التأريخ Historiography عند العرب في العصور الإسلامية.ليلى الصباغ

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التأريخ Historiography عند العرب في العصور الإسلامية.ليلى الصباغ

    تاريخ عند عرب في عصور اسلاميه

    Historiography - Historiographie

    التأريخ عند العرب في العصور الإسلامية

    التأريخ بالهمز، والتاريخ بتسهيل الهمز، والتوريخ، كلها كلمات ترادف بالعربية كلمة Histoire بالفرنسية وHistory بالإنكليزية. وعرّفه صاحب «لسان العرب» بقوله: «التأريخ: تعريف الوقت». ولا يعرف بالضبط متى دخلت هذه الكلمة اللغة العربية، إذ إنها لم ترد في الشعر الجاهلي، أو في القرآن الكريم، أو في الحديث الشريف. ويبدو أنها استعملت لأول مرة في أخبار نشأة التقويم الهجري. ويرجح الباحثون المعاصرون أنها من أصل سامي، سرياني أو أكادي، أو من لغة عرب الجنوب، فكلمة ورخ، وأرخ، وأرخو، كلمات تعني عند عرب الجنوب، وفي السريانية، والأكادية: القمر، أو الشهر. ومن هنا، كان التأريخ هو «التوقيت بالقمر»، أو بتعبير آخر، بالشهر الذي يمثل دورة القمر، وبالليلة من الشهر، عن طريق تتبع هذه الدورة. ثم انتقل هذا المعنى للدلالة على الليلة، والشهر، في الوثائق، ولم تلبث الكلمة أن اكتسبت معنى «الكتابة التاريخية»، وقد رسخت بهذا المضمون في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي. ويظهر أنها قد أخذت دلالتها هذه، من كتب التاريخ الأولى، التي كانت تحوي تحديداً زمنياً معيناً، في تراجم الأشخاص، وسني ولادتهم و وفاتهم. ثم تبعتها الحوليات، وكل ما كتب في التاريخ بعد ذلك وظل مفهوم الزمان عنصراً رئيساً وجوهرياً في مضمون التاريخ العربي، أكان في القرون الأولى من نشأة الكتابة التاريخية عند العرب المسلمين، أم في ذروة نضجها في القرنين الثامن والتاسع الهجريين/الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين. ويظهر هذا واضحاً في تعريف الطبري (ت 310هـ/923م) للتاريخ في مقدمة كتابه «تاريخ الرسل والملوك» في حين أن السَّخاوي (ت 903هـ/1497م) في كتابه «الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ» أكد أن موضوعه هو الإنسان والزمان.
    وقد اتبع العرب في شبه جزيرتهم قبل الإسلام، التقويم القمري، كما فعلت حضارات ما بين النهرين، وعدة الشهور عندهم اثنا عشر شهراً، وكانوا ينسؤون الشهور، أي يكبسون بعض السنين القمرية، بالزيادة في أشهرها لإلحاقها بالسنة الشمسية، إلا أن الإسلام نهى عن ذلك لما حدث من اضطراب في حياتهم الاجتماعية. وكانوا يوقتون بالليالي دون الأيام، بخلاف ما كان يفعله الفرس واليونان. وكانوا يؤرخون بالنسبة للحوادث العظام في تاريخهم، كسيل العرم، وعام الفيل، وبناء الكعبة، ويوم ذي قار، وغيرها. إلا أنه في خلافة عمر بن الخطاب، اتخذ العرب المسلمون مبدأ موحداً لتاريخهم وهو عام الهجرة. وبذلك وضُع للتأريخ العربي عمود أساسي من أعمدة بنيانه، وقُدّمت لتوثيق الدولة خدمة جُلَّى لا تقدر بثمن. فنشأ بذلك «التقويم الهجري» المعتمد على «التقويم القمري» وحده، مقابل التقويم الميلادي الموجود سابقاً. واعتبر الفاتح من شهر محرّم بداية للسنة الهجرية، وكان يوافق آنذاك 15 أو 16 تموز 622م.
    وقد عمل العرب قبل الإسلام في جزيرتهم، على استذكار تاريخهم، ونقله من جيل إلى جيل عن طريق الرواية الشفوية، التي ضمنَّوها في أشعارهم وأخبارهم، أو بوساطة الكتابة، وقد اتبع الوسيلة الأولى بصفة خاصة، البدو منهم، أما الوسيلة الثانية، فقد انتهجها العرب المتحضرون في بلاد العرب الجنوبية وفي الحيرة، وأرض الغساسنة في الشمال. أما عرب الجنوب فقد دوَّنوا أخبارهم نقشاً، وبالحرف المُسْنَد، على جدران قصورهم ومعابدهم. وقد تعرّف الباحثون المعاصرون بالاعتماد عليها الكثير من تاريخ بلاد اليمن، في الحقبة الممتدة من القرن العاشر قبل الميلاد حتى السادس الميلادي. بل إن المؤرخ الهمداني (ت 338هـ/ 949م) في كتابه «الإكليل» يشير إلى أنَّه قرأ زُبرُ حْميَر القديمة ومساندها الدهرية. وكذلك جاء أن أهل الحيرة كانوا يدونون أخبارهم وأنسابهم ويأتمنونها بيعهم، والأمر نفسه يقال عن العرب في شمالي شبه الجزيرة وبلاد الشام، فقد عُثر فيها على كثير من النقوش الكتابية، وقد دونت بالخطوط اللحيانة، والصفوية، والثمودية، والنبطية، ومنها نقش النمّارة، ويرجع إلى سنة 328م، ونقش شراحيل ويعود إلى سنة 568م ويشير إلى تدمير خيبر، الذي حدث في سنة سابقة.
    لما جاء الإسلام، لم يُدَوِّن العرب، من تفاصيل هذا الحدث الضخم من تاريخهم، سوى ركيزته الكبرى التي هي القرآن الكريم، والرسائل التي بعث بها الرسول الكريمr إلى الملوك وشيوخ القبائل، يدعوهم فيها إلى الإسلام، والعهود التي عقدها، مع أن الإسلام هو دين تاريخي، فالقرآن الكريم نفسه، قد حوى تاريخ الكون والإنسان، وتاريخ الرسالة الإسلامية ومضمونها، وربطها برسالات الأنبياء قبل الرسول محمدr، كما ربطها بتاريخ شعوب وأقوام متعددة، ومنذ بدء الخلق، وبذلك أكَّد مفهوم التطور، وروابط التاريخ الإنساني، وهي عناصر أساسية في علم التاريخ. وطرح على الفكر المسلم، الرؤية التاريخية للوجود، وللعمل الإنساني فيه، وحثَّه على التأمل فيهما. ولا تخلو جلّ سور القرآن الكريم من عرض لحدث تاريخي، أو إشارة لواقعة، أو تذكير بسنّة ماضية، مع تعليلها ونتائجها. وإنَّ تأكيده الإيمان باليوم الآخر، وبالحساب فيه، أعطى لتاريخ الإنسان بعداً مستقبلياً، فالحياة الحاضرة للإنسان، هي فعل تاريخي تتلاقى فيه أبعاد الزمن الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، وأعماله لن تُنسى أو تضيع، بل هي مسجلة عليه، وسيحاسب عليها في اليوم الآخر. وبذلك دفع الإسلام الإنسان إلى التفكير بالماضي ليعتبر، ويُضاء له طريق الحاضر، وحبَّب إليه تسجيل أعمال الحاضر لخدمة المستقبل.
    وقد كانت الفكرة السائدة حتى عهد قريب، كما أشير سابقاً، أن المسلمين الأوائل لم يدّونوا تفاصيل أحداثهم، وقد يكون ذلك بسبب وجود الرسولr بين ظهرانيهم أولاً، ولاستغراقهم في خضم الدعوة الإسلامية ثانياً، ولأن القرآن الكريم كان هو تاريخهم الكبير ثالثاً. ومن ثمَّ اكتفوا بأن وعوا حاضرهم ذاكرةً، ورووه شفاهاً، ونقلوه لجيلين تقريباً بهذه الطريقة، وعلى رواياتهم الشفوية تلك، اعتمد المحدِّثون الأُول، وكتّاب السيرة النبوية، في القرنين الأول والثاني للهجرة/ السابع والثامن للميلاد. إلا أن بعض الدراسات العربية المعاصرة، أخذت تميط اللثام، وبالإثبات المنطقي بصفة خاصة، عن أنه كان هناك تدوين أوّلي لبعض الأحداث، والأحاديث منذ عهد الرسولr، في العصر الراشدي ولو أن ذلك التدوين الأولي، كان على نطاق شخصي، أي إن بعض الصحابة قد قاموا به لأنفسهم. ومع الاعتراف مبدئياً بوجود مثل تلك الكتابة الأوليّة، فإنه يمكن القول إن نشأة التاريخ العربي علماً مدوّناً، ومجموعاً من مصادره الشفوية والكتابية، وبجاهليته وإسلامه، ترجع إلى القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، وإنه في نشأته هذه كان عربياً أصيلاً، وجديداً بفكره، وبتقويمه الزمني، وبأهدافه.
    وكان هذا التاريخ في مطالعه التدوينية الأولى، يحوي نوعين من الأخبار:
    أولهما: أخبار الجاهلية، أو تاريخ العرب قبل الإسلام، وغيرهم من الأقوام المعاصرة والمجاورة لهم، وقد تداول المسلمون هذه الأخبار لحاجتهم لشرح ما ورد في القرآن الكريم، من قصص تاريخية، وشواهد، وأحوال جاهليةـ وهي مملوءة بكثير من الخيال والأوهام، والمغالطات. واعتُمد فيها على رواة من القرن الأول الهجري/السابع الميلادي، من أمثال كعب الأحبار (ت 32هـ/652م) وعُبَيد بن شريَّة (ت نحو 67هـ/686م)، و وهب بن مُنَبِّه (ت 114هـ/732م)، وعلى ما ورد في التوراة والإنجيل، ويبدو أنهما قد ترجما إلى العربية في أواخر القرن الأول للهجرة/ أوائل الثامن الميلادي، وبذلك دخل كثير من الإسرائيليات إلى التاريخ العربي القديم، وإلى علم التفسير، ولاسيما قصص الأنبياء. كما استُند فيها، إلى ما وصل المؤرخين الأُوَل من الشعر الجاهلي، ومن مدوّنات في كنائس الحيرة، ومن كتب مترجمة عن الفارسية، وقف عليها بعض النسّابة العرب، من أمثال محمد بن السائب الكلبي (ت 146هـ/763م) وابنه هشام بن محمد الكلبي (ت 204هـ/819م)، ومن الروايات عن أيام العرب التي عمل على تجميعها بعض العلماء في القرن الثاني الهجري، أمثال أبي عبيدة معمّر بن المثنى (110-209هـ/728-824م).
    وثانيهما: الأخبار المدوّنة في التاريخ العربي الإسلامي الأول، كانت الأخبار الإسلامية. وإلى هذه الأخبار بالذات، ترجع بدايات التاريخ العربي الأصيل، أي منذ أن سعى المسلمون صادقين، لتتبع أخبار حياة الرسول الكريم وأعماله وأقواله، ولما لم يكن لدى المسلمين مدوّنات أكيدة حول هذا الأمر، عدا القرآن الكريم، وما كتب من رسائل واتفاقات، فإن الصحابة والتابعين، أخذوا على عاتقهم نقل أخبار حياة الرسول، وأحاديثه، ومغازيه شفوياً إلى الأجيال الناشئة من المسلمين، وإلى المعتنقين الجدد للدين الإسلامي. وبذلك ظهر رواة الأحاديث، والمغازي، ولاسيما في المدينة، من أمثال عبد الله بن عمر بن الخطاب (ت 73هـ/692م)، وعبد الله بن العباس بن عبد المطلب، ابن عم الرسول صلّى الله عليه وسلّم (ت68هـ /687م). إلا أن الحاجة الملحة لمعرفة دقائق سيرة الرسولr، وأحكام الدين، بعد وفاة عدد كبير من الصحابة، واستشهاد بعضهم في حروب الردّة والفتوح الإسلامية، وظهور الانشقاقات في صفوف المسلمين، وتزايد مشكلات الدولة، وتوسع شؤونها، والصراع حول الخلافة، دفعت أفراد الجيل الثاني من المسلمين، إلى تدوين الروايات الشفوية عن سيرة الرسولr، وأحاديثه. ولقد عرف أن أبَان بن عثمان بن عفان (ت 105هـ/723م)، وعروة بن الزبير (ت 93هـ/712م) قد ألَّف كل منهما، وفي القرن الأول للهجرة كتاباً في هذا المضمار. وبذلك يكونان قد وضعا اللبنة الأولى في التدوين التأليفي للتاريخ العربي الإسلامي. وينسب إلى أحد الخليفتين الأمويين، عمر بن عبد العزيز، أو هشام بن عبد الملك، أنه قد كَلّف محمد بن مسلم بن شهاب الزُهري (ت 124هـ/741م) تدوين ما جُمع من أحاديث. ويظهر مما كُتب عن الزهري، وما روي عنه، أنه لم يقتصر على جمع الأحاديث وإنما درس حياة الرسول الكريم قبل البعثة وبعدها، ومغازيه، ومدّ ذلك إلى عهد الخلفاء الراشدين، وما حدث في أثناء انتخابات الخلافة، كما أظهر اهتماماً كبيراً بالأنساب، وكان واحداً من علمائها. ومن ثمَّ، فإنه يمكن القول إن ما دونه الزهري، كان الأساس في كتب السيرة والمغازي.
    أما مؤلَّف السيرة الأول، فقد دوّنه محمد بن إسحاق بن يسار (ت 151هـ/768م) استجابة لطلب من الخليفة العباسي المنصور كما يقال. وهو لم يقدم فيه سيرة الرسول الكريم فحسب، وإنما بحث في التاريخ قبل الإسلام وتاريخ الرسالة الإسلامية. وقد أورد ابن إسحاق في كتابه، على عادة رواة الخبر وأيام العرب، الكثير من الأشعار. وعلى الرغم من النقد الذي وجه لكتاب ابن إسحاق والطعن بصاحبه، لتشيعه واعتزاله وروايته الكثير من الأمور اللاعقلانية، وبعض الأحاديث الموضوعة، فإنه غدا المصدر الرئيسي في التاريخ الجاهلي، وصدر الإسلام. ومن المعروف أن الكتاب لم يصل، وإنما وصلت فقرات منه، عن طريق تلخيص المؤرخين له وتنقيحهم، وبصفة خاصة عن طريق عبد الملك بن هشام (ت218هـ /833 م)، في كتابه المشهور والمتداول تحت عنوان «سيرة ابن هشام».
    ولم يقتصر التدوين على سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإنما نشط أيضاً عدد من المسلمين في جمع أخبار الخلفاء الراشدين وبني أمية فبني العباس، إضافة إلى الساعين وراء أخبار الجاهلية. ووجد في بدايات العصر العباسي نوع من التخصص المحلي في رواية الأخبار؛ فاهتم أبو مخْنف لوط بن يحيى (ت 157هـ/ 773م) بشؤون العراق، والمدائني (ت 225هـ/840م) بأخبار خراسان والهند وفارس، والواقدي (ت207هـ/823م) بأمور الحجاز والسيرة، واشتركوا في ذكر الفتوح.
    وزبدة القول، لم يصل القرن الثاني للهجرة إلى نهايته، حتى كانت الأبواب الرئيسة للتاريخ العربي قد رُسمت، فانطلق في القرون التالية في دروب فسيحة، واتسع أفق الكتابات التاريخية وتنوعت، وصقل منهج البحث فيها، ونما دقةً وعلمية، من اعتماد على وفرة في المصادر الوثائقية، ونقد مستقصٍ وممحِّص للروايات والأخبار، ورواتها، وتتبع للأسباب والعلل، وتعدد في أنماط التركيب التاريخي. وكان وراء ذلك النمو الصحي لعلم التاريخ العربي، عدة عوامل، يمكن أن توجز بالنقاط التالية:
    1) دراسات المحدِّثين وتقنيتهم النقدية في تعرف الحديث الصحيح من الموضوع.
    2) وأبحاث علماء اللغة العربية، ومتابعتهم أخبار القبائل، ولهجاتها، لتثبيت اللغة العربية الأصيلة بعد تفشي اللحن فيها.
    3) الفتوحات الإسلامية وما نجم عنها من احتكاك بشعوب مختلفة، لها تاريخها، وحضاراتها، مما دفع المؤرخين العرب إلى استطلاع أمورها وتعرّف مدوَّناتها التاريخية، ناهيك عن حاجة المسلمين والدولة للاطلاع على أخبار تلك الفتوح، رغبةً ثقافية ودينية، ولتنظيم شؤون الدولة حول ما فُتح من البلدان صلحاً، وما فُتح منها عنوة.
    4) تكامل أطر الدولة العربية الإسلامية، وتنوع دواوينها، ووفرة وثائقها الرسمية، التي هي مصدر جوهري للتاريخ.
    5) التنافس والصراع السياسي والأدبي بين العرب والموالي، ونمو الشعوبية، وسعي كل فريق لنبش تاريخ الآخر، وتتبع مثالبه.
    6) تشجيع الخلفاء، والأمراء، والسلاطين، ورجال الحكم بصفة عامة، في المشرق العربي، وفي المغرب، والأندلس للمؤرخين، بل توظيف عدد منهم، مؤرخين رسميين للدولة.
    7) حركة الترجمة عن اللغات الأجنبية، كالفارسية، واليونانية، والسريانية، واللاتينية، ومن ضمنها، ترجمة بعض الكتب التاريخية، ككتاب «خداينامة»، في تاريخ الفرس وأحوالهم، وكتاب «عهد أردشير»، وكتاب «تاريخ هيروشيوس»، المؤرخ الإسباني في القرن الخامس الميلادي، وكان أحد مصادر ابن خلدون عن تاريخ الروم.
    8) النهضة الفكرية العامة التي شاهدها مجموع العصر العباسي، والمتمثلة بارتقاء العلوم والمعارف المتنوعة، وبصفة خاصة العلوم الدينية، واللغوية، والعلوم الطبيعية، وعلم الجغرافية، والفلك، والأنساب، والفلسفة، وغيرها. وكلها روافد أساسية لعلم التاريخ،هذا إضافة إلى انتشار العلم ودُوره، من مدارس ومساجد في المشرق والمغرب الإسلاميين وفي الأندلس، ونشاط بعض المؤسسات العلمية الكبيرة كبيت الحكمة في بغداد، على سبيل المثال لا الحصر.
    9) تفكك الدولة العربية الإسلامية إلى دويلات متنافسة فيما بينها في دعم النهضة الفكرية فيها، ومتسابقة لتقليد بغداد في أَلَقها الفكري والعلمي، ولاسيما في بلاد الأندلس، ومصر، مما أدى إلى ظهور التواريخ المحلية المتمثلة بتواريخ البلدان، والتراجم الخاصة بمدن وأقاليم محددة.
    10) ظهور فئة كبيرة من المؤرخين، ومن فئات اجتماعية متنوعة، متحمسة للدراسة التاريخية العلمية البحتة، إيماناً منها بقيمة التاريخ علماً، وبفوائده الكثيرة في ثقافة الفرد المسلم، الدينية والدنيوية.
    11) تطور تقنيات الكتابة، وتوافر وسائل التدوين والتأليف. وقد يكون أهمها توافر الورق، بعد أن تعرف العرب صناعته في القرن الثاني للهجرة/ الثامن للميلاد، ووفرة الناسخين المثقفين.
    12) توالي الأحداث الكثيرة والمهمة على المسلمين، والتي كان لابد من تدوينها للحفاظ عليها والاعتبار بها في الحاضر والمستقبل.
    وتبدى نضج علم التاريخ عند العرب المسلمين، في وفرة مادته، وفي تنوع فنونه، وطرائق تركيب المعلومات فيه، وبمنهجيته النقدية للوصول إلى الحقيقة، فقد عالج المؤرخون العرب، التاريخ العالمي العام، والتاريخ الإسلامي الخاص، وتاريخ المدن، والدول، والأقاليم. وأظهروا اهتماماً كبيراً جداً بسير الأفراد، من خلفاء وأمراء ووزراء، وقضاة، وعلماء، وكتّاب، وأدباء، وغيرهم. بل ترجموا لأفراد العامة بفئاتهم المختلفة، حتى الشطّار والمصابين بالعاهات. ويمكن إجمال الفنون التاريخية الرئيسة التي صنفوها في العصور الإسلامية حتى مطلع العصور الحديثة بما يلي:
    1ـ كتب السيرة، أي السيرة النبوية: وأشهر من كتب في هذا الموضوع محمد بن إسحاق، ولخص له ونقح مروياته عبد الملك بن هشام . وفي الواقع ندر أن يمر قرن من دون إعادة تدوين السيرة والمغازي، في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي.
    2ـ كتب الطبقات: وتبحث في تراجم الشخصيات، مصنَّفة في طبقات، ويقصد بالطبقة، الفئة من الناس التي تعاصرت في الزمن، أي ليس لها المعنى الاجتماعي ـ الاقتصادي المعطى لها اليوم. وقد يكون كتاب «طبقات الصحابة» لمحمد بن سعد (ت230هـ/845م) أول المدّونات في هذا الفن. ولقد انتقل المؤرخون العرب من طبقات الصحابة، وعلماء الحديث ورواته، إلى طبقات غيرهم، من الشعراء، والأدباء، والفقهاء، والحفّاظ، والنحاة، والأطباء، بل الأمم وغيرهم.
    3ـ كتب التراجم: وتتحدث في سير الأفراد، من صحابة، وخلفاء وأمراء، ووزراء، وعلماء، ومحدثين وغيرهم. وهي تشبه كتب الطبقات، إلا أنها لا تختص بفئة معينة، ولا تلتزم في ترتيب تراجمها الأسس المتبعة في تلك الكتب. وتسير في غالبية الأحوال، في تصنيف أعلامها، على الترتيب الألفبائي للأسماء، وقد يطلق عليها اسم مُعْجَم. وقد تكون لمعظم الشخصيات الإسلامية ذات الشأن في جميع الأقطار الإسلامية، أو في قطر واحد، أو في مدينة. وقد تختص بتراجم شريحة معينة من المجتمع، كالعلماء، أو الأدباء، أو الخلفاء، أو الوزراء أو القضاة وغيرهم.
    4ـ كتب المغازي والفتوح: وتتحدث عن غزوات الرسولr وسراياه، وعن الفتوحات الإسلامية في مختلف الأمصار. وقد يكون أول من أفرد للمغازي كتاباً خاصاً عروة بن الزبير كما أسلفنا القول. وجاء محمد بن إسحاق فدمجها في السيرة، وسار الباحثون في سيرة الرسول على نهجه ومن أقدم كتب المغازي كتاب «المغازي النبوية» لابن شهاب الزهري (ت 124هـ). أما الفتوح، فكان ممن افتتح باب الكتابة فيها، محمد بن عمر الواقدي (ت 207هـ /823م)، مؤرخ الرشيد والمأمون، وكتب في فتح إفريقية، والشام وغيرهما. وتبعه البلاذري (ت 279هـ/892م) في كتابه «فتوح البلدان»، وغيرهما كثيرون ممن بحث في فتوح إقليمهم من دون غيره، كابن القوطية القرطبي (ت 367هـ/977م) في كتابه «تاريخ فتح الأندلس».
    5 ـ تاريخ البلدان: ويبحث في تاريخ مدينة، أو إقليم، من أول نشأته حتى زمن مؤرخه، مع ترجمة لكبار الشخصيات فيه، من سياسيين وعلماء، وأدباء وغيرهم ويعدد المؤرخ السخاوي في كتابه «الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ»، عدداً كبيراً من تلك المؤلفات مرتبة بحسب ألفبائية تلك المدن والأقاليم، أكانت في المشرق أو المغرب والأندلس.
    ويُلحق السَّخاوي بتواريخ البلدان المشار إليها، ما أسماه تصانيف في البلدان، والتعريف بها وذكر مآثرها وفتوحها، وهي أقرب إلى علم الجغرافية، إلا أن محتواها غني جداً بالمعلومات التاريخية. ومن هذه التصانيف «معجم البلدان»، لياقوت الحموي، و«المسالك والممالك»، لعبد الله أبي عبيدة البكري المغربي (ت 487هـ/1094م)، و«مسالك الأبصار في الأقطار والأمصار»، لابن فضل الله العمري (ت 749هـ/1349م).
    6ـ كتب التاريخ العام: وتبحث في تاريخ البشر بصفة عامة، ومنذ بدء الخليقة حتى عصر المؤرخ، وتركِّز بصفة خاصة على التاريخ الإسلامي، وأغلبها ينقل عمّا قبله، إلا أنها في تدوينها للمرحلة المعاصرة للمؤلف فإنها أصيلة، وتعتبر مصدراً أولاً أساسياً. وتُصنف كتب التاريخ العام بحسب طريقة عرضها، في صنفين:
    آ ـ كتب التاريخ الحولية: وتعرض الحوادث متسلسلة زمناً، وحولاً حولاً، ومن الأقدم إلى الأحدث، وتسرد في السنة الواحدة حوادث متنوعة، سياسية واجتماعية، واقتصادية، وفكرية، وعمرانية وغيرها، ومن كل بقاع العالم المعروف للمؤلف. ومن تلك التواريخ المهمة، كتاب «تاريخ الرسل والملوك» لابن جرير الطبري (ت 310هـ/923م).
    ومن المستحسن الإشارة في هذا الحقل، إلى أن طريقة الحوليات قد استخدمت أيضاً في كتب التاريخ الخاصة بقطر، أو أسرة حاكمة. وعلى سبيل المثال ما دونه أحمد بن محمد الرازي (ت نحو 344هـ/955م) عن «تاريخ الأندلس» من الفتح حتى زمنه، وابن حيان وهو من كبار مؤرخي الأندلس (ت 469هـ/1076م) في كتابه «المُقْتبس».
    ب ـ كتب تاريخ الدول، أو السلالات الحاكمة، أو الشعوب: ومن الذين نهجوا هذا الطريق المسعودي (ت 346هـ/957م) في كتابه «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، وابن خلدون (ت 808هـ/1406م) في كتابه «العبر وديوان المبتدأ والخبر»، وغيرهما.
    7 ـ المختصرات التاريخية: وهي مختصرات لكتب تاريخية ضخمة، يضعها مؤلفو تلك الكتب في كثير من الأحوال، لمن لا وقت له ولا صبر على مطالعة مطوّل الأحداث ومفصلها ومثل على ذلك كتاب «دول الإسلام» للمؤرخ الذهبي (ت 748هـ/1348م) الذي هو مختصر «تاريخ الإسلام» للمؤلف ذاته.
    8 ـ كتب تاريخ النظم الإدارية: وهي التي عكف فيها بعض الفقهاء والمؤرخين على بيان النظم الإدارية التي اتبعتها الدولة في مسيرتها. ومن هؤلاء الماوردي (ت 450هـ /1058م) في كتابه «الأحكام السلطانية»، وابن الطِقْطقي (ت 709هـ/1309م) في مؤلَّفه الفخري في الآداب السلطانية، وضمَّن ابن خلدون، مقدمته حديثاً عن بعض تلك النظم أيضاً. وينتمي إلى هذا النوع، وإنما باختصاص إداري أضيق، ما دوّنه بعض المؤرخين عن مناصب إدارية بعينها، كالقضاء والقضاة، والولاية والولاة، والوزارة والوزراء، والدواوين. ومن نماذج هذه التآليف كتاب «الوزراء والكتّاب» لمحمد بن عبدوس الجهشياري (ت 331هـ /942م)، و«النكت العصرية في أخبار الوزارة المصرية» لعمارة اليمني (ت 569هـ /1174م)، و«قوانين الديوان» لابن مماتي (ت 606هـ/1209م). وقد اهتم بعض المؤرخين بالنظم المالية بصفة خاصة، من أمثال أبي يوسف (ت182هـ/798م) في كتابه «الخراج»، وقدامة بن جعفر (ت 337هـ/948م) في مؤلَّفه الذي يحمل العنوان نفسه.
    وقد اتخذ هذا اللون من التأليف التاريخي، صورة أكثر إحاطة وشمولاً، عندما دخل في تركيب المؤلفات الموسوعية، وأفضل مثل عليه كتاب «نهاية الأرب في فنون الأدب» للنويري (ت 733هـ/1332م)، وكتاب «صبح الأعشى في صناعة الإنشا» للقلقشندي (ت 821هـ /1418م).
    9 ـ تاريخ الفكر الديني: ويدرس بصفة خاصة تاريخ الفرق الدينية والمذاهب وفكرها، ومثال على ذلك كتاب «الفِصَل في المِلَل والنِحَل» لعلي بن حزم الأندلسي (ت 456هـ /1064م)، و«المِلل والنِحَل» للشهرستاني (ت 548هـ/1153م)، وغيرهما.
    وهكذا، فعلم التاريخ عند العرب نما نمواً تدريجياً، ومن بذرة صغيرة استندت في بداياتها إلى الرواية الشفوية وبعض الكتابية، إلى شجرة ضخمة وباسقة، كثيرة الفروع، ومتنوعة الثمر وناضجة. وقد تكون أزهى ثمرة فيها، مقدمة ابن خلدون، التي تمثل خروج علم التاريخ من مجرد تدوين للأحداث والأحوال، وحياة الدول، إلى النظرة الفلسفية المحيطة والشاملة. وإذا كان علم التاريخ عند العرب المسلمين قد بلغ ذروة ارتقائه وعطائه في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، فإنه توقف في الواقع عن النمو منهجاً، وإن كان قد تابع تطوره معرفة ومادة، مع تطور الأحداث والأحوال في العالم، ولاسيما في العالمين العربي والإسلامي.

    ليلى الصباغ

يعمل...
X