سامي شرف.. كاتم أسرار الحقبة الناصرية ومعارض الجمهورية الجديدة
الحالم بمشروع قومي لإدارة مصر بعقلية الدولة لا الشركة.
الثلاثاء 2023/02/07
ليس مجرد شخصية عادية
أغلق رحيل سامي شرف مدير مكتب الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر، قبل أيام ما تبقى من خزائن وأسرار الحقبة الناصرية، بحكم أنه كان الأقرب والأكثر ثقة ونفوذا عند الرئيس الراحل عبدالناصر، وقد رحل عن الحياة دون أن يبيح بكل ما لديه من معلومات وخبايا وكواليس من الصعب على أحد الوصول إليها بسهولة.
عمل شرف مع عبدالناصر وزيرا لشؤون رئاسة الجمهورية وسكرتيره الشخصي للمعلومات، واستطاع التعرف على دهاليز الحكم لما يقرب من عقدين في تلك الحقبة، بل كان شريكا أساسيا في صناعة القرار على المستويين الداخلي والخارجي، بحكم أنه كان ضمن الفريق الذي عرفت عنه الهيمنة المطلقة داخل القصر الرئاسي.
عكست بعض المذكرات الشخصية التي دوّنها سامي شرف قبل رحيله بسنوات قليلة، أنه لم يكن مجرد شخصية عادية، وارتبط بأحداث سياسية وأمنية داخل البلاد وخارجها، ومن خلاله استطاع الكثير من السياسيين والإعلاميين التعرف على بعض أسرار حقبة لا يزال الكثيرون لا يعرفون دهاليزها جيدا.
لم يكن وصول شرف إلى القصر الرئاسي في عهد جمال عبدالناصر بالمهمة السهلة، فوالده الطبيب محمد عبدالعزيز شرف لعب دورا ممهدا في ذلك، وفتح له دائرة الضوء مع رموز السلطة، حيث كان الأب مفتشا للصحة في عدد من المحافظات المصرية، لكنه ارتبط بعلاقة قوية مع محمد نجيب، الرئيس الأول للجمهورية في مصر بعد ثورة يوليو 1952 وانهيار الملكية.
حلم الصغر
رحل دون أن يبيح بكل ما لديه من معلومات وخبايا وكواليس من الصعب على أحد الوصول إليها بسهولة
التحق سامي شرف بكلية الطب استجابة لرغبة والده الطبيب، لكنه تركها بعد يومين، والتحق بكلية التجارة ثم لم يجد نفسه فيها وقرر الالتحاق بالكلية الحربية، وهي حلمه منذ الصغر، وتخرج فيها عام 1949، وهي الدفعة نفسها التي حوت الرئيس الأسبق حسني مبارك وتم تعيينه بسلاح المدفعية.
كانت المرة الأولى التي التقى فيها شرف مع جمال عبدالناصر في أواخر عام 1951، عندما التحق بدورة تدريبية خاصة بترقيات ضباط الجيش، وكان “ناصر”، هكذا كان يطلق عليه، من يقوم بتدريس مادة خاصة بالعمل الاستخباراتي، وبعد انتهاء الدورة طلب من شرف أن يمر عليه في مكتبه الشخصي، وحدث اللقاء ثم قال له “أنا متنبّئ لك بمستقبل باهر، استمر على ذلك فأنت نابغة”.
لم يكن وقتها ناصر رئيسا للجمهورية، وبعد ثورة 23 يوليو 1952، تم استدعاء شرف إلى القصر الرئاسي، وأسندت إليه مراقبة البرقيات الصادرة والواردة من وإلى المراسلين الأجانب في مصر، باعتباره يجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ثم اختير ضمن الأسماء المرشحة لتشكيل هيئة مراقبة الأداء الحكومي، المعروفة بهيئة الرقابة الإدارية في مصر حاليا والمعنية بمحاربة الفساد.
توطدت علاقة ناصر مع شرف، وكان الأخير من العناصر الأساسية التي أسهمت في تكوين جهاز المخابرات العامة برئاسة زكريا محيي الدين، حتى تم إبلاغ شرف في 19 مارس من عام 1955، باختيار عبدالناصر له للعمل معه سكرتيرا للمعلومات، واستمر في مهمته إلى أن اختير وزيرا للدولة عام 1970، وتم تكليفه وقتها بدراسة وإنشاء مجلس للأمن القومي يكون مسؤولا عن صناعة القرار المصري.
الحاكم المقدس
برحيله فقدت مصر إحدى خزائن أسرارها التاريخية
أتاح التقارب غير المحدود بين ناصر وشرف أن يكتب الأخير مذكرات بالغة الحساسية، في خمسة أجزاء، عن الحقبة الناصرية، اختار منها ما شاء، وأغفل ما لا يجب الكتابة عنه، لكنه نجح في إظهار عبدالناصر على أنه الرئيس الوطني الذي لا مثيل له، بحكم ولائه الشديد له حتى آخر أيام حياته.
دافع شرف عن قرارات التأميم والنظام الاشتراكي الذي انتهجه عبدالناصر، رغم الرفض الواسع لهذا التوجه خلال فترة حكمه، وسجلت المذكرات كواليس تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر، ومعركة بناء السد العالي، وحرب اليمن، ومعارك إسقاط بغداد، والصراع الناصري مع جماعة الإخوان، والكثير من الأحداث السياسية التي لا يزال بعضها يمثل لغزا محيرا للمصريين.
وصفه الكثير من السياسيين بأنه الرجل الذي لم يكن يتحرك إلا بتكليف مباشر من عبدالناصر، ومن شدة ولائه للسلطة كان مستعدا لفعل أي شيء يُطلب منه لإثبات طاعته لرأس النظام، وعرف أنه تخصص في تنفيذ المهام شديدة الخصوصية بدهاء رجل المخابرات، لدرجة أنه أشيع عنه أنه من قتل ملك مصر السابق فاروق الأول، لكنه أنكر ذلك بشدة.
أزمة سامي شرف مع معارضي الحقبة الناصرية أنه تطرق فقط إلى مزايا وإيجابيات فترة حكم الرئيس عبدالناصر، ووظف خبرته في تبييض صورة نظامه، ما عرضه لانتقادات شديدة، وحتى وقت قريب كان يداوم على كتابة مقالات صحافية بجرائد يومية مدافعا عن ناصر أمام خصومه من التيارات المختلفة.
في حكم السادات واجه سامي شرف تهمة الخيانة العظمى، لذلك كان من أشد أعداء الحقبة الساداتية
تسبب تعامل شرف مع ناصر بقدسية مطلقة حتى بعد رحيله في اتهامات ظلت تطارده من قبل نظام الحكم خلال فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات، حيث تم القبض عليه برفقة علي صبري نائب رئيس الجمهورية، وشعراوي جمعة وزير الداخلية، والفريق أول محمد فوزي وزير الحربية، ومحمد فائق وزير الإعلام، عام 1971.
واجه شرف في بدايات حكم السادات الذي تولى خلفا لناصر تهمة الخيانة العظمى، والعمل على قلب نظام الحكم، لذلك كان من أشد أعداء الحقبة الساداتية، رغم أنه ظل زميلا للسادات لمدة اقتربت من ثمانية عشر عاما في المؤسسة العسكرية، لكن السادات لم يكن يثق به ولا يأمن له.
وقال إنه تعرض لخديعة كبرى من السادات عندما أبلغه الأخير بتغيير منصبه وتعيينه سفيرا لمصر بإحدى الدول، لكنه لم يفعل ذلك وحينها كانت المرة الأولى التي يبدي فيها كاتم أسرار عبدالناصر ندمه الشديد على عدم إكمال تعليمه في كلية الطب وتفضيل الأمن والسياسة، كما ندم على أنه لم يتقدم باستقالته فور وفاة عبدالناصر في سبتمبر 1970، واستمر في العمل مع السادات الذي قال إنه خدعه عمدا.
استثمر شرف خبرته السياسية وإفساح الإعلام أمامه لتبرئة ساحاته من تهمة الانقلاب على السادات، مدللا على ذلك بأن “مجلس الأمن القومي الذي كان عضوا فيه (شرف)، لو كان يريد الانقلاب على السادات لفعل ذلك من البداية، فالجيش كان تحت قيادة الفريق محمد فوزي، والداخلية بقيادة شعراوي جمعة، والإعلام برئاسة محمد فائق، وأنا معي الحرس الجمهوري وكان يمكن لنا بث خبر في التلفزيون بمرض السادات”.
خلال أحد لقاءاته الإعلامية، قال إنه عقب خروجه من السجن قرر التوجه للتعليم مرة أخرى، وانتسب للجامعة الأميركية في القاهرة للحصول على الماجستير في الإدارة العامة وفوجئ بأن أحد أساتذة الجامعة من المخابرات الأميركية، وكان يأمل في معلومات عن عبدالناصر، لكنه قرر ترك الجامعة لأنه لم يفكر في خيانة ناصر.
كراهية الإخوان
تعامل شرف مع ناصر بقدسية مطلقة حتى بعد رحيله تسبب في اتهامات ظلت تطارده من قبل نظام الحكم خلال فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات
في ذروة الجدل الذي أثاره مسلسل “الجماعة” المصري قبل سنوات، والذي حوى تلميحا باتهام عبدالناصر بأنه كان على تناغم مع الإخوان وشديد التقارب معهم لدرجة الإيحاء بأنه عاش إخوانيا، خرج شرف يدافع عنه بشراسة وخاض معركة طاحنة مع القائمين على العمل الدرامي بسبب لصق اسم ناصر بالإخوان.
ارتبط عداؤه للإخوان بأنه عاصر مع ناصر فترة سياسية عصيبة، كان فيها أعضاء الجماعة يتآمرون على النظام، ويحتفلون بالعدوان الثلاثي على مصر ظنا منهم أن ذلك انتقام إلهي من النظام الاشتراكي الذي أقصاهم من المشهد، في حين خرج المصريون يحملون السلاح للدفاع عن بلادهم أمام العدوان.
في إحدى مقالاته بصحيفة “المصري اليوم”، كتب سامي شرف تحت عنوان “دين أبوكم اسمه إيه” مستعيرا اسم قصيدة منسوبة للشاعر المصري جمال بخيت، حيث تحدث عن جرائم الإخوان وافتخارهم بنكسة 1967، وحينها استشهد بما سبق وذكرته صحيفة “العرب” عندما كتبت، “في الواقع ليست إسرائيل وحدها من تحتفل بانتصاراتها، فالإخوان هذه السنة يحتفلون بذكرى النكسة علنا”.
ما ميّزه عن الكثير من الساسة المصريين الذين اقتربوا من أنظمة الحكم المتعاقبة أنه لم ينقلب أو يتحوّل أو يسعى للتملق إلى أي رئيس بعد عبدالناصر، بعكس غيره من رموز الأنظمة المختلفة، فهناك من عملوا مع حسني مبارك واستفادوا من فترة حكمه وشاركوا في ثورة 25 يناير 2011 التي أجبرته على الاستقالة، وصاروا لاحقا من أنصار الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي.
يكتشف المتابع لكتابات سامي شرف مؤخرا لأي درجة كان ناقما على الأوضاع السياسية والإعلامية والاقتصادية قبل رحيله، لدرجة جعلت البعض يشك في تحوله إلى شخصية معارضة للرئيس السيسي، لأن مقالاته كانت تنبش في المحظورات أحيانا، ما جعله يحظى بثقة العديد من القراء، حيث داوم على التطرق إلى قضايا قد لا تستطيع الكثير من الأقلام التلميح إليها.
انتقد مثلا صمت نظام السيسي عن عودة رجال مبارك “بروز آفة كل نظام حكم، حفنة من المرتزقة الذين يحاولون التزلف لنخبة الحكم الجديدة لتحقيق مكاسب خاصة، والحصول على ما يطلقون عليه جزءا من تورتة الحكم والشيء الغريب أن بعض هؤلاء يظهرون في موضع قريب من صانعي القرار”.
في ذروة صمت الكتاب والإعلام عن مواجهة التضييق على الحريات تحلى سامي شرف بجرأة استثنائية عندما انتقد تراجع الحريات في مصر وعودة بعض مظاهر القمع الشرطي، ورآها ردة كبيرة عن مطالب واحتياجات الشعب المصري بعد ثورة يناير التي قامت بالأساس احتجاجا على انتهاك هذه القيم.
بلغت درجة دعمه لتوجهات الشارع أن طالب الحكومة بالتماس الأعذار للناس لأنهم يشاهدون من حولهم مظاهر سلبية محبطة دون معالجات جذرية لها، فيما كانت إحدى أمنياته قبل رحيله أن يصاغ مشروع أو هدف قومي واضح المعالم، له إستراتيجية محددة يمكن للمواطن البسيط الشعور به وتحديد ملامحه، ومن خلاله يحشد الشعب خلفه، ويكون قاطرة لسائر المشروعات القومية الأخرى.
هموم الشارع المصري
كتب مذكراته عن الحقبة الناصرية، وسعى لإظهار عبدالناصر على أنه الرئيس الذي لا مثيل له
نجح إلى حد بعيد في ملامسة هموم الشارع ونقلها بأمانة، مستثمرا ثقة دوائر صناع القرار السياسي في أن ما يكتبه للمصلحة العامة لا لحساب أطراف وجهات معادية، لذلك كان بعيدا عن دائرة الاستهداف، وتُركت له مساحة واسعة في الصحف ليكتب، رغم ما تضمنته من استياء من مظاهر الفساد وتدني الخدمات الحكومية.
يُحسب له أنه لم يخش مضايقته بسبب معارضته للكثير من الإخفاقات الحكومية مؤخرا، لكنه كان شديد الذكاء في توصيل رسائله، فتارة يمتدح توجها ما للدولة، مثل الاعتماد على الجيش في ترميم الاقتصاد، وأخرى ينتقد بشراسة تحول التعليم إلى سلعة للأغنياء وتهميش الفقراء وتبرؤ الحكومة منهم بخفض الدعم عنهم.
ورغم تمجيد الدوائر المحيطة بالسلطة من نواب البرلمان وبعض الأحزاب للمشروعات الضخمة وسط الأزمة الاقتصادية، فقد كان لشرف موقف مغاير، فهو الذي دقّ ناقوس الخطر وانتقد كل المشروعات طالما تصر الحكومة على تهميش التعليم والصحة والثقافة، والاهتمام بالأثرياء على حساب الطبقة الوسطى، والفقيرة، محذرا من الاستمرار على نفس وتيرة الخطر.
حتى عندما قال السيسي عبارته الشهيرة “يا حظ عبدالناصر بإعلامه” في انتقاد لما يقوم به الإعلام في عهده حاليا، لم يصمت سامي شرف ورد لاحقا في مقال صحافي، منتقدا الحالة التي صار عليها الإعلام المصري بسبب تغييب الكفاءات واهتمام الصحف والقنوات بالقضايا السطحية، بشكل تسبب في تغييب الوعي، وتصدير صورة بالغة السلبية عن مصر.
برحيل سامي شرف فقدت مصر أحد خزائن أسرارها التاريخية وسياسيا متزنا، أجاد توظيف الكلمة، وتوصيف الحالة، وتقديم النصائح الواجبة، وكانت أمنيته الوحيدة أن يعيش حتى يرى في مصر الجديدة مشروعا قوميا بالمعنى السياسي للكلمة، بعيدا عن إدارة الدولة بطريقة شركة مساهمة تتعامل بمنطق المكسب والخسارة.
المشروع القومي الكبير الذي تمناه شرف هو أن تكون لدى الدولة إستراتيجية واضحة، تصبح وحدها الموجه والمحدد للتغييرات المستهدفة على مستوى السياسات والقرارات والتشريعات، وإلا تساوَت الدولة مع شركة مساهمة يُقاس أداؤها بأداء الأسهم، ولن يتحقق ذلك دون وجود نظام سياسي قائم على كيانات قادرة على تمثيل المصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة، والتوفيق بينها. لكنه رحل قبل أن تتحول مصر إلى وضعية الإدارة والتخطيط المطلوب.
أحمد حافظ
كاتب مصري
الحالم بمشروع قومي لإدارة مصر بعقلية الدولة لا الشركة.
الثلاثاء 2023/02/07
ليس مجرد شخصية عادية
أغلق رحيل سامي شرف مدير مكتب الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر، قبل أيام ما تبقى من خزائن وأسرار الحقبة الناصرية، بحكم أنه كان الأقرب والأكثر ثقة ونفوذا عند الرئيس الراحل عبدالناصر، وقد رحل عن الحياة دون أن يبيح بكل ما لديه من معلومات وخبايا وكواليس من الصعب على أحد الوصول إليها بسهولة.
عمل شرف مع عبدالناصر وزيرا لشؤون رئاسة الجمهورية وسكرتيره الشخصي للمعلومات، واستطاع التعرف على دهاليز الحكم لما يقرب من عقدين في تلك الحقبة، بل كان شريكا أساسيا في صناعة القرار على المستويين الداخلي والخارجي، بحكم أنه كان ضمن الفريق الذي عرفت عنه الهيمنة المطلقة داخل القصر الرئاسي.
عكست بعض المذكرات الشخصية التي دوّنها سامي شرف قبل رحيله بسنوات قليلة، أنه لم يكن مجرد شخصية عادية، وارتبط بأحداث سياسية وأمنية داخل البلاد وخارجها، ومن خلاله استطاع الكثير من السياسيين والإعلاميين التعرف على بعض أسرار حقبة لا يزال الكثيرون لا يعرفون دهاليزها جيدا.
لم يكن وصول شرف إلى القصر الرئاسي في عهد جمال عبدالناصر بالمهمة السهلة، فوالده الطبيب محمد عبدالعزيز شرف لعب دورا ممهدا في ذلك، وفتح له دائرة الضوء مع رموز السلطة، حيث كان الأب مفتشا للصحة في عدد من المحافظات المصرية، لكنه ارتبط بعلاقة قوية مع محمد نجيب، الرئيس الأول للجمهورية في مصر بعد ثورة يوليو 1952 وانهيار الملكية.
حلم الصغر
رحل دون أن يبيح بكل ما لديه من معلومات وخبايا وكواليس من الصعب على أحد الوصول إليها بسهولة
التحق سامي شرف بكلية الطب استجابة لرغبة والده الطبيب، لكنه تركها بعد يومين، والتحق بكلية التجارة ثم لم يجد نفسه فيها وقرر الالتحاق بالكلية الحربية، وهي حلمه منذ الصغر، وتخرج فيها عام 1949، وهي الدفعة نفسها التي حوت الرئيس الأسبق حسني مبارك وتم تعيينه بسلاح المدفعية.
كانت المرة الأولى التي التقى فيها شرف مع جمال عبدالناصر في أواخر عام 1951، عندما التحق بدورة تدريبية خاصة بترقيات ضباط الجيش، وكان “ناصر”، هكذا كان يطلق عليه، من يقوم بتدريس مادة خاصة بالعمل الاستخباراتي، وبعد انتهاء الدورة طلب من شرف أن يمر عليه في مكتبه الشخصي، وحدث اللقاء ثم قال له “أنا متنبّئ لك بمستقبل باهر، استمر على ذلك فأنت نابغة”.
لم يكن وقتها ناصر رئيسا للجمهورية، وبعد ثورة 23 يوليو 1952، تم استدعاء شرف إلى القصر الرئاسي، وأسندت إليه مراقبة البرقيات الصادرة والواردة من وإلى المراسلين الأجانب في مصر، باعتباره يجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ثم اختير ضمن الأسماء المرشحة لتشكيل هيئة مراقبة الأداء الحكومي، المعروفة بهيئة الرقابة الإدارية في مصر حاليا والمعنية بمحاربة الفساد.
توطدت علاقة ناصر مع شرف، وكان الأخير من العناصر الأساسية التي أسهمت في تكوين جهاز المخابرات العامة برئاسة زكريا محيي الدين، حتى تم إبلاغ شرف في 19 مارس من عام 1955، باختيار عبدالناصر له للعمل معه سكرتيرا للمعلومات، واستمر في مهمته إلى أن اختير وزيرا للدولة عام 1970، وتم تكليفه وقتها بدراسة وإنشاء مجلس للأمن القومي يكون مسؤولا عن صناعة القرار المصري.
الحاكم المقدس
برحيله فقدت مصر إحدى خزائن أسرارها التاريخية
أتاح التقارب غير المحدود بين ناصر وشرف أن يكتب الأخير مذكرات بالغة الحساسية، في خمسة أجزاء، عن الحقبة الناصرية، اختار منها ما شاء، وأغفل ما لا يجب الكتابة عنه، لكنه نجح في إظهار عبدالناصر على أنه الرئيس الوطني الذي لا مثيل له، بحكم ولائه الشديد له حتى آخر أيام حياته.
دافع شرف عن قرارات التأميم والنظام الاشتراكي الذي انتهجه عبدالناصر، رغم الرفض الواسع لهذا التوجه خلال فترة حكمه، وسجلت المذكرات كواليس تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر، ومعركة بناء السد العالي، وحرب اليمن، ومعارك إسقاط بغداد، والصراع الناصري مع جماعة الإخوان، والكثير من الأحداث السياسية التي لا يزال بعضها يمثل لغزا محيرا للمصريين.
وصفه الكثير من السياسيين بأنه الرجل الذي لم يكن يتحرك إلا بتكليف مباشر من عبدالناصر، ومن شدة ولائه للسلطة كان مستعدا لفعل أي شيء يُطلب منه لإثبات طاعته لرأس النظام، وعرف أنه تخصص في تنفيذ المهام شديدة الخصوصية بدهاء رجل المخابرات، لدرجة أنه أشيع عنه أنه من قتل ملك مصر السابق فاروق الأول، لكنه أنكر ذلك بشدة.
أزمة سامي شرف مع معارضي الحقبة الناصرية أنه تطرق فقط إلى مزايا وإيجابيات فترة حكم الرئيس عبدالناصر، ووظف خبرته في تبييض صورة نظامه، ما عرضه لانتقادات شديدة، وحتى وقت قريب كان يداوم على كتابة مقالات صحافية بجرائد يومية مدافعا عن ناصر أمام خصومه من التيارات المختلفة.
في حكم السادات واجه سامي شرف تهمة الخيانة العظمى، لذلك كان من أشد أعداء الحقبة الساداتية
تسبب تعامل شرف مع ناصر بقدسية مطلقة حتى بعد رحيله في اتهامات ظلت تطارده من قبل نظام الحكم خلال فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات، حيث تم القبض عليه برفقة علي صبري نائب رئيس الجمهورية، وشعراوي جمعة وزير الداخلية، والفريق أول محمد فوزي وزير الحربية، ومحمد فائق وزير الإعلام، عام 1971.
واجه شرف في بدايات حكم السادات الذي تولى خلفا لناصر تهمة الخيانة العظمى، والعمل على قلب نظام الحكم، لذلك كان من أشد أعداء الحقبة الساداتية، رغم أنه ظل زميلا للسادات لمدة اقتربت من ثمانية عشر عاما في المؤسسة العسكرية، لكن السادات لم يكن يثق به ولا يأمن له.
وقال إنه تعرض لخديعة كبرى من السادات عندما أبلغه الأخير بتغيير منصبه وتعيينه سفيرا لمصر بإحدى الدول، لكنه لم يفعل ذلك وحينها كانت المرة الأولى التي يبدي فيها كاتم أسرار عبدالناصر ندمه الشديد على عدم إكمال تعليمه في كلية الطب وتفضيل الأمن والسياسة، كما ندم على أنه لم يتقدم باستقالته فور وفاة عبدالناصر في سبتمبر 1970، واستمر في العمل مع السادات الذي قال إنه خدعه عمدا.
استثمر شرف خبرته السياسية وإفساح الإعلام أمامه لتبرئة ساحاته من تهمة الانقلاب على السادات، مدللا على ذلك بأن “مجلس الأمن القومي الذي كان عضوا فيه (شرف)، لو كان يريد الانقلاب على السادات لفعل ذلك من البداية، فالجيش كان تحت قيادة الفريق محمد فوزي، والداخلية بقيادة شعراوي جمعة، والإعلام برئاسة محمد فائق، وأنا معي الحرس الجمهوري وكان يمكن لنا بث خبر في التلفزيون بمرض السادات”.
خلال أحد لقاءاته الإعلامية، قال إنه عقب خروجه من السجن قرر التوجه للتعليم مرة أخرى، وانتسب للجامعة الأميركية في القاهرة للحصول على الماجستير في الإدارة العامة وفوجئ بأن أحد أساتذة الجامعة من المخابرات الأميركية، وكان يأمل في معلومات عن عبدالناصر، لكنه قرر ترك الجامعة لأنه لم يفكر في خيانة ناصر.
كراهية الإخوان
تعامل شرف مع ناصر بقدسية مطلقة حتى بعد رحيله تسبب في اتهامات ظلت تطارده من قبل نظام الحكم خلال فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات
في ذروة الجدل الذي أثاره مسلسل “الجماعة” المصري قبل سنوات، والذي حوى تلميحا باتهام عبدالناصر بأنه كان على تناغم مع الإخوان وشديد التقارب معهم لدرجة الإيحاء بأنه عاش إخوانيا، خرج شرف يدافع عنه بشراسة وخاض معركة طاحنة مع القائمين على العمل الدرامي بسبب لصق اسم ناصر بالإخوان.
ارتبط عداؤه للإخوان بأنه عاصر مع ناصر فترة سياسية عصيبة، كان فيها أعضاء الجماعة يتآمرون على النظام، ويحتفلون بالعدوان الثلاثي على مصر ظنا منهم أن ذلك انتقام إلهي من النظام الاشتراكي الذي أقصاهم من المشهد، في حين خرج المصريون يحملون السلاح للدفاع عن بلادهم أمام العدوان.
في إحدى مقالاته بصحيفة “المصري اليوم”، كتب سامي شرف تحت عنوان “دين أبوكم اسمه إيه” مستعيرا اسم قصيدة منسوبة للشاعر المصري جمال بخيت، حيث تحدث عن جرائم الإخوان وافتخارهم بنكسة 1967، وحينها استشهد بما سبق وذكرته صحيفة “العرب” عندما كتبت، “في الواقع ليست إسرائيل وحدها من تحتفل بانتصاراتها، فالإخوان هذه السنة يحتفلون بذكرى النكسة علنا”.
ما ميّزه عن الكثير من الساسة المصريين الذين اقتربوا من أنظمة الحكم المتعاقبة أنه لم ينقلب أو يتحوّل أو يسعى للتملق إلى أي رئيس بعد عبدالناصر، بعكس غيره من رموز الأنظمة المختلفة، فهناك من عملوا مع حسني مبارك واستفادوا من فترة حكمه وشاركوا في ثورة 25 يناير 2011 التي أجبرته على الاستقالة، وصاروا لاحقا من أنصار الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي.
يكتشف المتابع لكتابات سامي شرف مؤخرا لأي درجة كان ناقما على الأوضاع السياسية والإعلامية والاقتصادية قبل رحيله، لدرجة جعلت البعض يشك في تحوله إلى شخصية معارضة للرئيس السيسي، لأن مقالاته كانت تنبش في المحظورات أحيانا، ما جعله يحظى بثقة العديد من القراء، حيث داوم على التطرق إلى قضايا قد لا تستطيع الكثير من الأقلام التلميح إليها.
انتقد مثلا صمت نظام السيسي عن عودة رجال مبارك “بروز آفة كل نظام حكم، حفنة من المرتزقة الذين يحاولون التزلف لنخبة الحكم الجديدة لتحقيق مكاسب خاصة، والحصول على ما يطلقون عليه جزءا من تورتة الحكم والشيء الغريب أن بعض هؤلاء يظهرون في موضع قريب من صانعي القرار”.
في ذروة صمت الكتاب والإعلام عن مواجهة التضييق على الحريات تحلى سامي شرف بجرأة استثنائية عندما انتقد تراجع الحريات في مصر وعودة بعض مظاهر القمع الشرطي، ورآها ردة كبيرة عن مطالب واحتياجات الشعب المصري بعد ثورة يناير التي قامت بالأساس احتجاجا على انتهاك هذه القيم.
بلغت درجة دعمه لتوجهات الشارع أن طالب الحكومة بالتماس الأعذار للناس لأنهم يشاهدون من حولهم مظاهر سلبية محبطة دون معالجات جذرية لها، فيما كانت إحدى أمنياته قبل رحيله أن يصاغ مشروع أو هدف قومي واضح المعالم، له إستراتيجية محددة يمكن للمواطن البسيط الشعور به وتحديد ملامحه، ومن خلاله يحشد الشعب خلفه، ويكون قاطرة لسائر المشروعات القومية الأخرى.
هموم الشارع المصري
كتب مذكراته عن الحقبة الناصرية، وسعى لإظهار عبدالناصر على أنه الرئيس الذي لا مثيل له
نجح إلى حد بعيد في ملامسة هموم الشارع ونقلها بأمانة، مستثمرا ثقة دوائر صناع القرار السياسي في أن ما يكتبه للمصلحة العامة لا لحساب أطراف وجهات معادية، لذلك كان بعيدا عن دائرة الاستهداف، وتُركت له مساحة واسعة في الصحف ليكتب، رغم ما تضمنته من استياء من مظاهر الفساد وتدني الخدمات الحكومية.
يُحسب له أنه لم يخش مضايقته بسبب معارضته للكثير من الإخفاقات الحكومية مؤخرا، لكنه كان شديد الذكاء في توصيل رسائله، فتارة يمتدح توجها ما للدولة، مثل الاعتماد على الجيش في ترميم الاقتصاد، وأخرى ينتقد بشراسة تحول التعليم إلى سلعة للأغنياء وتهميش الفقراء وتبرؤ الحكومة منهم بخفض الدعم عنهم.
ورغم تمجيد الدوائر المحيطة بالسلطة من نواب البرلمان وبعض الأحزاب للمشروعات الضخمة وسط الأزمة الاقتصادية، فقد كان لشرف موقف مغاير، فهو الذي دقّ ناقوس الخطر وانتقد كل المشروعات طالما تصر الحكومة على تهميش التعليم والصحة والثقافة، والاهتمام بالأثرياء على حساب الطبقة الوسطى، والفقيرة، محذرا من الاستمرار على نفس وتيرة الخطر.
حتى عندما قال السيسي عبارته الشهيرة “يا حظ عبدالناصر بإعلامه” في انتقاد لما يقوم به الإعلام في عهده حاليا، لم يصمت سامي شرف ورد لاحقا في مقال صحافي، منتقدا الحالة التي صار عليها الإعلام المصري بسبب تغييب الكفاءات واهتمام الصحف والقنوات بالقضايا السطحية، بشكل تسبب في تغييب الوعي، وتصدير صورة بالغة السلبية عن مصر.
برحيل سامي شرف فقدت مصر أحد خزائن أسرارها التاريخية وسياسيا متزنا، أجاد توظيف الكلمة، وتوصيف الحالة، وتقديم النصائح الواجبة، وكانت أمنيته الوحيدة أن يعيش حتى يرى في مصر الجديدة مشروعا قوميا بالمعنى السياسي للكلمة، بعيدا عن إدارة الدولة بطريقة شركة مساهمة تتعامل بمنطق المكسب والخسارة.
المشروع القومي الكبير الذي تمناه شرف هو أن تكون لدى الدولة إستراتيجية واضحة، تصبح وحدها الموجه والمحدد للتغييرات المستهدفة على مستوى السياسات والقرارات والتشريعات، وإلا تساوَت الدولة مع شركة مساهمة يُقاس أداؤها بأداء الأسهم، ولن يتحقق ذلك دون وجود نظام سياسي قائم على كيانات قادرة على تمثيل المصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة، والتوفيق بينها. لكنه رحل قبل أن تتحول مصر إلى وضعية الإدارة والتخطيط المطلوب.
أحمد حافظ
كاتب مصري