الهروب من الزواج
المجتمع التونسي يسير مثل غيره من مجتمعات الجائحة نحو الشيخوخة.
التقاليد زادت من شروطها وتعقيداتها
أرقام مفزعة هي تلك التي قدمها المعهد الوطني للإحصاء في تونس عن تراجع عقود الزواج إلى الثلث خلال خمس سنوات وتراجع الولادات إلى الخمس، ما ينبئ بأن السنوات القادمة ستشهد بداية لنقلة نوعية في تركيبة المجتمع التونسي باتجاه الشيخوخة على خطى المجتمعات الغربية وعلى عكس مجتمعات عربية أخرى لا يبدو أن التغييرات الاقتصادية تؤثر عليها في هذه النقطة بالذات.
ولا شك أن المنعطف في تراجع عقود الزواج هو فترة الجائحة، طبعا ليست هي السبب المباشر، ولكنها زادت من اتساع الظاهرة. فالجائحة أحدثت أزمة كبيرة بالنسبة إلى سوق العمالة ودفعت بالكثير من القطاعات إلى تسريح العمال أو مراجعة الرواتب، وفي سوق تونسية هشة بطبعها كانت التكاليف أكثر خاصة بعد إغلاق الكثير من المؤسسات الصغيرة والمشاريع الفردية بسبب العجز عن مجاراة الخسائر.
وفي مقابل توسع دائرة البطالة ومحدودية الدخل، زادت التقاليد من شروطها وتعقيداتها بالنسبة إلى الزواج لتصبح تكاليفه أمرا صعبا لغالبية الشبان الذين يتخرجون من الجامعات ثم ينتظرون سنوات قد تصل إلى العشر ويدخلون سوق شغل هشة وبمقاييس ضعيفة، ما يجعل الأولوية هي الإنفاق على الذات والأسرة مع تغيير جذري في النزعة الاستهلاكية لتتطلب المزيد من الإنفاق وتعمق الشرخ بين الشباب وفكرة الزواج.
وهذه معضلة حقيقية لا ينفع معها تشجيع العائلة، ولا تسهيلات الحكومة، ولا نصائح الدين وحضه على الزواج لكسب نصف الدين. ومن الظاهر الآن أن هذا النصف يمكن وضعه ضمن قائمة المستحيلات مع الغول والعنقاء والخل الودود.
يسير المجتمع التونسي، مثل غيره من مجتمعات الجائحة، نحو الشيخوخة، والتي تعني في ما تعنيه أن البلاد سيأتي عليها وقت تكون فيه عاجزة عن توفير شبان للعمل في مؤسساتها الرسمية، الأمن والجيش، ولن تجد من يشتغل في الأرض وينتج لها القمح خاصة مع موجة الهجرة الكبيرة للشباب التونسي نحو الخارج، وهو ما يعني أنه سيكون ذخيرة للمجتمعات الغربية التي تبحث عن تجديد ذاتها تماما مثل ما حصل مع الأرياف بعد أن هجرها شبابها إلى أحزمة المدن الكبرى.
هناك أرياف لا تجد فيها إلا كبار السن وأعدادا صغيرة من الشبان والأطفال. وبعض المدارس تضطر للإغلاق بسبب غياب الأطفال الذين سيدرسون بها، وبعضها يكتفي بخمسة أو ستة أطفال للقسم الواحد.
صحيح أن الحكومة تجد على المدى القريب في هذا النقص فرصة لتقليص النفقات وتقديم خدمات صحية وتعليمية أفضل، لكن على المدى البعيد قد تجد مجتمعات الجائحة نفسها على خطى الصين التي تغري الناس بالدعم المالي في حال أنجبوا الطفل الثالث بعد أن كانت تمنعه منعا تاما.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
مختار الدبابي
كاتب وصحافي تونسي
المجتمع التونسي يسير مثل غيره من مجتمعات الجائحة نحو الشيخوخة.
التقاليد زادت من شروطها وتعقيداتها
أرقام مفزعة هي تلك التي قدمها المعهد الوطني للإحصاء في تونس عن تراجع عقود الزواج إلى الثلث خلال خمس سنوات وتراجع الولادات إلى الخمس، ما ينبئ بأن السنوات القادمة ستشهد بداية لنقلة نوعية في تركيبة المجتمع التونسي باتجاه الشيخوخة على خطى المجتمعات الغربية وعلى عكس مجتمعات عربية أخرى لا يبدو أن التغييرات الاقتصادية تؤثر عليها في هذه النقطة بالذات.
ولا شك أن المنعطف في تراجع عقود الزواج هو فترة الجائحة، طبعا ليست هي السبب المباشر، ولكنها زادت من اتساع الظاهرة. فالجائحة أحدثت أزمة كبيرة بالنسبة إلى سوق العمالة ودفعت بالكثير من القطاعات إلى تسريح العمال أو مراجعة الرواتب، وفي سوق تونسية هشة بطبعها كانت التكاليف أكثر خاصة بعد إغلاق الكثير من المؤسسات الصغيرة والمشاريع الفردية بسبب العجز عن مجاراة الخسائر.
وفي مقابل توسع دائرة البطالة ومحدودية الدخل، زادت التقاليد من شروطها وتعقيداتها بالنسبة إلى الزواج لتصبح تكاليفه أمرا صعبا لغالبية الشبان الذين يتخرجون من الجامعات ثم ينتظرون سنوات قد تصل إلى العشر ويدخلون سوق شغل هشة وبمقاييس ضعيفة، ما يجعل الأولوية هي الإنفاق على الذات والأسرة مع تغيير جذري في النزعة الاستهلاكية لتتطلب المزيد من الإنفاق وتعمق الشرخ بين الشباب وفكرة الزواج.
وهذه معضلة حقيقية لا ينفع معها تشجيع العائلة، ولا تسهيلات الحكومة، ولا نصائح الدين وحضه على الزواج لكسب نصف الدين. ومن الظاهر الآن أن هذا النصف يمكن وضعه ضمن قائمة المستحيلات مع الغول والعنقاء والخل الودود.
يسير المجتمع التونسي، مثل غيره من مجتمعات الجائحة، نحو الشيخوخة، والتي تعني في ما تعنيه أن البلاد سيأتي عليها وقت تكون فيه عاجزة عن توفير شبان للعمل في مؤسساتها الرسمية، الأمن والجيش، ولن تجد من يشتغل في الأرض وينتج لها القمح خاصة مع موجة الهجرة الكبيرة للشباب التونسي نحو الخارج، وهو ما يعني أنه سيكون ذخيرة للمجتمعات الغربية التي تبحث عن تجديد ذاتها تماما مثل ما حصل مع الأرياف بعد أن هجرها شبابها إلى أحزمة المدن الكبرى.
هناك أرياف لا تجد فيها إلا كبار السن وأعدادا صغيرة من الشبان والأطفال. وبعض المدارس تضطر للإغلاق بسبب غياب الأطفال الذين سيدرسون بها، وبعضها يكتفي بخمسة أو ستة أطفال للقسم الواحد.
صحيح أن الحكومة تجد على المدى القريب في هذا النقص فرصة لتقليص النفقات وتقديم خدمات صحية وتعليمية أفضل، لكن على المدى البعيد قد تجد مجتمعات الجائحة نفسها على خطى الصين التي تغري الناس بالدعم المالي في حال أنجبوا الطفل الثالث بعد أن كانت تمنعه منعا تاما.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
مختار الدبابي
كاتب وصحافي تونسي