سلمان البصري ..فنان عالق في ضباب نهار غربته
رسام عراقي يستعيد زمنه في مكان مختلف.
فنان يتنفس هواء التجربة العراقية في غربته
أحيانا يستجيب بعض الفنانين لهامشيتهم انطلاقا من قناعات داخلية فلا يرغبون في أن يكونوا جزءا من الصخب الذي يغمر المشهد الفني بثرثراته التي غالبا ما يتبخر الكثير منها.
الرسام سلمان البصري هو من ذلك النوع الصامت. لقد فضل أن يبقى في الظل منتجا ومتأملا. حتى بعد أن استقر في بغداد وقد كان ناشطا قبلها في البصرة في تأسيس الجماعات الفنية فإنه لم يفضل أن يكون جزءا من الفوضى وإن كانت تلك الفوضى قد اجتاحت طريقته في التفكير في الفن في ما بعد حين عاش في مهجره الهولندي.
لم يتخل عن الحرفة
خيار أن يرسم الفنان باعتباره مواطنا سابقا هو أقسى الخيارات وقد جعله يعبّئ لوحاته بالكثير من الألم والشعور بالأسى
كان البصري يميل إلى الرسم باعتباره ابتكارا لا يتخلى عن الحرفة أبدا ويظل ملتصقا بها. وقد كان رساما حقيقيا إذا ما كانت الحرفة مقياسا لذلك الحكم. ولأنه كان مسالما بطبعه فإنه لم يعلن عن انحيازه إلى فريق بعينه من الفرق التي كانت تتخاصم في ما بينها من أجل ريادة الحداثة الفنية الثانية في العراق. ظل واقفا في منطقة خاصة به مثلما كان هو حال رسامين من نوع رسول علوان ومحمد علي شاكر.
حين النظر إلى ماضيه الآن يمكن اعتباره الفرد الذي بقي مصرا على أن يحتفظ بمسافة تفصله عن الآخرين من أبناء جيله، على الأقل أسلوبيا. فالبصري كان يولي متعته بالرسم أهمية قصوى تفوق اهتمامه بمتعة المتلقي. لم تكن الشهرة تعنيه في شيء وهو المكتفي بما يجلبه له الرسم من سعادة.
“ألوان فرشاة مهاجرة” هو عنون معرضه الذي أقامه في عمان عام 2011. كان ذلك المعرض بمثابة جرد وصفي لتحولات الرسام في غربته. وهي تحولات أقل ما يُقال عنها إن الرسام حقق من خلالها نقلة نوعية في طريقة تفكيره في الرسم. ناهيك عن أن تلك الرسوم كانت أشبه بيوميات العلاقة بالجسد الغريب أو الذي صار غريبا عن صاحبه.
يوما ما كان البصري يركز على استلهام جماليات المفردات الشعبية التي عاش زمنا طويلا وهو يتنفس هواءها. في غربته صار عالقا بين زمنين. زمن مغلق على جمالياته وزمن مفتوح على جماليات لوحة لم تُرسم بعد.
الماشي وراء مفردات حياته
الرسم باعتباره ابتكارا
ولد سلمان البصري عام 1939 في “أبو الخصيب” بالبصرة جنوب العراق. درس الرسم في معهد الفنون الجميلة ببغداد وتخرج فيه عام 1960. بعدها درس مادة الرسم في البصرة وبغداد. درس مادة التشريح في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد. عمل في مؤسسة السينما والمسرح رئيسا لقسم التصميم.
كان البصري من مؤسسي جماعة الظل بالبصرة.
أقام الفنان أول معرض شخصي له عام 1963. بعده أقام أكثر من عشرين معرضا كما شارك في العديد من المعارض الجماعية.
لم يلتفت البصري إلى التجريد إلا بطريقة مواربة. بمعنى أنه ظل مصرا على الوقوف في المنطقة التي تفصل بين التجريد والتشخيص وهي في الوقت نفسه تصل بينهما. لقد شعر أن هويته كانت هناك وأن أيّ بحث عنها لن يكون ممكنا إذا تخلى عن تربيته الجمالية الأولى القائمة على التلذذ برسم صور الطبيعة ووجوه الناس وأجسامهم. وهو ما كشف عنه من خلال تأليفه لكتاب “التشريح” الذي هو رصيده في عالم تدريس الفن.
الإنسان حاضر في الخلفية
من حقه أن يعتقد أنه قد وضع خبرته في متناول الآخرين وهم طلبته ومَن سيكونون طلبة في غيابه. تلك مأثرة، لكنها تظل في حدود المهنة. غير أن ذلك الشعور لم يفارقه في حياته الفنية بعد أن تحرر من مهنته. ظل البصري حريصا على ألاّ تفقد يده خيالها المرتبط بالدرس الأكاديمي. لذلك رسم لوحات تجريدية، لكن كل واحدة منها لا بد أن تشي بما يقف وراءها من مشاهد إنسانية.
لم يكن الإنسان واحدة من مفرداته بل كان الضالة التي تشير إليها كل المفردات التي سعى إلى استلهام جمالياتها عبر سنيّ حياته.
كان هناك مَن كتب عن جدار سلمان البصري. ذلك جدار استأنف من خلاله الفنان سيرته في غربته. سيقول ربما إنه عاش غريبا دائما. وهو محق في ذلك. غير أنه لم يسمح لغربته بأن تكون مقياسا لعذاباته الداخلية.
أن ترسم بقوة التمرد على الواقع شيء وأن ترسم متأسيا على الواقع هو شيء آخر. وحين انتقل البصري من جماليات المفردة الشعبية إلى محاولة الحلم بتلك المفردة كانت هناك الكثير من المياه قد مرت تحت الجسر ولم تعد استعادة الترف القديم ممكنة.
المواطن السابق في غربته
لوحات تجريدية تخفي مشاهد إنسانية
حين غادر سلمان البصري العراق حمل كما الآخرين إرثه الفني معه. لا ينحصر ذلك الإرث بما هو شخصي. هناك رؤية جماعية تحققت من خلال أعمال فنية اخترقت الزمن سيكون عليه ألاّ يخطئ الطريق إليها. فالبصري من ذلك النوع من الفنانين الذين يعتقدون أن الفن ينطوي على رسالة اجتماعية وهو مسؤول عن الحفاظ على المعاني الإنسانية في صيغتها الوطنية.
لذلك لم تكن الخيارات أمامه كثيرة. كان خيار أن يرسم باعتباره مواطنا سابقا هو أقسى الخيارات. وهو ما دفعه إلى أن يعبّئ لوحاته بالكثير من الألم والشعور بالأسى المضني. صارت اللوحات التي رسمها بعد أن غادر العراق تثير الأسئلة أكثر مما تسببه من متعة. كان هناك شغب يحاصر روحه ويدفع به إلى أن يكون ناقما على ماضيه. ذلك الماضي الذي عاشه وهو يحلم بعراق مختلف.
لم تعد جماليات المفردة الشعبية تغني مشاعره منذ أن وجد نفسه محاصرا بغربة، عرف أنها ستكون قدره. ذلك القدر الذي سيقوده إلى المجهول. سيكون عليه أن يتماهى مع ذلك القدر فيرسم شذرات مما صار يراه ويتذكره. إنه رجل يحمل ماضيه على ظهره. يعذبه ألاّ يستعيد ذلك الماضي. ولكنه لا يرغي في ذلك لأنه يعرف أن الزمن قد تغير وأن خياراته باتت محدودة.
لا يزال سلمان البصري ينظر إلى ماضيه بإشفاق. رسومه التي أنتجها في غربته هي عبارة عن تذكرة عودة في قطار تأخر عن موعده. فالرسام الذي حلم ذات يوم في أن تكون البصرة هي مركز الحداثة الفنية في العالم يقيم الآن في مدينة هولندية لا يرى من خلال ضبابها إلا أشباحا لكائنات تمنّى لو أنه التقاها في صباه. سيكون علينا أن نقول إنه اكتفى بالرسم الذي كان خياره في الحياة، رغب في أن يعيشها بطريقة عميقة. غير أنه لا يزال يتنفس هواء التجربة العراقية في غربته. لا تزال لوحاته مليئة بالرموز الشعبية العراقية التي يشعر أن جمالياتها لا تزال ساحرة.
شيء ما سيشير إلى فراغ لا يمكن أن يُملأ هو ما يتخلل لوحاته وهو ما لن يتمكن البصري من الإجابة عليه.
فاروق يوسف
كاتب عراقي
رسام عراقي يستعيد زمنه في مكان مختلف.
فنان يتنفس هواء التجربة العراقية في غربته
أحيانا يستجيب بعض الفنانين لهامشيتهم انطلاقا من قناعات داخلية فلا يرغبون في أن يكونوا جزءا من الصخب الذي يغمر المشهد الفني بثرثراته التي غالبا ما يتبخر الكثير منها.
الرسام سلمان البصري هو من ذلك النوع الصامت. لقد فضل أن يبقى في الظل منتجا ومتأملا. حتى بعد أن استقر في بغداد وقد كان ناشطا قبلها في البصرة في تأسيس الجماعات الفنية فإنه لم يفضل أن يكون جزءا من الفوضى وإن كانت تلك الفوضى قد اجتاحت طريقته في التفكير في الفن في ما بعد حين عاش في مهجره الهولندي.
لم يتخل عن الحرفة
خيار أن يرسم الفنان باعتباره مواطنا سابقا هو أقسى الخيارات وقد جعله يعبّئ لوحاته بالكثير من الألم والشعور بالأسى
كان البصري يميل إلى الرسم باعتباره ابتكارا لا يتخلى عن الحرفة أبدا ويظل ملتصقا بها. وقد كان رساما حقيقيا إذا ما كانت الحرفة مقياسا لذلك الحكم. ولأنه كان مسالما بطبعه فإنه لم يعلن عن انحيازه إلى فريق بعينه من الفرق التي كانت تتخاصم في ما بينها من أجل ريادة الحداثة الفنية الثانية في العراق. ظل واقفا في منطقة خاصة به مثلما كان هو حال رسامين من نوع رسول علوان ومحمد علي شاكر.
حين النظر إلى ماضيه الآن يمكن اعتباره الفرد الذي بقي مصرا على أن يحتفظ بمسافة تفصله عن الآخرين من أبناء جيله، على الأقل أسلوبيا. فالبصري كان يولي متعته بالرسم أهمية قصوى تفوق اهتمامه بمتعة المتلقي. لم تكن الشهرة تعنيه في شيء وهو المكتفي بما يجلبه له الرسم من سعادة.
“ألوان فرشاة مهاجرة” هو عنون معرضه الذي أقامه في عمان عام 2011. كان ذلك المعرض بمثابة جرد وصفي لتحولات الرسام في غربته. وهي تحولات أقل ما يُقال عنها إن الرسام حقق من خلالها نقلة نوعية في طريقة تفكيره في الرسم. ناهيك عن أن تلك الرسوم كانت أشبه بيوميات العلاقة بالجسد الغريب أو الذي صار غريبا عن صاحبه.
يوما ما كان البصري يركز على استلهام جماليات المفردات الشعبية التي عاش زمنا طويلا وهو يتنفس هواءها. في غربته صار عالقا بين زمنين. زمن مغلق على جمالياته وزمن مفتوح على جماليات لوحة لم تُرسم بعد.
الماشي وراء مفردات حياته
الرسم باعتباره ابتكارا
ولد سلمان البصري عام 1939 في “أبو الخصيب” بالبصرة جنوب العراق. درس الرسم في معهد الفنون الجميلة ببغداد وتخرج فيه عام 1960. بعدها درس مادة الرسم في البصرة وبغداد. درس مادة التشريح في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد. عمل في مؤسسة السينما والمسرح رئيسا لقسم التصميم.
كان البصري من مؤسسي جماعة الظل بالبصرة.
أقام الفنان أول معرض شخصي له عام 1963. بعده أقام أكثر من عشرين معرضا كما شارك في العديد من المعارض الجماعية.
لم يلتفت البصري إلى التجريد إلا بطريقة مواربة. بمعنى أنه ظل مصرا على الوقوف في المنطقة التي تفصل بين التجريد والتشخيص وهي في الوقت نفسه تصل بينهما. لقد شعر أن هويته كانت هناك وأن أيّ بحث عنها لن يكون ممكنا إذا تخلى عن تربيته الجمالية الأولى القائمة على التلذذ برسم صور الطبيعة ووجوه الناس وأجسامهم. وهو ما كشف عنه من خلال تأليفه لكتاب “التشريح” الذي هو رصيده في عالم تدريس الفن.
الإنسان حاضر في الخلفية
من حقه أن يعتقد أنه قد وضع خبرته في متناول الآخرين وهم طلبته ومَن سيكونون طلبة في غيابه. تلك مأثرة، لكنها تظل في حدود المهنة. غير أن ذلك الشعور لم يفارقه في حياته الفنية بعد أن تحرر من مهنته. ظل البصري حريصا على ألاّ تفقد يده خيالها المرتبط بالدرس الأكاديمي. لذلك رسم لوحات تجريدية، لكن كل واحدة منها لا بد أن تشي بما يقف وراءها من مشاهد إنسانية.
لم يكن الإنسان واحدة من مفرداته بل كان الضالة التي تشير إليها كل المفردات التي سعى إلى استلهام جمالياتها عبر سنيّ حياته.
كان هناك مَن كتب عن جدار سلمان البصري. ذلك جدار استأنف من خلاله الفنان سيرته في غربته. سيقول ربما إنه عاش غريبا دائما. وهو محق في ذلك. غير أنه لم يسمح لغربته بأن تكون مقياسا لعذاباته الداخلية.
أن ترسم بقوة التمرد على الواقع شيء وأن ترسم متأسيا على الواقع هو شيء آخر. وحين انتقل البصري من جماليات المفردة الشعبية إلى محاولة الحلم بتلك المفردة كانت هناك الكثير من المياه قد مرت تحت الجسر ولم تعد استعادة الترف القديم ممكنة.
المواطن السابق في غربته
لوحات تجريدية تخفي مشاهد إنسانية
حين غادر سلمان البصري العراق حمل كما الآخرين إرثه الفني معه. لا ينحصر ذلك الإرث بما هو شخصي. هناك رؤية جماعية تحققت من خلال أعمال فنية اخترقت الزمن سيكون عليه ألاّ يخطئ الطريق إليها. فالبصري من ذلك النوع من الفنانين الذين يعتقدون أن الفن ينطوي على رسالة اجتماعية وهو مسؤول عن الحفاظ على المعاني الإنسانية في صيغتها الوطنية.
لذلك لم تكن الخيارات أمامه كثيرة. كان خيار أن يرسم باعتباره مواطنا سابقا هو أقسى الخيارات. وهو ما دفعه إلى أن يعبّئ لوحاته بالكثير من الألم والشعور بالأسى المضني. صارت اللوحات التي رسمها بعد أن غادر العراق تثير الأسئلة أكثر مما تسببه من متعة. كان هناك شغب يحاصر روحه ويدفع به إلى أن يكون ناقما على ماضيه. ذلك الماضي الذي عاشه وهو يحلم بعراق مختلف.
رسومات الفنان التي أنتجها في غربته بعيدا عن العراق هي عبارة عن تذكرة عودة في قطار تأخر عن موعده
لم تعد جماليات المفردة الشعبية تغني مشاعره منذ أن وجد نفسه محاصرا بغربة، عرف أنها ستكون قدره. ذلك القدر الذي سيقوده إلى المجهول. سيكون عليه أن يتماهى مع ذلك القدر فيرسم شذرات مما صار يراه ويتذكره. إنه رجل يحمل ماضيه على ظهره. يعذبه ألاّ يستعيد ذلك الماضي. ولكنه لا يرغي في ذلك لأنه يعرف أن الزمن قد تغير وأن خياراته باتت محدودة.
لا يزال سلمان البصري ينظر إلى ماضيه بإشفاق. رسومه التي أنتجها في غربته هي عبارة عن تذكرة عودة في قطار تأخر عن موعده. فالرسام الذي حلم ذات يوم في أن تكون البصرة هي مركز الحداثة الفنية في العالم يقيم الآن في مدينة هولندية لا يرى من خلال ضبابها إلا أشباحا لكائنات تمنّى لو أنه التقاها في صباه. سيكون علينا أن نقول إنه اكتفى بالرسم الذي كان خياره في الحياة، رغب في أن يعيشها بطريقة عميقة. غير أنه لا يزال يتنفس هواء التجربة العراقية في غربته. لا تزال لوحاته مليئة بالرموز الشعبية العراقية التي يشعر أن جمالياتها لا تزال ساحرة.
شيء ما سيشير إلى فراغ لا يمكن أن يُملأ هو ما يتخلل لوحاته وهو ما لن يتمكن البصري من الإجابة عليه.
فاروق يوسف
كاتب عراقي