"التغيّر" وباء غير مرئي يجعل البشر متأملين وهائمين
كائنات تتحرر من ذواتها فتخضع لسيطرة المجهول.
نظرات قاتلة
الأوبئة التي تهدد حياة البشر وتفاجئهم حين لا يتوقعونها هي الثيمة الأبرز في سينما الخيال العلمي حيث يتخيل السينمائيون سيناريوهات مختلفة للمستقبل المجهول ولما يمكن أن نواجهه من أوبئة وأمراض، أحدها قد يكون سريع الانتقال عبر الهواء أو اللمس وآخر قد يكون عبر النظر أو حتى عبر القبل كما هو الحال في فيلم “تغيّر” للمخرج ميكائيل مونغيلو.
كل شيء يؤول إلى التغيير من حولنا، تلك هي طبيعة الحياة وطبيعة الأشياء والأشخاص فالكل يسير نحو تغيير ما سواء كان مرئيا ومحسوسا أو كان غير مرئي وبذلك كانت دورة الحياة من حولنا محملة بما هو جديد ومختلف.
هذه التغيرات البديهية من الممكن أن تنتقل إلى سينما الخيال العلمي وهو ما شاهدناه في العديد من الأفلام، أن يقع التغيير فتنطلق الأحداث لمقاربة ذلك التغيير وفهمه وكيف ومتى وما هو السبيل لمقاربته فيما إذا كان التغيير ضارا أو سلبيا وهو ما ينطبق على فيلم “تغيّر” للمخرج ميكائيل مونغيلو.
وسرعان ما تنقلب الحياة الهادئة الوديعة رأسا على عقب، فمشاهد البداية ليست إلا صورا للمدينة وهي تدخل نهارها الجديد لكن ثمة خوف وعدم يقين ينتاب الناس بشكل غريب وفي المقابل هنالك من يفسر ذلك الإحساس بعدم الاطمئنان على أنه نوع من الذعر المرضي أو “البارانويا”.
العدوى تنتقل بطريقة أخرى ألا وهي قبلة الحياة التي بواسطتها سوف تتسرب الكائنات الطفيلية عبر اللعاب لتستقر في الجسم البشري
كل ذلك سوف يحيّر الزوج ماك (الممثل جاسون سميث) وزوجته جين (الممثلة كارلي افيرس) ويشعرهما أن هنالك شيئا غامضا يقع بين الناس وحتى ابنتهما كيم (الممثلة كلير فولي) ينتابها شعور غريب في داخل المدرسة في حديث الآخرين عن الخوف والذعر في مقابل التغيير.
وما يلبث أن يتطور الأمر إلى محاولات احتكاك وملامسة نستنتج منها أن كل أولئك مصابون بوباء خارج عن السيطرة يجعلهم يتصرفون بغرابة ويجعل حواسهم وعقولهم تقودها قوة غامضة وبما في ذلك تعرض جين إلى محاولة تحرش من زميل لها وهي محاولة نقل للوباء عن طريق التقبيل.
وفي هذا الفيلم سوف تصبح القُبلة وسيلة لنقل الوباء ويستشعر المصابون الذين سوف ينتظمون في جماعة واحدة الآخرين الذين لم ينتقل إليهم الوباء ولهذا سوف يحاولون جرّهم إليهم.
الغريب في ذلك الواقع الجديد أن أفكار الآخرين تصبح متدفقة وفيها كثير من الحكم والعبارات المكثفة المؤثرة، وهم يبادرون الذين على الجهة الأخرى قائلين” سوف تكون دائما وحيدا وبلا حب، أما نحن فمتحدون في الحقيقة المطلقة والوجود العقلي”.
وها هو أحدهم يجيب ماك قائلا “نحن مكتفون ذاتيا وعندنا الوضوح في الإحساس العميق حتى تصبح أنت مثل عدسة نقية ينفذ الضوء من خلالها صافيا”.
هذه الهلوسات تصبح مثل لازمة متكررة ينطق بها الجميع وهم يحاولون إغواء الآخرين لغرض الانجذاب إلى ما يعرف بالتغيير والانخراط في تيار المتغيرين حتى تقع المواجهة بين الطرفين ويصبح منزل ماك وجين هدفا لأولئك المتغيرين.
خلال ذلك ستحتل مساحة من الفيلم الحوارات المحتدمة المتصاعدة بين بيل (الممثل توني تود) وبين جين وماك وهي المواجهة بين الفريقين التي تستوجب إشهار السلاح ولكن من دون اكتراث من بيل الذي يتحدث بطريقة مختلفة لا علاقة لها بمدارك الآخرين وذلك في سلسلة إحالات تحمل في طياتها معطيات فلسفية، فضلا عن الجانب الطريف في المشاهد المتصاعدة.
من هنا صارت تلك الأسرة الصغيرة وربما الشعور المتسرب إلينا أيضا بانتظار الطوفان القادم من خلال مجيء أولئك المتغيرون الذين يبدأون بالدعوة الهادئة المسالمة وينتهون بالإجبار والعنف وكأنها جرعة إجبارية وعلى الآخرين تقبلها بهدوء ورضا.
محاولة لاستدراج الآخرين
وفي مثل هذه الإشكاليات التي يطرحها فيلم الخيال العلمي تحضر وسائل الإعلام وفي مقدمتها التلفزة التي تقوم بدور فاعل في حياة المجتمع الأميركي بشكل خاص، لكن ها هي المذيعة على شاشة التلفزة تدعو بنفس دعوة الآخرين وكأنها مخدّرة أو لا تدرك ما تتفوه به من دعوة للتسليم بوجود المتغيرين والتعاطي معهم وقبولهم وقبول ما يحملونه من طباع ومفاهيم جديدة بل يذهب بيل في سجالاته إلى الاستشهاد بتشرشل ومقولته الشهيرة ما لم يكن لديك الاستعداد لتتغير فلن يتغير من حولك شيء.
ويجعل التغيير الافتراضي الآخرين شبه هائمين على وجوههم، تلك هي الخلاصة التي يشعر بها ماك لاسيما وهو يخوض المواجهة الأخيرة التي ستؤدي إلى مقتل زوجته جين وبقائه هو وابنته رهينتين بانتظار هجوم المتغيرين عليهم.
هنا ليس عندنا الفامباير كما هو معهود في مثل هذه الدراما الفيلمية في هذا النوع من سينما الخيال العلمي عندما يكون هنالك مسعورون ومصاصو دماء يسعون لاستهداف الناجين من البشر، الفارق هنا أن العدوى تنتقل بطريقة أخرى ألا وهي قبلة الحياة التي بواسطتها سوف تتسرب الكائنات الطفيلية عبر اللعاب لتستقر في الجسم البشري.
تلي ذلك الذروة التي سوف تجمع ماك وابنته وهما ينتظران قدرهما الأخير ولهذا يسترجعان اللحظات الأكثر سعادة بالنسبة إليهما فيما تكشف كيم عن شعورها بالفشل من المحيط بها من كل جانب وسلبية المجتمع وأنها المرة الأولى التي شعرت بأنها تحمل موقفا ولكن أي موقف والمصير ينتظرهما وهما يعدان بندقيتي صيد للدفاع عن نفسيهما.
ويحسب للفيلم ارتكازه على ثيمة مبسطة تم تطويرها من خلال الحوارات المكثفة والمهارة في صناعة الأزمة بالإضافة إلى جمالية الحوار واستخدام الصوت والمؤثرات السمعية والبصرية بشكل متميز.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
طاهر علوان
كاتب عراقي مقيم في لندن
كائنات تتحرر من ذواتها فتخضع لسيطرة المجهول.
نظرات قاتلة
الأوبئة التي تهدد حياة البشر وتفاجئهم حين لا يتوقعونها هي الثيمة الأبرز في سينما الخيال العلمي حيث يتخيل السينمائيون سيناريوهات مختلفة للمستقبل المجهول ولما يمكن أن نواجهه من أوبئة وأمراض، أحدها قد يكون سريع الانتقال عبر الهواء أو اللمس وآخر قد يكون عبر النظر أو حتى عبر القبل كما هو الحال في فيلم “تغيّر” للمخرج ميكائيل مونغيلو.
كل شيء يؤول إلى التغيير من حولنا، تلك هي طبيعة الحياة وطبيعة الأشياء والأشخاص فالكل يسير نحو تغيير ما سواء كان مرئيا ومحسوسا أو كان غير مرئي وبذلك كانت دورة الحياة من حولنا محملة بما هو جديد ومختلف.
هذه التغيرات البديهية من الممكن أن تنتقل إلى سينما الخيال العلمي وهو ما شاهدناه في العديد من الأفلام، أن يقع التغيير فتنطلق الأحداث لمقاربة ذلك التغيير وفهمه وكيف ومتى وما هو السبيل لمقاربته فيما إذا كان التغيير ضارا أو سلبيا وهو ما ينطبق على فيلم “تغيّر” للمخرج ميكائيل مونغيلو.
وسرعان ما تنقلب الحياة الهادئة الوديعة رأسا على عقب، فمشاهد البداية ليست إلا صورا للمدينة وهي تدخل نهارها الجديد لكن ثمة خوف وعدم يقين ينتاب الناس بشكل غريب وفي المقابل هنالك من يفسر ذلك الإحساس بعدم الاطمئنان على أنه نوع من الذعر المرضي أو “البارانويا”.
العدوى تنتقل بطريقة أخرى ألا وهي قبلة الحياة التي بواسطتها سوف تتسرب الكائنات الطفيلية عبر اللعاب لتستقر في الجسم البشري
كل ذلك سوف يحيّر الزوج ماك (الممثل جاسون سميث) وزوجته جين (الممثلة كارلي افيرس) ويشعرهما أن هنالك شيئا غامضا يقع بين الناس وحتى ابنتهما كيم (الممثلة كلير فولي) ينتابها شعور غريب في داخل المدرسة في حديث الآخرين عن الخوف والذعر في مقابل التغيير.
وما يلبث أن يتطور الأمر إلى محاولات احتكاك وملامسة نستنتج منها أن كل أولئك مصابون بوباء خارج عن السيطرة يجعلهم يتصرفون بغرابة ويجعل حواسهم وعقولهم تقودها قوة غامضة وبما في ذلك تعرض جين إلى محاولة تحرش من زميل لها وهي محاولة نقل للوباء عن طريق التقبيل.
وفي هذا الفيلم سوف تصبح القُبلة وسيلة لنقل الوباء ويستشعر المصابون الذين سوف ينتظمون في جماعة واحدة الآخرين الذين لم ينتقل إليهم الوباء ولهذا سوف يحاولون جرّهم إليهم.
الغريب في ذلك الواقع الجديد أن أفكار الآخرين تصبح متدفقة وفيها كثير من الحكم والعبارات المكثفة المؤثرة، وهم يبادرون الذين على الجهة الأخرى قائلين” سوف تكون دائما وحيدا وبلا حب، أما نحن فمتحدون في الحقيقة المطلقة والوجود العقلي”.
وها هو أحدهم يجيب ماك قائلا “نحن مكتفون ذاتيا وعندنا الوضوح في الإحساس العميق حتى تصبح أنت مثل عدسة نقية ينفذ الضوء من خلالها صافيا”.
هذه الهلوسات تصبح مثل لازمة متكررة ينطق بها الجميع وهم يحاولون إغواء الآخرين لغرض الانجذاب إلى ما يعرف بالتغيير والانخراط في تيار المتغيرين حتى تقع المواجهة بين الطرفين ويصبح منزل ماك وجين هدفا لأولئك المتغيرين.
خلال ذلك ستحتل مساحة من الفيلم الحوارات المحتدمة المتصاعدة بين بيل (الممثل توني تود) وبين جين وماك وهي المواجهة بين الفريقين التي تستوجب إشهار السلاح ولكن من دون اكتراث من بيل الذي يتحدث بطريقة مختلفة لا علاقة لها بمدارك الآخرين وذلك في سلسلة إحالات تحمل في طياتها معطيات فلسفية، فضلا عن الجانب الطريف في المشاهد المتصاعدة.
من هنا صارت تلك الأسرة الصغيرة وربما الشعور المتسرب إلينا أيضا بانتظار الطوفان القادم من خلال مجيء أولئك المتغيرون الذين يبدأون بالدعوة الهادئة المسالمة وينتهون بالإجبار والعنف وكأنها جرعة إجبارية وعلى الآخرين تقبلها بهدوء ورضا.
محاولة لاستدراج الآخرين
وفي مثل هذه الإشكاليات التي يطرحها فيلم الخيال العلمي تحضر وسائل الإعلام وفي مقدمتها التلفزة التي تقوم بدور فاعل في حياة المجتمع الأميركي بشكل خاص، لكن ها هي المذيعة على شاشة التلفزة تدعو بنفس دعوة الآخرين وكأنها مخدّرة أو لا تدرك ما تتفوه به من دعوة للتسليم بوجود المتغيرين والتعاطي معهم وقبولهم وقبول ما يحملونه من طباع ومفاهيم جديدة بل يذهب بيل في سجالاته إلى الاستشهاد بتشرشل ومقولته الشهيرة ما لم يكن لديك الاستعداد لتتغير فلن يتغير من حولك شيء.
ويجعل التغيير الافتراضي الآخرين شبه هائمين على وجوههم، تلك هي الخلاصة التي يشعر بها ماك لاسيما وهو يخوض المواجهة الأخيرة التي ستؤدي إلى مقتل زوجته جين وبقائه هو وابنته رهينتين بانتظار هجوم المتغيرين عليهم.
هنا ليس عندنا الفامباير كما هو معهود في مثل هذه الدراما الفيلمية في هذا النوع من سينما الخيال العلمي عندما يكون هنالك مسعورون ومصاصو دماء يسعون لاستهداف الناجين من البشر، الفارق هنا أن العدوى تنتقل بطريقة أخرى ألا وهي قبلة الحياة التي بواسطتها سوف تتسرب الكائنات الطفيلية عبر اللعاب لتستقر في الجسم البشري.
تلي ذلك الذروة التي سوف تجمع ماك وابنته وهما ينتظران قدرهما الأخير ولهذا يسترجعان اللحظات الأكثر سعادة بالنسبة إليهما فيما تكشف كيم عن شعورها بالفشل من المحيط بها من كل جانب وسلبية المجتمع وأنها المرة الأولى التي شعرت بأنها تحمل موقفا ولكن أي موقف والمصير ينتظرهما وهما يعدان بندقيتي صيد للدفاع عن نفسيهما.
ويحسب للفيلم ارتكازه على ثيمة مبسطة تم تطويرها من خلال الحوارات المكثفة والمهارة في صناعة الأزمة بالإضافة إلى جمالية الحوار واستخدام الصوت والمؤثرات السمعية والبصرية بشكل متميز.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
طاهر علوان
كاتب عراقي مقيم في لندن