردن
الباحث عن دمشق تحت أثواب الطغاة.
الأحد 2023/03/12
انشرWhatsAppTwitterFacebook
روائي عربي لم يبطن ولا مرة مفردات فكره
أن يتناول أحدُنا خيري الذهبي (1946-2022) مفكرا، يعني أن يغوص في الشام (دمشق) وتاريخها، وصبواتها، ومختلف تجليات حضورها في الزمان والمكان. يعني أن يسبر الأغوار التي يغرف منها روائي ما. أن يتبصر روافع معارفه، ويعاين مداميك مواقفه، ويمضي معه في رحلة التحقق وترسيخ ملامح الذات، حتى مرتقيات شموخها، دون أن يغفل مطبات تعثرها. خيري الذهبي الروائي العربي المهم، الذي تحول الكثير من رواياته إلى أعمال تلفزيونية، لم يبطن، ولا مرة، مفردات فكره. لم يجعلها متوارية كرامة لعيني الرقيب، أو خشية من غضب الغضيب.
وفكره، على وجه العموم، من النوع الأحفوري النابش في بطن الأرض، وتقلبات الأمم، النابض بمجسات الهوية العروبية الجامعة، المؤمن بالحق والعدل والمساواة، المميز بين غازٍ يحمل مع سيوف جنوده بعض ممكنات الحوار، وبين الغازي الهمجي، الذي لم يحمل معه سوى ويلات الخراب وأحقاد الدمار؛ بين الإسكندر المقدوني وبين هولاكو، أو جنكيز خان، أو تيمور لنك. وعلى “طاري” هذا الأخير، فقد حقق الذهبي في العام 2008، عندما كانت دمشق عاصمة للثقافة العربية، كتابا مهما عنه وعن جرائمه وجبال جمائمه “عجائب المقدور في أخبار تيمور”، وبعضهم يجعل العنوان “عجائب المقدور في نوائب تيمور” لمؤلفه شهاب الدين بن عرب شاه (1389-1450)، وهناك من يجعل اسمه شهاب الدين بن عربشاه (حيث عربشاه من مقطع واحد وليس من مقطعين).
◙ المتأمل في فكر خيري الذهبي لا يحتاج إلى عناء كبير قبل أن يلتقط خصوصية دمشق في ثنايا وعيه وإرهاصات فكره
ولكن المحاكمة الأهم التي يجريها الذهبي لتيمور لنك، فهي التي تحققت عند كتابته في العام 1980 مسلسل “الوحش والمصباح”، والوحش في العمل التلفزيوني الذي أخرجه علاءالدين كوكش، هو تيمور لنك، والمصباح هو ابن خلدون، يومها سأل خيري نفسه سؤالا وجوديا محيرا، ربما ظل حتى مرتقى أنفاسه دون إجابة، وأما السؤال فهو: ما الحوار الذي يمكن أن يجري بين صاحب عقل معرفي فكري بحثي من طراز ابن خلدون ووزن مقامه، وصاحب عقلية عسكرية دموية حيوانية الاندفاع على شاكلة تيمور وسلوكه التخريبي المقيت؟ وقد تفجر السؤال في رأسه فجأة، عندما كان يكتب مشهد استدعاء تيمور لنك لابن خلدون بعد دخوله دمشق يتحضر لتدميرها فوق رؤوس أهلها.
شكلت علاقة الذهبي الحميمة والعميقة مع مكتبة والده في حي القنوات الدمشقي، الروافد المبكرة لمنظومته المعرفية الفكرية. وهي العلاقة التي ما انفك يتطرق إليها، ويشجن بها في أي حوار معه، أو مداخلة له، أو استرجاع لذاكرته الشامية الحارة والخاصة والمختلفة. هناك في المكتبة السرية في غرفة متوارية خلف حائط وتحت مرتبة، بدأت ترتسم في مخيلته، أولى ملامح الجنرال الذي يكره الشام وأهلها. ومع كتاب مثل “الروض العاطر في نزهة الخاطر” لصاحبه ومرتكب جناية تأليفه أبوعبدالله محمد بن محمد النفزاوي التونسي، بدأ الذهبي صاحب الرحلة التاريخية من دمشق إلى حيفا، يلتقط أولى إرهاصات الانحدار في سياق متوالية المد والجزر التي ظل التاريخ العربي الإسلامي يتأرجح بين طرفي بندولها.
منذ افتتاحية روايته “المكتبة السرية والجنرال”، في صفحتها الأولى، في فصلها الأول الذي يحمل عنوان “الجنرال يعثر على مكان ‘الجفر’ الضائع”، يكشف الذهبي عن الكثير من أفكاره المتعلقة بالعلاقة العكسية بين المكتبة والجنرال، فكلما اتسعت مكتبة معارف الشعب، تقلصت، بحسب الذهبي، قدرة الجنرال/ السلطان، الزعيم/ الدكتاتور على المناورة ومداورة أزمان حكمه واستبداده وتحكمه بمصائر البلاد ورقاب العباد "فيعرفون بمكان المكتبة – السر، كنت أثناء ملاحقتي لأسرار الأسرة قد عرفتُ بما فعل ‘الجنرال الرابع’ بكبير الأسرة يريد تتفيهه أمام مريديه، ومنع خطبه المتحدية له، ولم ألُمه، فما أصعب أن تكون السلطان، وتعرف أن محكوميك يخفون عنك استعدادهم لحربك، وهزيمتك، والتحرر من شرعتك" ("المكتبة السرية والجنرال"، الدار الأهلية للنشر والتوزيع، عمان).
روافد مبكرة
◙ الذهبي تحرر من الرقيب إلى غير عودة بعد مغادرته شامه وحارته وبستان خلوته
من بواكير وعي الذهبي، وعناوين فكره الأولى، إيمانه بضرورة تبني المحكومين سردية تواجه سردية الحاكمين (سردية مقابل سردية)، فهذا النهج الذي يتبناه الطغاة، ينبغي أن يكون نهج من يحاربون الطغيان، ففي حين يتنبأ كتاب “الجفر” بانتهاء “دور” الجنرال الأكبر، فإن النظام قد واجه هذه النبوءة بنبوءة مضادة عن عودة العدل على يد الشهيد ابن الشهيد. وهكذا أصبحت نسخ كتاب "الجفر" الحقيقي فعلا ثوريا سريا، و”اختفت حتى من البيوت والجوامع.. ما بين ضياع غير مفهوم، وتلف غير مقصود، وسرقة صريحة حينا، واستعارة محرجة حينا آخر! والخلاصة أن النسخ المبشرة بنهاية الدور.. اختفت”.
النسخ المعدلة بورقها الأنيق وطباعتها الفاخرة، باتت، كما اكتشف من يشترونها، نسخا مخصية، لم تعد تسعد أحلامهم بنهاية عادلة لهذا الدور، “وانتشرت خيبة أمل الناس في كتاب كان يعدهم بالعدل والانتقام، فإذا به يتحول إلى أدعية ملالي مهزومين، وبكاءات لطامين مقهورين لا أمل لهم إلا انتظار القيامة، وعندئذٍ أدار الناس ظهورهم للكتاب، وأخذوا في البحث عن أمل جديد وخلاص جديد”.
ثمة، كما يتجلى واضحا، ربط في كل صفحة، وفي كل سطر، وفي كل حرف، بين الأدب الروائي، والوعي الفكري، الكفيل، إنْ حُمِل بوعي ضرورة جمعي، أن يقود خطى التغيير، ويبشر بثورة المقهورين.
ربطٌ لا يقتصر على رواية بعينها من روايات الذهبي، بل هو فعل صيرورة ظل يتطور من رواية إلى أخرى، ومن محمولٍ دلالي إلى آخر، إلى أن تفجر بطاقته القصوى بعدما تحرر الذهبي من الرقيب إلى غير عودة، بعد مغادرته شامه وحارته وبستان خلوته.
كيف لا وخزان فكره عندما كان ما يزال تحت عيني الرقيب، عمل باتجاهين متضاربين متعارضين: اتجاه تثوير وعي الناس، وترسيخ المعنى العميق والحقيقي لشامهم داخل وجدانهم، واتجاه القيام بذلك وفق مجسات حذر رشيد منتبه، لا تلتقطه ريبة أزلام الطاغية في كل مؤسسة وهيئة وجامعة ومكان. تثويرٌ حذرٌ متوجسٌ يدرك عدم تكافؤ أي معركة بين سلاح العلم والمعرفة، وسلاح القتل والسحل والخطف والاعتقال والدمار الشامل، ليس بمعنى شمولية قدرته التدميرية، بل بمعنى شمولية حكمه على موت الجميع إن كان هؤلاء الجميع ضده “أنا ومن بعدي الطوفان“.
إن أي إزاحة، وفق هذه المعادلات القاتلة، عن سردية النظام، هي، بلا أدنى شك، إزاحة شجاعة، لا بل عميقة الشجاعة، راسخة التمسك بالفكر بوصفه ساتر دفاع أخير، موقنة أن الفكر الثوري، هو ليس بالضرورة الفكر التخريبي الذي دعا إليه في مرحلة من مراحله الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905-1980)، ولا الذي تبنته الألمانية أولريكه ماينهوف (1934-1976) مؤسسة جماعة “الجيش الأحمر”، أو عصابة “بادر – ماينهوف”، حيث بادر هنا نسبة إلى مصمم شعار الجماعة أندرياس بادر (1943-1977)، متأثرة، على ما يبدو، بأطروحات الروسي/السوفييتي ليون تروتسكي (1879-1940) حول الثورة المتوالدة بلا نهاية.
◙ من بواكير وعي الذهبي، وعناوين فكره الأولى، إيمانه بضرورة تبني المحكومين سردية تواجه سردية الحاكمين
لا هذا ولا ذاك، إذ لا بد قبل كل رصاصة، وقبل كل فأس، وقبل كل مقصلة، من فكر يُنضج وعي الناس نحو حاجتهم العضوية الفطرية الجينية إلى الحرية والكرامة والعدل. هذا ما عمل عليه خيري الذهبي ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وهذا ما تضمنته كتاباته سواء الإبداعية منها، أو النقدية، أو المقالية، أو التأريخية، أو التأملية كما في “محاضرات في البحث عن الرواية” الصادر عن دار الشروق في عمان عام 2016.
بواكير فكرية ذهبية بدأت تتبلور في الطريق اليومي إلى المدرسة، انطلاقا من حي القنوات حيث بعض إغداقات بردى تصب هناك، مرورا بقرية كفر سوسة، وليس بعيدا عن بستان الحجر، ولا زقاق الجن، حيث الليل مساحة للسر والخوف والخيالات المسحوقة، وحيث السمكة الزرقاء تظهر وسواسا، وتغيب كما تفعل لعنة الحلم الطويل، وحيث ساعة الحقيقة محبوسة في مطبعة الجريدة الرسمية، بدأت تنجلي أمام عيني بصيرة الذهبي، ملامح الخلل السوري الذي يرفض أن يصحح مساراته، رغم كل الثورات التصحيحية والقومية المبشرة ببعث جديد، ورغم كل الشعارات الندية بواكير لحقت بها ستينات القرن الماضي، بواكير أخرى، التقطها خيري الذهبي، هذه المرة، أثناء إقامته في مصر للدراسة. إنها بواكير تعرفه على الثقافة الأخرى عبر اقتنائه لكتب مكتوبة بلغات أجنبية، تناثرت كيفما اتفق فوق سور الأزبكية.
في مصر أدرك الذهبي كم الإسكندرية، على سبيل المثال، وإلى حد ما القاهرة، مدنا كوزموبوليتانية، وكم دمشق محبوسة في جوانيات خصوصيتها. ومن على سور الأزبكية انفتح على عالم واسع، طور آفاق فكره، وربط شرق العالم بغربه، وجعله يتبنى سردية جديدة في العلاقة مع الآخر.
◙ علاقة الذهبي العميقة مع مكتبة والده في حي القنوات الدمشقي شكلت الروافد المبكرة لمنظومته المعرفية الفكرية
يقول في حوار قديم معه “ما كنت أعيشه في تلك السن المبكرة من نظرة كان يعيشها المجتمع بشكل عام، نظرة الأنا صح مطلق، والآخر خطأ مطلق. الآن وبعد تجارب الأيام، وبعد القراءات الطويلة، وبعد الكتابات الطويلة، أصبحت أعرف أنني لا أملك من الحق إلا بعضه، والآخر لديه البعض الآخر. وعلي أن أقبل الآخر كما أقبل الأنا، وعلي أن أدرس الآخر كما أدرس الأنا، وعلي أن أرى العالم بوصفه جزيرة لكل أبنائه، وليس حكرا على عرق من الأعراق، أو مذهب من المذاهب، أو على دين من الأديان، أو على قومية واحدة فقط. كان علي أن أعاني كثيرا، وأقرأ كثيرا، وأطلع كثيرا، وأبني فكري وثقافتي على مهلهما، وكان علي أن أتعرض لصدمات كبرى، حتى أستطيع أن أصل إلى ما وصلتُ إليه اليوم، أن هذا العالم مُلْكٌ لكل أبنائه”.
في تلك البواكير أدرك فكر الذهبي أن دمشق لا بواكي لها، وأن المكان محنة إن لم يؤنسن، فما كان منه إلا أن أنسنها في ثلاثيته الكبرى فكرا وسردا وصيحة ضد من يكرهون دمشق من قلب دمشق، ومن قلب الرعب الذي كان قد أمعن كراهها في زراعته داخل صدور الدمشقيين بشكل خاص، والسوريين بشكل عام.
في “حسيبة” و”فياض” و”هشام”، استعاد فكر خيري الذهبي دمشقه وقنواته ومكتبتي أبيه وحارته. كرس مدنية الرواية مقابل غزوها الريفي (الفحولي)، ومقابل انحباسها بين ثنائية راقصات الناي (راقصات الأمفورا أو الأمبوبايا (الأنبوبة) باللغة الأرامية)، ولابسات السواد المنغلقات على أنفسهن، اللاطمات على موتاهن. أعاد المجد للبسطاء الذين تعلم من الكاتب السوري المتمرد فارس زرزور (1930-2003) حقيقة حرارتهم الصادقة النابضة الصادحة بطهارة الأرض والمعنى.
يقدح فكره فإذا به يستعيد تاريخا دمشقيا سوريا يسبق الدعوة الإسلامية، ويعود بأمكنته إلى الفترة الهلنستينية، حيث الفليسوف السوري لوقيانوس السميساطي (125- 175م) سبق الجميع بكتابة الرواية، ومنه غرف السوري الآخر أبوالعلاء المعري (973-1057م) في “رسالة الغفران”، ومنهما غرف الشاعر والكاتب الإيطالي دانتي أليغييري (1265-1321) في “الكوميديا الإلهية”.
فكرٌ بحثي حفري رأى بعمق أن بحثه عن آباء حقيقيين قاده إلى أبي حيان التوحيدي، وإلى استنتاج مفاده أن كتاب “ألف ليلة وليلة” والمخلوقات الخيالية التي ابتكروها فيها، مثل طائر الرخ، والحوت العملاق، والأشجار التي تنبت بشرا يتدلون منها ثمارا، غرفوا من لوقيانوس، كما تأثر به كتاب الرحلات مثل غليفر وغارغانتو وبانتا غرويل وغيرهم. (كتاب “محاضرات في البحث عن الرواية”، ص 115).
خصوصية دمشق
◙ المتأمل لفكر الذهبي لا يحتاج عناء لكي يلتقط خصوصية دمشق داخل وعيه
لا يحتاج المتأمل في فكر خيري الذهبي إلى عناء كبير قبل أن يلتقط خصوصية دمشق داخل ثنايا وعيه، وإرهاصات فكره، ومخرجات معارفه. إنها الخصوصية التي جعلته، ومن دون أن تُفْتح نوافذ الناس في حاراتها، وزواريبها، وأزقتها، وبيوتاتها الكالحة من الخارج، يعرف معرفة اليقين، ما الذي يخفيه الدمشقيون خلف تلك الشبابيك: الجمال البهي المتواري خلفها، “الباحة المشرقة، البحرة الدافقة، الأشجار المترعة بالليمون والكباد والدراق الزهري. بشجيرات الورد والياسمين” (كتاب “محاضرات في البحث عن الرواية”، ص 16).
فكره في هذا السياق جعله يستنتج أن النسوة الندابات يخفين راقصات الأمبوبايا تحت ثيابهن السود، وأنهن لا يخشين الفرح، ولكن عليهن ألا يظهرنه لكل عابر سبيل، أو غاز مر من هناك، فذاكرة الدمشقيات والدمشقيين مروعة: “الآشوريون وقسوتهم الدموية، العبرانيون ومدمويتهم المرعبة، الحثيون، الميديون، الإخمينيون الـ… ما الذي كان على سكان الواحة من الأمبوبايا فعله، هل يعرضون فرحهم وجمالهم وحبهم للحياة على هؤلاء الوحوش فيأكلونهم أحياء، أم يخفونها تحت قناع التقشف والسواد والعزلة؟” (المحاضرات، ص 17).
خصوصية دمشق ليست حكرا على فكر خيري الذهبي، والحقيقة أنها لورطة حقيقية لو بدأتُ تعداد من تغنوا بدمشق شعرا ونثرا وبحثا وتصويرا ثابتا ومتحركا ونحتا وإقامة، وهوى لا يموت ولا ينتابه الضمور، فهذا ما يحتاج إلى مجلدات وما سينتج عنه من أطروحات ينال عليها الناس أعلى الدرجات الأكاديمية.
ولكنني، ولتقاطعات عديدة بينه وبين خيري الذهبي في التباس العلاقة مع دمشق وحولها، سأعود إلى بعض شعر الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي له أكثر من خمس قصائد عن دمشق، أنا لا أقصد ورود دمشق في شعره، فهذا ما لا يمكن إحصاؤه، ولكن عن قصائد بأكملها موضوعها دمشق، أو موضوعها منذ عنوانها حول دمشق وحول علاقته بها، ومنها: ”طوق الحمامة الدمشقي” آخر قصائد ديوانه “سرير الغريبة” (1999)، “في الشام”، وقصيدة “وفي الشام.. شام”.
في قصيدته “طريق دمشق” آخر قصائد ديوانه الثاني “محاولة رقم سبعة” الصادرة طبعته الأولى عام 1973، يرسم درويش صورة مرتبكة لعاصمة الأمويين. فأي استشراف قاده إلى هذه الحوارية العاتبة مع عاصمة يحبها، وينسج شعبه آمالا عراضا عليها، رغم أن تلك الحوارية العاتبة سبقت ما فعله النظام الحاكم في دمشق بتل الزعتر الفلسطيني في بيروت بسنوات عديدات: "من الأزرق ابتدأ البحرُ../ هذا النهار يعود من الأبيض السابقِ../ الآن جئتُ من الأحمرِ اللاحقِ../ اغتسلي يا دمشق بلوني/ ليولد من الزمان العربي نهار". (الأعمال الشعرية الكاملة، ص 190).
حتى يقول: "دمشق، ارتدتني يداكِ، دمشق: ارتديت يديكِ، كأن الخريطة صوتٌ يفرخ في الصخر". (ص 191). ويقول: “كوني دمشق فلا يعبرون./ يا أيها المستحيل.. يسمونك الشام/ أفتح جرحي لتبتدئ الشمسُ، دمشق/وكنت وحيدا./ ومثلي، كان وحيدا هو المستحيل”. (ص 192). ويواصل رسم ملامح تلك العلاقة الملتبسة: "هذا طريق الشام.. وهذا هديل الحمام/ وهذا أنا، هذه جثتي/ والتحمنا/ فمُروا../ خذوها إلى الحرب كي أنهي الحرب بيني وبيني”. (ص 194).
وفي مرة تتبدى دمشق كأنها ضياع: “ويسألني المتعبون، أو المارة الحائرون عن اسمي/ فأجهلهُ../ اسألوا عشبة في طريق دمشق!/ وأمشي غريبا/ وتسألني الفتيات الصغيرات عن بلدي/ فأقول: أفتش فوق طريق دمشق،/وأمشي غريبا./ ويسألني الحكماء المملون عن زمني/فأشير إلى حجر أخضر في طريق دمشق. وأمشي غريبا./ ويسألني الخارجون من الدير عن لغتي/ فأعد ضلوعي وأخطئ/ إني تهجيتُ هذي الحروف. فكيف أركبها؟/ دال. ميم. شين. قاف. فقالوا: عرفنا – دمشق!/ ابتسمتُ. شكوتُ دمشق إلى الشام:/ كيف محوتِ ألوف الوجوه/ ومازال وجهكِ واحدْ!/ لماذا انحنيت لدفن الضحايا/ ومازال صدركِ صاعدْ!/ وأمشي وراء دمي. وأطيع دليلي/ وأمشي وراء دمي نحو مشنقتي/ هذه مهنتي يا دمشق..". (ص 195).
وعما بناه وشعبه من آمال عريضات تحملها إلى تغريبتهم الكبرى دمشق، يقول: "دمشق! انتظرناك كي تخرجي منك/ كي نلتقي مرة خارج المعجزات/ انتظرناكِ../ والوقت نام على الوقتِ/ والحب جاء، فجئنا إلى الحربِ/ نغسل أجنحة الطير بين أصابعك الذهبيةِ/ يا امرأة لونها الزبد العربي الحزين./ دمشق الندى والدماءِ/ دمشق النداء/ دمشق الزمان./ دمشق العرب!" (ص 198).
شمولية التكوين والطغيان
◙ التباسات علاقة فكر خيري الذهبي موضوعنا الأساسي مع شامه
إطالة في الاقتباس أعتذر عنها، ولكن، ربما كان لا بد منها، لسبر أغوار علاقة غريبة الأطوار بين فلسطيني وبين دمشق، علما أن سوريا وفلسطين تنتميان إلى وحدة قديمة اسمها بلاد الشام. واليوم تصل الغرابة ذراها، والغربة أوجع لحظاتها، حيث اضمحل القرب وأصبح بطعم الجفاء بعد سيطرة حزب البعث بنسخته الأسدية على الشام وكل سوريا، صاحب الشعارات البراقة حول أمة عربية واحدة، وصاحب الأحلام القومية، والنزعات الثورية، وهذا ما يفسر لنا كثيرا من التباسات علاقة فكر خيري الذهبي، موضوعنا الأساسي مع شامه، فشامه لم تعد كذلك بعد الغزو الريفي البعثي الآتي من فقر الساحل وجوعه للسلطة والثروة والتاريخ، يريد أن يستحوذ على هذه الضرورات جميعها، ويغتصب أي مقاسمة بينه وبين أهل الشام أنفسهم على هذه المطالب وهذه الحقوق. يجتثها من جذورها. هذا ما أدركه الذهبي مبكرا، وهذا ما جعله لا يترك فرصة سانحة مهما تجبر الطغيان إلا وأشار إليه تورية، أو إيماء، أو تعبيرا صادحا صارخا لا لبس فيه. أما اللبس فقد اعترى العلاقة نفسها مع مدينة طفولته وشبابه وشغف كل أيامه، فهل هذه شامه فعلا؟ هل سرقوا منها بعض بهائها ومدنيتها وعنفوان ضربها في التاريخ والعمارة والحياة؟
في هذه الزواريب العجيبة ظل فكر الذهبي مشغولا، في البحث عن معادل معرفي يعيد له شامه وأيامه. في كتابه “التدريب على الرعب”، الذي يجمع داخل صفحاته الـ372، 62 مقالا له، يحاول الذهبي الإجابة عن بعض أسئلة فكره القلقة حول دمشق وتاريخها؛ هذا ما يفعله وهو يكتب عن أحمد بن محمد بن عبدالله الدمشقي الأنصاري، الذي يكشف في مقاله “التدريب على الصمود” عن دوره الفذ في حض الدمشقيين على مواجهة الهجمة الغوغائية الوحشية لتيمور لنك وجيشه الحامل نذر الخراب:
“ومع الصباح سمع الناس قبل الأذان من يُنادي على مآذن المدينة: يا نِعاج المدينة أفيقي.. تذكري أن حتى النعاج لها قرون تستطيع لو تجمعت أن تبقر بطن الذئب. اختفى الصوت، بحث العسس عن المنادين ولا أثر لهم، وكان أشد الباحثين حماسة مفتي المدينة تقي الدين بن الحنبلي؛ هذا الرجل الذي سنقرأ له في ما بعد كتابا اسمه ‘البرهان على أن مصائب الإنسان من عمل الشيطان’، وكأن هنالك شيطانا أشد أذى من الخائن لشعبه ودينه وجماعته، فابن الحنبلي هذا هو من سيذهب إلى تيمور مفاوضا ومساوما ومبايعا ومشاريا؛ شريطة أن يتسلم المدينة حاكما من تيمور، ووُعِد خيرا ولكنه كان أول قتلى تيمور”.
ويتابع “هذا الأذان الذي انطلق يستصرخ النعاج لاستنهاض قرونها، لم يلبث أن جعل صغار اللحامين والخبازين والمنجدين والنجارين والحدادين والرخامين والنحاتين والنساجين يتجمعون في نقاباتهم ويقررون المقاومة، وكانت الصدمة لتيمور حين رأى أبواب المدينة تنفتح، وحرافيشها تندفع مهاجمة جيشه، طاردة له حتى الكسوة، ثم وفي اليوم التالي تهاجمه من باب آخر، وتطرد جيشه حتى سعسع” (كتاب “التدريب على الرعب”، ص 18).
◙ في مصر أدرك الذهبي كم الإسكندرية، على سبيل المثال، وإلى حد ما القاهرة، مدنا كوزموبوليتانية ودمشق محبوسة
فكر الذهبي في معظم مقالات كتابه “التدريب على الرعب”، يأخذ بعدا حيويا منتجا قادرا على التقاطع مع رموز ومعانٍ وتجليات تجعل دمشق أكثر إمكانية، وأرفع قيمة، وأعمق ضربا في صخور التاريخ ورسوبياته وأوابده. خيري الذهبي ينبه دمشق أن مساومتها على فرادتها قد تؤدي إلى سقوطها مرة أخرى، تماما كما سقطت في فخ المساومة مع تيمور. وهذا ملمح آخر من ملامح فكره الفذ: لا مساومة، دون أن يقصد المعنى الحرفي للمقاومة المسلحة، بل لعله يقصد لا مساومة فكرية معرفية ضاربة جذورها في التاريخ والجغرافيا والعزيمة الإنسانية التي لا تهزم ولا ينتابها الفتور. هذا لا يعني أن الذهبي ينكر على أصحاب الحق انتزاع حقوقهم بالقوة، بل يسعى في أدبياته الفكرية لتحصين هذه المقاومة بالعلم والمعرفة والفكر الرشيد، وتجنيبها الجهل والعصبية والوقوع في فخ الإثنيات القاتلة.
في سياق مواجهته لشمولية الطغيان التي تحدث عنها المفكر الفلسطيني الراحل سلامه كيلة (1955-2018) في كتابه “مصائر الشمولية/ سورية في صيرورة الثورة” الصادر عام 2014، عن دار الريس للكتب والنشر في بيروت، يطرح الذهبي معادلا موضوعيا مغايرا، يتمثل بشمولية المرجعيات والصيرورات (التحولات، والمضي قدما، والتطورات الكمية والنوعية) التي كونت سوريا عبر الأزمان، وشكلت ملامح واجهتها الأشمل والأوجع: دمشق.
من هنا نجده مرة يستنجد بلوقيانوس ابن حلب، ومرة بزينون الرواقي الفينيقي ابن مدينة صور اللبنانية الشامية، ومرة بالشاعر ملياغروس الجداري (ابن مدينة جدارا/أم قيس قرب الحمّة السورية – الأردنية)، ومرة بأبي العلاء المعري ابن معرة النعمان، ومرة بتقاطعات الشتات السوري الجديد، مع الشتات الفلسطيني القديم المتجدد. فكر شمولي يحتاج السوريون، كما يرى، إلى كل تفصيلة من تفاصيله في سياق مواجهتهم كل هذا الطغيان الشمولي الذي يحتكر المدنية والعسكرتارية والحركة الإعلامية واللحظة الإبداعية، ويريد أن يجير كل فعل ونأمة وتنهيدة شهيق لصالح تكريس أبديته. إنه شمولي إلى الدرجة التي اختصر بها بلدا بحجم سوريا إلى اسم طاغية صغير فصار اسمها بحسب ما يكرسه النظام ويزرعه في جينات التلقي: سوريا الأسد، تماما كما يريد أن يكرس شعارا آخر أكثر بشاعة: إلى الأبد يا حافظ الأسد، والآن يا بشار الأسد. إنها الأبدية الدهرية القدرية التي لا يجد الإنسان العاقل (كما هو حال رجلنا خيري الذهبي) منها فكاكا إلا بالمزيد من الغوص داخل منعطفات التاريخ، والتبحر في دروسه، وإلا بالعلم والمعرفة والفكر الحُر الأصيل.
فكر الرحلة
◙ خيري الذهبي يتبنى وجها آخر من وجوه فكره
في كتابه “من دمشق إلى حيفا/ 300 يوم في إسرائيل” الصادر عام 2019، عن دار السويدي للنشر والتوزيع في أبوظبي، وعن منشورات المتوسط في مدينة ميلانو الإيطالية، يتبنى خيري الذهبي وجها آخر من وجوه فكره؛ إنه فكر الرحلة. في الكتاب عدة فصول يبحر خلالها الذهبي في حوارات مرة مع نفسه، ومرات مع الآخر اليهودي/ الإسرائيلي، الآخر في الكتاب المتقاطع مع أدب الرحلات، حتى أنه نال جائزة عليه تتعلق بهذا النوع من الأدب، هو كولونيل (عقيد) إسرائيلي يُدعى نهاري، يساق إليه خلال أسره في فلسطين لمدة 300 يوم، عدة مرات، وفي كل مرة يتذاكى عليه هذا العقيد أنه ابن الشام، وأنه يعرف أكثر من غيره عن سوريا “الريفية التي تحولت إلى عسكرية متخلية عن البرلمانية والحزبية وحرية الصحافة” (كتاب الرحلة، ص 125).
يريد أن يجره إلى الحوار جرا، باحثا عن نقاط التقاء بينه وبين الأسير لديه خيري الذهبي، من هنا تتشكل لدى الأسير حوصلة دفاع مجساتية لا تريد له أن يقع في حبال خدعة حوار من طرف واحد حتما، فهل يعقل أن يقود الحوار، لو قرر الذهبي المضي فيه، إلى تخلي العقيد عن فكرة أرض الميعاد، وعن حقوق أبناء دينه المدعاة في فلسطين بوصفها أرض صهيون ويعقوب وأنبياء بني إسرائيل جميعهم؟
حقيقة خواء هذا الحوار، تقود الذهبي إلى حوار بينه وبين نفسه، يتخلص خلاله من عقد الخوف من الطغمة الحاكمة في بلده، كونه بعيدا عن الديار، والبعد هنا لا يقاس بالحسابات الجغرافية، بل بحسابات سيطرة العصابات الصهيونية على فلسطين التاريخية، سيطرة تجعله بعدا لا يمكن تقدير مسافته المدججة بالدشم والحراسة والمنع الكامل.
الحوار الذاتي يقود الذهبي إلى المزيد من فكر التحرر من الطغيان والطغاة، وفيه يتطرق إلى الجريدة الرسمية وساعتها التي تدل على وقت غير صحيح، وفيه يعاين صورة اليهودي في الوعي العربي المتأثر بقومية مصر وبعثية سوريا، وعن أوجه الشبه بين اليهودي والمملوكي في وجدان الذهبي وفكره الخاص، فكر الثرثرة خوفا من العتمة، الفكر الذي يميز بين الأشكنازي والسفرديمي.
الذهبي تخيل الحوار المفترض بين شخص يمثل العسكرية السورية و”كولونيل” يمثل العسكرية الإسرائيلية، بأسئلة استخبارية، وظروف غير طبيعية. أما الحوارات الأكثر تعقيدا التي أجبر الذهبي على خوضها خلال تلك الأيام الثلاثمئة، فهي التي قابله لإجرائها البروفيسور الإسرائيلي غيدو (جدعون)، وفي تلك الحوارات، أو المقابلات، يجري التطرق إلى معنى كلمة فدائي، أو على رأي الذهبي فداوي، وفيه يبحر فكر الذهبي في تتبع الأبعاد التاريخية للمصطلح الذي يعود بجذوره إلى أيام الحروب الصليبية. حديث الفداوية حوله الذهبي في ما بعد إلى واحد من مقالات كتابه “التدريب على الرعب”، وفيه يحمل نفسا تفاؤليا، يؤمن بالأمة، ويستبشر بشبابها وفداويتها خيرا:
“ما لم يعرفه العدو، ولم يستطع التنبؤ به، هو أن الأمة ليست هذا الفصيل ولا ذاك، ليست أولئك التعبين، ولا أولئك السئمين، بل الأمة بحر يزخر بالعجائب؛ فيوما فدائيون فلسطينيون، ويوما فدائيون سوريون، أو لبنانيون، ويوما ليبيون، ويوما سودانيون، أو مصريون، إنهم كل أولئك الذين يضعون لأنفسهم قضية، ولا يرون حاجزا واحدا لها إلا هذا المستوطن الأوروبي المتغلل بصليب سداسي يسميه صهيونية” (كتاب “التدريب على الرعب”، ص 93).
فكر الرحلة هو مرحلة من فكر خيري الذهبي طورها عبر التجربة، وصقلها بالصبر والتأمل، واستنشاق فكرة وجوده في قلب فلسطين التاريخية، وخلُص فيها إلى أن الطغاة لا يختلفون عن الغزاة، بل إن وجود هؤلاء الطغاة هو أحد أهم أسباب قدوم الغزاة، فـ”الطغاة يجلبون الغزاة” كما تقول الحكمة القديمة المتجددة.
منمنمات تراكمية
◙ الذهبي لا يترك كتابا يقع بين يديه إلا ويلتهم محتوياته ويقلب غاياته ويعاين رسائله
على شكل منمنمات تراكمية بنى الذهبي منظومته الفكرية. جمع شتاتها من قراءات غزيرة وكثيرة، لا يترك كتابا يقع بين يديه إلا ويلتهم محتوياته ويقلب غاياته ويعاين رسائله. تلك المنمنات انتشرت في رواياته، وفي مختلف مقولاته ولقاءاته وتنظيراته.
في واحدة من المقابلات التلفزيونية التي أجريت معه، يسأله الشاعر السوري المخضرم شوقي بغدادي (1928-2023) عن أصول شخصياته الروائية ومدى واقعيتها الخارجية، أو أنها كاملة الخيالية. فإذا بِرد خيري الذهبي يتجلى بوصفه فرعا جديدا من فروع فكره؛ يشبه الشخصيات بنوعٍ من نباتات الزينة الدمشقية يدعى “الشاب الظريف”، وبحسب الذهبي، يتكاثر هذا النبات بواسطة بذرة سوداء صغيرة، الذهبي يسأل بغدادي: “لو أمسكت بيدي هذه البذرة السوداء، فهل أستطيع رؤية الأوراق الخضر والورود الحمر التي ستنبثق عنها؟ إن هذه الأوراق والورود هي البذرة السوداء بعد دفنها في التراب وإعطائها بعض الماء، وبعض الدفء، وبعض الضوء، والكثير من الصبر والترقب والحنان، فإذا بك تفاجأ بالتراب ينشق عن قلبيْن أخضريْن ما يلبثان أن يمتدا ويكبرا ليصبحا نبتة تحمل الورود الحمر” (محاضرات في البحث عن الرواية، ص 119).
هكذا تولد شخصيات خيري الذهبي، وهكذا يرى الكون من حوله، ويفهم صيرورة الناموس. وأينما حل، يزرع نباتا سريع النمو، هذا ما فعله في عمان أثناء إقامته فيها محولا فسحة صغيرة خلف بيته العماني، إلى واحة من الخضرة وحب الحياة والتمسك بالأمل. مخطئ من يرى أن زراعة الحاكورة ليست فعلا فكريا ناضجا عميق الدلالات. مخطئ من يظن (وإن بعض الظن إثم)، أن عشق الذهبي للكثير من أنواع الطيور، هو ليس قدحا فكريا وجوديا متناغما مع مفردات الكون وجماليات الوجود.
تخضيره للبيئة من حوله فِكْر. قدرته على خلق لغة ما بينه وبين كائنات متناهية الوداعة فِكْر. حفره في أصول القوميات ودلالات المفردات فِكْر. ربطه بين تواريخ متباينة (قد تبدو متباينة)، واكتشافه الخيط الذي يربط دلالة بدلالة أخرى فِكْر. انحيازه النهائي لروح دمشق فِكْر. إيمانه أن الرواية ليست تأريخا فقط فِكْر. دفقه الغزير حتى مرتقى الأنفاس من رواياتٍ وآراء ومقالاتٍ وتبويباتٍ وحفرياتِ معرفةٍ فِكْر. فكرٌ نبت من حقول الإبداع، وإبداع تحصن بالفكر، في جدلية خيرية ذهبية أصبح لها مع الأيام والأعوام والأحلام، نكهتها الخاصة، ومذاقها المختلف، وهويتها الفريدة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد جميل خضر
قاص وصحافي من الأردن