وظيفيه
Functionalism - Fonctionnalisme
الوظيفية
تمتد جذور فكرة الوظيفة function إلى زمن بعيد، فهي قديمة قدم الفكر الاجتماعي، فعند كونفوشيوس[ر] وظيفة الدين والطقوس الدينية هي تأكيد أهمية العلاقات الاجتماعية وتنظيمها وتحديد طريقة المعاملات بين سائر البشر، وعند اليونان عبر عنها أفلاطون[ر] من خلال مماثلات قام بها بين قوى النفس العاقلة والغاضبة والشهوية، وبين طبقات المجتمع؛ إذ حدد لكل طبقة منها وظيفة على غرار وظائف قوى النفس المذكورة: فطبقة الحكام تحكم، وطبقة الجند تحارب، وطبقة العمال تعمل.
ولم يأخذ مصطلح وظيفة مضامينه ومواصفاته التي عرفها إلا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر خاصة بعد التطور الذي أحرزه علم الأحياء على يد دارون[ر]Darwin .
وقد تطور مصطلح الوظيفة ومفهومه في الفلسفة وعلم الاجتماع من خلال النظرة للمجتمع؛ إذ نُظر إلى المجتمع على أنه نسق system طبيعي بوصفه كائناً عضوياً طبيعياً، ونظر إلى علم الاجتماع على أنه علم وظيفي بشكل ما، جوهره التحليل الوظيفي وربط الجزء بالكل، وقد توفر عند جميع علماء الاجتماع باختلاف نوازعهم من مونتي إلى مونتسكيو وصولاً إلى علماء الأنثروبولوجيا دراسة المجتمع وتحليله. فقد طور مونتسكيو[ر] فكرة النسق، وحدد لها معنى علمياً في كتابه «روح الشرائع»؛ حيث وضع ما يسمى في علم الاجتماع بـ«نظرية النسق الاجتماعي الكلي» بناءً على ارتباط أجزاء المجتمع ارتباطاً وظيفياً، وقد ميّز مونتسكيو بين «طبيعة المجتمع»؛ أي بنائه الاجتماعي وبين «مبدأ المجتمع» الذي يمثل مجموعة القيم التي تتفاعل وتتوظف في البناء الاجتماعي.
وتشكل فكرة «النسق الاجتماعي الكلي» القاعدة الأساسية في بحوث التوازن الاجتماعي عند أوغست كونت [ر] Auguste Comte؛ حيث يرى أن الوقائع الاجتماعية تنقسم إلى مجموعات (سياسية، اقتصادية، دينية، خلقية وتشريعية) تقوم فيما بينها علاقات وظيفية معينة، وأي تغيّر يصيب إحدى هذه المجموعات يؤدي إلى تغيّر مناسب في المجموعات الأخرى؛ بمعنى آخر هناك نوع من التساند والتناظر والاعتماد المتبادل بين مجموعات الوقائع الاجتماعية والنظم الاجتماعية.
وقد تمّت صياغة فرضيات الوظيفية الأولى في خضم الهيمنة التطورية حيث أثرت إسهامات دارون تأثيراً عميقاً في التصورات الوظيفية لعالم الاجتماع الإنكليزي هربرت سبنسر[ر] Herbert Spencer ت(1820ـ1903) الذي شبه المجتمع بالكائن العضوي من حيث البناء والوظيفة. فللمجتمع غطاء جلدي يحميه من المؤثرات الخارجية هو الجيش، ونظام للأوعية الدموية هي طرق المواصلات ووسائل الاتصال، أما النسغ الغذائية في الكائن الحي فتقابلها دورة البضائع في المجتمع، ويمثل الرأسماليون الجهاز العصبي الذي ينظم ويدير عملية الإنتاج. وفي كتابه «مبادئ علم الاجتماع» أكد سبنسر فكرة الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها أجزاء الكائن الاجتماعي التي تترابط مع بعضها بعضاً، وتُكوِّن ما يسمى بالتعايش الاجتماعي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن اصطلاح «وظيفة» و«وظيفي» يتضمنان في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا معاني مختلفة ومتباعدة، فقد يُستخدم اصطلاح الوظيفة في بعض الأحيان بمعنى رياضي ليشير إلى أن مقدار أهمية متغير ما تحدد بدورها مقدار أهمية متغير آخر، وقد يستخدم مصطلح وظيفة كما في البيولوجيا فيعني نشاط عضو أو جملة أعضاء للمحافظة على الكائن الحي، وقد يُستخدم هذا المصطلح ليشير إلى الإسهامات التي تقدمها الجماعة إلى أعضائها، أو التي يقدمها المجتمع الكبير للجماعات الصغيرة التي يضمها.
وفي بعض الأحيان يستخدم الوظيفيون مصطلح التحليل الوظيفي functional analysis للإشارة إلى دراسة الظواهر الاجتماعية على أساس أنها: عمليات أو آثار لبناءات اجتماعية معينة مثل أنساق القرابة وغيرها. والتحليل الوظيفي من وجهة نظر مالينوفسكي Malinovsky ت(1884ـ1942) يهتم بمعرفة الدور الذي تؤديه الوقائع الجزئية داخل النسق العام، والكيفية التي ترتبط بها هذه الأجزاء مع بعضها بعضاً داخل هذا النسق، وأخيراً معرفة الكيفية التي يرتبط بها النسق العام بما يحيط به من العالم المادي.
لقد أثرت أعمال مالينوفسكي في كل من رادكليف براون Radcliffe Brown ت(1881ـ1955) وتالكوت بارسونز Talcott Parsons اللذين أدخلا مفهوم البنية على مفهوم الوظيفة، وعرفا بأصحاب الاتجاه البنائي ـ الوظيفي. وقد كان لهذه الأعمال وغيرها تأثيرها في علم الاجتماع الأمريكي، وبخاصة بين تلاميذ بارسونز وأتباعه، وأدى ذلك إلى ما يعرف اليوم باسم المدرسة الوظيفية functional school في علم الاجتماع.
ويستخدم أنصار الاتجاه البنائي ـ الوظيفي مصطلح «التحليل البنائي ـ الوظيفي» structural functional analysis الذي يهتم بدراسة علاقات الارتباط بين المؤسسات الاجتماعية والنشاط الذي تؤديه تلك المؤسسات في البناء الاجتماعي.
كما يستخدم الوظيفيون مفهوم التوازن Equilibrium الذي يعد أحد المفاهيم المحورية في المدرسة الوظيفية، فمعظم الوظيفيين يكتفون بالإشارة إلى أن بقاء النسق واستمراره دليل على توازنه، وأن توازنه دليل على حفاظ النسق على بقائه واستمراره.
وأهم أعلام المدرسة الوظيفية البارزين في علم الاجتماع: إميل دوركهايم [ر] Émile Durkheim ت(1858ـ1917) الذي يعد الأب الشرعي للوظيفية في علم الاجتماع، فقد أكد دراسة النظم الاجتماعية (الاقتصادية، الدينية، القانونية) بوصفها جزءاً من النسق الاجتماعي الذي يتم المحافظة عليه من خلال أدائها لوظائفها.
فهو يستخدم مصطلح «الوظيفية» بمعنيين مختلفين: الأول يشير إلى وجود نسق من الحركات الحيوية الضرورية لحياة الكائن العضوي، أما الثاني فيعبر عن العلاقة التي تربط بين تلك الحركات الحيوية وبين حاجات الكائن العضوي، فيتكلم مثلاً عن «وظيفة الهضم» و«وظيفة التنفس». وقد تمكن دوركهايم من تقديم أول صياغة متسقة حول منطق الاتجاه البنائي ـ الوظيفي في علم الاجتماع وذلك بتمييزه بين كل من التفسير العلّي أو السببي، وبين التفسير الوظيفي لظاهرات المجتمع، مؤكداً الحاجة العلمية إلى كليهما، فأوضح أن وظيفة ظاهرة تقسيم العمل تتمثل في أنه أساس للتضامن العضوي للمجتمعات المتقدمة المعقدة، وأن أسبابه وشروطه تتلخص في زيادة الكثافة السكانية، التي تزيد بدورها من التباين الفردي الناجم عن عدم تكامل الشعور الجمعي المشترك.
ويُعدّ عالم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسونز علماً من أعلام المدرسة الوظيفية في علم الاجتماع، فقد أسهمت أعماله في إغناء الاتجاه البنائي ـ الوظيفي وتطويره في هذا العلم.
فهو يماثل بين النسق الاجتماعي والكائن العضوي، ولا يكتفي باستخدام هذه المماثلة على أنها تشبيه مبسط، بل يذهب إلى أن الحياة الاجتماعية هي كائن حي من نوع خاص، والفكرة القائلة إن الحياة الاجتماعية هي نظام اجتماعي ـ أي نظام من أجزاء مختلفة ـ تفسِّر الجزء «البنائي» من تعبير «البنائي ـ الوظيفي» الذي يتكرر في أعمال بارسونز. أما المماثلة مع الكائن العضوي فهي تفسّر الجانب «الوظيفي» منه. فالجسم الإنساني بصفته نظاماً يمكن النظر إليه على أنه يتكون من عدد من الأجهزة المترابطة (كالجهاز الهضمي) الذي يتكون من عدّة أجزاء تعمل من أجل تلبية حاجات جسمية محددة.
ويرى بارسونز أن أيَّ نسق، وعلى أي مستوى يجب أن يفي بأربعة متطلبات إذا كان يريد البقاء والاستمرار. وتنحصر هذه المتطلبات الأربعة أو المستلزمات الوظيفية functional prerequisites في:
ـ التكيُّف: لابد أن يتكيّف كل نسق مع بيئته.
ـ تحقيق الأهداف: لابد لكل نسق من أدوات يحرك بها مصادره لكي يحقق أهدافه، وبالتالي يصل إلى درجة الإشباع.
ـ التكامل: يجب أن يحافظ كل نسق على التواؤم والانسجام بين مكوناته، ووضع طرق لدرء الانحراف والتعامل معه؛ أي لا بد من المحافظة على وحدته وتماسكه.
ـ المحافظة على النمط: لابد أن يحافظ كل نسق ـ بقدر الإمكان ـ على حالة التوازن فيه.
أما عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون Robert Merton فقد أدخل عدداً من المفاهيم الأساسية إلى الاتجاه البنائي الوظيفي، كمفهوم البدائل الوظيفية functional alternatives الذي يركز اهتمامه على مدى التنوع الممكن في الوسائل التي تستطيع أن تحقق مطلباً وظيفياً، ومفهوم الوظائف الظاهرة manifest الذي يشير إلى النتائج الموضوعية التي تحدثها سمة اجتماعية أو ثقافة معينة, تلك النتائج التي تفرض على الأفراد تبنيها والتكيف معها، فهي التي يتوقع الأفراد حدوثها، وهي التي تهدف التنظيمات الاجتماعية إلى تحقيقها، كأن تكون الجامعة مخصصة للدراسة والبحث العلمي وتزويد المجتمع بالأطر المؤهلة اللازمة لسوق العمل، ومفهوم الوظائف الكامنة latent الذي يشير إلى النتائج غير المقصودة وغير المقررة، وهي التي لا تضع التنظيمات الاجتماعية في حسبانها تحقيقها أو العمل لأجلها، كأن تمارس الجامعة وظائف سياسية، أو تمثل مجالات اجتماعية للتسلية والترفيه ومضيعة الوقت.
ويستخدم ميرتون في دراسته لانعكاسات العناصر الاجتماعية السلبية مصطلح «الاختلال الوظيفي» حيث يرى: أن البنى والتنظيمات الاجتماعية مثلما تسهم في الحفاظ على الأجزاء الأخرى للنسق الاجتماعي للمجتمع، يمكن أن تكون لها انعكاسات سلبية أيضاً.
وكان لميرتون تأثير بالغ في علم الاجتماع وتبنَّى أفكاره وتعديلاته للصيغ القديمة للنظرية الوظيفية علماء الاجتماع الذين سُمّوا فيما بعد بـ«الوظيفيين الجدد».
ماجد ملحم أبو حمدان
Functionalism - Fonctionnalisme
الوظيفية
تمتد جذور فكرة الوظيفة function إلى زمن بعيد، فهي قديمة قدم الفكر الاجتماعي، فعند كونفوشيوس[ر] وظيفة الدين والطقوس الدينية هي تأكيد أهمية العلاقات الاجتماعية وتنظيمها وتحديد طريقة المعاملات بين سائر البشر، وعند اليونان عبر عنها أفلاطون[ر] من خلال مماثلات قام بها بين قوى النفس العاقلة والغاضبة والشهوية، وبين طبقات المجتمع؛ إذ حدد لكل طبقة منها وظيفة على غرار وظائف قوى النفس المذكورة: فطبقة الحكام تحكم، وطبقة الجند تحارب، وطبقة العمال تعمل.
ولم يأخذ مصطلح وظيفة مضامينه ومواصفاته التي عرفها إلا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر خاصة بعد التطور الذي أحرزه علم الأحياء على يد دارون[ر]Darwin .
وقد تطور مصطلح الوظيفة ومفهومه في الفلسفة وعلم الاجتماع من خلال النظرة للمجتمع؛ إذ نُظر إلى المجتمع على أنه نسق system طبيعي بوصفه كائناً عضوياً طبيعياً، ونظر إلى علم الاجتماع على أنه علم وظيفي بشكل ما، جوهره التحليل الوظيفي وربط الجزء بالكل، وقد توفر عند جميع علماء الاجتماع باختلاف نوازعهم من مونتي إلى مونتسكيو وصولاً إلى علماء الأنثروبولوجيا دراسة المجتمع وتحليله. فقد طور مونتسكيو[ر] فكرة النسق، وحدد لها معنى علمياً في كتابه «روح الشرائع»؛ حيث وضع ما يسمى في علم الاجتماع بـ«نظرية النسق الاجتماعي الكلي» بناءً على ارتباط أجزاء المجتمع ارتباطاً وظيفياً، وقد ميّز مونتسكيو بين «طبيعة المجتمع»؛ أي بنائه الاجتماعي وبين «مبدأ المجتمع» الذي يمثل مجموعة القيم التي تتفاعل وتتوظف في البناء الاجتماعي.
وتشكل فكرة «النسق الاجتماعي الكلي» القاعدة الأساسية في بحوث التوازن الاجتماعي عند أوغست كونت [ر] Auguste Comte؛ حيث يرى أن الوقائع الاجتماعية تنقسم إلى مجموعات (سياسية، اقتصادية، دينية، خلقية وتشريعية) تقوم فيما بينها علاقات وظيفية معينة، وأي تغيّر يصيب إحدى هذه المجموعات يؤدي إلى تغيّر مناسب في المجموعات الأخرى؛ بمعنى آخر هناك نوع من التساند والتناظر والاعتماد المتبادل بين مجموعات الوقائع الاجتماعية والنظم الاجتماعية.
وقد تمّت صياغة فرضيات الوظيفية الأولى في خضم الهيمنة التطورية حيث أثرت إسهامات دارون تأثيراً عميقاً في التصورات الوظيفية لعالم الاجتماع الإنكليزي هربرت سبنسر[ر] Herbert Spencer ت(1820ـ1903) الذي شبه المجتمع بالكائن العضوي من حيث البناء والوظيفة. فللمجتمع غطاء جلدي يحميه من المؤثرات الخارجية هو الجيش، ونظام للأوعية الدموية هي طرق المواصلات ووسائل الاتصال، أما النسغ الغذائية في الكائن الحي فتقابلها دورة البضائع في المجتمع، ويمثل الرأسماليون الجهاز العصبي الذي ينظم ويدير عملية الإنتاج. وفي كتابه «مبادئ علم الاجتماع» أكد سبنسر فكرة الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها أجزاء الكائن الاجتماعي التي تترابط مع بعضها بعضاً، وتُكوِّن ما يسمى بالتعايش الاجتماعي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن اصطلاح «وظيفة» و«وظيفي» يتضمنان في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا معاني مختلفة ومتباعدة، فقد يُستخدم اصطلاح الوظيفة في بعض الأحيان بمعنى رياضي ليشير إلى أن مقدار أهمية متغير ما تحدد بدورها مقدار أهمية متغير آخر، وقد يستخدم مصطلح وظيفة كما في البيولوجيا فيعني نشاط عضو أو جملة أعضاء للمحافظة على الكائن الحي، وقد يُستخدم هذا المصطلح ليشير إلى الإسهامات التي تقدمها الجماعة إلى أعضائها، أو التي يقدمها المجتمع الكبير للجماعات الصغيرة التي يضمها.
وفي بعض الأحيان يستخدم الوظيفيون مصطلح التحليل الوظيفي functional analysis للإشارة إلى دراسة الظواهر الاجتماعية على أساس أنها: عمليات أو آثار لبناءات اجتماعية معينة مثل أنساق القرابة وغيرها. والتحليل الوظيفي من وجهة نظر مالينوفسكي Malinovsky ت(1884ـ1942) يهتم بمعرفة الدور الذي تؤديه الوقائع الجزئية داخل النسق العام، والكيفية التي ترتبط بها هذه الأجزاء مع بعضها بعضاً داخل هذا النسق، وأخيراً معرفة الكيفية التي يرتبط بها النسق العام بما يحيط به من العالم المادي.
لقد أثرت أعمال مالينوفسكي في كل من رادكليف براون Radcliffe Brown ت(1881ـ1955) وتالكوت بارسونز Talcott Parsons اللذين أدخلا مفهوم البنية على مفهوم الوظيفة، وعرفا بأصحاب الاتجاه البنائي ـ الوظيفي. وقد كان لهذه الأعمال وغيرها تأثيرها في علم الاجتماع الأمريكي، وبخاصة بين تلاميذ بارسونز وأتباعه، وأدى ذلك إلى ما يعرف اليوم باسم المدرسة الوظيفية functional school في علم الاجتماع.
ويستخدم أنصار الاتجاه البنائي ـ الوظيفي مصطلح «التحليل البنائي ـ الوظيفي» structural functional analysis الذي يهتم بدراسة علاقات الارتباط بين المؤسسات الاجتماعية والنشاط الذي تؤديه تلك المؤسسات في البناء الاجتماعي.
كما يستخدم الوظيفيون مفهوم التوازن Equilibrium الذي يعد أحد المفاهيم المحورية في المدرسة الوظيفية، فمعظم الوظيفيين يكتفون بالإشارة إلى أن بقاء النسق واستمراره دليل على توازنه، وأن توازنه دليل على حفاظ النسق على بقائه واستمراره.
وأهم أعلام المدرسة الوظيفية البارزين في علم الاجتماع: إميل دوركهايم [ر] Émile Durkheim ت(1858ـ1917) الذي يعد الأب الشرعي للوظيفية في علم الاجتماع، فقد أكد دراسة النظم الاجتماعية (الاقتصادية، الدينية، القانونية) بوصفها جزءاً من النسق الاجتماعي الذي يتم المحافظة عليه من خلال أدائها لوظائفها.
فهو يستخدم مصطلح «الوظيفية» بمعنيين مختلفين: الأول يشير إلى وجود نسق من الحركات الحيوية الضرورية لحياة الكائن العضوي، أما الثاني فيعبر عن العلاقة التي تربط بين تلك الحركات الحيوية وبين حاجات الكائن العضوي، فيتكلم مثلاً عن «وظيفة الهضم» و«وظيفة التنفس». وقد تمكن دوركهايم من تقديم أول صياغة متسقة حول منطق الاتجاه البنائي ـ الوظيفي في علم الاجتماع وذلك بتمييزه بين كل من التفسير العلّي أو السببي، وبين التفسير الوظيفي لظاهرات المجتمع، مؤكداً الحاجة العلمية إلى كليهما، فأوضح أن وظيفة ظاهرة تقسيم العمل تتمثل في أنه أساس للتضامن العضوي للمجتمعات المتقدمة المعقدة، وأن أسبابه وشروطه تتلخص في زيادة الكثافة السكانية، التي تزيد بدورها من التباين الفردي الناجم عن عدم تكامل الشعور الجمعي المشترك.
ويُعدّ عالم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسونز علماً من أعلام المدرسة الوظيفية في علم الاجتماع، فقد أسهمت أعماله في إغناء الاتجاه البنائي ـ الوظيفي وتطويره في هذا العلم.
فهو يماثل بين النسق الاجتماعي والكائن العضوي، ولا يكتفي باستخدام هذه المماثلة على أنها تشبيه مبسط، بل يذهب إلى أن الحياة الاجتماعية هي كائن حي من نوع خاص، والفكرة القائلة إن الحياة الاجتماعية هي نظام اجتماعي ـ أي نظام من أجزاء مختلفة ـ تفسِّر الجزء «البنائي» من تعبير «البنائي ـ الوظيفي» الذي يتكرر في أعمال بارسونز. أما المماثلة مع الكائن العضوي فهي تفسّر الجانب «الوظيفي» منه. فالجسم الإنساني بصفته نظاماً يمكن النظر إليه على أنه يتكون من عدد من الأجهزة المترابطة (كالجهاز الهضمي) الذي يتكون من عدّة أجزاء تعمل من أجل تلبية حاجات جسمية محددة.
ويرى بارسونز أن أيَّ نسق، وعلى أي مستوى يجب أن يفي بأربعة متطلبات إذا كان يريد البقاء والاستمرار. وتنحصر هذه المتطلبات الأربعة أو المستلزمات الوظيفية functional prerequisites في:
ـ التكيُّف: لابد أن يتكيّف كل نسق مع بيئته.
ـ تحقيق الأهداف: لابد لكل نسق من أدوات يحرك بها مصادره لكي يحقق أهدافه، وبالتالي يصل إلى درجة الإشباع.
ـ التكامل: يجب أن يحافظ كل نسق على التواؤم والانسجام بين مكوناته، ووضع طرق لدرء الانحراف والتعامل معه؛ أي لا بد من المحافظة على وحدته وتماسكه.
ـ المحافظة على النمط: لابد أن يحافظ كل نسق ـ بقدر الإمكان ـ على حالة التوازن فيه.
أما عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون Robert Merton فقد أدخل عدداً من المفاهيم الأساسية إلى الاتجاه البنائي الوظيفي، كمفهوم البدائل الوظيفية functional alternatives الذي يركز اهتمامه على مدى التنوع الممكن في الوسائل التي تستطيع أن تحقق مطلباً وظيفياً، ومفهوم الوظائف الظاهرة manifest الذي يشير إلى النتائج الموضوعية التي تحدثها سمة اجتماعية أو ثقافة معينة, تلك النتائج التي تفرض على الأفراد تبنيها والتكيف معها، فهي التي يتوقع الأفراد حدوثها، وهي التي تهدف التنظيمات الاجتماعية إلى تحقيقها، كأن تكون الجامعة مخصصة للدراسة والبحث العلمي وتزويد المجتمع بالأطر المؤهلة اللازمة لسوق العمل، ومفهوم الوظائف الكامنة latent الذي يشير إلى النتائج غير المقصودة وغير المقررة، وهي التي لا تضع التنظيمات الاجتماعية في حسبانها تحقيقها أو العمل لأجلها، كأن تمارس الجامعة وظائف سياسية، أو تمثل مجالات اجتماعية للتسلية والترفيه ومضيعة الوقت.
ويستخدم ميرتون في دراسته لانعكاسات العناصر الاجتماعية السلبية مصطلح «الاختلال الوظيفي» حيث يرى: أن البنى والتنظيمات الاجتماعية مثلما تسهم في الحفاظ على الأجزاء الأخرى للنسق الاجتماعي للمجتمع، يمكن أن تكون لها انعكاسات سلبية أيضاً.
وكان لميرتون تأثير بالغ في علم الاجتماع وتبنَّى أفكاره وتعديلاته للصيغ القديمة للنظرية الوظيفية علماء الاجتماع الذين سُمّوا فيما بعد بـ«الوظيفيين الجدد».
ماجد ملحم أبو حمدان