«حديث النساء» .. يحتاج معجزة للحصول على «أوسكار أفضل فيلم»
في مارس 9, 2023
لوس أنجلوس ـ «سينماتوغراف»
الأيديولوجيا أو الفكر الذي تحمله الأعمال الفنية قد يغلب في بعض الأحيان على العمل نفسه، فيتحول من إبداع بغرض الإمتاع إلى عريضة سياسية، وقد يتفق المشاهد أو يختلف مع أفكارها، ولكن في النهاية ما يهم هنا هو الوعاء، أي العمل السينمائي أو الأدبي أو التلفزيوني.
من بين الأفلام العشرة المرشحة لأوسكار أفضل فيلم هذا العام يأتي فيلم “حديث النساء” (Women Talking) مرشحاً للجائزة الكبرى، بالإضافة إلى جائزة أفضل سيناريو.
الفيلم مقتبس من رواية للكاتبة الكندية ميريام تويز، نشرت عام 2018 بالاسم ذاته، وهي مأخوذة بدورها من أحداث حقيقية؛ مما أعطى الفيلم ثقلًا، وعدّه كل من المجلس الوطني للمراجعة ومعهد الأفلام الأميركية من أهم أفلام 2022، وتضم قائمة جوائزه 52 فوزاً و154 ترشيحاً.
تدور أحداث فيلم “حديث النساء” – الذي تلعب بطولته النجمات روني مارا وكلير فوي وجيسي باكلي وفرانسيس ماكدورماند، من بين آخرين- في إحدى المجتمعات الأميركية المنغلقة على ذاتها في الريف، وتتكون من مجتمع قرر أفراده أن يتخلوا عن الحضارة الحديثة، ويعيشوا في ظل ظروف صعبة، كما لو أنهم في القرن 18؛ فلا يستخدمون الكهرباء أو الهواتف المحمولة، وتحكمهم مجموعة من العادات والتعاليم شديدة الصرامة.
تتعرض نساء هذه الجماعة لمجموعة من الاعتداءات خلال نومهن، ولا يتم الكشف عن المتسببين فيها، ويتم إيهام الضحايا بأن ما يحدث لهن عبارة عن مسّ من الشيطان، أو وهم بسبب الهستيريا، حتى تقبض إحدى المراهقات على معتد، ليتم الكشف عن شبكة من الرجال الذين يخدرون النساء لتسهيل هذه الاعتداءات.
توضع نساء المجتمع بعد كشف من ارتكب الجرائم أمام أحد خيارين: إما أن يسامحن المجرمين، أو يغادرن المجتمع، مع الوضع في الاعتبار أنهن حرمن حتى من التعليم الأساسي مثل القراءة والكتابة، ولا يمتلكن مهارات تؤهلهن للاندماج مع المجتمع في الخارج، وعليهن اتخاذ هذا القرار خلال أقل من 48 ساعة.
يمثل الفيلم بشكل عام مساحة جديدة للمناقشة في العالم بعد حركة “أنا أيضاً” (#Metoo)؛ فحال نساء المجتمع المغلق على ذاته في الفيلم يذكرنا بعالم هوليود، الذي عانت فيه الممثلات والسيدات بشكل عام من اعتداءات وتحرش جنسي ولم يكن أمامهن سوى الخيارين نفسيهما: إما البقاء مع الغفران والصمت، أو المغادرة مرة واحدة وللأبد.
الفيلم يذكر المشاهد بعالم الكاتبة مارغريت أتوود في روايتها “حكاية جارية” (The Handmaid’s Tale) التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني شهير بالاسم ذاته، حيث تقدم مجتمعا مماثلا حالك السواد يسوده العنف والظلم، ولأول مرة تعطى النساء صوتًا للتعبير عما يفكرن فيه، ويظهر كيف يختلط في حديثهن الغضب والخوف مع المحبة.
قررت السيدات إجراء تصويت على 3 خيارات: البقاء والقتال، أو الفرار من المجتمع، أو البقاء والغفران، ومن خلال الحوار نجد أن النسوة المخولات بالتصويت يمثلن شريحة من المجتمع، كل شخصية منهن هي مرآة لأخريات؛ فسالومي (كلير فوي) الغاضبة التي ترغب في البقاء والقتال لآخر لحظة، وماريش (جيسي باكلي) التي تعاني من العنف المنزلي، مما يجعلها حادة، ولكنها الأقرب للغفران هلعًا من العالم الغريب بالخارج، وأونا (روني مارا) المسالمة الرقيقة الحالمة، التي تمثل فيلسوفة الجماعة، فتنتقل من الرأي للرأي الآخر موضحة عيوب ومزايا كل منها.
في أحد المشاهد، تطلب أونا من الشاب “أوغست” الرقيق -بشكل لا يجعله يندمج مع رجال الجماعة- كتابة ما يقال في الجلسة النقاشية قبل اتخاذ القرار، هذا التسجيل الرسمي هو ما يمكن أن يعد الفيلم في الأساس؛ فالسيناريو الخاص به تناول قضية نسائية تلو الأخرى، ويفجر عبر حديث عابر موضوعا كبيرا، ثم تبدأ كل امرأة الإدلاء برأيها، ويعدن إلى نقطة القرار الصعب، ثم ينتهي المشهد ويفتتح غيره بالأسلوب ذاته.
فيلم “حديث النساء” أقرب للمسرحية منه إلى الفيلم السينمائي، وذلك لاعتماده بشكل أساسي على الحوار، بينما أحداثه تدور في أماكن محدودة للغاية، وهذا الأمر لا يعيبه، فكثيرة هي الأفلام التي التزمت بقواعد مسرحية للغاية ولكنها خرجت مميزة ولا زال يذكرها الجمهور وفازت بأهم الجوائز، مثل “قطة على سقف من صفيح ساخن” (Cat on a Hot Tin Roof)، و”من يخاف فرجينيا وولف؟” (Who’s Afraid of Virginia Woolf?).
ما يميز هذين الفيلمين وغيرهما هو قدرة الحوار على خلق الإثارة ومفاجأة الجمهور من مشهد لآخر، حيث تصبح الأحاديث في هذه الأفلام بديلًا عن حركة الكاميرا والإضاءة وجماليات الصورة بشكل عام، ولكن ذلك لم يحضر في فيلم “حديث النساء” فكل جملة متوقعة من قبل، لم تفاجئ الشخصيات بعضها، ولم تبهر المشاهد بالكشف عن جزء جديد في النفس البشرية.
ولكن، ورغم أن الحوار هو مزية هذا النوع من الأفلام، فإن الصورة والألوان كانا أفضل ما في “حديث النساء”. والفيلم من تصوير لوك مونبلييه، وإخراج سارة بولي، واختارا درجات الألوان البنية والبيج سواء للصورة بشكل عام، أو ملابس النساء بشكل خاص.
خصوصية الألوان جعلت الفيلم يشبه الصور العتيقة، وأخفت ماهية الزمن؛ فالمشاهد لا يعرف على وجه اليقين متى وقعت هذه الأحداث، خاصة مع غياب التكنولوجيا بسبب الوضع الخاص للجماعة، وفي الوقت ذاته أضفت الرومانسية على أماكن التصوير، فجعلت الريف الذي تعيش فيه هؤلاء النساء يبدو أحيانًا كحلم، والخروج منه كالخروج من الجنة، ولكنه حلم أقرب للكوابيس.
يختلف فيلم “حديث النساء” عن الأفلام التسعة الأخرى المرشحة لأوسكار أفضل فيلم بجديته الشديدة، وتناوله قضايا شديدة الحساسية، ربما هو الأقرب للأجندات الحالية بهوليود، ولكن ذلك لن يقربه من الجائزة الكبرى إلا في حالة حدوث معجزة.
في مارس 9, 2023
لوس أنجلوس ـ «سينماتوغراف»
الأيديولوجيا أو الفكر الذي تحمله الأعمال الفنية قد يغلب في بعض الأحيان على العمل نفسه، فيتحول من إبداع بغرض الإمتاع إلى عريضة سياسية، وقد يتفق المشاهد أو يختلف مع أفكارها، ولكن في النهاية ما يهم هنا هو الوعاء، أي العمل السينمائي أو الأدبي أو التلفزيوني.
من بين الأفلام العشرة المرشحة لأوسكار أفضل فيلم هذا العام يأتي فيلم “حديث النساء” (Women Talking) مرشحاً للجائزة الكبرى، بالإضافة إلى جائزة أفضل سيناريو.
الفيلم مقتبس من رواية للكاتبة الكندية ميريام تويز، نشرت عام 2018 بالاسم ذاته، وهي مأخوذة بدورها من أحداث حقيقية؛ مما أعطى الفيلم ثقلًا، وعدّه كل من المجلس الوطني للمراجعة ومعهد الأفلام الأميركية من أهم أفلام 2022، وتضم قائمة جوائزه 52 فوزاً و154 ترشيحاً.
تدور أحداث فيلم “حديث النساء” – الذي تلعب بطولته النجمات روني مارا وكلير فوي وجيسي باكلي وفرانسيس ماكدورماند، من بين آخرين- في إحدى المجتمعات الأميركية المنغلقة على ذاتها في الريف، وتتكون من مجتمع قرر أفراده أن يتخلوا عن الحضارة الحديثة، ويعيشوا في ظل ظروف صعبة، كما لو أنهم في القرن 18؛ فلا يستخدمون الكهرباء أو الهواتف المحمولة، وتحكمهم مجموعة من العادات والتعاليم شديدة الصرامة.
تتعرض نساء هذه الجماعة لمجموعة من الاعتداءات خلال نومهن، ولا يتم الكشف عن المتسببين فيها، ويتم إيهام الضحايا بأن ما يحدث لهن عبارة عن مسّ من الشيطان، أو وهم بسبب الهستيريا، حتى تقبض إحدى المراهقات على معتد، ليتم الكشف عن شبكة من الرجال الذين يخدرون النساء لتسهيل هذه الاعتداءات.
توضع نساء المجتمع بعد كشف من ارتكب الجرائم أمام أحد خيارين: إما أن يسامحن المجرمين، أو يغادرن المجتمع، مع الوضع في الاعتبار أنهن حرمن حتى من التعليم الأساسي مثل القراءة والكتابة، ولا يمتلكن مهارات تؤهلهن للاندماج مع المجتمع في الخارج، وعليهن اتخاذ هذا القرار خلال أقل من 48 ساعة.
يمثل الفيلم بشكل عام مساحة جديدة للمناقشة في العالم بعد حركة “أنا أيضاً” (#Metoo)؛ فحال نساء المجتمع المغلق على ذاته في الفيلم يذكرنا بعالم هوليود، الذي عانت فيه الممثلات والسيدات بشكل عام من اعتداءات وتحرش جنسي ولم يكن أمامهن سوى الخيارين نفسيهما: إما البقاء مع الغفران والصمت، أو المغادرة مرة واحدة وللأبد.
الفيلم يذكر المشاهد بعالم الكاتبة مارغريت أتوود في روايتها “حكاية جارية” (The Handmaid’s Tale) التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني شهير بالاسم ذاته، حيث تقدم مجتمعا مماثلا حالك السواد يسوده العنف والظلم، ولأول مرة تعطى النساء صوتًا للتعبير عما يفكرن فيه، ويظهر كيف يختلط في حديثهن الغضب والخوف مع المحبة.
قررت السيدات إجراء تصويت على 3 خيارات: البقاء والقتال، أو الفرار من المجتمع، أو البقاء والغفران، ومن خلال الحوار نجد أن النسوة المخولات بالتصويت يمثلن شريحة من المجتمع، كل شخصية منهن هي مرآة لأخريات؛ فسالومي (كلير فوي) الغاضبة التي ترغب في البقاء والقتال لآخر لحظة، وماريش (جيسي باكلي) التي تعاني من العنف المنزلي، مما يجعلها حادة، ولكنها الأقرب للغفران هلعًا من العالم الغريب بالخارج، وأونا (روني مارا) المسالمة الرقيقة الحالمة، التي تمثل فيلسوفة الجماعة، فتنتقل من الرأي للرأي الآخر موضحة عيوب ومزايا كل منها.
في أحد المشاهد، تطلب أونا من الشاب “أوغست” الرقيق -بشكل لا يجعله يندمج مع رجال الجماعة- كتابة ما يقال في الجلسة النقاشية قبل اتخاذ القرار، هذا التسجيل الرسمي هو ما يمكن أن يعد الفيلم في الأساس؛ فالسيناريو الخاص به تناول قضية نسائية تلو الأخرى، ويفجر عبر حديث عابر موضوعا كبيرا، ثم تبدأ كل امرأة الإدلاء برأيها، ويعدن إلى نقطة القرار الصعب، ثم ينتهي المشهد ويفتتح غيره بالأسلوب ذاته.
فيلم “حديث النساء” أقرب للمسرحية منه إلى الفيلم السينمائي، وذلك لاعتماده بشكل أساسي على الحوار، بينما أحداثه تدور في أماكن محدودة للغاية، وهذا الأمر لا يعيبه، فكثيرة هي الأفلام التي التزمت بقواعد مسرحية للغاية ولكنها خرجت مميزة ولا زال يذكرها الجمهور وفازت بأهم الجوائز، مثل “قطة على سقف من صفيح ساخن” (Cat on a Hot Tin Roof)، و”من يخاف فرجينيا وولف؟” (Who’s Afraid of Virginia Woolf?).
ما يميز هذين الفيلمين وغيرهما هو قدرة الحوار على خلق الإثارة ومفاجأة الجمهور من مشهد لآخر، حيث تصبح الأحاديث في هذه الأفلام بديلًا عن حركة الكاميرا والإضاءة وجماليات الصورة بشكل عام، ولكن ذلك لم يحضر في فيلم “حديث النساء” فكل جملة متوقعة من قبل، لم تفاجئ الشخصيات بعضها، ولم تبهر المشاهد بالكشف عن جزء جديد في النفس البشرية.
ولكن، ورغم أن الحوار هو مزية هذا النوع من الأفلام، فإن الصورة والألوان كانا أفضل ما في “حديث النساء”. والفيلم من تصوير لوك مونبلييه، وإخراج سارة بولي، واختارا درجات الألوان البنية والبيج سواء للصورة بشكل عام، أو ملابس النساء بشكل خاص.
خصوصية الألوان جعلت الفيلم يشبه الصور العتيقة، وأخفت ماهية الزمن؛ فالمشاهد لا يعرف على وجه اليقين متى وقعت هذه الأحداث، خاصة مع غياب التكنولوجيا بسبب الوضع الخاص للجماعة، وفي الوقت ذاته أضفت الرومانسية على أماكن التصوير، فجعلت الريف الذي تعيش فيه هؤلاء النساء يبدو أحيانًا كحلم، والخروج منه كالخروج من الجنة، ولكنه حلم أقرب للكوابيس.
يختلف فيلم “حديث النساء” عن الأفلام التسعة الأخرى المرشحة لأوسكار أفضل فيلم بجديته الشديدة، وتناوله قضايا شديدة الحساسية، ربما هو الأقرب للأجندات الحالية بهوليود، ولكن ذلك لن يقربه من الجائزة الكبرى إلا في حالة حدوث معجزة.