تاريخ عند عرب(منهجيه)
Historiography - Historiographie
التأريخ عند العرب (منهجية ـ)
إذا ما جرت موازنة خطوات المنهج العلمي للبحث التاريخي الحديث، مع ما كان يقوم به المؤرخون العرب، اتضح المنهج الذي ساروا عليه، ومدى علميته.
وليُبدأ بالخطوة الأولى وهي اختيار موضوع الدراسة أو البحث. وفي هذا المجال من المعروف أن من الشروط العلمية الأساسية التي يجب توافرها في الموضوع المختار أن يكون جديداً لم يُتطرق إليه سابقاً، وأن يكون مشكلة لها وجودها الحقيقي في الواقع الماضي، ولها معناها ومغزاها بالنسبة لمجموع السير التاريخي العام، وبالنسبة للجيل الذي يُكتب في عصره، وللأجيال اللاحقة. وإذا جرى تتبع الموضوعات التي عالجها التاريخ العربي، منذ نشأته حتى نضجه، فإنه يلاحظ أنها كانت تتوافر فيها تلك الشروط، وأن الموضوعات التي خصَّها المؤرخون بدراستهم، وتأليفهم، كانت بصفة عامة دوماً جديدة. ويبدو هذا واضحاً في تنوع الفنون التاريخية التي طرقوها، وفي تدوينهم الدؤوب لأحداث عصرهم. كما أن معظم ما ألَّفوا فيه كان يمثل قضايا، بالنسبة للتأريخ العربي الإسلامي، وكان لها معناها ومغزاها في السير التاريخي للعالم الإسلامي، وللأجيال العربية، وإذا قيل إن المؤرخين العرب في كتابتهم التاريخ العام، أكان على شكل حوليات، أم على شكل دول، أمر لا جدة فيه، لأن اللاحقين كانوا يكررون السابقين، بل ينقلون منهم حرفياً، فإن هذا القول لا ينطبق على كل ما كان يدّونه المؤرخون، إذ كان كل مؤرخ، يضيف إلى القديم المنقول، الحوادث والأحوال المعاصرة له، متقيداً بمبدأ هام آمن به المؤرخون العرب، وهو أن التاريخ العربي الإسلامي، تاريخ مستمر لم ينقطع، وظل متواصلاً مهما بدت الأحداث هامة، وكل مرحلة فيه تبقى مكملة لسابقتها. فما كانوا ينقلونه ممن سبقهم، كان بمنزلة المقدمة، أو التمهيد، الذي يربط الجديد المعاصر لهم بالماضي الذي سبق. وإن القول المأثور عن أحد المفكرين العرب المسلمين السابقين، في شروط التأليف بألاّ يؤلِّف أحد كتاباً إلا في أحد أقسام سبعة: «إما أن يؤلف في شيء لم يُسبق إليه يخترعه، أو شيء ناقص فيتممه، أو شيء مستغلق يشرحه، أو طويل يختصره، دون أن يُخلَّ بشيء من معانيه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنفه يبينه، أو شيء مفرَّق يجمعه» منطبق في الواقع على ما قدمه المؤرخون العرب في تآليفهم المتنوعة، ودليل على إدراكهم لقيمة الجدّة في موضوع التأليف.
والخطوة الثانية في المنهجية التاريخية العلمية، هي جمع المصادر: لقد نشأ علم التاريخ عند العرب المسلمين فرعاً من علم الحديث، فمن الحريّ أن يتأثر بطريقة جمع الحديث ونقده، وأسلوب تدوينه. فالمؤرخون العرب في جمعهم للخبر، كما في جمعهم للحديث، سعوا إلى المصادر الموثوقة، وإن كانت في بادئ الأمر مستندة إلى الرواية الشفوية في معظمها، وكان المصدر الموثوق لديهم هو الشخص العدل، الذي له علم مباشر بالواقعة المروية، كأن يكون قد عاينها مباشرة، أو اشترك فيها، أو أخذها من مظانها الأولى: كالرواة الأُوَل الثقات، أو كتاب قديم، أو وثيقة مفقودة. ومن ثمَّ، كان المؤرخون في تقميشهم للوقائع التاريخية، يجوبون مختلف البقاع ليحصلوا على المعلومات الصحيحة من أناس عاصروهم وشهدوهم، أو من مستندات مدونة سمعوا بوجودها، أو تعرّف مكان الحدث ذاته بصفته مصدراً أساسياً. فقد عرف عن المؤرخ الواقدي مثلاً بأنه كان لا يثبت حوادثه عن الفتوح ما لم يعاين مواقعها، وكان لا يتوانى عن سؤال أبناء الصحابة عن الأمكنة التي استشهد فيها آباؤهم، ليذهب إليها ويتأكد منها.
ولابد من التأكيد هنا، بأن عدداً من المؤرخين العرب قد أولى المكان في دراساته التاريخية اهتماماً كبيراً، ونظر إليه مصدراً ذا شأن، فربط بذلك بين الجغرافية والتاريخ، على غرار ما يجري اليوم. ومن الأمثلة على ذلك المسعودي في كتابيه «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، و«التنبيه والإشراف»، و ابن العديم (ت 660هـ/1262م) في كتابه «زبدة الحلب في تاريخ حلب»، و ابن خلدون، وغيرهم.
وعندما انتظمت دواوين الدولة العربية الإسلامية، ونظمت وثائقها، اعتمد المؤرخون العرب على تلك الوثائق الرسمية، وأوردوها أحياناً بنصوصها في مدَّوناتهم، فاليعقوبي (ت بعد 292هـ/905م) قد خصَّ مكاتبات الرسول e، والخلفاء الراشدين، بفصل خاص في كتابه. وضمّن البلاذري كتابه «أنساب الأشراف»، بعض الرسائل لعدة شخصيات سياسية، منهم عثمان بن عفان، وكذلك فعل الطبري، و ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) في كتابه «المُنْتَظم»، والعماد الأصفهاني (ت 597هـ/1201م) في كتابه «البرق الشامي».
واعتمد بعض المؤرخين أيضاً ضمن مصادرهم على النقوش الكتابية المدونة على الأبنية كالخطيب البغدادي، و محمد بن محمد بن الشحنة الحلبي (ت 890هـ/1485م) في كتابه «الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب»، و محمد بن عبد الله الأزرقي (ت نحو 250هـ/865م) في كتابه «أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار»، كما استند آخرون إلى النقوش على الأختام.
ويمكن القول، إن المؤرخين العرب قد استخدموا مختلف العلوم والمعارف مصدراً لكتاباتهم التاريخية، أي إنهم وسَّعوا مفهوم المصدر التاريخي ، كما عليه الحال اليوم، وقد أكد ابن خلدون هذا المضمون الجديد للمصدر التاريخي عندما قال في مقدمته، «إن المؤرخ يحتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة».
وقد عمل المؤرخون العرب على بيان مظانهم في مقدمات كتبهم، أو في طليعة روايتهم للخبر، وفي القرون الأولى للتدوين التاريخي، استخدموا الإسناد كما في الحديث الشريف، فكل واقعة يذكرونها، يسندونها إلى رواتها، حتى يوصلوها براويها الأول، الذي هو شاهد عيان، ويلاحظ هذا بصفة خاصة لدى الطبري والواقدي، وبذلك كانوا أمناء جداً في نقل الأخبار، والاعتراف بأصحاب النصوص التاريخية المأخوذ عنها، والإعلام بكتب فُقدت، وهي أمهات وأصول.
الخطوة الثالثة هي النقد التاريخي: إن الطريقة النقدية هي العماد الأول في المنهجية العلمية للبحث التاريخي المعاصر. وقد أخذ بها المؤرخون العرب منذ النشأة الأولى لعلم التاريخ لديهم. فقد بيّن القرآن الكريم، في آيات كثيرة، ضرورة إعمال العقل في ما يرى الإنسان ويسمع، وأكّد مفهوم البيّنة، والحجة، والبرهان، ووجوب التثبت من الخبر، ودقق في أمر الشهادة والشهود، وكلها أمور توجه الفكر إلى النقد العقلاني للأمور، لتبيّن الصدق من الكذب، والحقيقي من المزيّف. وكذلك فعل الرسول الكريمe في عدد من أحاديثه الشريفة، وهكذا اتجه المسلمون الأُوَل إلى التحقق مما يروى من أحاديث النبيe، ولاسيما بعد أن تزايد وضعها زوراً وبهتاناً. وأوجد علماء الحديث تدريجياً قواعد نقدية للتمييز بين الصحيح والموضوع من الأحاديث. واتبع المؤرخون العرب تلك القواعد نفسها للتحقق من صحة الخبر، وأطلق على هذا النهج النقدي التجريح والتعديل ، ويتلخص في دراسة شخصيات الرواة دراسة تفصيلية، فيحيطون بتاريخ ميلادهم ووفاتهم، ودقائق سيرة حياتهم، ورحلاتهم، وحجهم بصفة خاصة، ومدى تكامل صفاتهم الجسمية، والعقلية، وثقافتهم الدينية، وأخلاقهم، وسلوكهم في معاملاتهم الحياتية، وميولهم الفكرية، والسياسية والدينية، ومدى تحيزهم لقوم ما، أو لمذهب ديني، أو فرقة سياسية، أو حاكم، أو غير ذلك من الأمور. وكانوا يخرجون من تلك الدراسة، إما بتجريح الراوي، أي ببيان عيوبه الشخصية التي تجرده من صفة العدالة، أي الاستقامة والثقة به، فيوجَّه الطعن إليه، أو بتعديله، أي بإيضاح مزاياه التي تثبت أنه إنسان عَدْل، أي أهل للثقة والتصديق، ككونه عالماً، نقي النفس، سليم السريرة، صادقاً، وورعاً، ومستقيماً في أخلاقه وسلوكه. إن هذا النهج النقدي، هو ما يقابل اليوم في المنهجية العلمية للبحث التاريخي، الجزء الأكبر من النقد الباطني السلبي ، أو ما يسمى أيضاً بنقد المؤلِّف .
ولم يقتصر المؤرخون العرب في نقدهم للخبر على التجريح والتعديل فقط، وإنما اعتمدوا أيضاً المحاكمة المنطقية، أو طريقة الموازنة بين مصدرين للمعلومات، والموازنة الزمنية بين خبرين، وتمكنوا بذلك من إظهار زيف بعض الوثائق والأخبار.
وقد أكد ابن خلدون ضرورة النقد وأهميته في التاريخ، عندما أوضح الأسباب التي تجعل الكذب يتطرق إلى الخبر، وحصرها في التشيع للآراء والمذاهب، والثقة بالناقلين، والذهول عن المقاصد، وتوهم الصدق، والجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع، وتقرب الناس لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وإشاعة الذكر. وميّز في عملية النقد وقواعدها بين نقد الأخبار الشرعية، وهي المتعلقة بالدين والتشريع، ويُطبق عليها التعديل والتجريح، ونقد أخبار الواقعات وتُخضع لما أسماه بالمطابقة أي مدى مطابقتها لأحوال الاجتماع البشري، وتمييز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضاً لا يعتد به، وما لا يمكن أن يعرض له، ومن ثمّ، فإنه ألح على أن المؤرخ يحتاج إلى العلم بقواعد السياسة، وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم، والبقاع، والأعصار، في السير والأخلاق، والعوائد،والنحل، والمذاهب، وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق، أو لون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل، ومبادئ ظهورها، وأسباب حدوثها، ودواعي كونها، وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعباً لأسباب كلِّ خبره، وحينئذٍ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها، وجرى على مقتضاها كان صحيحاً، وإلا زيَّفه واستغنى عنه. وقد طبّق ابن خلدون قواعد نقده هذه على عدد من الوقائع غير الصحيحة التي أوردها بعض المؤرخين، وبيّن بطلانها بأدلة جغرافية، وسياسية، واستراتيجية ونفسية، وعلمية، ودينية مقتبسة من المعرفة العميقة بأصول طبائع العمران.
إلا أن ابن خلدون نفسه الذي وضع تلك القواعد السليمة للنقد التاريخي والتي لا تخرج عن قواعد النقد التي اتبعها مؤرخو الغرب منذ القرن التاسع عشر، أي بعد مرور أربعة قرون ونيف على زمن ابن خلدون والتي يرون بأنهم مبدعوها الأُول، وهي التي دفعت التاريخ نحو مستواه العلمي الحالي، لم يلتزم تمام الالتزام بتلك القواعد، في تمحيص أخباره في كتابه «العبر»، والتدقيق فيما ينقل، وهذا القول يصدق أيضاً على عدد من المؤرخين العرب المسلمين.
الخطوة الرابعة التركيب في المنهجية التاريخية العربية: لقد أشير سابقاً إلى الطرق التي اتبعها المؤرخون العرب والمسلمون في تركيبهم الكلّي للحقائق التاريخية: كأن يسوقوها مساق القصة حول شخصية ما، أو حول عدد من الشخصيات، أو حول مدينة أو إقليم، أو حوادث معينة كالغزوات والفتوح، أو حول دولة أو مجموع دول، أو أن يتركوها متفرقة لا يجمعها سوى الزمن الواحد، وهو السنة. ومن الضروري التأكيد في هذا المجال، ومرة أخرى، أن المؤرخين العرب عملوا على ضبط الحوادث زمناً، عن طريق تأريخها بالسنة، والشهر، والليلة، وهذه الدقة في التوقيت لم تعرفها أوربة قبل 1597م. ولكن جمع الأحداث في وحدة زمنية قد تكون عاماً أو بضعة أعوام، أو تركيبها بالطرق المذكورة آنفاً، هو خطوة أولى في عملية التركيب التاريخي الحق. إذ إن هذا الأخير يقوم على ربط تلك الأحداث بعضها ببعض ربطاً سببياً. وهذا ما عناه ابن خلدون عندما عرَّف التاريخ بقوله: «هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول… وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق». وفي هذا المجال اتُهِم المؤرخون العرب، إما بأنهم لم يسعوا إلى التعليل أبداً، واكتفوا بسرد الوقائع سرداً، أو أنهم لم يستقصوا الأسباب الواقعية والعقلانية، فربطوا السببية التاريخية بالإرادة الإلهية. وفي الحقيقة، يتفاوت المؤرخون العرب في تقصيهم للأسباب، وفي تفسيرهم للحوادث، إلا أنهم أدركوا في الجملة أهمية العوامل الاقتصادية، والجغرافية، والنفسية، والاجتماعية، والفكرية، في دفع الأحداث والتأثير في حياة البشر. وقليلون جداً أولئك المؤرخون الذين كانت مؤلفاتهم مجرد سرد بسيط لا يحمل ضمن الكلمات تأويلاً معيناً أو تفسيراً. وإذا كان من الملاحظ لأول وهلة، أنهم خصوا الحاكم الفرد بالأثر الأكبر في تحريك الأحداث، دون العوامل الأخرى، وأنهم رأوا في القضايا الدينية، أموراً ذات تأثير جمّ في تاريخ الأمم، فإن المستقصي لمجموع ما دوّنه العرب في التاريخ، وهو وافر جداً، سيجد أن المؤرخين العرب قد اهتموا بقضايا المجتمع العامة بمختلف ألوانها، وبتأثيرها في تحريك أحداثه، لا بسياسة الحاكم الفرد فحسب ودوره، وأنهم كما أشير سابقاً، توغلوا في بنية المجتمع، وأبرزوا مختلف فئاته العليا والدنيا، وأعمالهم، ونتائجها فيه. وسعى بعضهم لتكوين تركيب فلسفي لمعنى التاريخ ككل، ومن هؤلاء المُطَهَّر بن طاهر المقدسي (ت بعد 355هـ/966م) في مقدمة كتابه «البدء والتاريخ»، و أبو طالب عبد الجبار الأندلسي (ت نحو 529هـ/966م) في أرجوزته التاريخية، وابن خلدون في مقدمته، التي قال عنها فيلسوف التاريخ الإنكليزي المعاصر توينبي Toynbee (ت 1975م)، «إنها أعظم عمل من نوعه أبدعه العقل البشري، وكان فيها أول من بحث جمعاً وتفصيلاً في عوامل العمران المختلفة، وقدم فلسفة للتاريخ بواقعها الدنيوي».
الخطوة الخامسة أسلوب المؤرخين العرب في الصياغة والأداء: كتب معظم المؤرخين العرب مؤلفاتهم بلغة عربية بيّنة وبليغة، ومصوّرة بوضوح ما يريدون تبيانه، دون إدخال الصناعة الأدبية فيها، إلا أن هذا لا ينفي استخدام بعض المؤرخين التنميق البلاغي، والصنعة البديعية، ومنها السجع. ويلاحظ هذا بصفة خاصة، عندما دخل هذا الأسلوب في الأدب العربي، منذ القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي فما بعد. وقد استُخدم هذا الأسلوب في تراجم الإطراء، التي دوّنها بعض المؤرخين الرسميين للأمراء، والسلاطين، والملوك. وقد تميز بهذا الأسلوب المؤرخ العماد الأصفهاني، وعدد من مؤرخي العهد المملوكي. وإن الصناعة البديعية في الأسلوب التاريخي تسيء للتاريخ، إذ تبعد صاحبه عن الحقيقة والدقة، وتوقعه في التكرار، ويصبح «المقصود مغموراً في تضاعيف ضمائر الأسجاع»، كما جاء في «نقد الفتح البنداري» (ت 643هـ/1245م) للعماد الأصفهاني.
واستخدم بعض المؤرخين الشعر أيضاً في مؤلفاتهم، وقد دخل الشعر في محتوى التأليف التاريخي منذ القرون الأولى لتدوينه، لا لعرض الحوادث التاريخية، وإنما لطرح أقوال بعض الشعراء في معركة مثلاً، أو في شخصية، مدحاً أو هجاءً أو رثاءً، أو غير ذلك من الأمور. إلا أنه منذ القرن الثالث للهجرة/التاسع الميلادي، بدأت تظهر التواريخ المدوّنة شعراً، ومعظمها على بحر الرجز، ومن تلك الأراجيز، أرجوزة ابن المعتز (ت 296هـ/909م) في مدح الخليفة المعتمد وأعماله، وأرجوزة نشوان بن سعيد الحميري (ت 573هـ/1178م)، التي يستعرض فيها تاريخ حمير في اليمن، وأرجوزة محمد الباعوني الدمشقي (ت 870هـ/1466م) المسماة «تحفة الظرفاء في تواريخ الملوك والخلفاء»، وأرجوزة أبي طالب عبد الجبار الأندلسي (ت نحو 529هـ/1134م) المشار إليها سابقاً، وغيرها.
وفي الحقيقة يتباين أسلوب كل مؤرخ عربي عن الآخر، إلا أن أسلوب الأغلبية كان واضحاً ويحيط بالحقيقة التاريخية ويبرزها.
وخلاصة القول، على الرغم مما يوجه إلى منهج البحث التاريخي عند المؤرخين العرب من عيوب تصدق على بعضهم أحياناً، وعلى أكثرهم أحياناً أخرى، فإنه كان منهجاً علمياً في خطوطه الرئيسة، وهدفه الوصول إلى الحقيقة، وبناء الماضي كما كان عليه ذلك الماضي، هذا إضافة إلى أنهم خلّفوا للمؤرخ المعاصر اليوم، ثروة تاريخية ضخمة، يمكنه أن يستفيد من مادتها في جلاء واقع الماضي. وتسجل لهم الدراسات الحديثة، أنهم أول من ضبط الحوادث بالإسناد، والتوقيت الكامل، والتوثيق الدقيق، ومدوا حدود البحث التاريخي وتوغلوا في مصادره، والتأليف فيه، إلى درجة لم يجارهم فيه من تقدمهم أو عاصرهم من مؤرخي الأمم الأخرى. وحرصوا على العمل جهد طاقتهم، بأول واجب المؤرخ وآخره، وهو الصدق في القول والنزاهة في الحكم، وبذلك كانوا من الواضعين الأُول لأصول منهج البحث العلمي الحديث، ولاسيما قواعد النقد فيه، التي نسبت لمؤرخي أوربة في القرن التاسع عشر، كما كانوا من أول من أدرك الصلة الوثيقة بين علم التاريخ والعلوم الأخرى، ولاسيما علم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، وأكد مفهوم التطور بتطور المجتمعات، وأوجد فلسفة للتاريخ لا تحمل الطابع الديني، وهذا ما طرحه ابن خلدون في مقدمته.
ليلى الصباغ
Historiography - Historiographie
التأريخ عند العرب (منهجية ـ)
إذا ما جرت موازنة خطوات المنهج العلمي للبحث التاريخي الحديث، مع ما كان يقوم به المؤرخون العرب، اتضح المنهج الذي ساروا عليه، ومدى علميته.
وليُبدأ بالخطوة الأولى وهي اختيار موضوع الدراسة أو البحث. وفي هذا المجال من المعروف أن من الشروط العلمية الأساسية التي يجب توافرها في الموضوع المختار أن يكون جديداً لم يُتطرق إليه سابقاً، وأن يكون مشكلة لها وجودها الحقيقي في الواقع الماضي، ولها معناها ومغزاها بالنسبة لمجموع السير التاريخي العام، وبالنسبة للجيل الذي يُكتب في عصره، وللأجيال اللاحقة. وإذا جرى تتبع الموضوعات التي عالجها التاريخ العربي، منذ نشأته حتى نضجه، فإنه يلاحظ أنها كانت تتوافر فيها تلك الشروط، وأن الموضوعات التي خصَّها المؤرخون بدراستهم، وتأليفهم، كانت بصفة عامة دوماً جديدة. ويبدو هذا واضحاً في تنوع الفنون التاريخية التي طرقوها، وفي تدوينهم الدؤوب لأحداث عصرهم. كما أن معظم ما ألَّفوا فيه كان يمثل قضايا، بالنسبة للتأريخ العربي الإسلامي، وكان لها معناها ومغزاها في السير التاريخي للعالم الإسلامي، وللأجيال العربية، وإذا قيل إن المؤرخين العرب في كتابتهم التاريخ العام، أكان على شكل حوليات، أم على شكل دول، أمر لا جدة فيه، لأن اللاحقين كانوا يكررون السابقين، بل ينقلون منهم حرفياً، فإن هذا القول لا ينطبق على كل ما كان يدّونه المؤرخون، إذ كان كل مؤرخ، يضيف إلى القديم المنقول، الحوادث والأحوال المعاصرة له، متقيداً بمبدأ هام آمن به المؤرخون العرب، وهو أن التاريخ العربي الإسلامي، تاريخ مستمر لم ينقطع، وظل متواصلاً مهما بدت الأحداث هامة، وكل مرحلة فيه تبقى مكملة لسابقتها. فما كانوا ينقلونه ممن سبقهم، كان بمنزلة المقدمة، أو التمهيد، الذي يربط الجديد المعاصر لهم بالماضي الذي سبق. وإن القول المأثور عن أحد المفكرين العرب المسلمين السابقين، في شروط التأليف بألاّ يؤلِّف أحد كتاباً إلا في أحد أقسام سبعة: «إما أن يؤلف في شيء لم يُسبق إليه يخترعه، أو شيء ناقص فيتممه، أو شيء مستغلق يشرحه، أو طويل يختصره، دون أن يُخلَّ بشيء من معانيه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنفه يبينه، أو شيء مفرَّق يجمعه» منطبق في الواقع على ما قدمه المؤرخون العرب في تآليفهم المتنوعة، ودليل على إدراكهم لقيمة الجدّة في موضوع التأليف.
والخطوة الثانية في المنهجية التاريخية العلمية، هي جمع المصادر: لقد نشأ علم التاريخ عند العرب المسلمين فرعاً من علم الحديث، فمن الحريّ أن يتأثر بطريقة جمع الحديث ونقده، وأسلوب تدوينه. فالمؤرخون العرب في جمعهم للخبر، كما في جمعهم للحديث، سعوا إلى المصادر الموثوقة، وإن كانت في بادئ الأمر مستندة إلى الرواية الشفوية في معظمها، وكان المصدر الموثوق لديهم هو الشخص العدل، الذي له علم مباشر بالواقعة المروية، كأن يكون قد عاينها مباشرة، أو اشترك فيها، أو أخذها من مظانها الأولى: كالرواة الأُوَل الثقات، أو كتاب قديم، أو وثيقة مفقودة. ومن ثمَّ، كان المؤرخون في تقميشهم للوقائع التاريخية، يجوبون مختلف البقاع ليحصلوا على المعلومات الصحيحة من أناس عاصروهم وشهدوهم، أو من مستندات مدونة سمعوا بوجودها، أو تعرّف مكان الحدث ذاته بصفته مصدراً أساسياً. فقد عرف عن المؤرخ الواقدي مثلاً بأنه كان لا يثبت حوادثه عن الفتوح ما لم يعاين مواقعها، وكان لا يتوانى عن سؤال أبناء الصحابة عن الأمكنة التي استشهد فيها آباؤهم، ليذهب إليها ويتأكد منها.
ولابد من التأكيد هنا، بأن عدداً من المؤرخين العرب قد أولى المكان في دراساته التاريخية اهتماماً كبيراً، ونظر إليه مصدراً ذا شأن، فربط بذلك بين الجغرافية والتاريخ، على غرار ما يجري اليوم. ومن الأمثلة على ذلك المسعودي في كتابيه «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، و«التنبيه والإشراف»، و ابن العديم (ت 660هـ/1262م) في كتابه «زبدة الحلب في تاريخ حلب»، و ابن خلدون، وغيرهم.
وعندما انتظمت دواوين الدولة العربية الإسلامية، ونظمت وثائقها، اعتمد المؤرخون العرب على تلك الوثائق الرسمية، وأوردوها أحياناً بنصوصها في مدَّوناتهم، فاليعقوبي (ت بعد 292هـ/905م) قد خصَّ مكاتبات الرسول e، والخلفاء الراشدين، بفصل خاص في كتابه. وضمّن البلاذري كتابه «أنساب الأشراف»، بعض الرسائل لعدة شخصيات سياسية، منهم عثمان بن عفان، وكذلك فعل الطبري، و ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) في كتابه «المُنْتَظم»، والعماد الأصفهاني (ت 597هـ/1201م) في كتابه «البرق الشامي».
واعتمد بعض المؤرخين أيضاً ضمن مصادرهم على النقوش الكتابية المدونة على الأبنية كالخطيب البغدادي، و محمد بن محمد بن الشحنة الحلبي (ت 890هـ/1485م) في كتابه «الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب»، و محمد بن عبد الله الأزرقي (ت نحو 250هـ/865م) في كتابه «أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار»، كما استند آخرون إلى النقوش على الأختام.
ويمكن القول، إن المؤرخين العرب قد استخدموا مختلف العلوم والمعارف مصدراً لكتاباتهم التاريخية، أي إنهم وسَّعوا مفهوم المصدر التاريخي ، كما عليه الحال اليوم، وقد أكد ابن خلدون هذا المضمون الجديد للمصدر التاريخي عندما قال في مقدمته، «إن المؤرخ يحتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة».
وقد عمل المؤرخون العرب على بيان مظانهم في مقدمات كتبهم، أو في طليعة روايتهم للخبر، وفي القرون الأولى للتدوين التاريخي، استخدموا الإسناد كما في الحديث الشريف، فكل واقعة يذكرونها، يسندونها إلى رواتها، حتى يوصلوها براويها الأول، الذي هو شاهد عيان، ويلاحظ هذا بصفة خاصة لدى الطبري والواقدي، وبذلك كانوا أمناء جداً في نقل الأخبار، والاعتراف بأصحاب النصوص التاريخية المأخوذ عنها، والإعلام بكتب فُقدت، وهي أمهات وأصول.
الخطوة الثالثة هي النقد التاريخي: إن الطريقة النقدية هي العماد الأول في المنهجية العلمية للبحث التاريخي المعاصر. وقد أخذ بها المؤرخون العرب منذ النشأة الأولى لعلم التاريخ لديهم. فقد بيّن القرآن الكريم، في آيات كثيرة، ضرورة إعمال العقل في ما يرى الإنسان ويسمع، وأكّد مفهوم البيّنة، والحجة، والبرهان، ووجوب التثبت من الخبر، ودقق في أمر الشهادة والشهود، وكلها أمور توجه الفكر إلى النقد العقلاني للأمور، لتبيّن الصدق من الكذب، والحقيقي من المزيّف. وكذلك فعل الرسول الكريمe في عدد من أحاديثه الشريفة، وهكذا اتجه المسلمون الأُوَل إلى التحقق مما يروى من أحاديث النبيe، ولاسيما بعد أن تزايد وضعها زوراً وبهتاناً. وأوجد علماء الحديث تدريجياً قواعد نقدية للتمييز بين الصحيح والموضوع من الأحاديث. واتبع المؤرخون العرب تلك القواعد نفسها للتحقق من صحة الخبر، وأطلق على هذا النهج النقدي التجريح والتعديل ، ويتلخص في دراسة شخصيات الرواة دراسة تفصيلية، فيحيطون بتاريخ ميلادهم ووفاتهم، ودقائق سيرة حياتهم، ورحلاتهم، وحجهم بصفة خاصة، ومدى تكامل صفاتهم الجسمية، والعقلية، وثقافتهم الدينية، وأخلاقهم، وسلوكهم في معاملاتهم الحياتية، وميولهم الفكرية، والسياسية والدينية، ومدى تحيزهم لقوم ما، أو لمذهب ديني، أو فرقة سياسية، أو حاكم، أو غير ذلك من الأمور. وكانوا يخرجون من تلك الدراسة، إما بتجريح الراوي، أي ببيان عيوبه الشخصية التي تجرده من صفة العدالة، أي الاستقامة والثقة به، فيوجَّه الطعن إليه، أو بتعديله، أي بإيضاح مزاياه التي تثبت أنه إنسان عَدْل، أي أهل للثقة والتصديق، ككونه عالماً، نقي النفس، سليم السريرة، صادقاً، وورعاً، ومستقيماً في أخلاقه وسلوكه. إن هذا النهج النقدي، هو ما يقابل اليوم في المنهجية العلمية للبحث التاريخي، الجزء الأكبر من النقد الباطني السلبي ، أو ما يسمى أيضاً بنقد المؤلِّف .
ولم يقتصر المؤرخون العرب في نقدهم للخبر على التجريح والتعديل فقط، وإنما اعتمدوا أيضاً المحاكمة المنطقية، أو طريقة الموازنة بين مصدرين للمعلومات، والموازنة الزمنية بين خبرين، وتمكنوا بذلك من إظهار زيف بعض الوثائق والأخبار.
وقد أكد ابن خلدون ضرورة النقد وأهميته في التاريخ، عندما أوضح الأسباب التي تجعل الكذب يتطرق إلى الخبر، وحصرها في التشيع للآراء والمذاهب، والثقة بالناقلين، والذهول عن المقاصد، وتوهم الصدق، والجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع، وتقرب الناس لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وإشاعة الذكر. وميّز في عملية النقد وقواعدها بين نقد الأخبار الشرعية، وهي المتعلقة بالدين والتشريع، ويُطبق عليها التعديل والتجريح، ونقد أخبار الواقعات وتُخضع لما أسماه بالمطابقة أي مدى مطابقتها لأحوال الاجتماع البشري، وتمييز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضاً لا يعتد به، وما لا يمكن أن يعرض له، ومن ثمّ، فإنه ألح على أن المؤرخ يحتاج إلى العلم بقواعد السياسة، وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم، والبقاع، والأعصار، في السير والأخلاق، والعوائد،والنحل، والمذاهب، وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق، أو لون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل، ومبادئ ظهورها، وأسباب حدوثها، ودواعي كونها، وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعباً لأسباب كلِّ خبره، وحينئذٍ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها، وجرى على مقتضاها كان صحيحاً، وإلا زيَّفه واستغنى عنه. وقد طبّق ابن خلدون قواعد نقده هذه على عدد من الوقائع غير الصحيحة التي أوردها بعض المؤرخين، وبيّن بطلانها بأدلة جغرافية، وسياسية، واستراتيجية ونفسية، وعلمية، ودينية مقتبسة من المعرفة العميقة بأصول طبائع العمران.
إلا أن ابن خلدون نفسه الذي وضع تلك القواعد السليمة للنقد التاريخي والتي لا تخرج عن قواعد النقد التي اتبعها مؤرخو الغرب منذ القرن التاسع عشر، أي بعد مرور أربعة قرون ونيف على زمن ابن خلدون والتي يرون بأنهم مبدعوها الأُول، وهي التي دفعت التاريخ نحو مستواه العلمي الحالي، لم يلتزم تمام الالتزام بتلك القواعد، في تمحيص أخباره في كتابه «العبر»، والتدقيق فيما ينقل، وهذا القول يصدق أيضاً على عدد من المؤرخين العرب المسلمين.
الخطوة الرابعة التركيب في المنهجية التاريخية العربية: لقد أشير سابقاً إلى الطرق التي اتبعها المؤرخون العرب والمسلمون في تركيبهم الكلّي للحقائق التاريخية: كأن يسوقوها مساق القصة حول شخصية ما، أو حول عدد من الشخصيات، أو حول مدينة أو إقليم، أو حوادث معينة كالغزوات والفتوح، أو حول دولة أو مجموع دول، أو أن يتركوها متفرقة لا يجمعها سوى الزمن الواحد، وهو السنة. ومن الضروري التأكيد في هذا المجال، ومرة أخرى، أن المؤرخين العرب عملوا على ضبط الحوادث زمناً، عن طريق تأريخها بالسنة، والشهر، والليلة، وهذه الدقة في التوقيت لم تعرفها أوربة قبل 1597م. ولكن جمع الأحداث في وحدة زمنية قد تكون عاماً أو بضعة أعوام، أو تركيبها بالطرق المذكورة آنفاً، هو خطوة أولى في عملية التركيب التاريخي الحق. إذ إن هذا الأخير يقوم على ربط تلك الأحداث بعضها ببعض ربطاً سببياً. وهذا ما عناه ابن خلدون عندما عرَّف التاريخ بقوله: «هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول… وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق». وفي هذا المجال اتُهِم المؤرخون العرب، إما بأنهم لم يسعوا إلى التعليل أبداً، واكتفوا بسرد الوقائع سرداً، أو أنهم لم يستقصوا الأسباب الواقعية والعقلانية، فربطوا السببية التاريخية بالإرادة الإلهية. وفي الحقيقة، يتفاوت المؤرخون العرب في تقصيهم للأسباب، وفي تفسيرهم للحوادث، إلا أنهم أدركوا في الجملة أهمية العوامل الاقتصادية، والجغرافية، والنفسية، والاجتماعية، والفكرية، في دفع الأحداث والتأثير في حياة البشر. وقليلون جداً أولئك المؤرخون الذين كانت مؤلفاتهم مجرد سرد بسيط لا يحمل ضمن الكلمات تأويلاً معيناً أو تفسيراً. وإذا كان من الملاحظ لأول وهلة، أنهم خصوا الحاكم الفرد بالأثر الأكبر في تحريك الأحداث، دون العوامل الأخرى، وأنهم رأوا في القضايا الدينية، أموراً ذات تأثير جمّ في تاريخ الأمم، فإن المستقصي لمجموع ما دوّنه العرب في التاريخ، وهو وافر جداً، سيجد أن المؤرخين العرب قد اهتموا بقضايا المجتمع العامة بمختلف ألوانها، وبتأثيرها في تحريك أحداثه، لا بسياسة الحاكم الفرد فحسب ودوره، وأنهم كما أشير سابقاً، توغلوا في بنية المجتمع، وأبرزوا مختلف فئاته العليا والدنيا، وأعمالهم، ونتائجها فيه. وسعى بعضهم لتكوين تركيب فلسفي لمعنى التاريخ ككل، ومن هؤلاء المُطَهَّر بن طاهر المقدسي (ت بعد 355هـ/966م) في مقدمة كتابه «البدء والتاريخ»، و أبو طالب عبد الجبار الأندلسي (ت نحو 529هـ/966م) في أرجوزته التاريخية، وابن خلدون في مقدمته، التي قال عنها فيلسوف التاريخ الإنكليزي المعاصر توينبي Toynbee (ت 1975م)، «إنها أعظم عمل من نوعه أبدعه العقل البشري، وكان فيها أول من بحث جمعاً وتفصيلاً في عوامل العمران المختلفة، وقدم فلسفة للتاريخ بواقعها الدنيوي».
الخطوة الخامسة أسلوب المؤرخين العرب في الصياغة والأداء: كتب معظم المؤرخين العرب مؤلفاتهم بلغة عربية بيّنة وبليغة، ومصوّرة بوضوح ما يريدون تبيانه، دون إدخال الصناعة الأدبية فيها، إلا أن هذا لا ينفي استخدام بعض المؤرخين التنميق البلاغي، والصنعة البديعية، ومنها السجع. ويلاحظ هذا بصفة خاصة، عندما دخل هذا الأسلوب في الأدب العربي، منذ القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي فما بعد. وقد استُخدم هذا الأسلوب في تراجم الإطراء، التي دوّنها بعض المؤرخين الرسميين للأمراء، والسلاطين، والملوك. وقد تميز بهذا الأسلوب المؤرخ العماد الأصفهاني، وعدد من مؤرخي العهد المملوكي. وإن الصناعة البديعية في الأسلوب التاريخي تسيء للتاريخ، إذ تبعد صاحبه عن الحقيقة والدقة، وتوقعه في التكرار، ويصبح «المقصود مغموراً في تضاعيف ضمائر الأسجاع»، كما جاء في «نقد الفتح البنداري» (ت 643هـ/1245م) للعماد الأصفهاني.
واستخدم بعض المؤرخين الشعر أيضاً في مؤلفاتهم، وقد دخل الشعر في محتوى التأليف التاريخي منذ القرون الأولى لتدوينه، لا لعرض الحوادث التاريخية، وإنما لطرح أقوال بعض الشعراء في معركة مثلاً، أو في شخصية، مدحاً أو هجاءً أو رثاءً، أو غير ذلك من الأمور. إلا أنه منذ القرن الثالث للهجرة/التاسع الميلادي، بدأت تظهر التواريخ المدوّنة شعراً، ومعظمها على بحر الرجز، ومن تلك الأراجيز، أرجوزة ابن المعتز (ت 296هـ/909م) في مدح الخليفة المعتمد وأعماله، وأرجوزة نشوان بن سعيد الحميري (ت 573هـ/1178م)، التي يستعرض فيها تاريخ حمير في اليمن، وأرجوزة محمد الباعوني الدمشقي (ت 870هـ/1466م) المسماة «تحفة الظرفاء في تواريخ الملوك والخلفاء»، وأرجوزة أبي طالب عبد الجبار الأندلسي (ت نحو 529هـ/1134م) المشار إليها سابقاً، وغيرها.
وفي الحقيقة يتباين أسلوب كل مؤرخ عربي عن الآخر، إلا أن أسلوب الأغلبية كان واضحاً ويحيط بالحقيقة التاريخية ويبرزها.
وخلاصة القول، على الرغم مما يوجه إلى منهج البحث التاريخي عند المؤرخين العرب من عيوب تصدق على بعضهم أحياناً، وعلى أكثرهم أحياناً أخرى، فإنه كان منهجاً علمياً في خطوطه الرئيسة، وهدفه الوصول إلى الحقيقة، وبناء الماضي كما كان عليه ذلك الماضي، هذا إضافة إلى أنهم خلّفوا للمؤرخ المعاصر اليوم، ثروة تاريخية ضخمة، يمكنه أن يستفيد من مادتها في جلاء واقع الماضي. وتسجل لهم الدراسات الحديثة، أنهم أول من ضبط الحوادث بالإسناد، والتوقيت الكامل، والتوثيق الدقيق، ومدوا حدود البحث التاريخي وتوغلوا في مصادره، والتأليف فيه، إلى درجة لم يجارهم فيه من تقدمهم أو عاصرهم من مؤرخي الأمم الأخرى. وحرصوا على العمل جهد طاقتهم، بأول واجب المؤرخ وآخره، وهو الصدق في القول والنزاهة في الحكم، وبذلك كانوا من الواضعين الأُول لأصول منهج البحث العلمي الحديث، ولاسيما قواعد النقد فيه، التي نسبت لمؤرخي أوربة في القرن التاسع عشر، كما كانوا من أول من أدرك الصلة الوثيقة بين علم التاريخ والعلوم الأخرى، ولاسيما علم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، وأكد مفهوم التطور بتطور المجتمعات، وأوجد فلسفة للتاريخ لا تحمل الطابع الديني، وهذا ما طرحه ابن خلدون في مقدمته.
ليلى الصباغ