وراثه (علم)
Genetics - Génétique
الوراثة (علم ـ)
الوراثة genetics هي العلم الذي يدرس كيفية انتقال الصفات من جيل إلى آخر يليه. وهي تؤثر في كل صفة من صفات أي كائن حي على وجه البسيطة، ويمكن القول إنه في النصف الثاني من القرن العشرين لم يتغير أي علم بحد ذاته ويتطور أو يغير العالم كما فعل علم الوراثة وتطبيقاته الكثيرة المهمة التي يجب النظر إليها وتفهمها على أنها قاعدة أساسية لجميع العلوم الحيوية (البيولوجية) والعلوم الطبية.
لمحة تاريخية:
توافرت عناصر الوراثة منذ بدء الخليقة وكانت مهمة الأثر في نشوء الأنواع المختلفة وتطورها. وفيما بين عامي 470 ـ322ق.م كتب أرسطو وأفلاطون وأبقراط عن وراثة الصفات البشرية، واعتقدوا أن السائل المنوي مسؤول بشكل ما عن نقل الصفات إلى الأبناء، على الرغم من أنهم لم يدركوا مساهمات كل من الأبوين في ذلك.
وصف روبرت هوك Robert Hooke الخلية أول مرة عام 1665 مستخدماً مجهراً ضوئياً بدائياً. وفي عام 1839 اقترح ماتياس شلايدن Matthias Schleiden وتيودور شڤان Theodor Schwann أن الخلايا والأنوية كانت الوحدات الرئيسة في الحياة. وفي عام 1855 اقترح رودُلف ڤيرشو Rudolph Virchow أن الخلايا الحديثة تتكون فقط من انقسام خلايا موجودة قبلها.
في عام 1859 نشر داروين[ر] Darwin كتابه «في أصل الأنواع» On the Origin of Species مقترحاً حدوث التطور evolution بوساطة الاصطفاء الطبيعي natural selection. وفي عام 1866 نشر غريغور مندل [ر] بحثه «تجارب في تهجين النبات» Experiments in Plant Hybridization التي اقترحت مبادئ الوراثة وأدخلت مفهوم العوامل الوراثية genetic factors التي تسبب الصفات السائدة dominant traits والصفات المتنحية recessive traits، ويعرف مندل اليوم بأنه الأب المؤسس لعلم الوراثة.
حصل يوهان ميشَر Johann Miescher عام 1869 على مستخلص من الحمض النووي وأعطاها اسم «نووين» nuclein، ولعله بذلك كان أول من اكتشف الأسس الفيزيائية للوراثة، واقتضى الأمر نحو 80 سنة قبل أن يُوضَح أن النووين هي الدنا DNA. وبين عامي 1879-1882 اكتشف والتر فليمنغ Walther Flemming باستخدامه صبغات حديثة خيوطاً رفيعة يبدو أنها قيد الانقسام ضمن أنوية خلايا يرقات السلمندر salamander، وبذلك يكون قد اكتشف الصبغيات (الكروموزومات) chromosomes.
في عام 1883 أطلق فرنسيس غالتون Francis Galton اسم تحسين النسل eugenics لوصف تحسين الإنسان بوساطة التربية الانتقائية selective breeding، وأسس مخبراً للتحسين الوطني للنسل في الكلية الجامعية في لندن.
شهد القرن العشرون اكتشافات مذهلة في علم الوراثة، وابتدأ في عام 1900 بإعادة اكتشاف مبادئ (أو قوانين) مندل الوراثية التي ظلت مهملة منذ أعلنها، وكان ذلك من قبل ثلاثة علماء هم هوغو دوفريز Hugo de Vries وكارل كورنز Karl Correns وإريش فون تشيرماك Erich von Tschermak.
تتابعت أبحاث الوراثة على نحو سريع منذ مطلع القرن العشرين وفي أثنائه، وكان منها على سبيل المثال ما يأتي:
أطلق وليَم بيتسون William Bateson اسم genetics على علم الوراثة، وفي عام 1910 استخدم العالم الشهير توماس مورغَن[ر] ذبابة الخل Drosophila melanogaster في أبحاثه، وأثبت ارتباط بعض الصفات بالجنس. وأوضح أحد تلامذته كالفِن بريدجز Calvin Bridges عام 1913 أن المورثات توجد في الصبغيات. وفي العام ذاته أظهر تلميذه الآخر ألفرد ستورتِفانت Alfred Sturtevant الترتيب الخطي للمورثات على الصبغي، كترتيب حبات المسبحة على خيطها؛ كما أوضح أن مورثة أي صفة معينة توجد في موقع locus ثابت على صبغي معين. وفي عام 1926 اكتشف هيرمَن ج. موللر Hermann J. Muller - وهو تلميذ آخـر لمورغَن - طرائق لإنتاج طفرات[ر] mutations باستخدام الإشعاع وغيره من مواد مطَفِّرة mutagens، وبذلك اكتشف منشأ المورثات الجديدة بالطفرات، وهي نظرية كان دوفريز اقترحها في مطلع تسعينيات القرن العشرين. وفي عام 1941 اقترح جورج بيدل George Beadle وإدوارد تاتوم Edward Tatum أن «المورثة الواحدة تُرمِّز لإنزيم واحد».
لعل أعظم الاكتشافات في علم الوراثة كان تحديد البنية الحلزونية المزدوجة للدنا من قبل فرنسيس كريك[ر] Francis Crick وجيمس واتسون James Watson عام 1953، ومن ثم أوضح واتسون المبدأ الرئيس في الوراثة وهو أن الدنا يمكن أن تتضاعف لإنتاج دنا، أو أن تنتج رنا مرسال mRNA يستطيع بدوره إنتاج بروتين.
ليس من اليسير إدراج الاكتشافات كافة في مختلف مجالات علم الوراثة والتي تم تحقيقها في القرن العشرين، لكنه يجب عدم إهمال الإشارة إلى أعمال الهندسة الوراثية[ر] genetic engineering وتطبيقاتها الكثيرة التي ابتدأت منذ مطلع السبعينيات، وكذلك إلى النتائج الباهرة لمشروع الجينوم البشري[ر] Human Genome Project الذي تم تنفيذه عام 2003.
المورثة:
المورثة gene هي الوحدة الفيزيائية والوظيفية الأساسية في الوراثة، تتكون من الحمض الريبي النووي المنقوص الأكسجين (الدنا) DNA [ر: الصبغي (كروموزوم)]، وتحمل تتاليات القواعد bases فيها (أدنين adenine، سيتوزين cytosine، غوانين guanine، وتيمين thymine) المعلومات اللازمة لصنع البروتينات المختلفة في سيتوبلازم الخلايا (الشكل 1)، وهي تُعد المكونات الأساسية في الخلايا والأنسجة وكذلك لصنع الإنزيمات المهمة في التفاعلات الكيمياوية الحيوية. ويراوح حجم المورثات بين بضع مئات من القواعد، إلى أكثر من مليونين منها.
يمتلك كل إنسان (وحيوان) نسختين copies من كل مورثة (ماعدا المرتبطة بالجنس منها في الذكور) واحدة منهما من الأب والثانية من الأم. والغالبية العظمى من المورثات هي واحدة في جميع الناس، تختلف فيما بينهم بما لا يزيد على 0.1% منها. والأليلات alleles هي أشكال من المورثات ذاتها ولكن يختلف بعضها عن بعض بتتالي القواعد فيها، وتسهم هذه الاختلافات البسيطة في تحديد الصفات الخاصة بكل كائن.
يحتوي كل صبغي على كثير من المورثات، ويبلغ عددها في الإنسان نحو 25000 مورثة، وتختلف أعدادها من صبغي إلى آخر ومن نوع إلى نوع، وقد أمكن معرفة الكثير عنها وعن تركيبها ووظائفها من دراسات مشروع الجينوم البشري[ر]. وتشكل المورثات ما لا يزيد على 2% من جينوم الإنسان، أما الباقي فيتكون من مناطق لا تُرمِّز لبروتينات. ويُعتقد أن وظائفها تضم إعطاء الصبغي هيكلية مناسبة، إضافة إلى تنظيم أين ومتى تُصنَّع البروتينات وكمياتها؟
الوراثة المندلية
الراهب النمسوي غريغور يوهان مندل [ر] Gregor Johann Mendel هو أب علم الوراثة، و يعود إليه الفضل في وضع أسسها عبر أول تحليلات إحصائية منتظمة وسليمة أجراها على نتائج تجاربه في نباتات البازلاء في حديقة الدير الذي كان يقطنه. وفي عام 1865 وفَّرت هذه التجارب أول أدلة قاطعة بشأن وحدات الوراثة التي سمَّاها آنذاك «عوامل» factors، وتُسمى اليوم مورثات (جينات) genes، مع العلم أنه لم يكن يعرف لا المورثات ولا الصبغيات التي تحملها.
تتميز البازلاء التي اختارها مندل في تجاربه بوضوح تام للصفات، فمثلاً لون الأزهار هو أرجواني أو أبيض، والساق طويلة أو قصيرة والبذور مجعدة أو ملساء، وغيرها من سبع صفات درسها (الشكل 2). واستعداداً لتنفيذ تجاربه حرص على تكوين مجموعات أصيلة (نقية) pure وراثياً بتكرار التأبير الذاتي لنباتاته للصفات المرغوبة أجيالاً متعددة وذلك لضمان امتلاك جميع النباتات للصفة ذاتها (مثلاً نباتات طويلة الساق، ونباتات قصيرة الساق). وابتدأ تحليلاته بتتبع وراثة صفة واحدة فقط في وقت واحد.
مثال لتجاربه على ما يُسمى اليوم الهجونة الأحادية: لقَّح مندل نباتات بيضاء الأزهار وأخرى أرجوانية purple، وزرع البذور الناتجة فحصل على الجيل الأول F1 الذي كانت جميع أزهاره أرجوانية اللون، ثم لقح نباتات هذا الجيل تلقيحاً خلطياً وزرع بذوره فحصل على الجيل الثاني F2 الذي كانت أزهاره أرجوانية وبيضاء، وبنسبة 3 أرجواني إلى 1 أبيض (الشكل 3).
وعلى هذا فإن صفة واحدة من شفع الصفتين وهو اللون الأرجواني ظهر في الجيل الأول، أما الصفة الثانية فلم تظهر في أي من نباتاته، وهذا ما يُعرف بالسيادة dominance، أما الصفة المستترة (اللون الأبيض) فهي الصفة المتنحية recessive.
كانت أزهار الجيل الثالث وما تلاه، والناتجة من التأبير الذاتي لنباتات الجيل الثاني بيضاء الأزهار، بيضاء اللون، مما يدل على نقاوتها الوراثية، أما نباتات الجيل الثاني الأرجوانية الأزهار فإنها سلكت سلوكاً مغايراً، فثلثها أنتج بالتأبير الذاتي في الجيل الثالث وما يليه أزهاراً أرجوانية فقط، والثلثان الآخران أنتجا فيه كلا اللونين بنسبة 3 نباتات أرجوانية الأزهار ونبات واحد أبيض الأزهار، مما يدل على كون نباتات هذين الثلثين هجينة (الشكل 4).
كرر مندل تلقيحاته في أشفاع الصفات الست الأخرى فحصل على نتائج مماثلة لتجربته حول لوني الأزهار (الشكل 2)، ومن ثم فإن الانتظام الرياضي وقابلية الإعادة لهذه التجارب بنجاح أقنعا مندل أن صفة لون الأزهار، وكذلك الصفات الأخرى التي درسها وحلل نتائجها قد انتقلت مسبباتها من دون أيما تغيير من جيل إلى التالي له. وقد سمَّى مندل هذه المسببات «عوامل» factors، وعُرفت منذ أوائل القرن العشرين باسم «مورثات» (جينات).
اقترح مندل أن كل نبات يمتلك «عاملين» (مورثتين) للون الأزهار، وعاملين لطول الساق، وهكذا لبقية الصفات التي درسها، وأن كل أب يورث نسله أحد العاملين. ولتتبع وراثة صفة لون الأزهار يُستخدم الحرف الكبير «P» (من purple) رمزاً لعامل (مورثة) لون الأزهار القرمزي، والحرف الصغير «p» رمزاً للأليل الخاص باللون الأبيض.
ولكون نباتات الآباء متماثلة الزيجوت homozygous فإن النباتات قرمزية الأزهار تمتلك المورثتين السائدتين، أي PP، وتمتلك النباتات بيضاء الأزهار المورثتين المتنحيتين pp، ولما كان كل أب يورث نسله مورثة واحدة من المورثتين كان النمط الوراثي genotype للجيل الأول هو Pp، وهو بذلك مختلف الزيجوت heterozygous، ومن ثم افترض مندل أن تأثير العامل السائد ستر تأثير العامل المتنحي، وكان النمط المظهري phenotype كل نباتات هذا الجيل هو اللون القرمزي. أما لون أزهار الجيل الثاني فكان موزعاً بنسبة 3 قرمزي :(P-) و1 أبيض (pp)، وهذا موضح في الشكل (2) الذي يبين أيضاً أن ثلث الأزهار القرمزية متماثل الزيجوت (PP) وأن ثلثيها الآخرين مختلفا الزيجوت (Pp)، أي (1 PP: 2 Pp: 1pp).
تبين مما سبق أن أثر الأليل المتنحي لا يظهر في الجيل الأول (الهجين)، كما أن هذا الأليل لا يمتزج بقرينه السائد، ويظهر أثر الأليل المتنحي مجدداً في الجيل الثاني حين وجوده بحالة أصيلة (pp). ويدعى عدم امتزاج أليلات كل شفع من المورثات في أعراس الأفراد الهجينة بظاهرة نقاوة الأعراس، وتكمن فيها الآلية الخلوية للانقسام الاختزالي meiosis.
لم يكتفِ مندل بدراسة الهجونة الأحادية (المعتمدة على شفع واحد من الأليلات)، بل درس أيضاً السلوك الوراثي للنسل في حالة الهجونة الثنائية حيث تتحكم مورثتان اثنتان في الصفة الواحدة، ولاحظ أن كل زوج من الأليلات يورث مستقلاً عن الآخر، وتُعرف هذه الظاهرة بقانون التوزع الحر law of independent assortment. مثال ذلك التهجين بين نباتات بازلاء يمتلك بعضها بذوراً ملساء صفراء اللون، وكلاهما صفة سائدة، ويمتلك بعضها الآخر الصفتين المتنحيتين (بذور مجعدة خضراء اللون)، فكانت بذور الجيل الأول ملساء الشكل وصفراء اللون، أما بذور الجيل الثاني فتوزعت بنسبة 1:3:3:9 (الشكل 3)، وأمكنه تقسيم جميع البذور (وكان عددها 556 بذرة: 315 ملساء صفراء، 101 مجعدة صفراء، 108 ملساء خضراء، 32 مجعدة خضراء) إلى قسمين:
1ـ من حيث الشكل: 315+108=423 بذرة ملساء.
101+32=133 بذرة مجعدة (أي بنسبة 1:3).
2ـ من حيث اللون: 315+101= 416 بذرة صفراء.
108+32=140 بذرة خضراء (أي بنسبة 1:3).
بعد نحو 50 سنة من إجراء مندل لتجاربه اكتُشِفت الصبغيات بعد أن طُوِّر المجهر تطويراً كبيراً، كما دُرس سلوك الصبغيات في أثناء الانقسامات الخلوية، ولاسيما الانقسام الاختزالي الذي يحدث في أثناء تكوين الأعراس gametes الذكرية والأنثوية. وقد لوحظ توازٍ دقيق لسلوك الصبغيات في أثناء الانقسام الاختزالي مع سلوك المورثات الذي سبق أن وصفه مندل. وثبت أيضاً أن أشفاع الأليلات كانت تحمل على أشفاع متماثلة من الصبغيات، وأن هذه الصبغيات تنفصل في أثناء الانقسام الاختزالي، مما يعلل القانون المسمى قانون الانعزال law of segregation (وهو أيضاً لمندل).
الوراثة اللامندلية
يمكن إثبات صحة نتائج مندل في حالة وراثة أكثر من شفعين من الصفات، وبديهي أنه يُشترط لذلك أن تكون أشفاع المورثات محمولة على أشفاع مختلفة من الصبغيات، أي لا تكون مرتبطة معاً [ر. العبور الوراثي].
تميل المورثات القريبة من بعضها على صبغي ما إلى تكوين مجموعة ارتباطية، وتزداد شدة الارتباط فيما بين المورثات بازدياد اقترابها بعضاً من بعض، في حين يزداد احتمال انفصالها عبر ظاهرة العبور crossing over في أثناء الانقسام مع ازدياد المسافة بين مواقعها. وقد كان هذا الاكتشاف من بين عدد كبير من الاكتشافات التي أثبتت عدم صحة تطبيق قانوني مندل في جميع الأحوال.
في أبحاث مندل لم يكن هنالك تأثير لجنس الأبوين في مظاهر الأبناء في كل من الصفات السبع التي درسها، تمييزاً لها من الوراثة المرتبطة بالجنس[ر] sex-linked inheritance، كما هي الحال في مرض الناعور hemophilia مثلاً. كما أن الأنماط المظهرية تختلف في حالة السيادة غير التامة [ر] incomplete dominance حيث يكون مظهر الهجن وسطاً بين مظهري الأبوين، كما هي الحال في ماشية الشورتهورن، إذ يُنتج التلقيح بين حيوانات حمراء اللون وأخرى بيضاء اللون مظهراً وسطاً في الأبناء هو اللون الطوبي أو القرميدي. إضافة إلى ذلك فقد تكون الصفة مسببة عن فعل عدة أشفاع من المورثات أو أن مورثة واحدة قد تسبب عدة صفات.
إن اكتشاف أن المورثات مكونة من الدنا (نحو عام 1950)، واكتشاف جيمس واتسون James Watson وفرنسيس كريك [ر] Francis Crick للتركيب الحلزوني للدنا عام 1953 أدَّيا إلى تطور عظيم في أبحاث الوراثة وتطبيقاتها عبر التقدم الكبير في تحليل المادة الوراثية وطرائق التعامل معها. وبفضل هذه التطورات والمكتشفات التي نجمت عنها فقد استبدلت بالتحاليل الوراثية المندلية تقانات حديثة لإجراء التحليلات على المستويين الخلوي والجزيئي. ومن ثم أصبح ممكناً تحديد المورثات وعزلها ونسخها، وتعرف التركيب الجزيئي الدقيق الخاص بها، وصولاً إلى تنفيذ مشروع الجينوم البشري[ر] الذي حدد التركيب الدقيق لمورثات الإنسان ومواقعها في الصبغيات.
الوراثة الجزيئية:
تهتم الوراثة التقليدية (الكلاسيكية) بدراسة المظاهر الخارجية، في حين أن الدراسة الدقيقة للمورثات التي تسببها تقع تحت عنوان آخر هو الوراثة الجزيئية .molecular genetics
تتضمن مجالات هذا القسم المهم آليات تشغيل الخلايا وتصنيع المكونات المحدد تركيبها في المورثات. ويُركز على التراكيب الفيزيائية والكيمياوية للدنا. إن الرسائل المحفوظة في المورثات (الدنا) تكوِّن التعليمات التكوينية لمظاهر الكائن الحي المختلفة وكل شيء عنه، مثلاً كيف تعمل العضلات والغدد الصم والزمر الدموية وقابلية الفرد للإصابة بأمراض معينة، وغيرها.
تُظهر المورثات وظائفها عبر سلسلة من التفاعلات التي تبدأ باستنساخ رسائل الدنا إلى مكونات مؤقتة هي الرنا المرسال[ر] messenger RNA تنتقل إلى السيتوبلازم، حيث يقوم الرنا الناقل[ر] transfer RNA بنقل الأحماض الأمينية إلى سلاسل البروتينات المتكونة على الريباسات ribosomes وفقاً للتعليمات المنقولة في الرنا الناقل.
تقع دراسة تعبيرية المورثات (كيف تعمل وكيف تُوقف)، وكيف يعمل الراموز على مستوى الدنا والرنا تحت الوراثة الجزيئية. وإن بحوث أسباب السرطان والسعي إلى إيجاد علاجات لها تهتم بالنواحي الجزيئية وذلك لأن الطفرات تحدث على المستوى الكيمياوي للدنا. كما أن بحوث الهندسة الوراثية[ر] والمعالجة الوراثية (الجينية) تعود إلى الوراثة الجزيئية.
وراثة المجموعات
إن وراثة المجموعات (العشائر) population genetics هي أحد فروع علم الوراثة (الذي يمكن عده علماً رياضياً) والذي يهتم باستخدام الحسابات لمعرفة ما يحدث وراثياً في مجموع محدد من الكائنات الحية.
يدرس هذا القسم من الوراثة الاختلافات الوراثية في مجموع من الكائنات من نوع معين، مجموع من الأغنام مثلاً. وهو في روحه يصف هذا المجموع وراثياً، وماذا يحدث فيه نتيجة عوامل معينة: مثل الهجرة migration أو العزل عن مجاميع أخرى أو طرائق التربية breeding methods، أو السلوك أو الموقع الجغرافي والبيئة السائدة والمتغيرة، وغيرها.
وتدرس الوراثة الجزيئية أيضاً كيف يؤثر التنوع الوراثي لمجموع ما في شؤونه مثل صحة الأفراد فيه، فحيوانات الفهد cheetah الإفريقية السريعة مهمة جداً في التنوع الحيواني الأفريقي. وقد أوضحت وراثة المجموعات أن هذه الحيوانات متشابهة وراثياً إلى حد كبير؛ إذ إن طعماً graft جلدياً من أي حيوان منها لن يُرفض من جسم أي حيوان آخر. وبسبب الانخفاض الشديد في التنوع الوراثي ضمن هذا النوع فإن العلماء يخشون أن مرضاً ما قد يسبب القضاء على جميع أفراده ومن ثم انقراضه، إلا إذا توافرت أفراد مقاومة لهذا المرض.
إن الوصف الرياضي لوراثة مجموع ما يفيد من نواحً كثيرة، منها الطب الشرعي، كاستخدام حسابات احتمال التشابه بين البصمة الوراثية [ر] DNA fingerprint لفرد ما وأخرى من فرد آخر. ويستخدم الباحثون الطبيون وراثة المجاميع لمعرفة مدى انتشار طفرات معينة في محاولاتهم لتطوير أدوية وعلاجات جديدة.
الوراثة الكمية
يتأثر عدد من الصفات المهمة في الإنتاج الزراعي والوراثة الطبية وغيرها بعدد من المورثات، إضافة إلى تأثره بالعوامل البيئية. وتُسمى هذه الصفات بالصفات الكمية quantitative traits، وذلك لأن الأنماط المظهرية في مجموع ما تتباين في «كمية» الصفة بدلاً من نوعها. فالطول يختلف «كميا» من كائن إلى آخر وهو مثال لهذه الصفات. أما الصفات المتقطعة discrete فهي على خلاف الصفات الكمية، وإذ تختلف فيها الأنماط المظهرية من حيث «النوع»، مثال ذلك لون العيون البني مقابل اللون الأزرق.
تتأثر الصفات الكمية بكل من:
ـ العوامل الوراثية: بالأشكال المختلفة للأنماط الوراثية لمورثة أو أكثر.
ـ العوامل البيئية: بشروطها الجيدة أو الرديئة إذ تؤثر في تطور الصفة وظهورها.
في حالة بعض الصفات الكمية قد تنتج الفروق في بعض المظاهر من فروق في الأنماط الوراثية في حين تؤدي البيئة دوراً ثانوياً. وفي حالات أخرى قد تكون هذه الفروق المظهرية عائدة إلى تباينات بيئية أساساً. ولكن معظم الصفات الكمية تقع بين هاتين النهايتين، ولابد من أن يؤخذ في الحسبان كل من الوراثة والبيئة في أثناء عمليات التحليل.
إن معظم الصفات المهمة في تربية النبات والحيوان هي صفات كمية. ومن أهمها في الزراعة صفة الإنتاج، مثلاً كمية محصول الذرة أو البطاطا أو العنب من وحدة المساحة، أو كمية الحليب الناتج من البقرة وصنفه، أو عدد البيض من الدجاج، أو إنتاج اللحم من العجول وصنفه وغيرها. وعند الإنسان يمكن الإشارة إلى معدلات نمو الأطفال ووزن الإنسان البالغ وضغط الدم ومستوى الكوليسترول في الدم وطول العمر أمثلة على الصفات الكمية.
ومن جهة أخرى فإن التأثيرات المتعددة للمورثة pleiotropism تشير إلى تحكم مورثة ما بعدة صفات في آن واحد، وقد يكون للمورثة تأثير رئيس وتأثيرات ثانوية. ومن أمثلة ذلك أنيميا كريات الدم الحمراء المنجلية sickle cell anemia التي تسببها مورثة متنحية تأثيرها الأساسي في تكوين خضاب دم hemoglobin شاذ، ولها تأثيرات أخرى.
التفاعل بين الوراثة والبيئة
يتفاعل كثير من المورثات مع عوامل بيئية لإظهار صفات معينة. مثال ذلك مرض فقر الدم (الأنيميا) anemia الذي يتمثل بضعف عام ويُتسبب من نقص في عدد كريات الدم الحمراء، أو من نقص في كمية الدم. وهنالك نماذج مختلفة من هذا المرض، بعضها سببه وراثي، مثل أنيميا كريات الدم الحمراء المنجلية، وبعض آخر سببه نقص مزمن لعنصر الحديد في الغذاء ومن ثم في الجسم، أو من الإصابة بالملاريا. وهنالك أشكال أخرى سببها تآثر (تفاعل) عوامل بيئية معاً. فمثلاً: الناس المصابون بطفرة في إنزيم يدعى غلوكوز ـ6ـ فسفات ديهِدروجينيز glucose-6-phosphate dehydrogenase ـ وهو إنزيم مهم في المحافظة على سلامة الغلاف الخلوي لكريات الدم الحمراء ـ يصابون بفقر دم (أنيميا) شديد حين أكلهم الفول لأن مادة في الفول تسبب تهديم الكريات الدموية الحمراء لديهم، والاسم الشائع لهذا المرض هو نقص الإنزيم G6DP. ويمكن أن يتسبب تهدم الكريات الدموية الحمراء في بعض الناس بفعل عدد من الكيمياويات مثل النفثالين naphthalene الذي يستخدم لمكافحة العُث moth، وبفعل صادات (مضادات حيوية) antibiotics معينة وعقاقير أخرى. يصيب هذا المرض الرجال غالباً وهو منتشر في المناطق الساحلية من البحر المتوسط.
مثال آخر على تضافر شروط عدة لإظهار صفة معقدة هو مرض القلب. فمن المعروف أن العوامل الموروثة في مرض القلب مرتبطة باستقلاب الدهون والكوليستِرول. وقد أمكن تحديد أشكال شديدة من المرض ذات منشأ وراثي، كما أن هنالك مكونات بيئية ترتبط به مثل التدخين والغذاء الغني بالدسم المشبعة والكوليستِرول والسمنة ونقص الرياضة وغيرها.
الوراثة السيتوبلازمية
يحتوي سيتوبلازم معظم الكائنات حقيقية النواة مكونات تدعى المتقدرات (الميتوكوندريا) mitochondria وفيها تُستخلص الطاقة energy من جزيئات الغذاء وتُخزن على هيئة ثالث فسفات الأدينوزين triphosphate (ATP) adenosine لتستخدم في الخلية حين الحاجة.
تحتوي المتقدرات على جزيئات دنا خاصة بها، ويدعى دنا المتقدرات mitochondrial DNA (mtDNA)، وهذه تحتوي على عدد قليل من المورثات الخاصة باستقلاب الطاقة (إضافة إلى ما هو موجود منها في الصبغيات).
إضافة إلى المتقدرات تحتوي الخلايا النباتية أيضاً على مكونات تدعى صانعات خضراء (كلوروبلاست) chloroplasts، يحدث فيها التركيب الضوئي photosynthesis. وهذه المكونات تحتوي أيضاً على جزيئات دنا تدعى دنا الكلوروبلاست chloroplast DNA (cpDNA)، وهذا الدنا يحتوي على مورثات تُرمِّز لبعض البروتينات اللازمة للتركيب الضوئي.
تتحكم المورثات الموجودة في الصبغيات بالغالبية العظمى من صفات الكائن الحي، لكن هنالك شذوذ عن ذلك يتمثل في أن عدداً ضئيلاً من الصفات يخضع لمورثات موجودة في المتقدرات أو الكلوروبلاست في السيتوبلازم، وتدعى الوراثة آنذاك وراثة سيتوبلازمية cytoplasmic inheritance.
تبرقش أوراق نبات شب الليل البستاني (نبات الساعة الرابعة) Mirabilis jalapa هي من أقدم الصفات المدروسة للوراثة السيتوبلازمية، والنباتات المبرقشة تمتلك أغصاناً أوراقها ذات لون أخضر طبيعي، وأخرى ذات أوراق بيضاء، وثالثة ذات أوراق مبرقشة باللونين معاً.
وجد كورنز Correns (وهو الذي اكتشف هذه الحالة) أن البذور الناتجة من أزهار على الأغصان خضراء الأوراق أنتجت جميعها نباتات خضراء الأوراق، بغض النظر عن مظهر الأوراق في الأغصان التي أُخذت حبوب الطلع منها، أي سواء كانت خضراء أم مبرقشة أم بيضاء. وأنتجت بذور الأغصان بيضاء الأوراق نسلاً أبيض الأوراق بغض النظر عن مظهر الأوراق في الأغصان التي أُخذت منها حبوب الطلع. ومات هذا النسل في مرحلة الإنتاش لعدم امتلاكه يخضوراً. أما البذور الناتجة على الأغصان المبرقشة الأوراق فأنتجت بنسب مختلفة نسلاً أخضر وآخر أبيض وثالثاً مبرقشاً، وذلك بغض النظر أيضاً عن مظهر أوراق الأغصان التي أُخذت منها حبوب الطلع. وهذا يشير إلى أن مظهر النسل يماثل دوماً الأم، في حين لم يسهم الأب الذي أنتج حبوب الطلع بأي شكل في مظهر النسل. وهذا الفرق واضح للغاية في التهجينات الآتية التي أجراها كورنز:
تُفسَّر هذه الوراثة بوجود المورثات ذات العلاقة في الكلوروبلاستيدات ضمن السيتوبلازم، وعادة تتلقى البويضات المخصبة zygotes في الكائنات حقيقية النواة معظم سيتوبلازمها من البويضة (العروس الأنثوية) وتسهم الأعراس الذكرية بنسبة قليلة جداً من السيتوبلازم. ومن ثم فإن أي مورثة في السيتوبلازم ستُظهِر وراثة أمومية maternal inheritance. ويعود تبرقش الأوراق في هذا النبات إلى احتوائها كلوروبلاستيدات خضراء طبيعية وأخرى بيضاء لا تحوي كلوروفيلاً.
لا تمتلك الكلوروبلاستيدات والمتقدرات صبغيات، ولكنها تمتلك جزيئات من الدنا هي التي تحمل المورثات، وهي لا تبدي سلوكاً منتظماً حين الانقسام الخلوي، ومن ثم فإن توزيعها في الخلايا البنات هو توزيع عشوائي يؤدي إلى كون الوراثة السيتوبلازمية غير منتظمة وتشذ عن القوانين الوراثية المعروفة.
يمتلك جزيء دنا المتقدرات عند الإنسان نحو 16500 زوج من القواعد ويحتوي على 37 مورثة ضرورية لتنفيذ الوظائف الطبيعية للمتقدرات، ثلاث عشرة منها توفِّر المعلومات اللازمة لصنع إنزيمات مهمة ذات علاقة بالفسفرة التأكسدية oxidative phosphorylation، وهي العملية التي تستخدم الأكسجين والسكريات البسيطة لتكوين ثالث فسفات الأدينوزين الذي يُعد المصدر الرئيس للطاقة للخلية. أما المورثات المتبقية فهي توفِّر المعلومات اللازمة لصنع جزيئات الرنا الناقل[ر] transfer RNA والرنا الريباسي ribosomal RNA اللازمة لصنع البروتينات.
يمكن حدوث طفرات في دنا المتقدرات، وقد رُبط ذلك ببعض حالات السرطان في الثدي والقُولُون (المعي الغليظ) والكبد والمعدة والكلية، وكذلك بحالات من ابيضاض الدم (اللوكيميا) leukemia والورم اللمفي (اللمفوم) lymphoma.
كما يمكن أن تؤدي الاختلافات الموروثة في الدنا إلى حدوث مشكلات في النمو والتطور ووظائف الجسم. وغالباً ما تتأثر الأجهزة متعددة الأعضاء بالاختلالات الحادثة في دنا المتقدرات، ويحدث ذلك بوضوح في الأعضاء والأنسجة التي تتطلب قدراً كبيراً من الطاقة، مثل القلب والدماغ والعضلات. ويشمل بعض آثار الطفرات في دنا المتقدرات ضعفاً واستنزافاً عضليين، وصعوبات في الحركة، ومرض السكري، والخَرَف dementia، وفقد السمع، وفشلاً كلوياً، ومرض القلب، ومشكلات في العين والبصر.
أسامة عارف العوا
Genetics - Génétique
الوراثة (علم ـ)
الوراثة genetics هي العلم الذي يدرس كيفية انتقال الصفات من جيل إلى آخر يليه. وهي تؤثر في كل صفة من صفات أي كائن حي على وجه البسيطة، ويمكن القول إنه في النصف الثاني من القرن العشرين لم يتغير أي علم بحد ذاته ويتطور أو يغير العالم كما فعل علم الوراثة وتطبيقاته الكثيرة المهمة التي يجب النظر إليها وتفهمها على أنها قاعدة أساسية لجميع العلوم الحيوية (البيولوجية) والعلوم الطبية.
لمحة تاريخية:
توافرت عناصر الوراثة منذ بدء الخليقة وكانت مهمة الأثر في نشوء الأنواع المختلفة وتطورها. وفيما بين عامي 470 ـ322ق.م كتب أرسطو وأفلاطون وأبقراط عن وراثة الصفات البشرية، واعتقدوا أن السائل المنوي مسؤول بشكل ما عن نقل الصفات إلى الأبناء، على الرغم من أنهم لم يدركوا مساهمات كل من الأبوين في ذلك.
وصف روبرت هوك Robert Hooke الخلية أول مرة عام 1665 مستخدماً مجهراً ضوئياً بدائياً. وفي عام 1839 اقترح ماتياس شلايدن Matthias Schleiden وتيودور شڤان Theodor Schwann أن الخلايا والأنوية كانت الوحدات الرئيسة في الحياة. وفي عام 1855 اقترح رودُلف ڤيرشو Rudolph Virchow أن الخلايا الحديثة تتكون فقط من انقسام خلايا موجودة قبلها.
في عام 1859 نشر داروين[ر] Darwin كتابه «في أصل الأنواع» On the Origin of Species مقترحاً حدوث التطور evolution بوساطة الاصطفاء الطبيعي natural selection. وفي عام 1866 نشر غريغور مندل [ر] بحثه «تجارب في تهجين النبات» Experiments in Plant Hybridization التي اقترحت مبادئ الوراثة وأدخلت مفهوم العوامل الوراثية genetic factors التي تسبب الصفات السائدة dominant traits والصفات المتنحية recessive traits، ويعرف مندل اليوم بأنه الأب المؤسس لعلم الوراثة.
حصل يوهان ميشَر Johann Miescher عام 1869 على مستخلص من الحمض النووي وأعطاها اسم «نووين» nuclein، ولعله بذلك كان أول من اكتشف الأسس الفيزيائية للوراثة، واقتضى الأمر نحو 80 سنة قبل أن يُوضَح أن النووين هي الدنا DNA. وبين عامي 1879-1882 اكتشف والتر فليمنغ Walther Flemming باستخدامه صبغات حديثة خيوطاً رفيعة يبدو أنها قيد الانقسام ضمن أنوية خلايا يرقات السلمندر salamander، وبذلك يكون قد اكتشف الصبغيات (الكروموزومات) chromosomes.
في عام 1883 أطلق فرنسيس غالتون Francis Galton اسم تحسين النسل eugenics لوصف تحسين الإنسان بوساطة التربية الانتقائية selective breeding، وأسس مخبراً للتحسين الوطني للنسل في الكلية الجامعية في لندن.
شهد القرن العشرون اكتشافات مذهلة في علم الوراثة، وابتدأ في عام 1900 بإعادة اكتشاف مبادئ (أو قوانين) مندل الوراثية التي ظلت مهملة منذ أعلنها، وكان ذلك من قبل ثلاثة علماء هم هوغو دوفريز Hugo de Vries وكارل كورنز Karl Correns وإريش فون تشيرماك Erich von Tschermak.
تتابعت أبحاث الوراثة على نحو سريع منذ مطلع القرن العشرين وفي أثنائه، وكان منها على سبيل المثال ما يأتي:
أطلق وليَم بيتسون William Bateson اسم genetics على علم الوراثة، وفي عام 1910 استخدم العالم الشهير توماس مورغَن[ر] ذبابة الخل Drosophila melanogaster في أبحاثه، وأثبت ارتباط بعض الصفات بالجنس. وأوضح أحد تلامذته كالفِن بريدجز Calvin Bridges عام 1913 أن المورثات توجد في الصبغيات. وفي العام ذاته أظهر تلميذه الآخر ألفرد ستورتِفانت Alfred Sturtevant الترتيب الخطي للمورثات على الصبغي، كترتيب حبات المسبحة على خيطها؛ كما أوضح أن مورثة أي صفة معينة توجد في موقع locus ثابت على صبغي معين. وفي عام 1926 اكتشف هيرمَن ج. موللر Hermann J. Muller - وهو تلميذ آخـر لمورغَن - طرائق لإنتاج طفرات[ر] mutations باستخدام الإشعاع وغيره من مواد مطَفِّرة mutagens، وبذلك اكتشف منشأ المورثات الجديدة بالطفرات، وهي نظرية كان دوفريز اقترحها في مطلع تسعينيات القرن العشرين. وفي عام 1941 اقترح جورج بيدل George Beadle وإدوارد تاتوم Edward Tatum أن «المورثة الواحدة تُرمِّز لإنزيم واحد».
لعل أعظم الاكتشافات في علم الوراثة كان تحديد البنية الحلزونية المزدوجة للدنا من قبل فرنسيس كريك[ر] Francis Crick وجيمس واتسون James Watson عام 1953، ومن ثم أوضح واتسون المبدأ الرئيس في الوراثة وهو أن الدنا يمكن أن تتضاعف لإنتاج دنا، أو أن تنتج رنا مرسال mRNA يستطيع بدوره إنتاج بروتين.
ليس من اليسير إدراج الاكتشافات كافة في مختلف مجالات علم الوراثة والتي تم تحقيقها في القرن العشرين، لكنه يجب عدم إهمال الإشارة إلى أعمال الهندسة الوراثية[ر] genetic engineering وتطبيقاتها الكثيرة التي ابتدأت منذ مطلع السبعينيات، وكذلك إلى النتائج الباهرة لمشروع الجينوم البشري[ر] Human Genome Project الذي تم تنفيذه عام 2003.
المورثة:
الشكل (1) |
يمتلك كل إنسان (وحيوان) نسختين copies من كل مورثة (ماعدا المرتبطة بالجنس منها في الذكور) واحدة منهما من الأب والثانية من الأم. والغالبية العظمى من المورثات هي واحدة في جميع الناس، تختلف فيما بينهم بما لا يزيد على 0.1% منها. والأليلات alleles هي أشكال من المورثات ذاتها ولكن يختلف بعضها عن بعض بتتالي القواعد فيها، وتسهم هذه الاختلافات البسيطة في تحديد الصفات الخاصة بكل كائن.
يحتوي كل صبغي على كثير من المورثات، ويبلغ عددها في الإنسان نحو 25000 مورثة، وتختلف أعدادها من صبغي إلى آخر ومن نوع إلى نوع، وقد أمكن معرفة الكثير عنها وعن تركيبها ووظائفها من دراسات مشروع الجينوم البشري[ر]. وتشكل المورثات ما لا يزيد على 2% من جينوم الإنسان، أما الباقي فيتكون من مناطق لا تُرمِّز لبروتينات. ويُعتقد أن وظائفها تضم إعطاء الصبغي هيكلية مناسبة، إضافة إلى تنظيم أين ومتى تُصنَّع البروتينات وكمياتها؟
الوراثة المندلية
الراهب النمسوي غريغور يوهان مندل [ر] Gregor Johann Mendel هو أب علم الوراثة، و يعود إليه الفضل في وضع أسسها عبر أول تحليلات إحصائية منتظمة وسليمة أجراها على نتائج تجاربه في نباتات البازلاء في حديقة الدير الذي كان يقطنه. وفي عام 1865 وفَّرت هذه التجارب أول أدلة قاطعة بشأن وحدات الوراثة التي سمَّاها آنذاك «عوامل» factors، وتُسمى اليوم مورثات (جينات) genes، مع العلم أنه لم يكن يعرف لا المورثات ولا الصبغيات التي تحملها.
تتميز البازلاء التي اختارها مندل في تجاربه بوضوح تام للصفات، فمثلاً لون الأزهار هو أرجواني أو أبيض، والساق طويلة أو قصيرة والبذور مجعدة أو ملساء، وغيرها من سبع صفات درسها (الشكل 2). واستعداداً لتنفيذ تجاربه حرص على تكوين مجموعات أصيلة (نقية) pure وراثياً بتكرار التأبير الذاتي لنباتاته للصفات المرغوبة أجيالاً متعددة وذلك لضمان امتلاك جميع النباتات للصفة ذاتها (مثلاً نباتات طويلة الساق، ونباتات قصيرة الساق). وابتدأ تحليلاته بتتبع وراثة صفة واحدة فقط في وقت واحد.
الشكل (2) |
الشكل (3) |
كانت أزهار الجيل الثالث وما تلاه، والناتجة من التأبير الذاتي لنباتات الجيل الثاني بيضاء الأزهار، بيضاء اللون، مما يدل على نقاوتها الوراثية، أما نباتات الجيل الثاني الأرجوانية الأزهار فإنها سلكت سلوكاً مغايراً، فثلثها أنتج بالتأبير الذاتي في الجيل الثالث وما يليه أزهاراً أرجوانية فقط، والثلثان الآخران أنتجا فيه كلا اللونين بنسبة 3 نباتات أرجوانية الأزهار ونبات واحد أبيض الأزهار، مما يدل على كون نباتات هذين الثلثين هجينة (الشكل 4).
كرر مندل تلقيحاته في أشفاع الصفات الست الأخرى فحصل على نتائج مماثلة لتجربته حول لوني الأزهار (الشكل 2)، ومن ثم فإن الانتظام الرياضي وقابلية الإعادة لهذه التجارب بنجاح أقنعا مندل أن صفة لون الأزهار، وكذلك الصفات الأخرى التي درسها وحلل نتائجها قد انتقلت مسبباتها من دون أيما تغيير من جيل إلى التالي له. وقد سمَّى مندل هذه المسببات «عوامل» factors، وعُرفت منذ أوائل القرن العشرين باسم «مورثات» (جينات).
اقترح مندل أن كل نبات يمتلك «عاملين» (مورثتين) للون الأزهار، وعاملين لطول الساق، وهكذا لبقية الصفات التي درسها، وأن كل أب يورث نسله أحد العاملين. ولتتبع وراثة صفة لون الأزهار يُستخدم الحرف الكبير «P» (من purple) رمزاً لعامل (مورثة) لون الأزهار القرمزي، والحرف الصغير «p» رمزاً للأليل الخاص باللون الأبيض.
الشكل (4) |
تبين مما سبق أن أثر الأليل المتنحي لا يظهر في الجيل الأول (الهجين)، كما أن هذا الأليل لا يمتزج بقرينه السائد، ويظهر أثر الأليل المتنحي مجدداً في الجيل الثاني حين وجوده بحالة أصيلة (pp). ويدعى عدم امتزاج أليلات كل شفع من المورثات في أعراس الأفراد الهجينة بظاهرة نقاوة الأعراس، وتكمن فيها الآلية الخلوية للانقسام الاختزالي meiosis.
لم يكتفِ مندل بدراسة الهجونة الأحادية (المعتمدة على شفع واحد من الأليلات)، بل درس أيضاً السلوك الوراثي للنسل في حالة الهجونة الثنائية حيث تتحكم مورثتان اثنتان في الصفة الواحدة، ولاحظ أن كل زوج من الأليلات يورث مستقلاً عن الآخر، وتُعرف هذه الظاهرة بقانون التوزع الحر law of independent assortment. مثال ذلك التهجين بين نباتات بازلاء يمتلك بعضها بذوراً ملساء صفراء اللون، وكلاهما صفة سائدة، ويمتلك بعضها الآخر الصفتين المتنحيتين (بذور مجعدة خضراء اللون)، فكانت بذور الجيل الأول ملساء الشكل وصفراء اللون، أما بذور الجيل الثاني فتوزعت بنسبة 1:3:3:9 (الشكل 3)، وأمكنه تقسيم جميع البذور (وكان عددها 556 بذرة: 315 ملساء صفراء، 101 مجعدة صفراء، 108 ملساء خضراء، 32 مجعدة خضراء) إلى قسمين:
1ـ من حيث الشكل: 315+108=423 بذرة ملساء.
101+32=133 بذرة مجعدة (أي بنسبة 1:3).
2ـ من حيث اللون: 315+101= 416 بذرة صفراء.
108+32=140 بذرة خضراء (أي بنسبة 1:3).
بعد نحو 50 سنة من إجراء مندل لتجاربه اكتُشِفت الصبغيات بعد أن طُوِّر المجهر تطويراً كبيراً، كما دُرس سلوك الصبغيات في أثناء الانقسامات الخلوية، ولاسيما الانقسام الاختزالي الذي يحدث في أثناء تكوين الأعراس gametes الذكرية والأنثوية. وقد لوحظ توازٍ دقيق لسلوك الصبغيات في أثناء الانقسام الاختزالي مع سلوك المورثات الذي سبق أن وصفه مندل. وثبت أيضاً أن أشفاع الأليلات كانت تحمل على أشفاع متماثلة من الصبغيات، وأن هذه الصبغيات تنفصل في أثناء الانقسام الاختزالي، مما يعلل القانون المسمى قانون الانعزال law of segregation (وهو أيضاً لمندل).
الوراثة اللامندلية
يمكن إثبات صحة نتائج مندل في حالة وراثة أكثر من شفعين من الصفات، وبديهي أنه يُشترط لذلك أن تكون أشفاع المورثات محمولة على أشفاع مختلفة من الصبغيات، أي لا تكون مرتبطة معاً [ر. العبور الوراثي].
تميل المورثات القريبة من بعضها على صبغي ما إلى تكوين مجموعة ارتباطية، وتزداد شدة الارتباط فيما بين المورثات بازدياد اقترابها بعضاً من بعض، في حين يزداد احتمال انفصالها عبر ظاهرة العبور crossing over في أثناء الانقسام مع ازدياد المسافة بين مواقعها. وقد كان هذا الاكتشاف من بين عدد كبير من الاكتشافات التي أثبتت عدم صحة تطبيق قانوني مندل في جميع الأحوال.
في أبحاث مندل لم يكن هنالك تأثير لجنس الأبوين في مظاهر الأبناء في كل من الصفات السبع التي درسها، تمييزاً لها من الوراثة المرتبطة بالجنس[ر] sex-linked inheritance، كما هي الحال في مرض الناعور hemophilia مثلاً. كما أن الأنماط المظهرية تختلف في حالة السيادة غير التامة [ر] incomplete dominance حيث يكون مظهر الهجن وسطاً بين مظهري الأبوين، كما هي الحال في ماشية الشورتهورن، إذ يُنتج التلقيح بين حيوانات حمراء اللون وأخرى بيضاء اللون مظهراً وسطاً في الأبناء هو اللون الطوبي أو القرميدي. إضافة إلى ذلك فقد تكون الصفة مسببة عن فعل عدة أشفاع من المورثات أو أن مورثة واحدة قد تسبب عدة صفات.
إن اكتشاف أن المورثات مكونة من الدنا (نحو عام 1950)، واكتشاف جيمس واتسون James Watson وفرنسيس كريك [ر] Francis Crick للتركيب الحلزوني للدنا عام 1953 أدَّيا إلى تطور عظيم في أبحاث الوراثة وتطبيقاتها عبر التقدم الكبير في تحليل المادة الوراثية وطرائق التعامل معها. وبفضل هذه التطورات والمكتشفات التي نجمت عنها فقد استبدلت بالتحاليل الوراثية المندلية تقانات حديثة لإجراء التحليلات على المستويين الخلوي والجزيئي. ومن ثم أصبح ممكناً تحديد المورثات وعزلها ونسخها، وتعرف التركيب الجزيئي الدقيق الخاص بها، وصولاً إلى تنفيذ مشروع الجينوم البشري[ر] الذي حدد التركيب الدقيق لمورثات الإنسان ومواقعها في الصبغيات.
الوراثة الجزيئية:
تهتم الوراثة التقليدية (الكلاسيكية) بدراسة المظاهر الخارجية، في حين أن الدراسة الدقيقة للمورثات التي تسببها تقع تحت عنوان آخر هو الوراثة الجزيئية .molecular genetics
تتضمن مجالات هذا القسم المهم آليات تشغيل الخلايا وتصنيع المكونات المحدد تركيبها في المورثات. ويُركز على التراكيب الفيزيائية والكيمياوية للدنا. إن الرسائل المحفوظة في المورثات (الدنا) تكوِّن التعليمات التكوينية لمظاهر الكائن الحي المختلفة وكل شيء عنه، مثلاً كيف تعمل العضلات والغدد الصم والزمر الدموية وقابلية الفرد للإصابة بأمراض معينة، وغيرها.
تُظهر المورثات وظائفها عبر سلسلة من التفاعلات التي تبدأ باستنساخ رسائل الدنا إلى مكونات مؤقتة هي الرنا المرسال[ر] messenger RNA تنتقل إلى السيتوبلازم، حيث يقوم الرنا الناقل[ر] transfer RNA بنقل الأحماض الأمينية إلى سلاسل البروتينات المتكونة على الريباسات ribosomes وفقاً للتعليمات المنقولة في الرنا الناقل.
تقع دراسة تعبيرية المورثات (كيف تعمل وكيف تُوقف)، وكيف يعمل الراموز على مستوى الدنا والرنا تحت الوراثة الجزيئية. وإن بحوث أسباب السرطان والسعي إلى إيجاد علاجات لها تهتم بالنواحي الجزيئية وذلك لأن الطفرات تحدث على المستوى الكيمياوي للدنا. كما أن بحوث الهندسة الوراثية[ر] والمعالجة الوراثية (الجينية) تعود إلى الوراثة الجزيئية.
وراثة المجموعات
إن وراثة المجموعات (العشائر) population genetics هي أحد فروع علم الوراثة (الذي يمكن عده علماً رياضياً) والذي يهتم باستخدام الحسابات لمعرفة ما يحدث وراثياً في مجموع محدد من الكائنات الحية.
يدرس هذا القسم من الوراثة الاختلافات الوراثية في مجموع من الكائنات من نوع معين، مجموع من الأغنام مثلاً. وهو في روحه يصف هذا المجموع وراثياً، وماذا يحدث فيه نتيجة عوامل معينة: مثل الهجرة migration أو العزل عن مجاميع أخرى أو طرائق التربية breeding methods، أو السلوك أو الموقع الجغرافي والبيئة السائدة والمتغيرة، وغيرها.
وتدرس الوراثة الجزيئية أيضاً كيف يؤثر التنوع الوراثي لمجموع ما في شؤونه مثل صحة الأفراد فيه، فحيوانات الفهد cheetah الإفريقية السريعة مهمة جداً في التنوع الحيواني الأفريقي. وقد أوضحت وراثة المجموعات أن هذه الحيوانات متشابهة وراثياً إلى حد كبير؛ إذ إن طعماً graft جلدياً من أي حيوان منها لن يُرفض من جسم أي حيوان آخر. وبسبب الانخفاض الشديد في التنوع الوراثي ضمن هذا النوع فإن العلماء يخشون أن مرضاً ما قد يسبب القضاء على جميع أفراده ومن ثم انقراضه، إلا إذا توافرت أفراد مقاومة لهذا المرض.
إن الوصف الرياضي لوراثة مجموع ما يفيد من نواحً كثيرة، منها الطب الشرعي، كاستخدام حسابات احتمال التشابه بين البصمة الوراثية [ر] DNA fingerprint لفرد ما وأخرى من فرد آخر. ويستخدم الباحثون الطبيون وراثة المجاميع لمعرفة مدى انتشار طفرات معينة في محاولاتهم لتطوير أدوية وعلاجات جديدة.
الوراثة الكمية
يتأثر عدد من الصفات المهمة في الإنتاج الزراعي والوراثة الطبية وغيرها بعدد من المورثات، إضافة إلى تأثره بالعوامل البيئية. وتُسمى هذه الصفات بالصفات الكمية quantitative traits، وذلك لأن الأنماط المظهرية في مجموع ما تتباين في «كمية» الصفة بدلاً من نوعها. فالطول يختلف «كميا» من كائن إلى آخر وهو مثال لهذه الصفات. أما الصفات المتقطعة discrete فهي على خلاف الصفات الكمية، وإذ تختلف فيها الأنماط المظهرية من حيث «النوع»، مثال ذلك لون العيون البني مقابل اللون الأزرق.
تتأثر الصفات الكمية بكل من:
ـ العوامل الوراثية: بالأشكال المختلفة للأنماط الوراثية لمورثة أو أكثر.
ـ العوامل البيئية: بشروطها الجيدة أو الرديئة إذ تؤثر في تطور الصفة وظهورها.
في حالة بعض الصفات الكمية قد تنتج الفروق في بعض المظاهر من فروق في الأنماط الوراثية في حين تؤدي البيئة دوراً ثانوياً. وفي حالات أخرى قد تكون هذه الفروق المظهرية عائدة إلى تباينات بيئية أساساً. ولكن معظم الصفات الكمية تقع بين هاتين النهايتين، ولابد من أن يؤخذ في الحسبان كل من الوراثة والبيئة في أثناء عمليات التحليل.
إن معظم الصفات المهمة في تربية النبات والحيوان هي صفات كمية. ومن أهمها في الزراعة صفة الإنتاج، مثلاً كمية محصول الذرة أو البطاطا أو العنب من وحدة المساحة، أو كمية الحليب الناتج من البقرة وصنفه، أو عدد البيض من الدجاج، أو إنتاج اللحم من العجول وصنفه وغيرها. وعند الإنسان يمكن الإشارة إلى معدلات نمو الأطفال ووزن الإنسان البالغ وضغط الدم ومستوى الكوليسترول في الدم وطول العمر أمثلة على الصفات الكمية.
ومن جهة أخرى فإن التأثيرات المتعددة للمورثة pleiotropism تشير إلى تحكم مورثة ما بعدة صفات في آن واحد، وقد يكون للمورثة تأثير رئيس وتأثيرات ثانوية. ومن أمثلة ذلك أنيميا كريات الدم الحمراء المنجلية sickle cell anemia التي تسببها مورثة متنحية تأثيرها الأساسي في تكوين خضاب دم hemoglobin شاذ، ولها تأثيرات أخرى.
التفاعل بين الوراثة والبيئة
يتفاعل كثير من المورثات مع عوامل بيئية لإظهار صفات معينة. مثال ذلك مرض فقر الدم (الأنيميا) anemia الذي يتمثل بضعف عام ويُتسبب من نقص في عدد كريات الدم الحمراء، أو من نقص في كمية الدم. وهنالك نماذج مختلفة من هذا المرض، بعضها سببه وراثي، مثل أنيميا كريات الدم الحمراء المنجلية، وبعض آخر سببه نقص مزمن لعنصر الحديد في الغذاء ومن ثم في الجسم، أو من الإصابة بالملاريا. وهنالك أشكال أخرى سببها تآثر (تفاعل) عوامل بيئية معاً. فمثلاً: الناس المصابون بطفرة في إنزيم يدعى غلوكوز ـ6ـ فسفات ديهِدروجينيز glucose-6-phosphate dehydrogenase ـ وهو إنزيم مهم في المحافظة على سلامة الغلاف الخلوي لكريات الدم الحمراء ـ يصابون بفقر دم (أنيميا) شديد حين أكلهم الفول لأن مادة في الفول تسبب تهديم الكريات الدموية الحمراء لديهم، والاسم الشائع لهذا المرض هو نقص الإنزيم G6DP. ويمكن أن يتسبب تهدم الكريات الدموية الحمراء في بعض الناس بفعل عدد من الكيمياويات مثل النفثالين naphthalene الذي يستخدم لمكافحة العُث moth، وبفعل صادات (مضادات حيوية) antibiotics معينة وعقاقير أخرى. يصيب هذا المرض الرجال غالباً وهو منتشر في المناطق الساحلية من البحر المتوسط.
مثال آخر على تضافر شروط عدة لإظهار صفة معقدة هو مرض القلب. فمن المعروف أن العوامل الموروثة في مرض القلب مرتبطة باستقلاب الدهون والكوليستِرول. وقد أمكن تحديد أشكال شديدة من المرض ذات منشأ وراثي، كما أن هنالك مكونات بيئية ترتبط به مثل التدخين والغذاء الغني بالدسم المشبعة والكوليستِرول والسمنة ونقص الرياضة وغيرها.
الوراثة السيتوبلازمية
يحتوي سيتوبلازم معظم الكائنات حقيقية النواة مكونات تدعى المتقدرات (الميتوكوندريا) mitochondria وفيها تُستخلص الطاقة energy من جزيئات الغذاء وتُخزن على هيئة ثالث فسفات الأدينوزين triphosphate (ATP) adenosine لتستخدم في الخلية حين الحاجة.
تحتوي المتقدرات على جزيئات دنا خاصة بها، ويدعى دنا المتقدرات mitochondrial DNA (mtDNA)، وهذه تحتوي على عدد قليل من المورثات الخاصة باستقلاب الطاقة (إضافة إلى ما هو موجود منها في الصبغيات).
إضافة إلى المتقدرات تحتوي الخلايا النباتية أيضاً على مكونات تدعى صانعات خضراء (كلوروبلاست) chloroplasts، يحدث فيها التركيب الضوئي photosynthesis. وهذه المكونات تحتوي أيضاً على جزيئات دنا تدعى دنا الكلوروبلاست chloroplast DNA (cpDNA)، وهذا الدنا يحتوي على مورثات تُرمِّز لبعض البروتينات اللازمة للتركيب الضوئي.
تتحكم المورثات الموجودة في الصبغيات بالغالبية العظمى من صفات الكائن الحي، لكن هنالك شذوذ عن ذلك يتمثل في أن عدداً ضئيلاً من الصفات يخضع لمورثات موجودة في المتقدرات أو الكلوروبلاست في السيتوبلازم، وتدعى الوراثة آنذاك وراثة سيتوبلازمية cytoplasmic inheritance.
تبرقش أوراق نبات شب الليل البستاني (نبات الساعة الرابعة) Mirabilis jalapa هي من أقدم الصفات المدروسة للوراثة السيتوبلازمية، والنباتات المبرقشة تمتلك أغصاناً أوراقها ذات لون أخضر طبيعي، وأخرى ذات أوراق بيضاء، وثالثة ذات أوراق مبرقشة باللونين معاً.
وجد كورنز Correns (وهو الذي اكتشف هذه الحالة) أن البذور الناتجة من أزهار على الأغصان خضراء الأوراق أنتجت جميعها نباتات خضراء الأوراق، بغض النظر عن مظهر الأوراق في الأغصان التي أُخذت حبوب الطلع منها، أي سواء كانت خضراء أم مبرقشة أم بيضاء. وأنتجت بذور الأغصان بيضاء الأوراق نسلاً أبيض الأوراق بغض النظر عن مظهر الأوراق في الأغصان التي أُخذت منها حبوب الطلع. ومات هذا النسل في مرحلة الإنتاش لعدم امتلاكه يخضوراً. أما البذور الناتجة على الأغصان المبرقشة الأوراق فأنتجت بنسب مختلفة نسلاً أخضر وآخر أبيض وثالثاً مبرقشاً، وذلك بغض النظر أيضاً عن مظهر أوراق الأغصان التي أُخذت منها حبوب الطلع. وهذا يشير إلى أن مظهر النسل يماثل دوماً الأم، في حين لم يسهم الأب الذي أنتج حبوب الطلع بأي شكل في مظهر النسل. وهذا الفرق واضح للغاية في التهجينات الآتية التي أجراها كورنز:
لا تمتلك الكلوروبلاستيدات والمتقدرات صبغيات، ولكنها تمتلك جزيئات من الدنا هي التي تحمل المورثات، وهي لا تبدي سلوكاً منتظماً حين الانقسام الخلوي، ومن ثم فإن توزيعها في الخلايا البنات هو توزيع عشوائي يؤدي إلى كون الوراثة السيتوبلازمية غير منتظمة وتشذ عن القوانين الوراثية المعروفة.
يمتلك جزيء دنا المتقدرات عند الإنسان نحو 16500 زوج من القواعد ويحتوي على 37 مورثة ضرورية لتنفيذ الوظائف الطبيعية للمتقدرات، ثلاث عشرة منها توفِّر المعلومات اللازمة لصنع إنزيمات مهمة ذات علاقة بالفسفرة التأكسدية oxidative phosphorylation، وهي العملية التي تستخدم الأكسجين والسكريات البسيطة لتكوين ثالث فسفات الأدينوزين الذي يُعد المصدر الرئيس للطاقة للخلية. أما المورثات المتبقية فهي توفِّر المعلومات اللازمة لصنع جزيئات الرنا الناقل[ر] transfer RNA والرنا الريباسي ribosomal RNA اللازمة لصنع البروتينات.
يمكن حدوث طفرات في دنا المتقدرات، وقد رُبط ذلك ببعض حالات السرطان في الثدي والقُولُون (المعي الغليظ) والكبد والمعدة والكلية، وكذلك بحالات من ابيضاض الدم (اللوكيميا) leukemia والورم اللمفي (اللمفوم) lymphoma.
كما يمكن أن تؤدي الاختلافات الموروثة في الدنا إلى حدوث مشكلات في النمو والتطور ووظائف الجسم. وغالباً ما تتأثر الأجهزة متعددة الأعضاء بالاختلالات الحادثة في دنا المتقدرات، ويحدث ذلك بوضوح في الأعضاء والأنسجة التي تتطلب قدراً كبيراً من الطاقة، مثل القلب والدماغ والعضلات. ويشمل بعض آثار الطفرات في دنا المتقدرات ضعفاً واستنزافاً عضليين، وصعوبات في الحركة، ومرض السكري، والخَرَف dementia، وفقد السمع، وفشلاً كلوياً، ومرض القلب، ومشكلات في العين والبصر.
أسامة عارف العوا