واقعيه واقعيه جديده (في فن)
Realism and neorealism (in art) - Le réalisme et le néoréalisme (dans l’art)
الواقعية والواقعية الجديدة (في الفن)
الواقعية
ابتدأت الواقعية في الفن منذ أن تخلى عصر النهضة عن التأثير الديني الذي تجلى في الفن القوطي والفن البيزنطي. وهكذا بدا الواقع أساساً ومقياساً للفن، بل أصبح القانون الرياضي حكَماً في تصحيح قواعد الواقعية في الفن تبعاً للقواعد الكلاسية الإغريقية الرومانية، وكان عصر النهضة عودة إلى أصول هذه الحضارة ومقاييسها. وعلى امتداد العصر الباروكي لم يتخلّ الفن عن الواقع، ولعل مدرسة فونتينبلو [ر] Fontainebleau في باريس وأعمال المصورين الألمان مثل دورر [ر] Dürer وهولباين Holbein والمصورين الهولنديين مثل رمبرانت [ر] Rembrandt وفيرمير [ر] Vermeer والمصورين الفرنسيين مثل لونان Le Nain وغيرهم؛ تمثل ريادة الواقعية التي لم تكن غريبة عن المدرستين الاتباعية المحدثة والإبداعية (الكلاسية الجديدة والرومنتية).
على أن فن الروكوكو [ر] الشديد التأنق الذي نهض في فرنسا على أسلوب واتو Watteau وفراغونار [ر] Fragonard ثم بوشيه [ر] Boucher إنما اهتم بنقل الطبيعة ذاتها وتصوير القصص الأسطورية الكلاسية بواقعية شفافة.
وتبع ذلك اتجـاه قوي نحـو الواقعية الكلاسية تجلى في أعمال الرسام جاك لوي دافيد [ر] David الذي أسس الكلاسية الجديدة التي حددت للواقعية الفنية قواعدها وقوانينها، ودعمتها مدرسة الفنون الجميلة في باريس وعلى رأسها كاترمير دو كانسي Q.de Quincy، بترسيخ الواقعية بصورتها الرياضية الاتباعية. ولكن الرومنتية ـ التي بدت رداً على الكلاسية الجديدة ـ عادت إلى الخيال وتجنب الواقع باحثة عن الغريب والغامض والفردية وإلى التأمل المجنح والبحث عن السراب والتهاويل بعيداً عن الاهتمام بالحياة اليومية والسياسية.
ثم كان اتجاه مدرسة البوليتكنيك Polytechnique الشهيرة التي اعتمدت مبدأ العقلانية بدعوة من رئيسها العالم مونج Monge، وكان لتطوير آلة التصوير «الفوتوغرافي» على يد داغير Daguerre أثره في اكتشاف عالم الواقع كما هو. وفي نهاية القرن التاسع عشر بدأت الدعوة إلى الواقعية في الفن والوظائفية في العمارة، وكان ڤيزلاي Vezelay مؤلفَ أسس العمارة الواقعية.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر ظهرت مسارات متعددة في الفن، كان الواقع فضاءها ومآلها بعيداً عن «الأكاديمية» والرومنتية، وكان التحول الجذري في الفكر والشعور والنظام قد تم بعد ثورة عام 1848 وبعد تفاقم القلق من تأثير الآلة على الإنسان؛ مما أورث التفاؤل والتشاؤم في آن معاً، عبّر عنه الشاعران لامارتين Lamartine وغوتييه Gautier، وكان الملاذ في الطبيعة عند جماعة الباربيزون [ر] Barbizon في ضواحي باريس؛ التي نادت بالعودة إلى الطبيعة وتصويرها بواقعية ملتزمة، ومن أبـرز ممثلي هذا الاتجـاه المصور تيـودور روسو T.Rousseau ت(1812ـ1869) الذي لقي نجـاحاً جماهيرياً لفنه الواقعي. أما مييه [ر] J.F.Millet ت(1813ـ1875) الذي عاش قروياً مع الطبيعة فقد عبر عنها بصدق وطواعية في لوحاته التي لقيت اهتماماً في العصر الحديث. ورافق ذلك العودة إلى الموضوعية التي ظهرت بعد عام 1850 والتي تحدث عنها الشاعر بودلير [ر] Baudelaire.
وكان أوغست كونت [ر] Au. Conte يعلن: «إن جميع الأذهان الفطينة تردد منذ الفيلسوف بيكون [ر] Bacon أن ليس من معارف حقيقية إلا وتستند إلى الوقائع». ويضيف تين [ر] Taine: «هي وقائع صغيرة جداً حسنة الانتقاء، مهمة وذات دلالة محددة الظروف بإسهاب ومسجلة بدقة، تلك هي مادة كل علم». ويؤيد هذا الاتجاه الروائي فلوبير [ر] Flaubert.
هكذا ظهرت الواقعية Le Réalisme أسلوباً محدداً ومدرسة فنية معارضة للرومنتية والكلاسية، يدعمها الفكر الفلسفي الذي قدمه كانْت Kant، وأصبح الواقع هو الحقيقة الملموسة التي تضع قواعد العمل الفني والجمال.
وبدت هذه الواقعية أكثر حضوراً في فن العمارة والعمران، وكان المهندس البارون هوسمان Hausmann قد أنجز تنظيماً عمرانياً ومعمارياً جديداً لباريس، فأنشأ الشوارع الضخمة Boulevards والأبنية الضخمة المتناظرة على أطراف الشوارع والساحات الضخمة، مثل ساحة الكونكورد Concorde، ثم كان استعمال الحديد ولاسيما في البرج الضخم الذي أقامه إيفل [ر] Eiffel ت(1832ـ1921) بمناسبة معرض 1889. وهكذا تم تدشين ظهور الواقعية في العمارة الأوربية والأمريكية الناشئة.
وصارت الطبيعة موئل الفنانين الواقعيين، وعاش مع الطبيعة كورو [ر] C.Corot ت(1796ـ1876)، فطبعت أعماله بواقعية عاطفية، في حين اتجه دومييه [ر] H.Daumier ت (1808ـ1879) نحو الواقعية النقدية.
على أن زعامة الواقعية في التصوير كانت بقيادة كوربيه [ر] G.Courbet ت(1819ـ1877) الذي علّم طلابه «أن التخيل في الفن هو في معرفة إيجاد التعبير الأكمل لشيء موجود». والذي وقف متصدياًـ بحكم منصبه مديراً للفنون ـ في وجه الكلاسية والرومنتية. وكانت لوحاته حافلة بالحياة والمعنى كما في لوحته «الحجارون». وعند كوربيه «أن الفن لا يتجسد إلا في تمثيل الواقع الاجتماعي، كما يرى أن الفن لغة فيزيائية تتآلف مع جميع الأشياء المرئية». هكذا تحولت الواقعية عنده إلى الواقع الاجتماعي والالتزام به، فالطبيعة أو العالم الخارجي يحدد الواقع الموضوعي.
ويبقى المصور مانيه [ر] É.Manet ت(1832ـ1883) آخر الواقعيين الملتزمين، وكان المصور الفوتوغرافي نادار Nadar قد فتح صالة لاستقبال الأعمال الواقعية، ولكن مانيه أراد أن يدخل غمار الواقع عن طريق ذاته وتصوراته، فقدم لوحته الواقعية «الغذاء على العشب» التي لقيت سخط الجمهور واستنكاره لوجود امرأة عارية مع مجموعة من الشبان المعروفين في إطار مشهد طبيعي. وكان إميل زولا [ر] É.Zola نصيره في اتجاهه الطبيعي الذي بشر بظهور المدرسة الانطباعية [ر] التي ترأسها مانيه نفسه.
وإذا كانت الانطباعية في التصوير تمثل آخر مشهد من تطور الواقعية فإن السبب يعود إلى أمرين: الأول اكتشاف دور نور الشمس وأثره في تنويع أطياف اللون على الأشياء. والثاني أن الانكفاء بين جدران المراسم يجعل الواقعية أقل ارتباطاً بالطبيعة، فكان لابد من الخروج من المراسم إلى فضاء الطبيعة تحت أشعة الشمس، كما تم عند مونيه [ر] C. Monet ت(1840ـ1926) وجماعة الانطباعيين الجدد.
ولعل المفكر الروسي جدانوف Jdanov كان أول من تحدث عن فن واقعي اشتراكي منذ عام 1934، وأن الفن فعالية مادية جدلية بين الحس والعقل، بين الذات والموضوع، وعلى الفن أن يكون انعكاساً للحياة. وهكذا بدا فن الواقعية الاشتراكية ـ في الدول الشيوعية وفي مدرسة البسطاء في فرنسا ـ فناً ملتزماً ليس للواقع البرجوازي بل للواقع الطبقي، وسرى هذا الفن في الاتحاد السوڤييتي على يد غيراسيموف [ر] A.Guerassimov ت(1881ـ1965)، ثم انتقل إلى المكسيك على يد ريفيرا [ر] Rivera ت(1886ـ1957) وأوروزكو [ر] Orozco ت(1883ـ1949).
الواقعية الجديدة
تأثر الفن منذ بداية القرن العشرين بالتحولات السياسية والفكرية والاقتصادية في أوربا، وظهر ما يسمى بالفن الجديد [ر] l’Art nouveau أو modern style، داعياً إلى رفض «الأكاديمية» في الفن والارتباط اجتماعياً بغاية العصر بأساليب شمولية تتناول أوسع طيف للإبداع، ويصل إلى جميع الأشياء والصناعات التطبيقية، كما يصل إلى العمارة على يد فان دو فلدِه [ر] van de Velde. وانقطع هذا الفن بعد أن عجز عن التآلف مع تطور الآلة والتقنية الحديثة التي استهوت الفنانين. ثم ظهر اتجاه فن واسع ساعياً إلى إعادة صوغ الواقع عن طريق أساليب متطرفة.
تم تحول جذري في القيم والمفاهيم والطاقات في القرن العشرين، أثر بقوة في الفن الذي أطل على هذا التحول بكثير من الانفعال، فكانت الانفصالية Rupture شعار الإبداع، انفصالية عن التاريخ والواقع الظاهري والقيم الجمالية التقليدية بحثاً عن واقع جديد يقدمه الفنان مرتداً إلى نوازعه الشخصية ساعياً إلى التخلص من كل عائق والتزام. فكانت مسيرة فنية لم تتضح أبعادها حتى اليوم على الرغم من أنها أطلقت على نفسها اسم «الواقعية الجديدة». إنها واقعية الإنسان المبدع، وليست واقعية الأشياء بذاتها، وذلك اعتماداً على مستجدات علم النفس التي توقفت طويلاً عند مفهوم العقل الباطن واللاوعي. وكانت النتيجة ظهور فن لا شكلي ينقل فقط الحدوس والإرهاصات والخلجات العميقة، ويرى وورنغر Wooringer «أن هذا الفن يقدم دليلاً على عدم أهلية بعض الحقب الفنية في أن تتلاءم مع الواقع». وقد وجدت الواقعية الجديدة أن نقل الواقع بذاته يخضع إلى صوغ شكلي Formalism لا مجال للإبداع فيه. وهنا كان لابد من الدعوة إلى صوغ جديد للواقع.
وكان للحرب العالمية الأولى تأثيرها في التحول الاجتماعي والثقافي في أوربا، وظهرت (الموضوعية الجديدة) للتعبير عن الإحساسات الداخلية للفنان، وانتقلت هذه الموضوعية إلى عالم اللاموضوعية والفن التجريدي وإلى تجاوز الواقع بإصرار. وكان رد الفعل على يد مارسيل دوشان [ر] M.Duchamp وأسلوبه القائم على الأشياء الجاهزة Ready made. كما فعل في عمله «حاملة القوارير»، وقد اكتفى بتقديمها كما هي، «إذ لا واقع فني أصدق من الواقع بذاته».
وانتشرت فكرة الأشياء الجاهزة لكي تبدو على شكل الفن الشعبي (بوب آرت) Pop art، وقد اعتمد بتطرف الأشياء المهملة ـ كالقوارير الفارغة وعلب السردين ـ أشياء تتحول إلى عمل فني شعبي. ولكن المصور الأمريكي لاندي وارهول L.Warhol انتقل بهذا الفن إلى اعتماد آلة التصوير الضوئي في لوحته الواقعية الجديدة «مارلين مونرو» مشيداً بدور الإعلان في بناء هذا الاتجاه. كما انتقل فن (البوب آرت) إلى واقعية إنسانية عند فرنسيس بيكون [ر] Bacon.
على أن انتشار آلة التصوير كان فرصة سانحة أمام الواقعية الجديدة لكي تنقل الواقع ليس كما هو، بل بما يختار الفن من إمكانات هذه الآلة وصولاً إلى صورة تخلق واقعاً جديداً.
واستجابةً متطرفةً للواقعية الجديدة ظهرت (الواقعية المفرطة) Hyperréalisme في أواخر الستينيّات من القرن العشرين. والواقعية «الفوتوغرافية» Photoréalisme، وكان الهدف مواجهة الواقع بعقلية المراقب المدرك لجميع الجزئيات. وتحقيقاً لهذا الهدف استعمل هؤلاء آلة التصوير لتقديم الواقع بأقصى ما يمكن من الدقة؛ مما يثير الدهشة بواقعية مفرطة ذات ملامح سحرية، وكان الاعتماد على آلة التصوير قد ظهر قبلاً في أعمال موهولي ناجي M.Nagy أحد ممثلي الباوهاوس [ر] Bauhaus كما أعجب بها دوشان.
عفيف البهنسي
Realism and neorealism (in art) - Le réalisme et le néoréalisme (dans l’art)
الواقعية والواقعية الجديدة (في الفن)
الواقعية
ابتدأت الواقعية في الفن منذ أن تخلى عصر النهضة عن التأثير الديني الذي تجلى في الفن القوطي والفن البيزنطي. وهكذا بدا الواقع أساساً ومقياساً للفن، بل أصبح القانون الرياضي حكَماً في تصحيح قواعد الواقعية في الفن تبعاً للقواعد الكلاسية الإغريقية الرومانية، وكان عصر النهضة عودة إلى أصول هذه الحضارة ومقاييسها. وعلى امتداد العصر الباروكي لم يتخلّ الفن عن الواقع، ولعل مدرسة فونتينبلو [ر] Fontainebleau في باريس وأعمال المصورين الألمان مثل دورر [ر] Dürer وهولباين Holbein والمصورين الهولنديين مثل رمبرانت [ر] Rembrandt وفيرمير [ر] Vermeer والمصورين الفرنسيين مثل لونان Le Nain وغيرهم؛ تمثل ريادة الواقعية التي لم تكن غريبة عن المدرستين الاتباعية المحدثة والإبداعية (الكلاسية الجديدة والرومنتية).
على أن فن الروكوكو [ر] الشديد التأنق الذي نهض في فرنسا على أسلوب واتو Watteau وفراغونار [ر] Fragonard ثم بوشيه [ر] Boucher إنما اهتم بنقل الطبيعة ذاتها وتصوير القصص الأسطورية الكلاسية بواقعية شفافة.
وتبع ذلك اتجـاه قوي نحـو الواقعية الكلاسية تجلى في أعمال الرسام جاك لوي دافيد [ر] David الذي أسس الكلاسية الجديدة التي حددت للواقعية الفنية قواعدها وقوانينها، ودعمتها مدرسة الفنون الجميلة في باريس وعلى رأسها كاترمير دو كانسي Q.de Quincy، بترسيخ الواقعية بصورتها الرياضية الاتباعية. ولكن الرومنتية ـ التي بدت رداً على الكلاسية الجديدة ـ عادت إلى الخيال وتجنب الواقع باحثة عن الغريب والغامض والفردية وإلى التأمل المجنح والبحث عن السراب والتهاويل بعيداً عن الاهتمام بالحياة اليومية والسياسية.
ثم كان اتجاه مدرسة البوليتكنيك Polytechnique الشهيرة التي اعتمدت مبدأ العقلانية بدعوة من رئيسها العالم مونج Monge، وكان لتطوير آلة التصوير «الفوتوغرافي» على يد داغير Daguerre أثره في اكتشاف عالم الواقع كما هو. وفي نهاية القرن التاسع عشر بدأت الدعوة إلى الواقعية في الفن والوظائفية في العمارة، وكان ڤيزلاي Vezelay مؤلفَ أسس العمارة الواقعية.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر ظهرت مسارات متعددة في الفن، كان الواقع فضاءها ومآلها بعيداً عن «الأكاديمية» والرومنتية، وكان التحول الجذري في الفكر والشعور والنظام قد تم بعد ثورة عام 1848 وبعد تفاقم القلق من تأثير الآلة على الإنسان؛ مما أورث التفاؤل والتشاؤم في آن معاً، عبّر عنه الشاعران لامارتين Lamartine وغوتييه Gautier، وكان الملاذ في الطبيعة عند جماعة الباربيزون [ر] Barbizon في ضواحي باريس؛ التي نادت بالعودة إلى الطبيعة وتصويرها بواقعية ملتزمة، ومن أبـرز ممثلي هذا الاتجـاه المصور تيـودور روسو T.Rousseau ت(1812ـ1869) الذي لقي نجـاحاً جماهيرياً لفنه الواقعي. أما مييه [ر] J.F.Millet ت(1813ـ1875) الذي عاش قروياً مع الطبيعة فقد عبر عنها بصدق وطواعية في لوحاته التي لقيت اهتماماً في العصر الحديث. ورافق ذلك العودة إلى الموضوعية التي ظهرت بعد عام 1850 والتي تحدث عنها الشاعر بودلير [ر] Baudelaire.
وكان أوغست كونت [ر] Au. Conte يعلن: «إن جميع الأذهان الفطينة تردد منذ الفيلسوف بيكون [ر] Bacon أن ليس من معارف حقيقية إلا وتستند إلى الوقائع». ويضيف تين [ر] Taine: «هي وقائع صغيرة جداً حسنة الانتقاء، مهمة وذات دلالة محددة الظروف بإسهاب ومسجلة بدقة، تلك هي مادة كل علم». ويؤيد هذا الاتجاه الروائي فلوبير [ر] Flaubert.
هكذا ظهرت الواقعية Le Réalisme أسلوباً محدداً ومدرسة فنية معارضة للرومنتية والكلاسية، يدعمها الفكر الفلسفي الذي قدمه كانْت Kant، وأصبح الواقع هو الحقيقة الملموسة التي تضع قواعد العمل الفني والجمال.
وبدت هذه الواقعية أكثر حضوراً في فن العمارة والعمران، وكان المهندس البارون هوسمان Hausmann قد أنجز تنظيماً عمرانياً ومعمارياً جديداً لباريس، فأنشأ الشوارع الضخمة Boulevards والأبنية الضخمة المتناظرة على أطراف الشوارع والساحات الضخمة، مثل ساحة الكونكورد Concorde، ثم كان استعمال الحديد ولاسيما في البرج الضخم الذي أقامه إيفل [ر] Eiffel ت(1832ـ1921) بمناسبة معرض 1889. وهكذا تم تدشين ظهور الواقعية في العمارة الأوربية والأمريكية الناشئة.
وصارت الطبيعة موئل الفنانين الواقعيين، وعاش مع الطبيعة كورو [ر] C.Corot ت(1796ـ1876)، فطبعت أعماله بواقعية عاطفية، في حين اتجه دومييه [ر] H.Daumier ت (1808ـ1879) نحو الواقعية النقدية.
على أن زعامة الواقعية في التصوير كانت بقيادة كوربيه [ر] G.Courbet ت(1819ـ1877) الذي علّم طلابه «أن التخيل في الفن هو في معرفة إيجاد التعبير الأكمل لشيء موجود». والذي وقف متصدياًـ بحكم منصبه مديراً للفنون ـ في وجه الكلاسية والرومنتية. وكانت لوحاته حافلة بالحياة والمعنى كما في لوحته «الحجارون». وعند كوربيه «أن الفن لا يتجسد إلا في تمثيل الواقع الاجتماعي، كما يرى أن الفن لغة فيزيائية تتآلف مع جميع الأشياء المرئية». هكذا تحولت الواقعية عنده إلى الواقع الاجتماعي والالتزام به، فالطبيعة أو العالم الخارجي يحدد الواقع الموضوعي.
ويبقى المصور مانيه [ر] É.Manet ت(1832ـ1883) آخر الواقعيين الملتزمين، وكان المصور الفوتوغرافي نادار Nadar قد فتح صالة لاستقبال الأعمال الواقعية، ولكن مانيه أراد أن يدخل غمار الواقع عن طريق ذاته وتصوراته، فقدم لوحته الواقعية «الغذاء على العشب» التي لقيت سخط الجمهور واستنكاره لوجود امرأة عارية مع مجموعة من الشبان المعروفين في إطار مشهد طبيعي. وكان إميل زولا [ر] É.Zola نصيره في اتجاهه الطبيعي الذي بشر بظهور المدرسة الانطباعية [ر] التي ترأسها مانيه نفسه.
وإذا كانت الانطباعية في التصوير تمثل آخر مشهد من تطور الواقعية فإن السبب يعود إلى أمرين: الأول اكتشاف دور نور الشمس وأثره في تنويع أطياف اللون على الأشياء. والثاني أن الانكفاء بين جدران المراسم يجعل الواقعية أقل ارتباطاً بالطبيعة، فكان لابد من الخروج من المراسم إلى فضاء الطبيعة تحت أشعة الشمس، كما تم عند مونيه [ر] C. Monet ت(1840ـ1926) وجماعة الانطباعيين الجدد.
ولعل المفكر الروسي جدانوف Jdanov كان أول من تحدث عن فن واقعي اشتراكي منذ عام 1934، وأن الفن فعالية مادية جدلية بين الحس والعقل، بين الذات والموضوع، وعلى الفن أن يكون انعكاساً للحياة. وهكذا بدا فن الواقعية الاشتراكية ـ في الدول الشيوعية وفي مدرسة البسطاء في فرنسا ـ فناً ملتزماً ليس للواقع البرجوازي بل للواقع الطبقي، وسرى هذا الفن في الاتحاد السوڤييتي على يد غيراسيموف [ر] A.Guerassimov ت(1881ـ1965)، ثم انتقل إلى المكسيك على يد ريفيرا [ر] Rivera ت(1886ـ1957) وأوروزكو [ر] Orozco ت(1883ـ1949).
الواقعية الجديدة
تأثر الفن منذ بداية القرن العشرين بالتحولات السياسية والفكرية والاقتصادية في أوربا، وظهر ما يسمى بالفن الجديد [ر] l’Art nouveau أو modern style، داعياً إلى رفض «الأكاديمية» في الفن والارتباط اجتماعياً بغاية العصر بأساليب شمولية تتناول أوسع طيف للإبداع، ويصل إلى جميع الأشياء والصناعات التطبيقية، كما يصل إلى العمارة على يد فان دو فلدِه [ر] van de Velde. وانقطع هذا الفن بعد أن عجز عن التآلف مع تطور الآلة والتقنية الحديثة التي استهوت الفنانين. ثم ظهر اتجاه فن واسع ساعياً إلى إعادة صوغ الواقع عن طريق أساليب متطرفة.
تم تحول جذري في القيم والمفاهيم والطاقات في القرن العشرين، أثر بقوة في الفن الذي أطل على هذا التحول بكثير من الانفعال، فكانت الانفصالية Rupture شعار الإبداع، انفصالية عن التاريخ والواقع الظاهري والقيم الجمالية التقليدية بحثاً عن واقع جديد يقدمه الفنان مرتداً إلى نوازعه الشخصية ساعياً إلى التخلص من كل عائق والتزام. فكانت مسيرة فنية لم تتضح أبعادها حتى اليوم على الرغم من أنها أطلقت على نفسها اسم «الواقعية الجديدة». إنها واقعية الإنسان المبدع، وليست واقعية الأشياء بذاتها، وذلك اعتماداً على مستجدات علم النفس التي توقفت طويلاً عند مفهوم العقل الباطن واللاوعي. وكانت النتيجة ظهور فن لا شكلي ينقل فقط الحدوس والإرهاصات والخلجات العميقة، ويرى وورنغر Wooringer «أن هذا الفن يقدم دليلاً على عدم أهلية بعض الحقب الفنية في أن تتلاءم مع الواقع». وقد وجدت الواقعية الجديدة أن نقل الواقع بذاته يخضع إلى صوغ شكلي Formalism لا مجال للإبداع فيه. وهنا كان لابد من الدعوة إلى صوغ جديد للواقع.
وكان للحرب العالمية الأولى تأثيرها في التحول الاجتماعي والثقافي في أوربا، وظهرت (الموضوعية الجديدة) للتعبير عن الإحساسات الداخلية للفنان، وانتقلت هذه الموضوعية إلى عالم اللاموضوعية والفن التجريدي وإلى تجاوز الواقع بإصرار. وكان رد الفعل على يد مارسيل دوشان [ر] M.Duchamp وأسلوبه القائم على الأشياء الجاهزة Ready made. كما فعل في عمله «حاملة القوارير»، وقد اكتفى بتقديمها كما هي، «إذ لا واقع فني أصدق من الواقع بذاته».
وانتشرت فكرة الأشياء الجاهزة لكي تبدو على شكل الفن الشعبي (بوب آرت) Pop art، وقد اعتمد بتطرف الأشياء المهملة ـ كالقوارير الفارغة وعلب السردين ـ أشياء تتحول إلى عمل فني شعبي. ولكن المصور الأمريكي لاندي وارهول L.Warhol انتقل بهذا الفن إلى اعتماد آلة التصوير الضوئي في لوحته الواقعية الجديدة «مارلين مونرو» مشيداً بدور الإعلان في بناء هذا الاتجاه. كما انتقل فن (البوب آرت) إلى واقعية إنسانية عند فرنسيس بيكون [ر] Bacon.
على أن انتشار آلة التصوير كان فرصة سانحة أمام الواقعية الجديدة لكي تنقل الواقع ليس كما هو، بل بما يختار الفن من إمكانات هذه الآلة وصولاً إلى صورة تخلق واقعاً جديداً.
واستجابةً متطرفةً للواقعية الجديدة ظهرت (الواقعية المفرطة) Hyperréalisme في أواخر الستينيّات من القرن العشرين. والواقعية «الفوتوغرافية» Photoréalisme، وكان الهدف مواجهة الواقع بعقلية المراقب المدرك لجميع الجزئيات. وتحقيقاً لهذا الهدف استعمل هؤلاء آلة التصوير لتقديم الواقع بأقصى ما يمكن من الدقة؛ مما يثير الدهشة بواقعية مفرطة ذات ملامح سحرية، وكان الاعتماد على آلة التصوير قد ظهر قبلاً في أعمال موهولي ناجي M.Nagy أحد ممثلي الباوهاوس [ر] Bauhaus كما أعجب بها دوشان.
عفيف البهنسي