وطاسيون
Wattassids - Wattassides
الوطاسيون
(823 ـ 961هـ/1420ـ 1554م)
ينتمي بنو وطاس إلى مجمع زناتة القبلي، شأنهم في ذلك شأن بني مرين أسلافهم في حكم المغرب. كانوا في الأصل بدواً، امتدت منازلهم في الحوافّ الشمالية للصحراء الكبرى، من جنوب طرابلس الغرب حتى جنوب المغرب الأوسط، ثم تحركوا ببطء غرباً حتى نزلوا في القرن 7هـ/13م شرق المغرب الأقصى وهضاب منطقة الريف، حيث منحهم أقاربهم المرينيون موقع تازوته على مقربة من مليلة.
برز الوطاسيون داعمين أوفياء للمرينيين في مرحلة الانهيار والضعف بعد اغتيال آخر السلاطين الأقوياء أبي عنان 759هـ/1358م، وشغل أفراد منهم مراكز قيادية في الجيش والإدارة، وتدخلوا منفردين أو متعاونين مع القوى الأخرى الخارجية كالحفصيين من تونس أو الغرناطيين في تعيين السلاطين، وجاءت أخيراً الفرصة التي وضعت الحكم الفعلي في المغرب بيدهم، عندما قتل السلطان المريني أبو سعيد عثمان 823هـ/1420م مع سبعة من أبنائه في ثورة في القصر قادها كاتبه عبد العزيز الكناني، وقد نجا من المذبحة عبد الحق الطفل الرضيع ذو السنة الواحدة، فنصبه أبو زكريا يحيى بن عمر ابن زيان الوطاسي حاكم سلا سلطاناً، وجعل نفسه وصياً عليه، فبدأ بذلك الحكم الوطاسي الذي مرّ بمرحلتين؛ الوصاية ثم السلطنة، وبقيت فاس عاصمته.
مكّن أبو زكريا يحيى بن عمر لنفسه ولأسرته شعبياً بانتصار ساحق على جيش برتغالي نزل على طنجة عام 841هـ/1437م، إذ قتل منهم وأسر أعداداً كثيرة، وكان بين الأسرى قائد الجيش وابن الملك الذي عدّه رهينة ريثما يسلمه الملك البرتغالي مدينة سبتة التي كانت أول ما احتله من أرض المغرب 818هـ/1415م، وعدت آنذاك كارثة كبرى له.
أثار هذا النصر موجة حماسة دينية أوصلها أبو زكريا إلى ذروة أعلى بادعاء العثور على جثمان مولاي إدريس ـ مؤسس أول دولة في فاس ـ سليمة لم تمَس، فتقرر إبقاؤها في مكانها وإقامة ضريح عليها. وقتل في غَمرة هذه الأحداث الأمير فرناندو بعد تعذيبه علناً لمضي سنوات طويلة على أسره وإخلاف والده وعده بتسليم سبتة مقابل حياة ابنه.
كانت نهاية أبي زكريا القتل غدراً في سعيه إلى إخماد ثورة قبلية، فتولى الحكم من بعده ابن عمه علي بن يوسف الوطاسي سنة 852هـ/1448م، مدحه مؤرخو الفترة لديانته وحفظه لأمور الملك، لكنه أخفق في مجابهة البرتغاليين عندما احتلوا مدينة القصير الصغير بين سبتة وطنجة 861هـ/1458م، فكان رده أن حاصرها شهرين اضطر بعدهما إلى فكه. أما على الصعيد الداخلي فقد نجح في إخضاع الشاوية في السهل، لكنه قتل بعد ذلك في أثناء إخماد ثورة قبلية أخرى بتامسنا (منطقة الدار البيضاء حالياً) في 863هـ/1459م.
تولى الوصاية بعده يحيى الوطاسي، حفيده وسمي الوصي الأول، فقام بإجراء تغييرات في الشؤون الإدارية والعسكرية أثارت عليه نقمة استغلها السلطان المريني عبد الحق، الذي كان قد بلغ سن الرشد، فقتله بعد سبعين يوماً من وصايته، مع كل أفراد الأسرة في فاس.
نجا من المذبحة كل من محمد الحلو ومحمد الشيخ بن يحيى لوجودهما خارج فاس، وتمكن الأخيرـ بعد تنقل لأمد ـ من السيطرة على أصيلا، حيث جرت الاتصالات بينه وبين الناقمين على عبد الحق المريني في فاس، وكان هذا قد باشر الأمور بنفسه، وسعى بكل السبل إلى جمع المال، فاستخدم اليهوديين هارون وشاويل لإدارته وجبايته، مما أثار عليه نقمة عارمة خصوصاً مع استخدام القسوة المفرطة في الجباية.
قادت المقاومة ثلاثة أطراف: الشاذلية الصوفية والأشراف الحسنيون من بقايا الأدارسة والوطاسيون. تزعم الجميع خطيب جامع القرويين عبد العزيز الورياغلي، واستغلوا خروج عبد الحق من فاس ليثوروا ويبايعوا محمد بن علي بن عمران نقيب الأشراف سلطاناً، ثم قبض على عبد الحق المريني لدى عودته، فقتل في 27 رمضان 869هـ/23 أيار/مايو 1465م. واتخذ محمد بن علي يوسفَ بن منصور ابن زيان الوطاسي مستشاراً له، ثم نزع يوسف الحكم منه بعد خمس سنوات، أي 875هـ/1470م، لكن حاكم أصيلا محمد الشيخ الذي تقوى بفرسان عرب نازع قريبه على الحكم، واحتل فاس بعد حصارها مدة عام.
بهذا استقرت السلطنة بيد الوطاسيين، وتابعت الدولة في ظلها السير على درب الانحدار بتسارع أكبر إذ افتقد الوطاسيون السند الديني والقبلي اللذين اعتمدت على كليهما أو على أحدهما الدول التي سبقتهم في المغرب الأقصى، فدب الانحلال في السلطة المركزية لحساب القبائل البربرية والعربية، حتى إلى جماعات اللاجئين الأندلسيين بعد سقوط غرناطة، كما داهمت المغرب الأوبئة وأخطار التوسع الخارجي خصوصاً من البرتغاليين الذين استهدفوا شواطئ المضيق والواجهة الأطلسية متمتعين بتفوق من الأسلحة النارية وخصوصاً المدفعية، وأدى الاخفاق في صدهم إلى التفاف الناس حول القوى الدينية: من أشراف حسنيين وجماعات صوفية، حاول الوطاسيون استيعابها فطغت عليهم، وضمن هذا الإطار تتابع السلاطين الوطاسيون.
محمد بن يحيى الملقب بالشيخ: استهل حكمه بسقوط قاعدته أصيلا بيد البرتغاليين في أثناء انشغاله بالسيطرة على فاس سنة 876هـ/1471م، وقد أسروا من وجدوه من سكانها بمن فيهم ابن الشيخ وسميه محمد مع أخته، وكان له من العمر سبع سنوات، تبع ذلك خوف سكان طنجة القريبة وهربهم منها ليحتلها بعد ذلك ملك البرتغال بسهولة، علماً أن إنقاذها في السابق ـ من قبل الوصي الوطاسي ـ كان من أسس مجد الأسرة، واتبع البرتغاليون في الجنوب سياسة مختلفة إذ اكتفوا هناك ببسط الحماية على آسفي عام 886هـ/1481م، وعلى أزمور 891هـ/1486م، كما بنوا إلى الجنوب منها حصناً، تطور فيما بعد إلى مدينة مازاغان، وفعلوا الشيء ذاته في أقصى الجنوب قريباً من مصب وادي سوس، ليتطور الحصن هناك إلى مدينة أغادير. أما النجاح اليتيم الذي أحرزه في وجه البرتغاليين فكان في الجزيرة الواقعة عند مصب وادي لقس، فعندما توغل الأسطول البرتغالي في النهر، قام رجال محمد بن يحيى بسد المصب بأشجار ضخمة، فتعذر إمداد الأسطول أو رجوعه، فجرت مفاوضات قبل فيها البرتغاليون بدفع غرامة وإطلاق سراح بنات الملك الأسيرات مقابل السماح بانسحابهم بسلام.
يبدو أن الإسبان تشجعوا بالوضع القائم، فغزوا في شرق المضيق مدينة مليلة، ولم يستطع محمد الشيخ إمدادها بما يكفي من الجند لانشغاله بإخضاع متمردين في منطقة تامستة، فهرب السكان، وأحرق القائد المدينة، فدخلها الإسبان 896هـ/1490م.
أما في الداخل فقد سرى الانحلال في أوصال السلطة المركزية وخصوصاً في الأطراف شمالاًَ وجنوباً. قام في الشمال ـ بمدينة شيشاون الجبلية ـ الإدريسي سيدي بوشيد بالاستقلال عن فاس معتمداً على قبائل انضوت تحت لوائه للجهاد ضد البرتغاليين، ونزلت جماعة أندلسية من غرناطة بعد سقوطها 897هـ/1492م في خرائب تطوان، فأعادت بناءها، واتخذتها قاعدة لشن هجماتها على الإسبان والبرتغاليين على طول المضيق، وفي أقصى الجنوب تحرك الناصر بن شنتوف الهنتاتي ـ شيخ هنتاته الساكنة في ذرى الأطلس الأعلى ـ نحو السهل، واحتل مراكش ومنطقتها، وقد رفض الاعتراف بغير السيادة الاسمية للوطاسيين.
تولى الحكم سنة 910ـ931هـ/1504ـ1524م محمد بن محمد بن يحيى الوطاسي (البرتغالي)، لقب بالبرتغالي لقضائه سبع سنوات في أسرهم قبل افتداء أبيه له بمبلغ ضخم من المال. فكان شديد العداء للبرتغاليين على الرغم من تعلمه لغتهم، وقد أبدى شيئاً من المهارة في الترتيب لمواجهتهم، كاهتمامه بالمدفعية سلاحاً للمواجهة. بدأ بتحصين العرائش وإعمارها 911هـ/1505م بعدما هجرها أهلها عند سقوط أصيلا، انطلق منها بعد سنتين لمهاجمة أصيلا، فاستطاع دخولها وتحرير العبيد المسلمين فيها، لكنه اضطر إلى الانسحاب تحت وطأة قصف الأسطول البرتغالي لإنقاذ بني جلدتهم اللائذين بحصنها، ثم كرر العملية عدة مرات دون نجاح وبخسائر لا تقل عن 500 قتيل كل مرّة، أتبع البرتغاليون هذا النجاح بتحويل بعض المحميات في الجنوب إلى مستعمرات يحكمونها مباشرة، وأمنوا احتلالها بيسر بعد إثارة انشقاق داخلها والتعاون مع قسم من أهلها، تم لهم ذلك في آسفي نحو 912هـ/1508م، ثم أزمور يوم السبت 2 رجب 919هـ/3 أيلول/سبتمبر 1513م، حاول البرتغاليون بعد ذلك تهديد العاصمة فاس ذاتها بحملة نزلت عند مصب نهر سبو في البحر 14 جمادى الأولى 921هـ/24حزيران/يونيو 1515م. كانت خطتها بناء حصن عند المصب وتوغل القوات سراً في الداخل للوصول إلى مدفعية الوطاسيين على التل وسحبها نحو الحصن، تنبه الحراس عند الفجر للعملية، فأحاطوا بالآلاف الثلاثة المتوغلين وأبادوهم، ثم توجهوا نحو السفن الراسية في مياه ضحلة، فهاجموا من فيها، وقد قدرت خسائر البرتغاليين بـ 4000 رجل.
بدأت في أقصى الجنوب بالظهور حركة مقاومة للبرتغاليين الذين حاولوا التوغل في الداخل، تكونت من قبائل محلية وجماعات مرابطين وصوفية جمعتهم الطريقة الجزولية، التفت حول الشريف محمد القائم بأمر الله السعدي 916ـ923هـ/1511ـ1517م، ولم يلبث هذا الشريف أن انتقل من وادي درعة في الداخل إلى تارودنت القريبة من الساحل، حيث قام بالجهاد مع أتباعه ضد البرتغاليين. نظر الوطاسيون إلى هذه الحركة بوصفها جهاداً ضد العدو تابعة لهم حتى إن بلاطهم في فاس استقبل ولدي الشريف أحمد الأعرج ومحمد الشيخ الذي أدب ابن السلطان، وشارك الاثنان في الجهـاد. لكن الوضع تغير في عهـد السلطان الوطاسي التالي أحمـد بن محمد البرتغالي 931ـ955هـ/1524ـ1549م الذي هيمن عليه عمـه أبو حسون، وكان عهـده فترة مواجهـة للسعديين، الذين انتزعوا مراكش 929هـ/1523م من محمد بن ناصر الهنتاتي التابع للوطاسيين، ولم يبد البرتغالي آنذاك رد فعل لأن السعديين تعهدوا بدفع ما كان يدفعه الهنتاتي مضاعفاً، لكنهم غيروا موقفهم بعد ذلك؛ إذ توقفوا عن دفع المال، كما حاولوا مد نفوذهم داخل أراضي الوطاسيين بالتحالف مع مرابطي الدلاء من الأطلس الأوسط ومرابطي الريف. رد السلطان أحمد بمحاولة احتلال مراكش 935هـ/1528م فأخفق. انتقل السعديون إلى الهجوم، وحصل أحمد الأعرج ـ إثر هزيمته الوطاسيين عند وادي العبيد رافد نهر أم الربيع ـ على اعتراف من السلطان أحمد بسيادته على جنوب المغرب الأقصى، وتجاوز محمد الشيخ الذي انتزع السلطة من أخيه الحدود، فتوغل في إقليم تادلا، وتمكن من أسر السلطان الوطاسي في معركة على وادي درنا، ثم وصل في توغله شمالاً حتى مكناس، حيث صده أبو حسون بعدما لَمَّ شتات القوى الوطاسية، ونصب ابن السلطان الأسير مكانه وتحت وصايته، لكن السلطان أحمد ملّ حياة الأسر، فاتفق مع محمد الشيخ السعدي على النزول له عن أغلب أراضيه باستثناء فاس، كما اعترف له بالسلطنة وبسك العملة مقابل فك أسره سنة 954/1547م، وسعى السلطان السعدي بعد ذلك إلى احتلال فاس بسهولة وبحوك مؤامرات في الداخل؛ مما مكنه من دخولها في 28 ذي الحجة 955هـ/28 كانون الثاني/يناير 1549م، واقتيد السلطان الوطاسي إلى مراكش حيث دس له السم بعد فترة وجيزة.
هرب عم السلطان أبو حسون، وتنقل بين المغرب و البرتغال وإسبانيا، وقابل الإمبراطور شارلكان في ألمانيا طالباً العون دون جدوى، وأخيراً قبلت البرتغال إعطاءه عدداً قليلاً من السفن والرجال، توجه بهم نحو ميناء الحسمية، لكن أسطولاً من الجزائر أسره في الطريق، فاستطاع إقناع الحاكم التركي بمساعدته، ونجح بهذه المساعدة بهزيمة محمد الشيخ في تازا ثم على نهر سبو، ففتحت له فاس أبوابها في 2 صفر 961هـ/7 كانون الثاني/يناير 1554م. رد السلطان السعدي بسرعة، فقتله بمعركة بجوار فاس، واستعادها في شوال 961هـ/أيلول/سبتمبر 1554.
أحمد بدر
Wattassids - Wattassides
الوطاسيون
(823 ـ 961هـ/1420ـ 1554م)
ينتمي بنو وطاس إلى مجمع زناتة القبلي، شأنهم في ذلك شأن بني مرين أسلافهم في حكم المغرب. كانوا في الأصل بدواً، امتدت منازلهم في الحوافّ الشمالية للصحراء الكبرى، من جنوب طرابلس الغرب حتى جنوب المغرب الأوسط، ثم تحركوا ببطء غرباً حتى نزلوا في القرن 7هـ/13م شرق المغرب الأقصى وهضاب منطقة الريف، حيث منحهم أقاربهم المرينيون موقع تازوته على مقربة من مليلة.
مكّن أبو زكريا يحيى بن عمر لنفسه ولأسرته شعبياً بانتصار ساحق على جيش برتغالي نزل على طنجة عام 841هـ/1437م، إذ قتل منهم وأسر أعداداً كثيرة، وكان بين الأسرى قائد الجيش وابن الملك الذي عدّه رهينة ريثما يسلمه الملك البرتغالي مدينة سبتة التي كانت أول ما احتله من أرض المغرب 818هـ/1415م، وعدت آنذاك كارثة كبرى له.
أثار هذا النصر موجة حماسة دينية أوصلها أبو زكريا إلى ذروة أعلى بادعاء العثور على جثمان مولاي إدريس ـ مؤسس أول دولة في فاس ـ سليمة لم تمَس، فتقرر إبقاؤها في مكانها وإقامة ضريح عليها. وقتل في غَمرة هذه الأحداث الأمير فرناندو بعد تعذيبه علناً لمضي سنوات طويلة على أسره وإخلاف والده وعده بتسليم سبتة مقابل حياة ابنه.
كانت نهاية أبي زكريا القتل غدراً في سعيه إلى إخماد ثورة قبلية، فتولى الحكم من بعده ابن عمه علي بن يوسف الوطاسي سنة 852هـ/1448م، مدحه مؤرخو الفترة لديانته وحفظه لأمور الملك، لكنه أخفق في مجابهة البرتغاليين عندما احتلوا مدينة القصير الصغير بين سبتة وطنجة 861هـ/1458م، فكان رده أن حاصرها شهرين اضطر بعدهما إلى فكه. أما على الصعيد الداخلي فقد نجح في إخضاع الشاوية في السهل، لكنه قتل بعد ذلك في أثناء إخماد ثورة قبلية أخرى بتامسنا (منطقة الدار البيضاء حالياً) في 863هـ/1459م.
تولى الوصاية بعده يحيى الوطاسي، حفيده وسمي الوصي الأول، فقام بإجراء تغييرات في الشؤون الإدارية والعسكرية أثارت عليه نقمة استغلها السلطان المريني عبد الحق، الذي كان قد بلغ سن الرشد، فقتله بعد سبعين يوماً من وصايته، مع كل أفراد الأسرة في فاس.
نجا من المذبحة كل من محمد الحلو ومحمد الشيخ بن يحيى لوجودهما خارج فاس، وتمكن الأخيرـ بعد تنقل لأمد ـ من السيطرة على أصيلا، حيث جرت الاتصالات بينه وبين الناقمين على عبد الحق المريني في فاس، وكان هذا قد باشر الأمور بنفسه، وسعى بكل السبل إلى جمع المال، فاستخدم اليهوديين هارون وشاويل لإدارته وجبايته، مما أثار عليه نقمة عارمة خصوصاً مع استخدام القسوة المفرطة في الجباية.
قادت المقاومة ثلاثة أطراف: الشاذلية الصوفية والأشراف الحسنيون من بقايا الأدارسة والوطاسيون. تزعم الجميع خطيب جامع القرويين عبد العزيز الورياغلي، واستغلوا خروج عبد الحق من فاس ليثوروا ويبايعوا محمد بن علي بن عمران نقيب الأشراف سلطاناً، ثم قبض على عبد الحق المريني لدى عودته، فقتل في 27 رمضان 869هـ/23 أيار/مايو 1465م. واتخذ محمد بن علي يوسفَ بن منصور ابن زيان الوطاسي مستشاراً له، ثم نزع يوسف الحكم منه بعد خمس سنوات، أي 875هـ/1470م، لكن حاكم أصيلا محمد الشيخ الذي تقوى بفرسان عرب نازع قريبه على الحكم، واحتل فاس بعد حصارها مدة عام.
بهذا استقرت السلطنة بيد الوطاسيين، وتابعت الدولة في ظلها السير على درب الانحدار بتسارع أكبر إذ افتقد الوطاسيون السند الديني والقبلي اللذين اعتمدت على كليهما أو على أحدهما الدول التي سبقتهم في المغرب الأقصى، فدب الانحلال في السلطة المركزية لحساب القبائل البربرية والعربية، حتى إلى جماعات اللاجئين الأندلسيين بعد سقوط غرناطة، كما داهمت المغرب الأوبئة وأخطار التوسع الخارجي خصوصاً من البرتغاليين الذين استهدفوا شواطئ المضيق والواجهة الأطلسية متمتعين بتفوق من الأسلحة النارية وخصوصاً المدفعية، وأدى الاخفاق في صدهم إلى التفاف الناس حول القوى الدينية: من أشراف حسنيين وجماعات صوفية، حاول الوطاسيون استيعابها فطغت عليهم، وضمن هذا الإطار تتابع السلاطين الوطاسيون.
محمد بن يحيى الملقب بالشيخ: استهل حكمه بسقوط قاعدته أصيلا بيد البرتغاليين في أثناء انشغاله بالسيطرة على فاس سنة 876هـ/1471م، وقد أسروا من وجدوه من سكانها بمن فيهم ابن الشيخ وسميه محمد مع أخته، وكان له من العمر سبع سنوات، تبع ذلك خوف سكان طنجة القريبة وهربهم منها ليحتلها بعد ذلك ملك البرتغال بسهولة، علماً أن إنقاذها في السابق ـ من قبل الوصي الوطاسي ـ كان من أسس مجد الأسرة، واتبع البرتغاليون في الجنوب سياسة مختلفة إذ اكتفوا هناك ببسط الحماية على آسفي عام 886هـ/1481م، وعلى أزمور 891هـ/1486م، كما بنوا إلى الجنوب منها حصناً، تطور فيما بعد إلى مدينة مازاغان، وفعلوا الشيء ذاته في أقصى الجنوب قريباً من مصب وادي سوس، ليتطور الحصن هناك إلى مدينة أغادير. أما النجاح اليتيم الذي أحرزه في وجه البرتغاليين فكان في الجزيرة الواقعة عند مصب وادي لقس، فعندما توغل الأسطول البرتغالي في النهر، قام رجال محمد بن يحيى بسد المصب بأشجار ضخمة، فتعذر إمداد الأسطول أو رجوعه، فجرت مفاوضات قبل فيها البرتغاليون بدفع غرامة وإطلاق سراح بنات الملك الأسيرات مقابل السماح بانسحابهم بسلام.
يبدو أن الإسبان تشجعوا بالوضع القائم، فغزوا في شرق المضيق مدينة مليلة، ولم يستطع محمد الشيخ إمدادها بما يكفي من الجند لانشغاله بإخضاع متمردين في منطقة تامستة، فهرب السكان، وأحرق القائد المدينة، فدخلها الإسبان 896هـ/1490م.
أما في الداخل فقد سرى الانحلال في أوصال السلطة المركزية وخصوصاً في الأطراف شمالاًَ وجنوباً. قام في الشمال ـ بمدينة شيشاون الجبلية ـ الإدريسي سيدي بوشيد بالاستقلال عن فاس معتمداً على قبائل انضوت تحت لوائه للجهاد ضد البرتغاليين، ونزلت جماعة أندلسية من غرناطة بعد سقوطها 897هـ/1492م في خرائب تطوان، فأعادت بناءها، واتخذتها قاعدة لشن هجماتها على الإسبان والبرتغاليين على طول المضيق، وفي أقصى الجنوب تحرك الناصر بن شنتوف الهنتاتي ـ شيخ هنتاته الساكنة في ذرى الأطلس الأعلى ـ نحو السهل، واحتل مراكش ومنطقتها، وقد رفض الاعتراف بغير السيادة الاسمية للوطاسيين.
تولى الحكم سنة 910ـ931هـ/1504ـ1524م محمد بن محمد بن يحيى الوطاسي (البرتغالي)، لقب بالبرتغالي لقضائه سبع سنوات في أسرهم قبل افتداء أبيه له بمبلغ ضخم من المال. فكان شديد العداء للبرتغاليين على الرغم من تعلمه لغتهم، وقد أبدى شيئاً من المهارة في الترتيب لمواجهتهم، كاهتمامه بالمدفعية سلاحاً للمواجهة. بدأ بتحصين العرائش وإعمارها 911هـ/1505م بعدما هجرها أهلها عند سقوط أصيلا، انطلق منها بعد سنتين لمهاجمة أصيلا، فاستطاع دخولها وتحرير العبيد المسلمين فيها، لكنه اضطر إلى الانسحاب تحت وطأة قصف الأسطول البرتغالي لإنقاذ بني جلدتهم اللائذين بحصنها، ثم كرر العملية عدة مرات دون نجاح وبخسائر لا تقل عن 500 قتيل كل مرّة، أتبع البرتغاليون هذا النجاح بتحويل بعض المحميات في الجنوب إلى مستعمرات يحكمونها مباشرة، وأمنوا احتلالها بيسر بعد إثارة انشقاق داخلها والتعاون مع قسم من أهلها، تم لهم ذلك في آسفي نحو 912هـ/1508م، ثم أزمور يوم السبت 2 رجب 919هـ/3 أيلول/سبتمبر 1513م، حاول البرتغاليون بعد ذلك تهديد العاصمة فاس ذاتها بحملة نزلت عند مصب نهر سبو في البحر 14 جمادى الأولى 921هـ/24حزيران/يونيو 1515م. كانت خطتها بناء حصن عند المصب وتوغل القوات سراً في الداخل للوصول إلى مدفعية الوطاسيين على التل وسحبها نحو الحصن، تنبه الحراس عند الفجر للعملية، فأحاطوا بالآلاف الثلاثة المتوغلين وأبادوهم، ثم توجهوا نحو السفن الراسية في مياه ضحلة، فهاجموا من فيها، وقد قدرت خسائر البرتغاليين بـ 4000 رجل.
بدأت في أقصى الجنوب بالظهور حركة مقاومة للبرتغاليين الذين حاولوا التوغل في الداخل، تكونت من قبائل محلية وجماعات مرابطين وصوفية جمعتهم الطريقة الجزولية، التفت حول الشريف محمد القائم بأمر الله السعدي 916ـ923هـ/1511ـ1517م، ولم يلبث هذا الشريف أن انتقل من وادي درعة في الداخل إلى تارودنت القريبة من الساحل، حيث قام بالجهاد مع أتباعه ضد البرتغاليين. نظر الوطاسيون إلى هذه الحركة بوصفها جهاداً ضد العدو تابعة لهم حتى إن بلاطهم في فاس استقبل ولدي الشريف أحمد الأعرج ومحمد الشيخ الذي أدب ابن السلطان، وشارك الاثنان في الجهـاد. لكن الوضع تغير في عهـد السلطان الوطاسي التالي أحمـد بن محمد البرتغالي 931ـ955هـ/1524ـ1549م الذي هيمن عليه عمـه أبو حسون، وكان عهـده فترة مواجهـة للسعديين، الذين انتزعوا مراكش 929هـ/1523م من محمد بن ناصر الهنتاتي التابع للوطاسيين، ولم يبد البرتغالي آنذاك رد فعل لأن السعديين تعهدوا بدفع ما كان يدفعه الهنتاتي مضاعفاً، لكنهم غيروا موقفهم بعد ذلك؛ إذ توقفوا عن دفع المال، كما حاولوا مد نفوذهم داخل أراضي الوطاسيين بالتحالف مع مرابطي الدلاء من الأطلس الأوسط ومرابطي الريف. رد السلطان أحمد بمحاولة احتلال مراكش 935هـ/1528م فأخفق. انتقل السعديون إلى الهجوم، وحصل أحمد الأعرج ـ إثر هزيمته الوطاسيين عند وادي العبيد رافد نهر أم الربيع ـ على اعتراف من السلطان أحمد بسيادته على جنوب المغرب الأقصى، وتجاوز محمد الشيخ الذي انتزع السلطة من أخيه الحدود، فتوغل في إقليم تادلا، وتمكن من أسر السلطان الوطاسي في معركة على وادي درنا، ثم وصل في توغله شمالاً حتى مكناس، حيث صده أبو حسون بعدما لَمَّ شتات القوى الوطاسية، ونصب ابن السلطان الأسير مكانه وتحت وصايته، لكن السلطان أحمد ملّ حياة الأسر، فاتفق مع محمد الشيخ السعدي على النزول له عن أغلب أراضيه باستثناء فاس، كما اعترف له بالسلطنة وبسك العملة مقابل فك أسره سنة 954/1547م، وسعى السلطان السعدي بعد ذلك إلى احتلال فاس بسهولة وبحوك مؤامرات في الداخل؛ مما مكنه من دخولها في 28 ذي الحجة 955هـ/28 كانون الثاني/يناير 1549م، واقتيد السلطان الوطاسي إلى مراكش حيث دس له السم بعد فترة وجيزة.
هرب عم السلطان أبو حسون، وتنقل بين المغرب و البرتغال وإسبانيا، وقابل الإمبراطور شارلكان في ألمانيا طالباً العون دون جدوى، وأخيراً قبلت البرتغال إعطاءه عدداً قليلاً من السفن والرجال، توجه بهم نحو ميناء الحسمية، لكن أسطولاً من الجزائر أسره في الطريق، فاستطاع إقناع الحاكم التركي بمساعدته، ونجح بهذه المساعدة بهزيمة محمد الشيخ في تازا ثم على نهر سبو، ففتحت له فاس أبوابها في 2 صفر 961هـ/7 كانون الثاني/يناير 1554م. رد السلطان السعدي بسرعة، فقتله بمعركة بجوار فاس، واستعادها في شوال 961هـ/أيلول/سبتمبر 1554.
أحمد بدر