تاشفين (يوسف)
Tashifin (Yusuf ibn-) - Tashifin (Yusuf ibn-)
ابن تاشفين (يوسف ـ)
( 400 ـ500 هـ/ 1009ـ 1106م)
أبو يعقوب يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن ترقوت (ترجوت) اللمتوني أمير المرابطين.
والمرابطون[ر] أتباع دعوة دينية سياسية أسسها الفقيه المالكي عبد الله بن ياسين الجزولي، ظهرت ونمت في منتصف القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي بين قبائل الملثمين من صنهاجة الضاربة في الصحراء الكبرى من المغرب الأقصى، وكانت قبيلة لمتونة الصنهاجية عمادها، وما لبثت أن تحوَّلت في زمن يسير إلى دولة سيطرت على المغرب الأقصى وجزء من المغرب الأوسط إضافة إلى الأندلس.
ظهر يوسف على مسرح الأحداث قائداً عسكرياً لابن عمه أبي بكر بن عمر اللمتوني الذي عينه عبد الله بن ياسين قائداً للمرابطين بعد مقتل أخيه يحيى بن عمر في إحدى الحملات على السودان، وإذا كان يحيى بن عمر هو بطل إخضاع الصحراء مع الواحات للمرابطين فإن أخاه أبا بكر صار بطل ضم المغرب الأقصى إلى الدولة المرابطية، وقد شاركه في ذلك منذ البداية يوسف بن تاشفين.
كان أبو بكر منهمكاً في إعمار قاعدته الجديدة مراكش عندما بلغه اضطراب المؤخرة المرابطية في الصحراء، فعين ابن عمه يوسف بن تاشفين نائباً عنه في حكم المغرب بالاتفاق مع أشياخ المرابطين وتوجه إلى الصحراء سنة 463هـ /1071م بعد أن طلّق زوجته زينب النفزاوية لجهله بمدى غيابه وخشيته أن يطول كثيراً وأوصاها بالزواج من ابن عمه بعد رحيله، فغدت زينب الأثيرة لدى يوسف والمشيرة عليه في كل الأمور، وتنسب لها الرواية صفة الجمال والذكاء والغنى وصفات أخرى.
بقي يوسف نائباً لابن عمه أبي بكر في حكم المغرب مدة سنتين قام فيهما بإعطاء سلطة المرابطين صبغة الملك والسلطان، فأكمل بناء القاعدة الجديدة مراكش، وضرب الدراهم والدنانير باسم أبي بكر بن عمر، وقام بتنظيم الجيش، وكان أبو بكر قد ترك له قسماً من الجيش لمتابعة قتال مغراوة وبني يفرن وزناته وغيرها، فوزع 20 ألفاً من محاربي حركة المرابطين على قادتهم القبليين بحيث يرأس قادة كل من لمتونة ومسوفة وجدالة وتلكاتة خمسة آلاف مقاتل، وأبقى عشرين ألفاً تحت قيادته الشخصية، ثم أضاف لنفسه حرساً بشراء 2240 من العبيد السودان وعلوج الأندلس وجعلهم فرساناً كلهم، وساعده على ذلك توافر المال لديه من موارد دولته ومن ضريبة كبيرة فرضها على اليهود الواسعي الثراء في أغمات وسجلماسة، وكان الفاطميون قد حرٌّموا عليهم مزاولة التجارة في الذهب عند احتلالهم سجلماسة لكثرة خداعهم، مما يدعو إلى الظن بأن ما فرضه يوسف بن تاشفين كان مقابل السماح لهم بالعودة إلى مزاولتها.
عاد أبو بكر من مهمته وحلّ بأغمات (قاعدة المرابطين الأولى) في 15ربيع الأول سنة 465هـ/30 تشرين الثاني 1073م، وأدرك تعاظم سلطان ابن عمه يوسف عند لقائه به على الطريق بين أغمات ومراكش، إذ حرص يوسف على إظهار قوته وغناه واستعداده للصدام، ولما كان أبو بكر تقياً مسالماً لأهله وقومه ويتورع عن أي صدام بين المسلمين فإنه نزل ليوسف عن حكم المغرب، وأبقى لنفسه حكم الصحراء حيث توفي في أثناء جهاد السودان سنة (480هـ/1087م)، وانحل بموته الطابع الصحراوي لحركة المرابطين وتوسعها جنوباً لتصير مغربية تتوسع شمالاً.
أكمل يوسف بن تاشفين بسط سلطان المرابطين على المغرب حيث قامت إمارات متعددة على رأسها حكام ينتمون إلى تجمع قبائل زناتة العدو التقليدي لتجمع صنهاجة، وخاض الحرب ضدهم تحت شعار تطبيق حكم الشريعة الإسلامية التي انحرفوا عنها، خضع بعضهم لقواده صلحاً مثل سادة وادي بورقراق وحاضرته مدينة سلا، والخير بن خزر أمير مكناسة، وقاوم بعضهم الآخر بشدة مثل أصحاب قلعة مهدي الحصينة في الأطلس الأوسط عند منابع وادي سبو والتي قاومت حملات المرابطين تسع سنوات، وكذلك كانت حال مدينة فاس حيث أُخضِع حكامها من مغراوة الزناتية بالقوة، ثم ثاروا على عامل يوسف بن تاشفين وقتلوه مما اضطره للعودة إليها ودخولها عنوة وإيقاع مقتلة عظيمة بحكامها من مغراوة الزناتية سنة 467هـ/1074- 75م (أو قبل ذلك بخمس سنوات وفق رواية روض القرطاس). تابع يوسف توسّعه في المغرب الأوسط وتوقف عند شرقي الجزائر مما يوحي باحترامه لسيادة بني زيري الصنهاجيين أقربائه في النسب.
كانت مدينة سبتة آخر مواقع المغرب سقوطاً بيد يوسف بن تاشفين، إذ كان البحر عند المضيق يحيط بها من أكثر جهاتها فلم تسقط إلا في شهر ربيع الأول سنة 477هـ/تموز 1084م، لتجعل قوات يوسف بن تاشفين تواجه الأندلس.
على الجانب الآخر من المضيق انقسم حكم الأندلس بين ملوك الطوائف الذين حفظوا سلطانهم من سطوة جارهم القوي في الشمال ملك ليون وقشتاله بدفع إتاوة تعبيراً عن تبعيتهم، وكان ملوك الطوائف يجبون من رعاياهم ما يكفي لسدادها وللنفقة على ترفهم، لذلك نظروا لتعاظم دولة يوسف بن تاشفين وهو يتقدم شمالاً نظرة خوف وتوجس لأنه يتقدَّم تحت راية تطبيق الشرع وإزاحة الحكام المنحرفين، ويعمد أحياناً إلى دعوة فقهاء هذه البلدان إليه، وقد انتقل بعض فقهاء الأندلس للعمل في خدمته.
في العام التالي لاحتلال المرابطين لسبتة شهدت الأندلس حادثاً جللاً، وهو احتلال ألفونسو السادس ملك ليون وقشتالة مدينة طليطلة سنة 478هـ /1085م وأتبعه بكل أملاك أصحابها من بني ذي النون، وأدرك ملوك الطوائف أن ألفونسو لم يعد يكتفي بالأموال بل صار يعمل على هدم العروش واحتلال البلدان ووجد الفقهاء زعماء الرعية في الحَدث نذيراً بسقوط الأندلس كلها بيد الإسبان، وساد في صفوفهم تيار يدعو للاستنجاد بالمرابطين، ورأى ملوك الطوائف أن يوسف بن تاشفين سيدخل الأندلس شاؤوا أم أبوا فوجهوا دعوتهم إليه لتصبح جهاداً ضد الإسبان فحسب إذ اشترطوا أن لا يتدخل بينهم وبين رعاياهم في شيء، إذ كانوا يخشون التحالف بينه وبين الفقهاء لتطبيق الشرع في قضية الضرائب. وافق يوسف على الشرط واختلف معهم على القاعدة الممنوحة له لحشد جيوشه فعرضوا جبل طارق وطلب هو الجزيرة الخضراء وأنزل جنده بها قبل ورود الموافقة.
توجهت حملة يوسف ومن انضم إليها من ملوك الطوائف وجنودهم نحو الغرب، ونزلت في موقع الزلاّقة على بعد 12كم شمال بطليوس، حيث وقعت المعركة مع ألفونسو السادس سنة 479هـ /1086م. جعل يوسف الأندلسيين بقيادة ملوكهم في المواجهة وأبقى المرابطين كمائن خرج بهم عندما أوشكت صفوف الأندلسيين على التمزق ليجهز على الإسبان الذين هزموا هزيمة ساحقة وقتل معظم الجند، وتراجع ألفونسو إلى طليطلة مع من بقي على قيد الحياة من فرسانه.
كان نصر الزلاّقه أول نصر إسلامي في الأندلس بعد هزائم استمرت ثلاثة أرباع القرن، كما أنه أوقف المد الإسباني لأمد، واشتد شعور الإسبان بالخطر مما دفع ألفونسو إلى فرض ضريبة جديدة شملت الجميع بما فيهم الأشراف لتهيئة الوسائل لصده.
عاد يوسف بن تاشفين إثر ذلك إلى المغرب بعد ما بلغه موت ابنه أبي بكر بن يوسف، وليظهر لملوك الطوائف تمسكه بالاتفاق وهو دخول الأندلس للجهاد لا طمعاً بملكها.
عاد يوسف بن تاشفين إلى الأندلس بعد عامين تلبية لدعوة من المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية وأمراء شرق الأندلس لتخليص المسلمين من خطر الغارات الإسبانية هناك والمنطلقة من حصن لييط Liyyit (بالإسبانية Aledo) على مسافة نصف يوم من لورقة في قلب أراضي المسلمين. حاصر يوسف الحصن أربعة أشهر من دون تحقيق نتيجة، وعزا يوسف هذا الإخفاق إلى ملوك الطوائف إذ إن منازعاتهم خلقت تعقيدات أدت إلى قطع التموين عن الجيش وأجبرته على رفع الحصار، فتمكن ألفونسو السادس من الوصول إلى الحصن وإخراج حاميته وإحراقه والعودة بسلام.
اقتنع يوسف برأي عدد من قادة جنده الذين رأوا أن ملوك الطوائف يتمتعون بنعم لا يستحقونها وأنهم عاجزون عن حمايتها، وصدرت فتوى من فقهاء الدولة بوجوب خلعهم لمخالفتهم الشرع في الحكم والضرائب، ولضرورات حماية الإسلام في الأندلس. بدأ بالأقرب إلى المغرب وهم بنو زيري أصحاب غرناطة، واستسلم أميرهم عبد الله وأخوه تميم في رجب 483هـ/ أيلول 1090م، ثم دخل قواده إشبيلية والمدن التي تتبعها وأسروا صاحبها المعتمد بن عباد في الشهر نفسه من العام التالي. بينما دخل قائد آخر إلى المرية عاصمة بني صمادح بعد هرب صاحبها، وتريث المرابطون أمداً تجاه دولة بني الأفطس وعاصمتها بطليوس الواقعة في أقصى الغرب متاخمة لحدود الإسبان المتحالفين معهم، إلى أن تهيأ لهم الإجهاز على حكمها بضربة مفاجئة وبالتنسيق مع ثورة في الداخل آخر سنة 488هـ /1095م، وأتبعوا ذلك بإعدام ملكها وابنه جزاء لتحالفها مع أعداء الدين.
لم تلق قوات يوسف بن تاشفين نجاحاً مماثلاً في الشرق عندما حاولت بسط سلطانها على بلنسية لحمايتها من الإسبان واستيلاء الفارس الإسباني رودريغو ديز Rodrigo Dia الذي يدعوه أتباعه El Cid Campeador أي السيد المحارب، القمبيطور في المصادر العربية، عليها سنة 487هـ/1094. ولم يفلح المرابطون في دخولها إلا في سنة 494هـ/1102 بعد سنة من وفاة القمبيطور. بقي من ملوك الطوائف بنو هود يتربعون على عرشهم في سرقسطة ولم يتعرض لهم المرابطون لتداخل أراضي دولتهم مع أراضي الإسبان وهم أدرى بالدفاع عنها.
عبر يوسف بن تاشفين إلى الأندلس سنة 496هـ أي بعد سنتين من تحرير بلنسية لتفقد أحوالها والإشراف على بيعة المرابطين ووجوه الأندلسيين لابنه علي ولياً للعهد. توفي يوسف بن تاشفين في المحرم / 2 أيلول بعد مرض استمر أكثر من عام.
الدور الحضاري ليوسف بن تاشفين
تسلم يوسف بن تاشفين قيادة حركة المرابطين المستندة إلى عنصرين أساسيين، وهما العنصر البشري المتمثل بقبائل صنهاجة الملثمين، ثم التوجه المثالي نحو تطبيق الشرع الإسلامي وفق أحكام المذهب المالكي كما فهمه الفقيه المؤسس للحركة عبد الله بن ياسين. وقد أفلح في تحويل الحركة إلى دولة ولكنه لم يفصلها عن جذريها الأساسيين. بقيت نواة الجيش من قبائل الملثمين، ثم أضاف إليها أول الأمر عناصر مرتبطة بشخصه من العبيد السود والبيض وبعض صنائعه وحاشيته ودعا مجموعها باسم «الدخليين» وأدخل بعد إخضاع المغربين الأقصى والأوسط مجموعات من تجمعاته القبلية الأخرى مثل زناته ومصمودة ودعاهم باسم «الحشم»، وهو اصطلاح يعني المرتزقة في المغرب الإسلامي.
برز الجذر القبلي في الدولة أيضاً بإبقاء المناصب العليا في القيادة والولاية حكراً على أبناء أسرته وأبناء قبيلته لمتونه كبرى قبائل حلف صنهاجة اللثام، بينما تجلى تطوير يوسف بن تاشفين لمفهوم السلطة بإحلال توريث الإمارة للابن بدلاً من شورى واختيار شيوخ قبائل الحركة.
أما الالتزام بأحكام الشرع في ممارسة السلطة فقد ظهر بمساعي يوسف للحصول على تعيينه للحكم من قبل الخليفة العباسي مالك الحرمين الشريفين الذي يعتبره الفقهاء صاحب السلطة على جميع المسلمين فجاءَه التقليد واعترف الخليفة بلقبه «أمير المسلمين وناصر الدين». وأكَّد يوسف هذا الواقع في الدنانير التي سكّها ونقش عليها الشهادتين وآية كريمة مع اسمه واسم الخليفة.
طبق يوسف الشرع في ممارسة السلطة فاقتصرت جبايته على الضرائب الشرعية، وجعل كل أفعاله تنفيذاً لفتاوى من الفقهاء، وقد وجد منهم وفرة منذ إقامة دولته وخصوصاً من الأندلسيين الذين وجَّهوا إدارته في المغرب وكانت لهم الكلمة العليا في حكم الأندلس.
ومما يدخل في منجزات يوسف بن تاشفين الحضارية أعماله العمرانية، فقد أكمل بناء مراكش وبنى في رحبتها القصبة المعروفة باسم حصن الحجر، وفي مدينة فاس هدم السورين المحيطين بكل من عدوتيها القروية والأندلسية وأحاطهما بسور واحد مما جعلهما مصراً واحداً، كما أمر أهل الأحياء تحت طائلة العقوبة بأن يبنوا مسجداً في كل حي، وقام بتنظيم الأسواق وتأمين وسائل خدمات عامة من حمامات وفنادق وأرحاء.
أحمد بدر
Tashifin (Yusuf ibn-) - Tashifin (Yusuf ibn-)
ابن تاشفين (يوسف ـ)
( 400 ـ500 هـ/ 1009ـ 1106م)
أبو يعقوب يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن ترقوت (ترجوت) اللمتوني أمير المرابطين.
والمرابطون[ر] أتباع دعوة دينية سياسية أسسها الفقيه المالكي عبد الله بن ياسين الجزولي، ظهرت ونمت في منتصف القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي بين قبائل الملثمين من صنهاجة الضاربة في الصحراء الكبرى من المغرب الأقصى، وكانت قبيلة لمتونة الصنهاجية عمادها، وما لبثت أن تحوَّلت في زمن يسير إلى دولة سيطرت على المغرب الأقصى وجزء من المغرب الأوسط إضافة إلى الأندلس.
ظهر يوسف على مسرح الأحداث قائداً عسكرياً لابن عمه أبي بكر بن عمر اللمتوني الذي عينه عبد الله بن ياسين قائداً للمرابطين بعد مقتل أخيه يحيى بن عمر في إحدى الحملات على السودان، وإذا كان يحيى بن عمر هو بطل إخضاع الصحراء مع الواحات للمرابطين فإن أخاه أبا بكر صار بطل ضم المغرب الأقصى إلى الدولة المرابطية، وقد شاركه في ذلك منذ البداية يوسف بن تاشفين.
كان أبو بكر منهمكاً في إعمار قاعدته الجديدة مراكش عندما بلغه اضطراب المؤخرة المرابطية في الصحراء، فعين ابن عمه يوسف بن تاشفين نائباً عنه في حكم المغرب بالاتفاق مع أشياخ المرابطين وتوجه إلى الصحراء سنة 463هـ /1071م بعد أن طلّق زوجته زينب النفزاوية لجهله بمدى غيابه وخشيته أن يطول كثيراً وأوصاها بالزواج من ابن عمه بعد رحيله، فغدت زينب الأثيرة لدى يوسف والمشيرة عليه في كل الأمور، وتنسب لها الرواية صفة الجمال والذكاء والغنى وصفات أخرى.
بقي يوسف نائباً لابن عمه أبي بكر في حكم المغرب مدة سنتين قام فيهما بإعطاء سلطة المرابطين صبغة الملك والسلطان، فأكمل بناء القاعدة الجديدة مراكش، وضرب الدراهم والدنانير باسم أبي بكر بن عمر، وقام بتنظيم الجيش، وكان أبو بكر قد ترك له قسماً من الجيش لمتابعة قتال مغراوة وبني يفرن وزناته وغيرها، فوزع 20 ألفاً من محاربي حركة المرابطين على قادتهم القبليين بحيث يرأس قادة كل من لمتونة ومسوفة وجدالة وتلكاتة خمسة آلاف مقاتل، وأبقى عشرين ألفاً تحت قيادته الشخصية، ثم أضاف لنفسه حرساً بشراء 2240 من العبيد السودان وعلوج الأندلس وجعلهم فرساناً كلهم، وساعده على ذلك توافر المال لديه من موارد دولته ومن ضريبة كبيرة فرضها على اليهود الواسعي الثراء في أغمات وسجلماسة، وكان الفاطميون قد حرٌّموا عليهم مزاولة التجارة في الذهب عند احتلالهم سجلماسة لكثرة خداعهم، مما يدعو إلى الظن بأن ما فرضه يوسف بن تاشفين كان مقابل السماح لهم بالعودة إلى مزاولتها.
عاد أبو بكر من مهمته وحلّ بأغمات (قاعدة المرابطين الأولى) في 15ربيع الأول سنة 465هـ/30 تشرين الثاني 1073م، وأدرك تعاظم سلطان ابن عمه يوسف عند لقائه به على الطريق بين أغمات ومراكش، إذ حرص يوسف على إظهار قوته وغناه واستعداده للصدام، ولما كان أبو بكر تقياً مسالماً لأهله وقومه ويتورع عن أي صدام بين المسلمين فإنه نزل ليوسف عن حكم المغرب، وأبقى لنفسه حكم الصحراء حيث توفي في أثناء جهاد السودان سنة (480هـ/1087م)، وانحل بموته الطابع الصحراوي لحركة المرابطين وتوسعها جنوباً لتصير مغربية تتوسع شمالاً.
أكمل يوسف بن تاشفين بسط سلطان المرابطين على المغرب حيث قامت إمارات متعددة على رأسها حكام ينتمون إلى تجمع قبائل زناتة العدو التقليدي لتجمع صنهاجة، وخاض الحرب ضدهم تحت شعار تطبيق حكم الشريعة الإسلامية التي انحرفوا عنها، خضع بعضهم لقواده صلحاً مثل سادة وادي بورقراق وحاضرته مدينة سلا، والخير بن خزر أمير مكناسة، وقاوم بعضهم الآخر بشدة مثل أصحاب قلعة مهدي الحصينة في الأطلس الأوسط عند منابع وادي سبو والتي قاومت حملات المرابطين تسع سنوات، وكذلك كانت حال مدينة فاس حيث أُخضِع حكامها من مغراوة الزناتية بالقوة، ثم ثاروا على عامل يوسف بن تاشفين وقتلوه مما اضطره للعودة إليها ودخولها عنوة وإيقاع مقتلة عظيمة بحكامها من مغراوة الزناتية سنة 467هـ/1074- 75م (أو قبل ذلك بخمس سنوات وفق رواية روض القرطاس). تابع يوسف توسّعه في المغرب الأوسط وتوقف عند شرقي الجزائر مما يوحي باحترامه لسيادة بني زيري الصنهاجيين أقربائه في النسب.
كانت مدينة سبتة آخر مواقع المغرب سقوطاً بيد يوسف بن تاشفين، إذ كان البحر عند المضيق يحيط بها من أكثر جهاتها فلم تسقط إلا في شهر ربيع الأول سنة 477هـ/تموز 1084م، لتجعل قوات يوسف بن تاشفين تواجه الأندلس.
على الجانب الآخر من المضيق انقسم حكم الأندلس بين ملوك الطوائف الذين حفظوا سلطانهم من سطوة جارهم القوي في الشمال ملك ليون وقشتاله بدفع إتاوة تعبيراً عن تبعيتهم، وكان ملوك الطوائف يجبون من رعاياهم ما يكفي لسدادها وللنفقة على ترفهم، لذلك نظروا لتعاظم دولة يوسف بن تاشفين وهو يتقدم شمالاً نظرة خوف وتوجس لأنه يتقدَّم تحت راية تطبيق الشرع وإزاحة الحكام المنحرفين، ويعمد أحياناً إلى دعوة فقهاء هذه البلدان إليه، وقد انتقل بعض فقهاء الأندلس للعمل في خدمته.
في العام التالي لاحتلال المرابطين لسبتة شهدت الأندلس حادثاً جللاً، وهو احتلال ألفونسو السادس ملك ليون وقشتالة مدينة طليطلة سنة 478هـ /1085م وأتبعه بكل أملاك أصحابها من بني ذي النون، وأدرك ملوك الطوائف أن ألفونسو لم يعد يكتفي بالأموال بل صار يعمل على هدم العروش واحتلال البلدان ووجد الفقهاء زعماء الرعية في الحَدث نذيراً بسقوط الأندلس كلها بيد الإسبان، وساد في صفوفهم تيار يدعو للاستنجاد بالمرابطين، ورأى ملوك الطوائف أن يوسف بن تاشفين سيدخل الأندلس شاؤوا أم أبوا فوجهوا دعوتهم إليه لتصبح جهاداً ضد الإسبان فحسب إذ اشترطوا أن لا يتدخل بينهم وبين رعاياهم في شيء، إذ كانوا يخشون التحالف بينه وبين الفقهاء لتطبيق الشرع في قضية الضرائب. وافق يوسف على الشرط واختلف معهم على القاعدة الممنوحة له لحشد جيوشه فعرضوا جبل طارق وطلب هو الجزيرة الخضراء وأنزل جنده بها قبل ورود الموافقة.
توجهت حملة يوسف ومن انضم إليها من ملوك الطوائف وجنودهم نحو الغرب، ونزلت في موقع الزلاّقة على بعد 12كم شمال بطليوس، حيث وقعت المعركة مع ألفونسو السادس سنة 479هـ /1086م. جعل يوسف الأندلسيين بقيادة ملوكهم في المواجهة وأبقى المرابطين كمائن خرج بهم عندما أوشكت صفوف الأندلسيين على التمزق ليجهز على الإسبان الذين هزموا هزيمة ساحقة وقتل معظم الجند، وتراجع ألفونسو إلى طليطلة مع من بقي على قيد الحياة من فرسانه.
كان نصر الزلاّقه أول نصر إسلامي في الأندلس بعد هزائم استمرت ثلاثة أرباع القرن، كما أنه أوقف المد الإسباني لأمد، واشتد شعور الإسبان بالخطر مما دفع ألفونسو إلى فرض ضريبة جديدة شملت الجميع بما فيهم الأشراف لتهيئة الوسائل لصده.
عاد يوسف بن تاشفين إثر ذلك إلى المغرب بعد ما بلغه موت ابنه أبي بكر بن يوسف، وليظهر لملوك الطوائف تمسكه بالاتفاق وهو دخول الأندلس للجهاد لا طمعاً بملكها.
عاد يوسف بن تاشفين إلى الأندلس بعد عامين تلبية لدعوة من المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية وأمراء شرق الأندلس لتخليص المسلمين من خطر الغارات الإسبانية هناك والمنطلقة من حصن لييط Liyyit (بالإسبانية Aledo) على مسافة نصف يوم من لورقة في قلب أراضي المسلمين. حاصر يوسف الحصن أربعة أشهر من دون تحقيق نتيجة، وعزا يوسف هذا الإخفاق إلى ملوك الطوائف إذ إن منازعاتهم خلقت تعقيدات أدت إلى قطع التموين عن الجيش وأجبرته على رفع الحصار، فتمكن ألفونسو السادس من الوصول إلى الحصن وإخراج حاميته وإحراقه والعودة بسلام.
اقتنع يوسف برأي عدد من قادة جنده الذين رأوا أن ملوك الطوائف يتمتعون بنعم لا يستحقونها وأنهم عاجزون عن حمايتها، وصدرت فتوى من فقهاء الدولة بوجوب خلعهم لمخالفتهم الشرع في الحكم والضرائب، ولضرورات حماية الإسلام في الأندلس. بدأ بالأقرب إلى المغرب وهم بنو زيري أصحاب غرناطة، واستسلم أميرهم عبد الله وأخوه تميم في رجب 483هـ/ أيلول 1090م، ثم دخل قواده إشبيلية والمدن التي تتبعها وأسروا صاحبها المعتمد بن عباد في الشهر نفسه من العام التالي. بينما دخل قائد آخر إلى المرية عاصمة بني صمادح بعد هرب صاحبها، وتريث المرابطون أمداً تجاه دولة بني الأفطس وعاصمتها بطليوس الواقعة في أقصى الغرب متاخمة لحدود الإسبان المتحالفين معهم، إلى أن تهيأ لهم الإجهاز على حكمها بضربة مفاجئة وبالتنسيق مع ثورة في الداخل آخر سنة 488هـ /1095م، وأتبعوا ذلك بإعدام ملكها وابنه جزاء لتحالفها مع أعداء الدين.
لم تلق قوات يوسف بن تاشفين نجاحاً مماثلاً في الشرق عندما حاولت بسط سلطانها على بلنسية لحمايتها من الإسبان واستيلاء الفارس الإسباني رودريغو ديز Rodrigo Dia الذي يدعوه أتباعه El Cid Campeador أي السيد المحارب، القمبيطور في المصادر العربية، عليها سنة 487هـ/1094. ولم يفلح المرابطون في دخولها إلا في سنة 494هـ/1102 بعد سنة من وفاة القمبيطور. بقي من ملوك الطوائف بنو هود يتربعون على عرشهم في سرقسطة ولم يتعرض لهم المرابطون لتداخل أراضي دولتهم مع أراضي الإسبان وهم أدرى بالدفاع عنها.
عبر يوسف بن تاشفين إلى الأندلس سنة 496هـ أي بعد سنتين من تحرير بلنسية لتفقد أحوالها والإشراف على بيعة المرابطين ووجوه الأندلسيين لابنه علي ولياً للعهد. توفي يوسف بن تاشفين في المحرم / 2 أيلول بعد مرض استمر أكثر من عام.
الدور الحضاري ليوسف بن تاشفين
تسلم يوسف بن تاشفين قيادة حركة المرابطين المستندة إلى عنصرين أساسيين، وهما العنصر البشري المتمثل بقبائل صنهاجة الملثمين، ثم التوجه المثالي نحو تطبيق الشرع الإسلامي وفق أحكام المذهب المالكي كما فهمه الفقيه المؤسس للحركة عبد الله بن ياسين. وقد أفلح في تحويل الحركة إلى دولة ولكنه لم يفصلها عن جذريها الأساسيين. بقيت نواة الجيش من قبائل الملثمين، ثم أضاف إليها أول الأمر عناصر مرتبطة بشخصه من العبيد السود والبيض وبعض صنائعه وحاشيته ودعا مجموعها باسم «الدخليين» وأدخل بعد إخضاع المغربين الأقصى والأوسط مجموعات من تجمعاته القبلية الأخرى مثل زناته ومصمودة ودعاهم باسم «الحشم»، وهو اصطلاح يعني المرتزقة في المغرب الإسلامي.
برز الجذر القبلي في الدولة أيضاً بإبقاء المناصب العليا في القيادة والولاية حكراً على أبناء أسرته وأبناء قبيلته لمتونه كبرى قبائل حلف صنهاجة اللثام، بينما تجلى تطوير يوسف بن تاشفين لمفهوم السلطة بإحلال توريث الإمارة للابن بدلاً من شورى واختيار شيوخ قبائل الحركة.
أما الالتزام بأحكام الشرع في ممارسة السلطة فقد ظهر بمساعي يوسف للحصول على تعيينه للحكم من قبل الخليفة العباسي مالك الحرمين الشريفين الذي يعتبره الفقهاء صاحب السلطة على جميع المسلمين فجاءَه التقليد واعترف الخليفة بلقبه «أمير المسلمين وناصر الدين». وأكَّد يوسف هذا الواقع في الدنانير التي سكّها ونقش عليها الشهادتين وآية كريمة مع اسمه واسم الخليفة.
طبق يوسف الشرع في ممارسة السلطة فاقتصرت جبايته على الضرائب الشرعية، وجعل كل أفعاله تنفيذاً لفتاوى من الفقهاء، وقد وجد منهم وفرة منذ إقامة دولته وخصوصاً من الأندلسيين الذين وجَّهوا إدارته في المغرب وكانت لهم الكلمة العليا في حكم الأندلس.
ومما يدخل في منجزات يوسف بن تاشفين الحضارية أعماله العمرانية، فقد أكمل بناء مراكش وبنى في رحبتها القصبة المعروفة باسم حصن الحجر، وفي مدينة فاس هدم السورين المحيطين بكل من عدوتيها القروية والأندلسية وأحاطهما بسور واحد مما جعلهما مصراً واحداً، كما أمر أهل الأحياء تحت طائلة العقوبة بأن يبنوا مسجداً في كل حي، وقام بتنظيم الأسواق وتأمين وسائل خدمات عامة من حمامات وفنادق وأرحاء.
أحمد بدر