ليبي بثياب دمشقية .. أدى قوالب متنوعة لشخصية واحدة .. قصة الفنان الليبي ياسين بقوش الذي أصبح سوري اللسان والفن والمصير
مع ظهور التلفزيون في الوطن العربي وانتقال الصورة بين أقطاره استطاع المشاهدون في كل بقاعه أن يطّلعوا على الأعمال الفنية القليلة التي كانت تنتج في البدايات.
وصارت تلك الأعمال تتنقل بين محطاته، ولا سيما السورية منها كأعمال دريد لحام ونهاد قلعي التي امتد نجاحها إلى مختلف أرجائه.
ومن بين الممثلين الذين شاركوا في تلك الأعمال ياسين بقوش، حيث تعرفت سيدة في منطقة زوارة على الحدود الليبية التونسية على هذا الفنان، وأدركت أنه ابن أخيها الذي انقطعت أخباره منذ سنين طويلة.
قصة من الخيال .. ليبي بثياب دمشقية
يقول ياسين بقوش عن هذه المصادفة الغريبة في حياته أنها جعلته يعرف أصوله الليبية، بعدما كان يظن نفسه دمشقيا لكونه ولد وعاش في حاراتها وتكلم لهجة أهلها: راسلتني عمة لي (شقيقة والدي) من زوجة جدي الليبية، بعدما شاهدتني على شاشة التلفاز.
حتى تمكنت من المجيء إلى دمشق عام 1976 وتعرفت إلينا (هو وأخوته)، والتأم شمل العائلة، وعرفتُ أننا من منطقة زوارة، وبعد ذلك عرفتُ أن اسم بقوش جاء من البقاش (في مصر يقولون بكاش) وهي كلمة بربرية تعني “الكذاب”.
حج بلا عودة.. أولى الخطوات في المسرح الحر
تقطعت السبل بوالد ياسين بقوش (أو جده) الليبي بينما هو في رحلة الحج، فقد ألمّ به مرض شديد في مكة، حيث تركه رفاقه متخلفا عنهم وعادوا إلى ليبيا، أما هو فقد قرر أن يقصد دمشق قبل عودته إلى ليبيا، لكنه لما وصل إليها استطاب له العيش وأحب المكوث فيها، كونه غير قادر على تحمل عناء السفر على الدواب والجمال.
هناك في دمشق العتيقة تزوج والده (عبد القادر) وسكن الحارة الشركسية بحي الصالحية في العاصمة دمشق، حيث ولد ياسين في عام 1938، وتعلم في مدرسة الأيوبية الواقعة في الحي ذاته.
بعدما شبّ ياسين بقوش نمت ميوله الفنية، وراح يحتاج إلى فضاء يعبر فيه عن ذاته ومكنوناته، فاندفع باحثا عن فرصة يثبت فيه موهبة يقدمها ويحكي فيها هموما يومية، فجاءت هذه الفرصة على يدي عبد اللطيف فتحي (أبو كلبشة) في المسرح الحر بعد تأسيسه عام 1956.
هذا المسرح الذي أتى متكاملا بعناصر مسرحية فنية تامة، اشترك فيه جيل الرواد يعملون وفق سمات فنية محددة، ويبحثون عن مواهب كي يصقلوها ويمنحوها الخطوات الأولى لتتابع السير بعدهم في النشاط المسرحي.
“متعب أفندي”.. صوت أجش في الإذاعة والمسرح
في عام 1958 استغل ياسين بقوش صوته الأجش الذي يشد السامع بتلوينات متعددة عبر الإذاعة بتقديم مسلسل “متعب أفندي” من تأليف القصّاص الشعبي حكمت محسن وإخراج تيسير السعدي، معتمدا عليه وعلى الفواصل التي يتركها بين العبارات بأنفاس توحي للسامع بأن شيئا ما سيحدث، فيضفي ذلك تشويقا سماعيا، فأعطاه هذا الصوت بصمة سماعية يميزها المستمع من تنهيداتها وشهيقها وزفيرها.
وعندما تأسس مسرح العرائس عام 1960 واستلم إدارته عبد اللطيف فتحي، انتقل معه بقوش فعملا معا لتقديم عروض مسرحية للأطفال لاقت رواجا كبيرا، ورسخت تقاليد العمل المسرحي الموجه للأطفال، كما تدرب فيه على إخراج الدراما وتحليل الشخصيات على يد خبراء أوروبيين.
وفي العام نفسه (1960) تأسس المسرح القومي، وكان ياسين بقوش من الممثلين الذين توجهوا إليه لتقديم عروض مسرحية، أمست من أهم الأعمال التي قدمت في تاريخ المسرح السوري، فقد عمل في المسرحية الشهيرة “سهرة مع أبي خليل القباني” للكاتب سعد الله ونوس وإخراج أسعد فضة.
كما قدم بعدها مع الفنان الراحل عمر حجو بعض التمثيليات والإسكتشات في برامج الأطفال وبرامج التلفزيون الأسبوعية، معتمدا على خبرته التي اكتسبها من مسرح العرائس والمسرح القومي والمسرح الجوال الذي طاف مدنا سورية عدة.
“مسرح الشوك”.. تمهيد إلى عالم الدراما التلفزيونية
في أواخر الستينيات أنشأ الفنان الراحل عمر حجو “مسرح الشوك” الذي جمع فيه ثلة من أهم الممثلين في تاريخ المسرح السوري وقدموا فيه عروضا عديدة كان أولها “مرايا” وثانيها “جيرك” وهما من إخراج دريد لحام، وثالثها “براويظ” من إخراج أسعد فضة، وعبر تقديم إسكتشات اجتماعية وسياسية ناقدة لاقت ترحيبا واسعا في مختلف الأوساط الشعبية والنقدية.
توقف “مسرح الشوك” عام 1974، فأسس بقوش شراكة فنية مع يوسف حـ.ـرب وشكلا فرقة أطلقا عليها “التجمع النقابي”، الفرقة الدرامية التي قدمت مسرحيات كثيرة تجاوز عددها الثلاثين، منها “الليلة عرسي” و”حبي ومستقبل غيري” و”زوجتي مليونيرة”.
بداياته المسرحية مهدت له الانتقال إلى الدراما التلفزيونية بعدما انتشر التلفزيون وصار له جمهور واسع ينتظر المسلسلات والتمثيليات التي يبثها، وقد كانت مشاركة ياسين الأولى في مسلسل “رابعة العدوية” (1961) ثم مسلسل “مساكين” (1969).
كما قدم مع المخرج الراحل شكيب غنام مسلسل “زقاق المايلة” (1972) الذي حقق نجاحا كبيرا، في زمن كانت فيه الريادة والشهرة في المسلسلات الدرامية لدريد لحام ونهاد قلعي الذي رسّخ الكاركتر الشهير “ياسينو” في الوعي العربي، فهو من كان يعد السيناريو ويؤسس الشخصيات في عمله مع دريد لحام.
ياسينو”.. بساطة الشعب العربي وسذاجته
بنى نهاد قلعي شخصية “ياسينو” على السذاجة والبساطة، وكثيرا ما كان يقنعه غوار الطوشة بالعمل معه في تدبير مقالبه، معتقدا أنه لا يفعل سوءا بذلك.
وقال بقوش عن هذا الدور: في البداية اعتذرتُ عن أداء دور ياسينو لانشغالي بمسرح الشوك، لكن الفنان نهاد قلعي تحدث معي وقال لي إن هذا العمل مثل مسرح الشوك، فقلت له: كيف ذلك؟ فقال: حسني البورظان يمثل الفكر العربي، غوار يمثل الفكر المتآمر على الفكر العربي، أبو عنتر يمثل عضلات الفكر المتآمر، ياسينو يمثل الشعب العربي الطيب الذي يصدق كل شيء، وفطوم هي الأرض العربية التي سيتم التزاحم عليها في المستقبل.
سرعان ما تنمّط ياسين بقوش في شخصية “ياسينو” في الأعمال التي أداها، بدءا بـ”صحّ النوم” (1972) و”ملح وسكر” (1973) و”وين الغلط” (1972)، مروراً بـ”لكل الناس” (1980) و”تلفزيون المرح” (1981) و”وادي المسك” (1982)، وصولاً إلى “عريس الهنا” (1984).
لم يستطع الخروج من الإطار التشكيلي لهذا الدور، ففيه عرف النجاح مع شريكيه، ولو أنه أقل منهما، لكنه صار مثالا للعامل البسيط في “أوتيل صح النوم”، الذي يسلي “أبو عنتر” نفسه به، ويجعله غوار الطوشة وسيلة لتحقيق مآربه، فقد عبر عن حالة الشعب العربي التي أرادها نهاد قلعي تعبيرا يشير إلى طيبته وبساطته.
غزو السينما.. قوالب متنوعة لشخصية واحدة
سار ياسين بقوش في العمل السينمائي إلى جانب أعماله الدرامية مع دريد ونهاد، فاشترك في أفلام عديدة يجسد الشخصية ذاتها بطيبتها وبساطتها، مُركزا تنميطه في إطارها في تلك الأفلام، مثل “غزلان” (1969) و”الثعلب” (1971) و”مقلب حب” و”شقة ومليون مفتاح” و”رحلة حب” (1972) و”عروس من دمشق” (1973) و”عنترة فارس الصحراء” و”غوار جيمس بوند” و”الغجرية العاشقة” و”النصابين الخمسة” و”غراميات خاصة” (1974).
وفي العام الذي يليه (1975) شارك في “المزيفون” و”الاستعراض الكبير” و”صح النوم” و”العندليب”، حتى قدم في عام 1980 “حارة العناتر” و”تفضلوا ممنوع الدخول” و”أمطار صيفية” (1984).
منذ منتصف الثمانينيات ضعف العمل الدرامي والسينمائي، كما تفرق أصدقاء دربه، فبقي وحيدا يعمل مع فِرق مسرحية، حتى تمكن من العودة إلى الدراما في أعمال لا ترقى إلى مستواه الفنية مجسدا فيها الشخصية ذاتها، لكن هذه المرة خارج “أوتيل صح النوم” مثل مسلسل “ياسين تورز” (1996).
لم تكن شخصية “ياسينو” بعيدة عن شخصية ياسين بقوش الحقيقية المتسمة بقربها من البسطاء والعامة، لذا كانت مفرداته في أعماله دقيقة قريبة من الحكي العامي يسرد فيها الحياة الشعبية اليومية، مستخدما قلم رصاص يدوّن به ملاحظاته منذ اللحظات الأولى لقراءة النص، كي يستطيع الإلمام بجوانب الشخصية والتعرف إلى مفرداتها، وإن كانت تلك الشخصية “ياسينو”، لكنه كان يقدمها في قوالب مختلفة في كل دور يؤديه، لتتمكن من إيصال الفكرة والمقولة التي يبتغيها العمل.
“ياسينو” ليس خائنا.. كي لا تموت الشخصية الجماهيرية
انقطع دريد لحام عن العمل التلفزيوني فترة طويلة، لكنه قرر العودة إلى شخصيته المحببة “غوار الطوشة” في مسلسل “عودة غوار: الأصدقاء” (1998) متعاونا مع “أبو عنتر” و”ياسينو” لإحياء أمجادهم معا بعد رحيل شريكهم نهاد قلعي.
“هل تريد للناس أن يبصقوا عليّ في الشارع”، بهذه العبارة رفض ياسين بقوش المشاركة في هذا العمل كون الدور المقدم إليه يقوم على خيانة صديقه “غوار” والتسبب في إدخاله السجن، فهو لم يرضَ أن يجسد هذه الشخصية بعد سنوات من تجسيده “ياسينو” الطيب القريب من الناس، وبعد رفضه العمل في مسلسل “عودة غوار: الأصدقاء” تضاءلت الفرص أمامه في الدراما، إلى أن عاد للتمثيل الدرامي في مسلسلي “البطرني” و”تلاميذ آخر زمن” (2001).
وفي عام 2003 استطاع الخروج أخيرا من قالب الشخصية التي أمسكت به عشرات السنين عندما جسد دور حاخام يهودي في المسلسل التاريخي “سيف بن ذي يزن”، وشخصية تاريخية في “بهلول أعقل المجانين” الجزء الثاني (2008)، وكان آخر مسلسل له “صايعين ضايعين” (2011).
وفي هذه الفترة عاد إلى السينما في “حارة التنابر” (2000)، “الرجل الضاحك” (2002)، إلى أن جاء المخرج محمد عبد العزيز وانتشله سينمائيا من إطار “ياسينو” في فيلم “نصف ميليغرام نيكوتين” (2009) عندما قدمه بدور عارض سينما، ومرة أخرى جعله مختارا لحي ركن الدين الدمشقي في فيلم “دمشق مع حبي” (2011).
فخ الاستثمار التجاري.. سقوط “ياسينو” عن الخشبة
توازيا مع أعماله الدرامية والسينمائية استمر ياسين بقوش في العمل المسرحي، حتى بلغ عدد المسرحيات التي شارك فيها أكثر من 400 بين 1950 و1990 على مسارح القباني والحمراء والمسرح الوطني ومسرح الفرسان، حتى قدم مسرحية “السقوط” عام 2011 التي هي آخر مسرحية له.
في أواخر حياته لم يكن راضيا عن أداء المسرح وموضوعاته وطرق معالجته للقضايا، فنظرته المسرحية هي أن يكون وفق أصول مرسومة حقيقية تقول شيئا للمتفرج وتوصل فكرة وعبرة إليه، وأن يكون العمل العالمي مؤطرا بيئيا كي يفهمه الجمهور ويكون قريبا منه، إذ إن العمل بحاجة إلى فكرة إنسانية أو قومية أو مبدئية يرتكز عليها، كي لا يبتعد المتفرج عما يقدم على الخشبة.
لكن ياسين بقوش نفسه قدم في فترات كثيرة مسرحا تجاريا، ولا سيما المسرحيات التي حاولت الاستثمار بشخصية “ياسينو”، فكان غير قادر على التوفيق بين التجارة والاحتفاظ بخاصية الشخصية التي لازمته، لذا سقط “ياسينو” في أعمال مسرحية كثيرة (كما في أعمال درامية أخرى)، فلم يتمكن بذلك من الوقوف في وجه الاستثمار والتجارة مسرحيا ودراميا.
ضعف أداء تلك الشخصية في الفترات الأخيرة بعدما كانت متألقة في الوجدان العربي، يفسره بقوش بأنه يكمن في طريقة صياغتها ووضعها في مكانها المناسب ضمن تركيبة لم تتمكن الدراما السورية من تكرارها.
لم أشعر يوما أني من ليبيا”.. محبة أبدية
عاش ياسين بقوش ضمن “ياسينو” في الحياة العادية، حتى لو لم يلبس اللباس البيئي، ولم يستخدم مفرداته. بسيط في الحياة كما هو بسيط في التمثيل، أتقن دوره سنوات طويلة حتى ظنه الناس كذلك، إذ يحكي في أحد حواراته أنه بينما كان يمشي في أحد شوارع دمشق يتقدم طفل منه ويسأله “عمو أديش الساعة؟”، فيجيبه “وحدة ونص”، فينظر الطفل إلى صديقه قائلا “ما قلت لك مانو أجدب” (أحمق).
ويقول متحدثا عن اندماجه في المجتمع السوري وحبه له: لم أشعر يوما أني من ليبيا، فهذا البلد الأمين لم يعلمني سوى الخير والمحبة، هذا البلد عشت فيه كل حياتي، تربيت وكبرت وعملت وتزوجت وأنجبت في كنفه، ولن أغادره إلا إلى الموت، ولن أغدره ولو مت أنا وأطفالي من الجوع.
بهذه الكلمات يحكي ياسين بقوش عن البلد الذي كان من أهم أمنياته أن يقدم له عملا مسرحيا يسرد فيه تاريخه النضالي، راحلا عنه في سنوات دمار وخراب يعيشها، ويبدو أنها ستطول كثيرا.
وفاة ياسين بقوش
نيـ.ـران تشتعل في مخيم اليرموك وقـ.ـذائف تنهمر على أطرافه في يوم شتائي بارد في العاصمة السورية دمشق.
القصـ.ـف متواصل بعد اشتـ.ـداد الاشتبـ.ـاكات حولها، حتى أتت إحدى تلك القـ.ـذائف على سيارة عابرة في 24 فبراير/ شباط 2013، كان بداخلها رجل لم تتضح هويته على الفور فسقط جـ.ـثة هامدة.
إنه الفنان السوري الليبي الأصل ياسين بقوش الذي وفى لدمشق بما عاهدها عليه، بعد أن قطع على نفسه وعدا أن لا يغادر سوريا إلا إلى الموت.
مع ظهور التلفزيون في الوطن العربي وانتقال الصورة بين أقطاره استطاع المشاهدون في كل بقاعه أن يطّلعوا على الأعمال الفنية القليلة التي كانت تنتج في البدايات.
وصارت تلك الأعمال تتنقل بين محطاته، ولا سيما السورية منها كأعمال دريد لحام ونهاد قلعي التي امتد نجاحها إلى مختلف أرجائه.
ومن بين الممثلين الذين شاركوا في تلك الأعمال ياسين بقوش، حيث تعرفت سيدة في منطقة زوارة على الحدود الليبية التونسية على هذا الفنان، وأدركت أنه ابن أخيها الذي انقطعت أخباره منذ سنين طويلة.
قصة من الخيال .. ليبي بثياب دمشقية
يقول ياسين بقوش عن هذه المصادفة الغريبة في حياته أنها جعلته يعرف أصوله الليبية، بعدما كان يظن نفسه دمشقيا لكونه ولد وعاش في حاراتها وتكلم لهجة أهلها: راسلتني عمة لي (شقيقة والدي) من زوجة جدي الليبية، بعدما شاهدتني على شاشة التلفاز.
حتى تمكنت من المجيء إلى دمشق عام 1976 وتعرفت إلينا (هو وأخوته)، والتأم شمل العائلة، وعرفتُ أننا من منطقة زوارة، وبعد ذلك عرفتُ أن اسم بقوش جاء من البقاش (في مصر يقولون بكاش) وهي كلمة بربرية تعني “الكذاب”.
حج بلا عودة.. أولى الخطوات في المسرح الحر
تقطعت السبل بوالد ياسين بقوش (أو جده) الليبي بينما هو في رحلة الحج، فقد ألمّ به مرض شديد في مكة، حيث تركه رفاقه متخلفا عنهم وعادوا إلى ليبيا، أما هو فقد قرر أن يقصد دمشق قبل عودته إلى ليبيا، لكنه لما وصل إليها استطاب له العيش وأحب المكوث فيها، كونه غير قادر على تحمل عناء السفر على الدواب والجمال.
هناك في دمشق العتيقة تزوج والده (عبد القادر) وسكن الحارة الشركسية بحي الصالحية في العاصمة دمشق، حيث ولد ياسين في عام 1938، وتعلم في مدرسة الأيوبية الواقعة في الحي ذاته.
بعدما شبّ ياسين بقوش نمت ميوله الفنية، وراح يحتاج إلى فضاء يعبر فيه عن ذاته ومكنوناته، فاندفع باحثا عن فرصة يثبت فيه موهبة يقدمها ويحكي فيها هموما يومية، فجاءت هذه الفرصة على يدي عبد اللطيف فتحي (أبو كلبشة) في المسرح الحر بعد تأسيسه عام 1956.
هذا المسرح الذي أتى متكاملا بعناصر مسرحية فنية تامة، اشترك فيه جيل الرواد يعملون وفق سمات فنية محددة، ويبحثون عن مواهب كي يصقلوها ويمنحوها الخطوات الأولى لتتابع السير بعدهم في النشاط المسرحي.
“متعب أفندي”.. صوت أجش في الإذاعة والمسرح
في عام 1958 استغل ياسين بقوش صوته الأجش الذي يشد السامع بتلوينات متعددة عبر الإذاعة بتقديم مسلسل “متعب أفندي” من تأليف القصّاص الشعبي حكمت محسن وإخراج تيسير السعدي، معتمدا عليه وعلى الفواصل التي يتركها بين العبارات بأنفاس توحي للسامع بأن شيئا ما سيحدث، فيضفي ذلك تشويقا سماعيا، فأعطاه هذا الصوت بصمة سماعية يميزها المستمع من تنهيداتها وشهيقها وزفيرها.
وعندما تأسس مسرح العرائس عام 1960 واستلم إدارته عبد اللطيف فتحي، انتقل معه بقوش فعملا معا لتقديم عروض مسرحية للأطفال لاقت رواجا كبيرا، ورسخت تقاليد العمل المسرحي الموجه للأطفال، كما تدرب فيه على إخراج الدراما وتحليل الشخصيات على يد خبراء أوروبيين.
وفي العام نفسه (1960) تأسس المسرح القومي، وكان ياسين بقوش من الممثلين الذين توجهوا إليه لتقديم عروض مسرحية، أمست من أهم الأعمال التي قدمت في تاريخ المسرح السوري، فقد عمل في المسرحية الشهيرة “سهرة مع أبي خليل القباني” للكاتب سعد الله ونوس وإخراج أسعد فضة.
كما قدم بعدها مع الفنان الراحل عمر حجو بعض التمثيليات والإسكتشات في برامج الأطفال وبرامج التلفزيون الأسبوعية، معتمدا على خبرته التي اكتسبها من مسرح العرائس والمسرح القومي والمسرح الجوال الذي طاف مدنا سورية عدة.
“مسرح الشوك”.. تمهيد إلى عالم الدراما التلفزيونية
في أواخر الستينيات أنشأ الفنان الراحل عمر حجو “مسرح الشوك” الذي جمع فيه ثلة من أهم الممثلين في تاريخ المسرح السوري وقدموا فيه عروضا عديدة كان أولها “مرايا” وثانيها “جيرك” وهما من إخراج دريد لحام، وثالثها “براويظ” من إخراج أسعد فضة، وعبر تقديم إسكتشات اجتماعية وسياسية ناقدة لاقت ترحيبا واسعا في مختلف الأوساط الشعبية والنقدية.
توقف “مسرح الشوك” عام 1974، فأسس بقوش شراكة فنية مع يوسف حـ.ـرب وشكلا فرقة أطلقا عليها “التجمع النقابي”، الفرقة الدرامية التي قدمت مسرحيات كثيرة تجاوز عددها الثلاثين، منها “الليلة عرسي” و”حبي ومستقبل غيري” و”زوجتي مليونيرة”.
بداياته المسرحية مهدت له الانتقال إلى الدراما التلفزيونية بعدما انتشر التلفزيون وصار له جمهور واسع ينتظر المسلسلات والتمثيليات التي يبثها، وقد كانت مشاركة ياسين الأولى في مسلسل “رابعة العدوية” (1961) ثم مسلسل “مساكين” (1969).
كما قدم مع المخرج الراحل شكيب غنام مسلسل “زقاق المايلة” (1972) الذي حقق نجاحا كبيرا، في زمن كانت فيه الريادة والشهرة في المسلسلات الدرامية لدريد لحام ونهاد قلعي الذي رسّخ الكاركتر الشهير “ياسينو” في الوعي العربي، فهو من كان يعد السيناريو ويؤسس الشخصيات في عمله مع دريد لحام.
ياسينو”.. بساطة الشعب العربي وسذاجته
بنى نهاد قلعي شخصية “ياسينو” على السذاجة والبساطة، وكثيرا ما كان يقنعه غوار الطوشة بالعمل معه في تدبير مقالبه، معتقدا أنه لا يفعل سوءا بذلك.
وقال بقوش عن هذا الدور: في البداية اعتذرتُ عن أداء دور ياسينو لانشغالي بمسرح الشوك، لكن الفنان نهاد قلعي تحدث معي وقال لي إن هذا العمل مثل مسرح الشوك، فقلت له: كيف ذلك؟ فقال: حسني البورظان يمثل الفكر العربي، غوار يمثل الفكر المتآمر على الفكر العربي، أبو عنتر يمثل عضلات الفكر المتآمر، ياسينو يمثل الشعب العربي الطيب الذي يصدق كل شيء، وفطوم هي الأرض العربية التي سيتم التزاحم عليها في المستقبل.
سرعان ما تنمّط ياسين بقوش في شخصية “ياسينو” في الأعمال التي أداها، بدءا بـ”صحّ النوم” (1972) و”ملح وسكر” (1973) و”وين الغلط” (1972)، مروراً بـ”لكل الناس” (1980) و”تلفزيون المرح” (1981) و”وادي المسك” (1982)، وصولاً إلى “عريس الهنا” (1984).
لم يستطع الخروج من الإطار التشكيلي لهذا الدور، ففيه عرف النجاح مع شريكيه، ولو أنه أقل منهما، لكنه صار مثالا للعامل البسيط في “أوتيل صح النوم”، الذي يسلي “أبو عنتر” نفسه به، ويجعله غوار الطوشة وسيلة لتحقيق مآربه، فقد عبر عن حالة الشعب العربي التي أرادها نهاد قلعي تعبيرا يشير إلى طيبته وبساطته.
غزو السينما.. قوالب متنوعة لشخصية واحدة
سار ياسين بقوش في العمل السينمائي إلى جانب أعماله الدرامية مع دريد ونهاد، فاشترك في أفلام عديدة يجسد الشخصية ذاتها بطيبتها وبساطتها، مُركزا تنميطه في إطارها في تلك الأفلام، مثل “غزلان” (1969) و”الثعلب” (1971) و”مقلب حب” و”شقة ومليون مفتاح” و”رحلة حب” (1972) و”عروس من دمشق” (1973) و”عنترة فارس الصحراء” و”غوار جيمس بوند” و”الغجرية العاشقة” و”النصابين الخمسة” و”غراميات خاصة” (1974).
وفي العام الذي يليه (1975) شارك في “المزيفون” و”الاستعراض الكبير” و”صح النوم” و”العندليب”، حتى قدم في عام 1980 “حارة العناتر” و”تفضلوا ممنوع الدخول” و”أمطار صيفية” (1984).
منذ منتصف الثمانينيات ضعف العمل الدرامي والسينمائي، كما تفرق أصدقاء دربه، فبقي وحيدا يعمل مع فِرق مسرحية، حتى تمكن من العودة إلى الدراما في أعمال لا ترقى إلى مستواه الفنية مجسدا فيها الشخصية ذاتها، لكن هذه المرة خارج “أوتيل صح النوم” مثل مسلسل “ياسين تورز” (1996).
لم تكن شخصية “ياسينو” بعيدة عن شخصية ياسين بقوش الحقيقية المتسمة بقربها من البسطاء والعامة، لذا كانت مفرداته في أعماله دقيقة قريبة من الحكي العامي يسرد فيها الحياة الشعبية اليومية، مستخدما قلم رصاص يدوّن به ملاحظاته منذ اللحظات الأولى لقراءة النص، كي يستطيع الإلمام بجوانب الشخصية والتعرف إلى مفرداتها، وإن كانت تلك الشخصية “ياسينو”، لكنه كان يقدمها في قوالب مختلفة في كل دور يؤديه، لتتمكن من إيصال الفكرة والمقولة التي يبتغيها العمل.
“ياسينو” ليس خائنا.. كي لا تموت الشخصية الجماهيرية
انقطع دريد لحام عن العمل التلفزيوني فترة طويلة، لكنه قرر العودة إلى شخصيته المحببة “غوار الطوشة” في مسلسل “عودة غوار: الأصدقاء” (1998) متعاونا مع “أبو عنتر” و”ياسينو” لإحياء أمجادهم معا بعد رحيل شريكهم نهاد قلعي.
“هل تريد للناس أن يبصقوا عليّ في الشارع”، بهذه العبارة رفض ياسين بقوش المشاركة في هذا العمل كون الدور المقدم إليه يقوم على خيانة صديقه “غوار” والتسبب في إدخاله السجن، فهو لم يرضَ أن يجسد هذه الشخصية بعد سنوات من تجسيده “ياسينو” الطيب القريب من الناس، وبعد رفضه العمل في مسلسل “عودة غوار: الأصدقاء” تضاءلت الفرص أمامه في الدراما، إلى أن عاد للتمثيل الدرامي في مسلسلي “البطرني” و”تلاميذ آخر زمن” (2001).
وفي عام 2003 استطاع الخروج أخيرا من قالب الشخصية التي أمسكت به عشرات السنين عندما جسد دور حاخام يهودي في المسلسل التاريخي “سيف بن ذي يزن”، وشخصية تاريخية في “بهلول أعقل المجانين” الجزء الثاني (2008)، وكان آخر مسلسل له “صايعين ضايعين” (2011).
وفي هذه الفترة عاد إلى السينما في “حارة التنابر” (2000)، “الرجل الضاحك” (2002)، إلى أن جاء المخرج محمد عبد العزيز وانتشله سينمائيا من إطار “ياسينو” في فيلم “نصف ميليغرام نيكوتين” (2009) عندما قدمه بدور عارض سينما، ومرة أخرى جعله مختارا لحي ركن الدين الدمشقي في فيلم “دمشق مع حبي” (2011).
فخ الاستثمار التجاري.. سقوط “ياسينو” عن الخشبة
توازيا مع أعماله الدرامية والسينمائية استمر ياسين بقوش في العمل المسرحي، حتى بلغ عدد المسرحيات التي شارك فيها أكثر من 400 بين 1950 و1990 على مسارح القباني والحمراء والمسرح الوطني ومسرح الفرسان، حتى قدم مسرحية “السقوط” عام 2011 التي هي آخر مسرحية له.
في أواخر حياته لم يكن راضيا عن أداء المسرح وموضوعاته وطرق معالجته للقضايا، فنظرته المسرحية هي أن يكون وفق أصول مرسومة حقيقية تقول شيئا للمتفرج وتوصل فكرة وعبرة إليه، وأن يكون العمل العالمي مؤطرا بيئيا كي يفهمه الجمهور ويكون قريبا منه، إذ إن العمل بحاجة إلى فكرة إنسانية أو قومية أو مبدئية يرتكز عليها، كي لا يبتعد المتفرج عما يقدم على الخشبة.
لكن ياسين بقوش نفسه قدم في فترات كثيرة مسرحا تجاريا، ولا سيما المسرحيات التي حاولت الاستثمار بشخصية “ياسينو”، فكان غير قادر على التوفيق بين التجارة والاحتفاظ بخاصية الشخصية التي لازمته، لذا سقط “ياسينو” في أعمال مسرحية كثيرة (كما في أعمال درامية أخرى)، فلم يتمكن بذلك من الوقوف في وجه الاستثمار والتجارة مسرحيا ودراميا.
ضعف أداء تلك الشخصية في الفترات الأخيرة بعدما كانت متألقة في الوجدان العربي، يفسره بقوش بأنه يكمن في طريقة صياغتها ووضعها في مكانها المناسب ضمن تركيبة لم تتمكن الدراما السورية من تكرارها.
لم أشعر يوما أني من ليبيا”.. محبة أبدية
عاش ياسين بقوش ضمن “ياسينو” في الحياة العادية، حتى لو لم يلبس اللباس البيئي، ولم يستخدم مفرداته. بسيط في الحياة كما هو بسيط في التمثيل، أتقن دوره سنوات طويلة حتى ظنه الناس كذلك، إذ يحكي في أحد حواراته أنه بينما كان يمشي في أحد شوارع دمشق يتقدم طفل منه ويسأله “عمو أديش الساعة؟”، فيجيبه “وحدة ونص”، فينظر الطفل إلى صديقه قائلا “ما قلت لك مانو أجدب” (أحمق).
ويقول متحدثا عن اندماجه في المجتمع السوري وحبه له: لم أشعر يوما أني من ليبيا، فهذا البلد الأمين لم يعلمني سوى الخير والمحبة، هذا البلد عشت فيه كل حياتي، تربيت وكبرت وعملت وتزوجت وأنجبت في كنفه، ولن أغادره إلا إلى الموت، ولن أغدره ولو مت أنا وأطفالي من الجوع.
بهذه الكلمات يحكي ياسين بقوش عن البلد الذي كان من أهم أمنياته أن يقدم له عملا مسرحيا يسرد فيه تاريخه النضالي، راحلا عنه في سنوات دمار وخراب يعيشها، ويبدو أنها ستطول كثيرا.
وفاة ياسين بقوش
نيـ.ـران تشتعل في مخيم اليرموك وقـ.ـذائف تنهمر على أطرافه في يوم شتائي بارد في العاصمة السورية دمشق.
القصـ.ـف متواصل بعد اشتـ.ـداد الاشتبـ.ـاكات حولها، حتى أتت إحدى تلك القـ.ـذائف على سيارة عابرة في 24 فبراير/ شباط 2013، كان بداخلها رجل لم تتضح هويته على الفور فسقط جـ.ـثة هامدة.
إنه الفنان السوري الليبي الأصل ياسين بقوش الذي وفى لدمشق بما عاهدها عليه، بعد أن قطع على نفسه وعدا أن لا يغادر سوريا إلا إلى الموت.