لقاء "مباغت" بين أغزر كتّاب القرن العشرين والسينمائي الأكثر حميمية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • لقاء "مباغت" بين أغزر كتّاب القرن العشرين والسينمائي الأكثر حميمية

    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	IMG_٢٠٢٣٠٣٠٩_١٤١٦٥٩.jpg 
مشاهدات:	14 
الحجم:	72.0 كيلوبايت 
الهوية:	79678 كان من الصعب بالتأكيد لا سيما على الجمهور الضيق الأكثر طليعية في دورة مهرجان القاهرة السينمائي العام 2022، أن يربط حقاً بين المخرج المجري الكبير الذي كُرم خلال الدورة، بيلا تار، وبين الكاتب البلجيكي، جورج سيمنون، الذي يكاد يعد فرنسياً ليس فقط لكتابته بالفرنسية فذلكم أمر بديهي بالنسبة إلى ما لا يقل عن نصف البلجيكيين، بل لأن العدد الأكبر من رواياته يدور أحداثاً في فرنسا، ذلك البلد المجاور الذي درس سيمنون مجتمعه لا سيما في أبعاده الأخلاقية أكثر مما درس مجتمع مسقط رأسه البلجيكي. فشتان طبعاً بين مكانة السينمائي النخبوي المقل في إنتاجه، ومكانة وسمعة سيمنون الذي تعجز الإحصاءات وكتب تاريخ الأدب عن وضع لائحة نهائية بمؤلفاته، مهما كانت دقيقة في حساباتها. والحقيقة أن أي حديث عن سيمنون يحلو للخائض فيه أن يحوله بسرعة حديث أرقام لا شك أنه يشغل مكانة متقدمة في "كتب غينيس" للأرقام القياسية، وهو أمر يضعه في تناقض تام مع بيلا تار، ومع ذلك اجتمع المبدعان ذات يوم في فيلم "رجل لندن" (2008) بشكل يكاد لا يصدق حين حقق بيلا تار وكان على أية حال في بداياته السينمائية تقريباً، فيلمه المبكر هذا في اقتباس عن رواية لسيمنون كان من الصعب تصور تماشي البعد الذاتي فيها مع متطلبات سينما تار.
    أرقام فصيحة
    لكن قبل العودة إلى هذا الفيلم والحديث عما أغرى المخرج المجري بأفلمته نقلاً عن واحد من أكثر الكتاب شعبية وأغزرهم إنتاجاً في القرن العشرين، لا بد أولاً من تفسير ما عنيناه في السطور السابقة بـ"حديث الأرقام"، ولعل الأرقام وحدها هنا كفيلة بأن توضح لنا ما شئنا قوله لا سيما من إشارة إلى صعوبة رسم صورة دقيقة للائحة المفترضة لإنتاج سيمنون في فروع أدبية عديدة، وفي مقدمتها الرواية البوليسية بخاصة وهي النوع الأدبي الذي جعل له سمعته العالمية الكبيرة، والغريبة أيضاً.
    وتقول لنا الأرقام فوراً إن إنتاج سيمنون الروائي قد يتجاوز 700 رواية كتبت خلال أزيد قليلاً من نصف قرن، منها 200 رواية حمّلها الكاتب بخاصة عند بداياته تواقيع مستعارة، ينتمي معظمها إلى الأدب البوليسي، ونحو 103 روايات جعل بطولتها للمفتش ميغريه الذي يعد من أشهر المحققين البوليسيين بعد هركيول بوارو وشرلوك هولمز في تاريخ هذا النوع، وإلى هذا العدد الذي يزيد على 300 رواية يمكن وصف معظمها بأنه ترفيهي، لا بد لنا من إضافة 117 رواية يعتبرها كاتبو سيرة الرجل أدباً خالصاً. وعشرات النصوص والكتب الأخرى وحتى التحقيقات الصحافية وكتب المذكرات، ما يزيد من صعوبة عمل الباحثين في حياة سيمنون وعمله، ويجعل في نهاية الأمر من هذا الكاتب أكثر الأدباء غزارة في تاريخ الأدب، إذا استثنينا لوبي دي فيغا الإسباني في مجال الكتابة للمسرح... غير أن تميز سيمنون لم يكن في كمية ما كتب فقط، بل في النوعية أيضاً إلى حد كبير.
    تمارين على كتابة مستقبلية
    فالحال أننا إذا استثنينا عدداً من روايات كتبها سيمنون في بداياته "كنوع من التمرين" كما قال يوماً مبتسماً، فكان ذلك سبباً لعدم توقيعه إياها، وربما سبباً أيضاً لعودته إلى كتابتها من جديد بأشكال متطورة وبتوقيعه هذه المرة في أزمنة لاحقة كما يعترف في مذكراته التي أصدرها آخر حياته دون وجل، ولكن كيف يمكن أن يخشى مثل تلك الاعترافات كاتب فضح حياته الشخصية بشكل أكثر جرأة في تلك المذكرات نفسها التي لم يكن أقل ما ذكره فيها أنه أقام طوال حياته ألوف العلاقات الجنسية والعاطفية إلى جانب زيجتيه المعروفتين؟، المهم أن عودتنا إلى "رجل لندن" تضعنا هذه المرة مباشرة في مواجهة ذاتية كاتب لم يشتهر بدنوه من ذاتيته في الغالبية العظمى من نصوصه، لكنه في المقابل حرص على أن يجعل من تلك النصوص نوعاً من دراسة سوسيولوجية للمجتمعات التي تدور فيها أحداث تلك الروايات وربما أيضاً الروايات الأكثر بوليسية التي سيقول لاحقاً في المذكرات إنه غالباً ما حرص فيها على أن يكون ثمة رصد "أنثروبولوجي" لأخلاق تلك المجتمعات. ولكن إذا كان استكشاف هذه الأبعاد في مجمل كتابات سيمنون التي تدور أحداثها في قوالب بوليسية تحت ظل المفتش ميغريه، فإن على المرء أن يكتفي هنا، على سبيل تيسير الأمور أن يتطلع نحو عدد من مبدَعات سيمنون الأبعد عن عوالم التشويق البوليسي كي يحدد هذه الأبعاد الاجتماعية فيها.
    أدب كبير
    والحقيقة أن هذا ما فعله بيلا تار حين شاء أن يضيف جهوده السينمائية إلى نحو عشرين أو أكثر من سينمائيين أوروبيين، كانوا ولا يزالون في غالبيتهم من السينمائيين الفرنسيين، اختاروا الاستعانة بنصوص سيمنون كأساس لمشاريع سينمائية مميزة خاضوها وزادت على 60 فيلماً لافتاً، ففي هذا المجال أيضاً يبدو حديث الأرقام ممتعاً، وذلك بخاصة إن أفادنا بأن بداية اقتباس سيمنون للسينما كانت عام 1932 مع جان رينوار الملقب بـ"شاعر السينما الفرنسية" الذي حقق أول فيلم يدور من حول شخصية المفتش ميغريه الذي كان سيمنون قد ابتكره قبل ذلك بأقل من ثلاث سنوات، ولقد تتابعت إثر ذلك (ولا تزال حتى الآن) الأفلام والمسلسلات التي تعطي البطولة لميغريه لا سيما تحت ملامح جان غابان وبيار رينوار وميشال سيمون وصولاً إلى برونو كريمر. غير أن الأهم من هذا هو الروايات الأدبية الخالصة التي لم يحضر ميغريه فيها، فاقتبست للسينما بوصفها أعمالاً ذاتية غالباً وتنتمي إلى أدب كبير كان يمكنه أن يعبر عن حداثة كتابية استثنائية لولا وجود ذلك الحاجز الشعبوي الذي يعبر عنه حديث الأرقام.
    بأعمق ما يكون
    ولعل "رجل لندن" رواية تنتمي إلى هذه الفئة تحديداً، ومن هنا لا يعود غريباً أن يكون بيلا تار قد اختارها ليعبر من خلالها عن... ذاته بأعمق ما يكون، وهو تعبير ينطبق على شكل الفيلم الذي يدور من حول المدعو مالوين الذي اختار أن يعيش وحدة تقاعده في عزلة هادئة عند منطقة ساحلية إنجليزية يتأمل طوال يومه وليله أحواله وذكرياته وأحوال العالم وسط ضبابية منطقة عرفت صورته بالأسود والأبيض كيف تعطيها غموضاً ساحراً كان يمكن له أن يتواصل إلى الأبد لولا جريمة غامضة تُقترف أمام ناظريه تعيده إلى زمن العالم وتخلق لديه صراعاً مع زمن الخارج بعد أن يكون قد غاص غوصاً اعتبره نهائياً في زمنه الداخلي، وهذا الصراع الجواني تحديداً، كان هو ما أغرى بيلا تار بخوض تجريبية سينمائية جعلته يعتبر النص وأجواءه نوعاً من دمجه هو نفسه في زمن العالم من خلال برانية لا شك أنها في تضافرها مع الجوانية العميقة، كانت هي ما ميز روايات سيمنون التي يمكن القول أن انتماءها إلى الأدب الكبير كان أهم ما ميزها وأعطاها نوعاً من خصوصية تزداد أهميتها مع مرور الزمن.
    ولافت أن يكون بيلا تار قد قال بنفسه حين سئل عما جعله يضم عمله على هذه الرواية ليس فقط إلى سينماه الأعمق خصوصية، بل إلى تلك السلسلة من الأفلام "النخبوية" المقتبسة عن روايات سيمنون "الأقل شعبية"، مثل "الأرملة كوديرك" و"في السراء" و"مسافر عيد جميع القديسين"، فقال "ما أغراني هو إحساسي منذ البداية بأن شخصية مالوين تمثلني بقدر ما تمثل سيمنون وتمثل كل واحد منا، وهو ما أتاح لي أن تكون الكاميرا لدي في حركة متواصلة بين الداخل والخارج".
    تطابق الذات والموضوع
    لقد عرف الفيلم كيف يتأرجح بين النظرة الموضوعية إلى المشهد العام كما يراه مالوين ومشهد مالوين وهو يتأرجح بين جوانيته وبرانيته، "لا سيما، بحسب تار، حين تتفرس الكاميرا في الوجوه وتركز على نظرات العيون، إذ حتى هنا وجدت فيما كنت أكتب سيناريو الفيلم أن في إمكان الكاميرا حتى وهي تتفرس في النظرات، أن ترى ما يحدث في الداخل والخارج في الوقت نفسه". باختصار قال تار إنه وجد النص يعبر عنه هو بقدر ما يعبر عن الكاتب ما يعني أنه كان من أسهل الأمور عليه أن يجعل الفيلم عملاً متكاملاً ينتزع منه جوهره الذي يجب "دائماً البحث عنه في ثنايا كتابة جورج سيمنون (1903 – 1989) لا سيما في عدد لا بأس به من روايات تنتمي إلى إنجازاته الأدبية الخالصة".
يعمل...
X