تاويل
Ta’wil / Interpretation - Ta’wil / Interprétation
التأويل
التَأْوِيل في اللغة مصدر الفعل أَوَّل، يُؤَوِّل، تأويلاً، وذلك بتعدية آلَ، يَؤُول، أَوْلاً وإِيَالاً، ومعنى آلَ رجع وصار، ومنه المَآل، وهو المرجع، فتكون أَوَّل بمعنى أرجع. وقد تطورت كلمة التأويل من معناها اللغوي إلى أن صارت مصطلحاً تثبت أهميته في كلّ بيئة فكرية افتقرت إليه، حتى اكتسى لَبوسها وسار في اتجاهها فاعلاً ومنفعلاً إلى درجة اختلاف مفهوم التأويل من علم لآخر.
علوم القرآن الكريم
كثيراً مايقترن التأويل في علوم القرآن بالتفسير[ر]. وقد اختلف علماء هذا الفن في تحديد المراد من هذا المصطلح إلى مذاهب، أهمها:
1ـ التفسير والتأويل مترادفان يدلاّن على معنى واحد هو بيان كتاب الله عزّ وجل وإيضاحه.
2ـ التأويل مصطلح خاص ببيان معاني الكتب الإلهية وفهما، والتفسير أعمّ، إذ يشمل بيان المعنى مطلقاً، سواء كان في الكتب الإلهية أم غيرها، وهو يغلب في المفردات، بينما يغلب التأويل في الجمل والمركبات.
3ـ التفسير هو بيان معنى كتاب الله عزّ وجلّ من المنقول في القرآن الكريم نفسه والسنّة الشريفة، والتأويل هو ما استنبطه العلماء من معاني القرآن الكريم بالاجتهاد، فالتفسير من باب الرواية، والتأويل من باب الدراية.
وقد ورد التأويل في القرآن الكريم بمعنيين:
الأول: مرادف لمصطلح التفسير كقوله تعالى: }ويُعلِّمُكَ من تَأْوِيلِ الأَحَاديث{ (يوسف 6).
الثاني: بمعنى ما يؤول إليه الأمر، وهو وقوع المخبر به، فقد وعد الله عزّ وجلّ بوقوع الساعة وتكوير الشمس ونحوها، فتأويلها وقوع ذلك فعلاً، كما في قوله تعالى: }هَلْ يَنْظُرونَ إلاّ تَأْويله{ (الأعراف 53)، أي هل ينظرون إلا وقوع ما أخبرتهم به من المغيبات.
علم العقائد (علم الكلام)
يعرّف علماء الكلام التأويل بأنه: «صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به»، وهذا يفرض وجود غموض في النص الديني يستلزم ذلك. ومبعث هذا الغموض دلالة النص من حيث الوضوح أو عدمه، فما كان من النصوص واضحاً لا يحتمل غير معنى واحد وهو المحكم فلا داعي لصرف اللفظ فيه، بل لا يتصور ذلك، لأنه لا يزاحم معناه الواضح أيُّ معنى آخر، فدلالته قطعية على معناه.
وما كان من النصوص غير واضح المعنى وهـو المتشابـه، فهذا ينبغي أن يصرف اللفظ فيه عن ظاهره إلى ما يحتمله النصّ وهذا هو التأويل عند علماء الكلام.
ويكتنف الغموض النص في أكثر من جهة، ويتفاوت تفاوتاً كبيراً. فمن النصوص ما يلتبس المعنى فيه بأشباه متعددة، كقوله تعالى: }وهو معكم أينما كنتم{ (الحديد 4). إذ يحتمل اللفظ أن تكون المعية جسمية حسية، كما يحتمل أن تكون معنوية، فهذا متشابه متعدد الدلالة، ولما دلّت النصوص الشرعية الأخرى على أنه يستحيل بحقه تعالى التحيز في المكان، لقوله تعالى: }لَيْسَ كمثْله شيءٌ وَهُوَ السميعُ البَصِيرُ{ (الشورى 11)، قامت قرينة تقتضي الانتقال من معنى لآخر. وهذا مثال للمتشابه متعدد الدلالة، وهو ما يطلق عليه العلماء الغربيون: الأداء المزدوج للغة The Double Taske of Language.
ومن النصوص ما يكون الغموض فيها كلياً، إذ لا يتبيّن المعنى المراد منها أبداً، وهذا كالحروف المقطعة في أوائل السور مثل (ألم)، (كهيعص).
إن التأويل عند المتكلمين مقترن بالمتشابه، وذلك لأنهم يرون أن مجال التأويل هو المتشابه، ويقصدون بصرف اللفظِ اللفظَ الذي سبّب التشابه والالتباس في معنى النصّ. ولا يخفى أن النص المتشابه معناه العامّ مفهوم، مهما كانت درجة التشابه فيه، ولكن تحديد المعنى الذي يريده قائل النص هو الذي استدعى عملية التأويل؛ فقوله تعالى: }وهو معكم أينما كنتم{ معناه العام مفهوم يدل على وجود معيّة بين الخالق والمخلوق، ومن المحتمل أن تكون حسّية كما يحتمل أن تكون معنوية، فأيتهما المقصودة ؟ هذا ما يستدعي التأويل وقوله تعالى: }ألم{ معناه العام مفهوم يدل على ثلاثة أحرف من حروف الهجاء العربي هي الألف واللام والميم.
وبما أن علم الكلام يدرس صفات الله الثابتة بالكتاب والسنة وما ينبني عليها في أكثر مباحثه، ظهر مفهوم «متشابه الصفات». وقد حظي هذا المفهوم بموافقة غالبية المتكلمين، مع منازعة بعضهم في وجوده أصلاً.
وكان للعلماء المسلمين مواقف متباينة من تأويل متشابه الصفات، ترددت بين وجوبه وجوازه وتحريمه، وقد نتج من هذا الاختلاف ولادة عدد من الفرق الإسلامية، كالمعتزلة والجهمية والأثرية ومتكلمي أهل السنة والجماعة، وكل واحدة من هذه الفرق تبنّت موقفاً من المواقف السابقة. والسبب في هذا التباين يعود إلى تقدير الالتباس الذي يحدثه «متشابه الصفات» في تشبيه الله عزّ وجلّ بخلقه، فمن قوي عنده الاشتباه جنح إلى التأويل، ومن لم يرَ في الأمر التباساً أمسك وحمل اللفظ على ما يليق بالله عزّ وجلّ.
وبالاستقراء تقسّم نصوص «متشابه الصفات» إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما كان التشبيه فيه موهوماً كصفة السمع والبصر، إذ لا يشترط أن يكون من اتصف بهذه الصفة مخلوقاً، لذا اتفق المتكلمون والأثريون من أهل السنة والجماعة على عدم تأويل هذا الصنف من المتشابه، وخالفهم المعتزلة والجهمية الذين جنحوا إلى تأويل هذا القسم.
الثاني: ما كان التشبيه فيه قوياً يلازم المخلوقين دائماً ولا يقبل الانفكاك عنهم، كصفة السخرية في قوله تعالى: }سخر الله منهم{ (التوبة 79)، والاستهزاء في قوله تعالى: }الله يستهزئ بهم{ (البقرة 15)، والمكر في قوله تعالى: }ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين{ (الأنفال 30)، فهذه الصفات وأمثالها تلازم المخلوقين ولا تليق بالخالق أبداً، فلا يقال: يمكر مكراً يليق به، لأن المكر وصف ذميم، فلا بدّ من التأويل وحمل اللفظ على ما يليق بالله، كردّ مكر الكفار في نحورهم من حيث لا يشعرون. وقد اتفقت الطوائف الإسلامية على وجوب صرف مثل هذا اللفظ عن معناه الحقيقي، وهو ما يسميه المتكلمون تأويلاً، وإن نازع بعضهم في تسمية هذا الفعل بالتأويل. ولا يخفى أن اختلاف التسميات لا يؤثر، إذ العبرة باتحاد المعنى والمضمون.
الثالث: ما كان فيه التشبيه قوياً يقترن بالمخلوقين غالباً، إلا أنه يقبل الانفكاك عنهم، كصفة اليد في قوله تعالى: }يدُ الله فوق أيديهم{ (الفتح 10). والعين في قوله تعالى: }ولتصنع على عيني{ (طه 39). فهذه الصفات تلازم المخلوقين، ولا يمنع العقل أن يتصف الله بها على وجه يليق به.
اختلف العلماء في تأويل هذا الصنف فذهب الأثريون من أهل السنة والجماعة إلى منعه ووجوب حمل اللفظ على ما يليق بالله عزّ وجلّ، وهذا مذهب السلف الصالح.
وذهب متكلمو أهل السنة والجماعة والمعتزلة والجعفرية إلى جواز تأويله، ونقل ذلك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين. والسبب في هذا الاختلاف تردد هذا النوع بين النوعين السابقين فمـن شـبهه بالنـوع الأول منع تأويله ومن شبهه بالثاني أوّله. ولم يقع الخلاف بين العلماء في مشروعية التأويل في غير علم العقيدة الإسلامية وما يتعلق بها من العلوم الأخرى، وذلك لارتباط هذا العلم بالصفات الإلهية.
علم أصول الفقه
لا يختلف معنى التأويل عند الأصوليين عن معناه عند المتكلمين، في كونه صرفاً للفظ عن معنى راجح إلى معنى آخر بقرينة تقتضي ذلك. وقد حظي هذا المفهوم بإجماع علماء أصول الفقه على قبوله. ولأن علم أصول الفقه يتناول بالدراسة النصوص التشريعية ودلالتها انحصر التأويل في هذا العلم بما يخدم التشريع، ويوفق بين ما يتعارض من ظاهر نصوصه، ويبين الحكمة الباعثة على التشريع، ويعين في استيعاب ما يستجدّ من أحكام.
ومدخل التأويل في النصوص التشريعية هو مدى وضوح دلالتها، إذ ينقسم النصّ التشريعي من حيث وضوح دلالته ثلاثة أقسام:
الأول: النص وهو ما يدلّ على معنى واحد لا يحتمل غيره، كقوله تعالى: }ولَكُم نِصْفُ ما ترك أزواجكم{ (النساء 12) فكلمة «نصف» لا تحتمل غير معنى واحد.
الثاني: الظاهر وهو ما يدل على معنى راجح مع احتمال غيره، كقوله تعالى: }حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى{ (البقرة 238) «الصلاة الوسطى» يتبادر إلى الذهن أنها صلاة العصر لأنها تتوسط النهار، مع احتمال أن يقصد بها أيّ واحدة من الصلوات الخمس، لأنها مسبوقة بصلاتين وبعدها صلاتان.
الثالث: المجمل وهو ما لا يدل على المراد منه بلفظه، كقوله تعالى: }والسَّارقُ والسَّارقةُ فاقطعُوا أيديهما{ (المائدة 38]) لم تحدد الآية المقدار الذي تقطع عنده يد السارق. يرى الأصوليون أن مجال التأويل من هذه النصوص هو «الظاهر»، ويطلقون عليه بعد تأويله مصطلح «المؤوَّل».
علم الحديث النبوي
يتفق المحدثون مع الأصوليين في تعريف التأويل ومشروعيته ومجاله، ويزيدون عليهم في مجاله، فيرونه داخلاً فيما يسمونه مختلف الحديث أو مشكل الحديث. وتكون وظيفة التأويل حينئذٍ أن يوفّق بين النصوص المتعارضة، وهذا ما يطبّقه الأصوليون على نصوصهم المتعارضة ولكنهم يسمّونه «الجمع بين الأدلة».
علم اللغة العربية
1ـ التأويل عند النحاة: هو صرف الظواهر اللغوية إلى غير الظاهر للتوفيق بين أساليب اللغة وقواعد النحو. ومبعث ذلك كما يتضح من التعريف هو التعارض بين الأسلوب اللغوي وعلم النحو، فهو أشبه بتأويل المشكل عند المحدثين. ووصولاً للتأويل الصحيح فقد ظهر مفهوم «التقدير» الذي يمهّد السبيل للحالة التوفيقية بين التعارض اللغوي والنحوي، وذلك بافتراض محذوف هو العامل أو المعمول أو غير ذلك.
2ـ التأويل الأدبي: هو العدول عن ظاهر النصّ للكشف عن المعاني الإضافية والدلالات البلاغية للنصوص الأدبية، فهو نوع من التأويل يتعلق بالأسلوب والسياق والسباق واللحاق، لا المفردات والألفاظ. والوصول إلى هذه المعاني الرفيعة يحتاج من المؤوِّل إلى نوعٍ متميّزٍ من الذوق الأدبي.
3ـ التأويل والمجاز: ويشتركان في أنهما نقل اللفظ من حالة دلالية إلى حالة دلالية أخرى. ويتميّز المجاز بأنه نقل من حالة الوضع اللغوي التي تسمّى الحقيقة إلى دلالة غير حقيقية. ولا يشترط في التأويل أن يكون النقل من الحقيقة.
ومع ذلك فقد كان أوائل اللغويين يستعملون المجاز مرادفاً للتأويل، ومن العلماء من أنكر وجود المجاز هروباً من ظاهرة التأويل التي لا يؤمن بها في مجال العقيدة، كداود بن علي الظاهري (202-270هـ) وبعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل (164-241هـ).
شروط التأويل
للتأويل عند من يجيزه شروط متعددة أهمها:
1ـ أن يصار إليه عند الحاجة الملحّة، وذلك بتوفر القرينة الداعية إليه.
2ـ أن يوافق التأويل القواعد اللغوية والنحوية للغة العربية.
3ـ ألا يحمّل النصّ المؤوَّل أكثر مما يحتمل.
أنواع التأويل
1ـ التأويل الصحيح، وهو التأويل الذي استوفى الشروط السابقة، وهو نوعان:
آـ التأويل القريب، وهو ما لا يشترط له دليل قويّ لقربه من الفهم، كتأويل مكر الله بالكفار بردّ مكرهم في نحورهم.
ب ـ التأويل البعيد، وهو ما يشترط له دليل قويّ يبرّر قبوله لبعده عن الفهم، كتأويل «الشاة» في حديث: (في سائحة الغنم إذا بلغت أربعين شاةٌ) بمقدار الشاة وقيمتها.
2ـ التأويل الفاسد، وهو التأويل الذي لم تتحقق فيه المبرّرات اللازمة لقيامه، وذلك كتأويل «البقرة» في قوله تعالى: }إنَّ الله يَأْمُرُكم أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً{ (البقرة 67) بأنها رجل يبقَرُ عن أسرار العلوم أي يشقّها ويسبر أغوارها.
عماد الدين الرشيد
Ta’wil / Interpretation - Ta’wil / Interprétation
التأويل
التَأْوِيل في اللغة مصدر الفعل أَوَّل، يُؤَوِّل، تأويلاً، وذلك بتعدية آلَ، يَؤُول، أَوْلاً وإِيَالاً، ومعنى آلَ رجع وصار، ومنه المَآل، وهو المرجع، فتكون أَوَّل بمعنى أرجع. وقد تطورت كلمة التأويل من معناها اللغوي إلى أن صارت مصطلحاً تثبت أهميته في كلّ بيئة فكرية افتقرت إليه، حتى اكتسى لَبوسها وسار في اتجاهها فاعلاً ومنفعلاً إلى درجة اختلاف مفهوم التأويل من علم لآخر.
علوم القرآن الكريم
كثيراً مايقترن التأويل في علوم القرآن بالتفسير[ر]. وقد اختلف علماء هذا الفن في تحديد المراد من هذا المصطلح إلى مذاهب، أهمها:
1ـ التفسير والتأويل مترادفان يدلاّن على معنى واحد هو بيان كتاب الله عزّ وجل وإيضاحه.
2ـ التأويل مصطلح خاص ببيان معاني الكتب الإلهية وفهما، والتفسير أعمّ، إذ يشمل بيان المعنى مطلقاً، سواء كان في الكتب الإلهية أم غيرها، وهو يغلب في المفردات، بينما يغلب التأويل في الجمل والمركبات.
3ـ التفسير هو بيان معنى كتاب الله عزّ وجلّ من المنقول في القرآن الكريم نفسه والسنّة الشريفة، والتأويل هو ما استنبطه العلماء من معاني القرآن الكريم بالاجتهاد، فالتفسير من باب الرواية، والتأويل من باب الدراية.
وقد ورد التأويل في القرآن الكريم بمعنيين:
الأول: مرادف لمصطلح التفسير كقوله تعالى: }ويُعلِّمُكَ من تَأْوِيلِ الأَحَاديث{ (يوسف 6).
الثاني: بمعنى ما يؤول إليه الأمر، وهو وقوع المخبر به، فقد وعد الله عزّ وجلّ بوقوع الساعة وتكوير الشمس ونحوها، فتأويلها وقوع ذلك فعلاً، كما في قوله تعالى: }هَلْ يَنْظُرونَ إلاّ تَأْويله{ (الأعراف 53)، أي هل ينظرون إلا وقوع ما أخبرتهم به من المغيبات.
علم العقائد (علم الكلام)
يعرّف علماء الكلام التأويل بأنه: «صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به»، وهذا يفرض وجود غموض في النص الديني يستلزم ذلك. ومبعث هذا الغموض دلالة النص من حيث الوضوح أو عدمه، فما كان من النصوص واضحاً لا يحتمل غير معنى واحد وهو المحكم فلا داعي لصرف اللفظ فيه، بل لا يتصور ذلك، لأنه لا يزاحم معناه الواضح أيُّ معنى آخر، فدلالته قطعية على معناه.
وما كان من النصوص غير واضح المعنى وهـو المتشابـه، فهذا ينبغي أن يصرف اللفظ فيه عن ظاهره إلى ما يحتمله النصّ وهذا هو التأويل عند علماء الكلام.
ويكتنف الغموض النص في أكثر من جهة، ويتفاوت تفاوتاً كبيراً. فمن النصوص ما يلتبس المعنى فيه بأشباه متعددة، كقوله تعالى: }وهو معكم أينما كنتم{ (الحديد 4). إذ يحتمل اللفظ أن تكون المعية جسمية حسية، كما يحتمل أن تكون معنوية، فهذا متشابه متعدد الدلالة، ولما دلّت النصوص الشرعية الأخرى على أنه يستحيل بحقه تعالى التحيز في المكان، لقوله تعالى: }لَيْسَ كمثْله شيءٌ وَهُوَ السميعُ البَصِيرُ{ (الشورى 11)، قامت قرينة تقتضي الانتقال من معنى لآخر. وهذا مثال للمتشابه متعدد الدلالة، وهو ما يطلق عليه العلماء الغربيون: الأداء المزدوج للغة The Double Taske of Language.
ومن النصوص ما يكون الغموض فيها كلياً، إذ لا يتبيّن المعنى المراد منها أبداً، وهذا كالحروف المقطعة في أوائل السور مثل (ألم)، (كهيعص).
إن التأويل عند المتكلمين مقترن بالمتشابه، وذلك لأنهم يرون أن مجال التأويل هو المتشابه، ويقصدون بصرف اللفظِ اللفظَ الذي سبّب التشابه والالتباس في معنى النصّ. ولا يخفى أن النص المتشابه معناه العامّ مفهوم، مهما كانت درجة التشابه فيه، ولكن تحديد المعنى الذي يريده قائل النص هو الذي استدعى عملية التأويل؛ فقوله تعالى: }وهو معكم أينما كنتم{ معناه العام مفهوم يدل على وجود معيّة بين الخالق والمخلوق، ومن المحتمل أن تكون حسّية كما يحتمل أن تكون معنوية، فأيتهما المقصودة ؟ هذا ما يستدعي التأويل وقوله تعالى: }ألم{ معناه العام مفهوم يدل على ثلاثة أحرف من حروف الهجاء العربي هي الألف واللام والميم.
وبما أن علم الكلام يدرس صفات الله الثابتة بالكتاب والسنة وما ينبني عليها في أكثر مباحثه، ظهر مفهوم «متشابه الصفات». وقد حظي هذا المفهوم بموافقة غالبية المتكلمين، مع منازعة بعضهم في وجوده أصلاً.
وكان للعلماء المسلمين مواقف متباينة من تأويل متشابه الصفات، ترددت بين وجوبه وجوازه وتحريمه، وقد نتج من هذا الاختلاف ولادة عدد من الفرق الإسلامية، كالمعتزلة والجهمية والأثرية ومتكلمي أهل السنة والجماعة، وكل واحدة من هذه الفرق تبنّت موقفاً من المواقف السابقة. والسبب في هذا التباين يعود إلى تقدير الالتباس الذي يحدثه «متشابه الصفات» في تشبيه الله عزّ وجلّ بخلقه، فمن قوي عنده الاشتباه جنح إلى التأويل، ومن لم يرَ في الأمر التباساً أمسك وحمل اللفظ على ما يليق بالله عزّ وجلّ.
وبالاستقراء تقسّم نصوص «متشابه الصفات» إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما كان التشبيه فيه موهوماً كصفة السمع والبصر، إذ لا يشترط أن يكون من اتصف بهذه الصفة مخلوقاً، لذا اتفق المتكلمون والأثريون من أهل السنة والجماعة على عدم تأويل هذا الصنف من المتشابه، وخالفهم المعتزلة والجهمية الذين جنحوا إلى تأويل هذا القسم.
الثاني: ما كان التشبيه فيه قوياً يلازم المخلوقين دائماً ولا يقبل الانفكاك عنهم، كصفة السخرية في قوله تعالى: }سخر الله منهم{ (التوبة 79)، والاستهزاء في قوله تعالى: }الله يستهزئ بهم{ (البقرة 15)، والمكر في قوله تعالى: }ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين{ (الأنفال 30)، فهذه الصفات وأمثالها تلازم المخلوقين ولا تليق بالخالق أبداً، فلا يقال: يمكر مكراً يليق به، لأن المكر وصف ذميم، فلا بدّ من التأويل وحمل اللفظ على ما يليق بالله، كردّ مكر الكفار في نحورهم من حيث لا يشعرون. وقد اتفقت الطوائف الإسلامية على وجوب صرف مثل هذا اللفظ عن معناه الحقيقي، وهو ما يسميه المتكلمون تأويلاً، وإن نازع بعضهم في تسمية هذا الفعل بالتأويل. ولا يخفى أن اختلاف التسميات لا يؤثر، إذ العبرة باتحاد المعنى والمضمون.
الثالث: ما كان فيه التشبيه قوياً يقترن بالمخلوقين غالباً، إلا أنه يقبل الانفكاك عنهم، كصفة اليد في قوله تعالى: }يدُ الله فوق أيديهم{ (الفتح 10). والعين في قوله تعالى: }ولتصنع على عيني{ (طه 39). فهذه الصفات تلازم المخلوقين، ولا يمنع العقل أن يتصف الله بها على وجه يليق به.
اختلف العلماء في تأويل هذا الصنف فذهب الأثريون من أهل السنة والجماعة إلى منعه ووجوب حمل اللفظ على ما يليق بالله عزّ وجلّ، وهذا مذهب السلف الصالح.
وذهب متكلمو أهل السنة والجماعة والمعتزلة والجعفرية إلى جواز تأويله، ونقل ذلك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين. والسبب في هذا الاختلاف تردد هذا النوع بين النوعين السابقين فمـن شـبهه بالنـوع الأول منع تأويله ومن شبهه بالثاني أوّله. ولم يقع الخلاف بين العلماء في مشروعية التأويل في غير علم العقيدة الإسلامية وما يتعلق بها من العلوم الأخرى، وذلك لارتباط هذا العلم بالصفات الإلهية.
علم أصول الفقه
لا يختلف معنى التأويل عند الأصوليين عن معناه عند المتكلمين، في كونه صرفاً للفظ عن معنى راجح إلى معنى آخر بقرينة تقتضي ذلك. وقد حظي هذا المفهوم بإجماع علماء أصول الفقه على قبوله. ولأن علم أصول الفقه يتناول بالدراسة النصوص التشريعية ودلالتها انحصر التأويل في هذا العلم بما يخدم التشريع، ويوفق بين ما يتعارض من ظاهر نصوصه، ويبين الحكمة الباعثة على التشريع، ويعين في استيعاب ما يستجدّ من أحكام.
ومدخل التأويل في النصوص التشريعية هو مدى وضوح دلالتها، إذ ينقسم النصّ التشريعي من حيث وضوح دلالته ثلاثة أقسام:
الأول: النص وهو ما يدلّ على معنى واحد لا يحتمل غيره، كقوله تعالى: }ولَكُم نِصْفُ ما ترك أزواجكم{ (النساء 12) فكلمة «نصف» لا تحتمل غير معنى واحد.
الثاني: الظاهر وهو ما يدل على معنى راجح مع احتمال غيره، كقوله تعالى: }حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى{ (البقرة 238) «الصلاة الوسطى» يتبادر إلى الذهن أنها صلاة العصر لأنها تتوسط النهار، مع احتمال أن يقصد بها أيّ واحدة من الصلوات الخمس، لأنها مسبوقة بصلاتين وبعدها صلاتان.
الثالث: المجمل وهو ما لا يدل على المراد منه بلفظه، كقوله تعالى: }والسَّارقُ والسَّارقةُ فاقطعُوا أيديهما{ (المائدة 38]) لم تحدد الآية المقدار الذي تقطع عنده يد السارق. يرى الأصوليون أن مجال التأويل من هذه النصوص هو «الظاهر»، ويطلقون عليه بعد تأويله مصطلح «المؤوَّل».
علم الحديث النبوي
يتفق المحدثون مع الأصوليين في تعريف التأويل ومشروعيته ومجاله، ويزيدون عليهم في مجاله، فيرونه داخلاً فيما يسمونه مختلف الحديث أو مشكل الحديث. وتكون وظيفة التأويل حينئذٍ أن يوفّق بين النصوص المتعارضة، وهذا ما يطبّقه الأصوليون على نصوصهم المتعارضة ولكنهم يسمّونه «الجمع بين الأدلة».
علم اللغة العربية
1ـ التأويل عند النحاة: هو صرف الظواهر اللغوية إلى غير الظاهر للتوفيق بين أساليب اللغة وقواعد النحو. ومبعث ذلك كما يتضح من التعريف هو التعارض بين الأسلوب اللغوي وعلم النحو، فهو أشبه بتأويل المشكل عند المحدثين. ووصولاً للتأويل الصحيح فقد ظهر مفهوم «التقدير» الذي يمهّد السبيل للحالة التوفيقية بين التعارض اللغوي والنحوي، وذلك بافتراض محذوف هو العامل أو المعمول أو غير ذلك.
2ـ التأويل الأدبي: هو العدول عن ظاهر النصّ للكشف عن المعاني الإضافية والدلالات البلاغية للنصوص الأدبية، فهو نوع من التأويل يتعلق بالأسلوب والسياق والسباق واللحاق، لا المفردات والألفاظ. والوصول إلى هذه المعاني الرفيعة يحتاج من المؤوِّل إلى نوعٍ متميّزٍ من الذوق الأدبي.
3ـ التأويل والمجاز: ويشتركان في أنهما نقل اللفظ من حالة دلالية إلى حالة دلالية أخرى. ويتميّز المجاز بأنه نقل من حالة الوضع اللغوي التي تسمّى الحقيقة إلى دلالة غير حقيقية. ولا يشترط في التأويل أن يكون النقل من الحقيقة.
ومع ذلك فقد كان أوائل اللغويين يستعملون المجاز مرادفاً للتأويل، ومن العلماء من أنكر وجود المجاز هروباً من ظاهرة التأويل التي لا يؤمن بها في مجال العقيدة، كداود بن علي الظاهري (202-270هـ) وبعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل (164-241هـ).
شروط التأويل
للتأويل عند من يجيزه شروط متعددة أهمها:
1ـ أن يصار إليه عند الحاجة الملحّة، وذلك بتوفر القرينة الداعية إليه.
2ـ أن يوافق التأويل القواعد اللغوية والنحوية للغة العربية.
3ـ ألا يحمّل النصّ المؤوَّل أكثر مما يحتمل.
أنواع التأويل
1ـ التأويل الصحيح، وهو التأويل الذي استوفى الشروط السابقة، وهو نوعان:
آـ التأويل القريب، وهو ما لا يشترط له دليل قويّ لقربه من الفهم، كتأويل مكر الله بالكفار بردّ مكرهم في نحورهم.
ب ـ التأويل البعيد، وهو ما يشترط له دليل قويّ يبرّر قبوله لبعده عن الفهم، كتأويل «الشاة» في حديث: (في سائحة الغنم إذا بلغت أربعين شاةٌ) بمقدار الشاة وقيمتها.
2ـ التأويل الفاسد، وهو التأويل الذي لم تتحقق فيه المبرّرات اللازمة لقيامه، وذلك كتأويل «البقرة» في قوله تعالى: }إنَّ الله يَأْمُرُكم أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً{ (البقرة 67) بأنها رجل يبقَرُ عن أسرار العلوم أي يشقّها ويسبر أغوارها.
عماد الدين الرشيد