إبراهيم العريس
التهمة: التواطؤ مع الألمان و"الترويج" لأفكارهم الهرطوقية في لوحة "العشاء الأخير"
في نهاية الأمر لم يعد للوحة الضخمة التي كان فيرونيزي يريد إنجازها لتعبر عن "العشاء الأخير" للسيد المسيح مع تلامذته، أي وجود وفي الأقل بالاسم الذي كان من المفترض أن يكون اسمها، لكنها عادت ووجدت بالفعل وباتت من أشهر لوحاته إنما تحت اسم آخر هو "المأدبة عند ليفي". أما سبب ذلك التبديل الذي طاول العنوان من دون أن يطاول لا موضوع اللوحة ولا شكلها الذي لا يبتعد كثيراً عن الشكل الزاهي البديع الذي كان الفنان قد جعله للوحته "عرس قانا الجليل"، التي ستضحى على مر الزمن واحدة من أجمل أعماله ويعتبرها كثر اليوم أجمل لوحة معروضة في متحف اللوفر الفرنسي، إذ يرى معظمهم أنها أكثر جلالاً وبهاء من أية لوحة أخرى في هذا المتحف، بما في ذلك لوحة "الموناليزا" لليوناردو دا فنشي! السبب هو أن محكمة التفتيش الكنسية التي كانت تعتبر نفسها رقابة إلهية تتحرك وتتصرف باسم الكرسي الرسولي مرت من هنالك، لتستدعي فيرونيزي للتحقيق معه من حيث لم يكن ليتوقع أو يتوقع الكنسيون الآخرون من مسؤولي دير "مادونا دي مونتي بيريتشيو" في مدينة فينيتشيا، الذين أوصوه على اللوحة بعد النجاح الكبير الذي كان في العام السابق لـ"عرس قانا الجليل" لتكون على ضخامة تلك اللوحة وتشبهها كي تنافسها.
حوار بين "المتهم" ومحاكميه
يومها وتحديداً في عام 1573 التالي لظهور "عرس قانا الجليل" وفي وقت كان فيه فيرونيزي في طور إنجاز لوحته الجديدة التي لا يقل عرضها عن 13 متراً وارتفاعها عن خمسة أمتار ونصف المتر، وقيض لسراة محكمة التفتيش، برئاسة كبير المطارنة دييي وهو من أصل روماني مما يعني أنه كان يعتبر "أجنبياً" في ديار فيرونيزي، أن يتفحصوا اللوحة قبل عرضها للملأ. استدعي فيرونيزي إذاً للمثول أمام محكمة التفتيش التي عقدت خصوصاً لتلك الغاية، وكان يعرف كما يعرف الجميع أن المحكمة ستكون قاسية معه لأن رئيس الأساقفة كان معروفاً بكونه يمثل الجناح الأشد قسوة ورجعية بين قضاة محاكم التفتيش جميعاً. غير أن فيرونيزي لم يكن في حقيقة الأمر يعرف ما تهمته، وهو الذي كان دائم الحرص على عدم التصرف بما يغضب السدة الباباوية التي ترتبط المحكمة بها مباشرة. ومن هنا بعد افتتاح الجلسة، وبعد أن سئل الرسام عن اسمه فأجاب أنه باولو كالياري الملقب بفيرونيزي، تابع المسؤول الكنسي مستوضحاً منه عن مهنته فأجاب "أنا حرفي مهنتي رسم الوجوه". فتابع المسؤول سائلاً إياه عما إذا كان يعرف لمَ هو هنا ماثل أمام الآباء الموقرين؟ أجاب كما كان قد نصح من قبل رفاقه "يمكنني أن أتخيل تلك الأسباب". وبعد صمت لحظة واصل كلامه متحدثاً عن لوحته الجديدة المعنونة "العشاء" والتي يجتمع فيها السيد المسيح بتلامذته في دارة سيمون، ذاكراً أنها لوحة موصى عليها من مسؤولي دير القديسين جوفاني وباولو في البندقية، مضيفاً أنها ستحل في المكان الذي كانت تشغله لوحة حول الموضوع نفسه حققها الرسام البندقي تيتسيانو "لكن هذه احترقت في حادثة للأسف"، فكان "لا بد من تحقيق لوحة تحل مكانها". وقال إنه حقق لوحته بالنظر إلى أن تيتسيانو بات متقدماً في السن إلى درجة لا يمكنه معها إعادة رسم لوحته. وكان ذلك صحيحاً لأن الرسام المعلم الكبير سيرحل بعد تلك المحاكمة بخمس سنين.
خدم بأزياء ألمانية
وهنا وصل رئيس المحكمة إلى ما اعتبره بيت القصيد سائلاً "المتهم"، "إذاً ما الذي تريد قوله من خلال هؤلاء الحضور المتزيين والمسلحين على الطراز الألماني والذين يتميزون في اللوحة بكون كل واحد منهم يقبض في يده على ذلك السلاح الألماني الحاد المعروف بـ(الهامب)". هنا دهش فيرونيزي أمام هذا السؤال الذي لم يكن ليخطر له في بال على رغم أن الصراع بين الباباويين واللوثريين حول مسألة الإصلاح كانت تشغل أوروبا كلها في ذلك الحين وكل ما هو يمت بصلة إلى الألمان يعتبر هرطقة ما بعدها من هرطقة، فصمت قليلاً كي يتاح له أن يدرس إجابته كيلا توصله إلى التهلكة ثم قال ببطء "إننا أيها المبجلون، نحن معشر الرسامين نعطي أنفسنا الحق، كما يفعل الشعراء والمجانين، في أن نعبر عن أنفسنا بما نراه ملائماً لفننا لا أكثر، ومن هنا عمدت إلى رسم هؤلاء الأشخاص لأنني رأيت أن من الملائم والممكن لصاحب البيت وهو التاجر الغني والشخص الواعي الرائع أن يتخذ له خدماً من بين حاملي هذا السلاح". وهنا أمام هذا الجواب الملتبس استشاط رئيس المحكمة غضباً وقال للمتهم الماثل أمامه "ترى أولست تعرف أن الناس في ألمانيا وفي غيرها من الديار التي أفسدتها شتى أنواع الهرطقات، اعتادوا ولا سيما في رسوم متخمة بالقاذورات أن يسخروا من الشؤون العزيزة على كنيستنا الكاثوليكية الموقرة، وغايتهم أن ينشروا المذاهب المزيفة بين الجهلة المحرومين من أي حس سليم؟".
التاريخ والدين والفن
وسارع فيرونيزي هنا إلى الموافقة على أن تلك إنما هي أفعال بالغة السوء، لكنه في الوقت نفسه لجأ إلى الاستعانة بأمثلة مستقاة من فن أسلافه من كبار الفنانين المخلصين في إيمانهم، وعلى رأسهم ليوناردو دافنشي الذي ذكر الحضور بكيف أنه رسم القديسين وكبارهم والسيد المسيح وأهله بأساليب "يمكننا التوافق فوراً على أنها تخرج تماماً عما تطالب الكنيسة به". ولقد استطرد فيرونيزي هنا في استعراض أمثلة سابقة مفسراً كل لوحة يتحدث عنها، مبيناً ما يتناقض مع تعاليم الكنيسة فيها، ذاكراً في كل مرة أن ما من خروج حقيقي عن مبادئ الإيمان في فن أي من أولئك السابقين و"إلا لكانت إنجازاتهم الفنية، وهي طبعاً أكثر جرأة ووضوحاً مما قمت أنا بإنجازه على خطاهم، قد أبعدت وأتلفت فما بقي منها شيء". والحقيقة أن دفاع فيرونيزي عن فنه كان من القوة والإقناع بحيث كان من شأن المحكمة لو رفضته أن تزيل مئات اللوحات المعلقة في الكنائس. وبذلك الدفاع الفني المعبر في ثناياه عن إيمان عميق بالدين ولكن أيضاً بالفن وقد "جعل نفسه" خادماً للدين "بطبيعة الحال"، بذلك الدفاع تمكن الرسام من أن ينفذ بجلده، إذ إن المحكمة اشترطت عليه كي تتركه لحاله وتترك اللوحة من دون تدخل منها أن يبدل من عنوانها ومن بعض السمات الطفيفة فيها. وبالفعل خرج فيرونيزي منتصراً، إذ وجد أن كل ما يجب عليه الآن ليس أكثر من التخلي عن العنوان السابق الذي يقول بوضوح إن اللوحة تمثل مشهد "العشاء الأخير"، إذ إن العنوان الجديد بات "المأدبة عند ليفي".
بين المحكمة والمدينة
مهما يكن فإن المحكمة أخذت وهي "تحكم" على فيرونيزي بذلك الحكم البسيط، والذي يبدو أبسط بكثير مما كان يمكن للفنان تصوره، كانت قد أخذت في حسبانها أن الرسام لم يكن نكرة في البلاد، وهو الذي خلد في لوحته حول معركة ليبانتي ضد العثمانيين ذلك الانتصار الكبير الذي ظلت البندقية تفاخر به زمناً طويلاً، ناهيك بأن المحكمة كان عليها في الوقت نفسه أن تدرك أن "معركتـ"ها ضد الرسام إنما كانت أيضاً معركة ضد مدينة البندقية نفسها، تلك المدينة التي كانت من الاعتزاز بنفسها وبكل ما يمت إليها بصلة بحيث يصعب على محاكم التفتيش العثور على أية ثغرة يمكنها النفاذ منها لإذلالها أو فرض شروط عليها، ولا سيما أن ثمة سوابق قريبة كانت تؤكد أن البندقية لم تسمح أبداً لمحاكم التفتيش أن تدنو منها أو تأخذ عليها أي مأخذ. ولقد استفاد فيرونيزي بالتأكيد من تلك الظروف فأنقذت لوحته لتتصدر حتى اليوم معروضات "متحف الأكاديمية" في مدينة البندقية نفسها بحجمها الهائل، سعيدة بأن يروي أدلاء المعرض للزائرين حكاية محكمة التفتيش مع فيرونيزي، كجزء من تاريخ مجيد "يجب ألا ينسى" يتعلق بكرامة الفن، شرط أن يكون الإيمان رائده، كما يحلو للبندقيين أن يختموا كلامهم دائماً.
التهمة: التواطؤ مع الألمان و"الترويج" لأفكارهم الهرطوقية في لوحة "العشاء الأخير"
في نهاية الأمر لم يعد للوحة الضخمة التي كان فيرونيزي يريد إنجازها لتعبر عن "العشاء الأخير" للسيد المسيح مع تلامذته، أي وجود وفي الأقل بالاسم الذي كان من المفترض أن يكون اسمها، لكنها عادت ووجدت بالفعل وباتت من أشهر لوحاته إنما تحت اسم آخر هو "المأدبة عند ليفي". أما سبب ذلك التبديل الذي طاول العنوان من دون أن يطاول لا موضوع اللوحة ولا شكلها الذي لا يبتعد كثيراً عن الشكل الزاهي البديع الذي كان الفنان قد جعله للوحته "عرس قانا الجليل"، التي ستضحى على مر الزمن واحدة من أجمل أعماله ويعتبرها كثر اليوم أجمل لوحة معروضة في متحف اللوفر الفرنسي، إذ يرى معظمهم أنها أكثر جلالاً وبهاء من أية لوحة أخرى في هذا المتحف، بما في ذلك لوحة "الموناليزا" لليوناردو دا فنشي! السبب هو أن محكمة التفتيش الكنسية التي كانت تعتبر نفسها رقابة إلهية تتحرك وتتصرف باسم الكرسي الرسولي مرت من هنالك، لتستدعي فيرونيزي للتحقيق معه من حيث لم يكن ليتوقع أو يتوقع الكنسيون الآخرون من مسؤولي دير "مادونا دي مونتي بيريتشيو" في مدينة فينيتشيا، الذين أوصوه على اللوحة بعد النجاح الكبير الذي كان في العام السابق لـ"عرس قانا الجليل" لتكون على ضخامة تلك اللوحة وتشبهها كي تنافسها.
حوار بين "المتهم" ومحاكميه
يومها وتحديداً في عام 1573 التالي لظهور "عرس قانا الجليل" وفي وقت كان فيه فيرونيزي في طور إنجاز لوحته الجديدة التي لا يقل عرضها عن 13 متراً وارتفاعها عن خمسة أمتار ونصف المتر، وقيض لسراة محكمة التفتيش، برئاسة كبير المطارنة دييي وهو من أصل روماني مما يعني أنه كان يعتبر "أجنبياً" في ديار فيرونيزي، أن يتفحصوا اللوحة قبل عرضها للملأ. استدعي فيرونيزي إذاً للمثول أمام محكمة التفتيش التي عقدت خصوصاً لتلك الغاية، وكان يعرف كما يعرف الجميع أن المحكمة ستكون قاسية معه لأن رئيس الأساقفة كان معروفاً بكونه يمثل الجناح الأشد قسوة ورجعية بين قضاة محاكم التفتيش جميعاً. غير أن فيرونيزي لم يكن في حقيقة الأمر يعرف ما تهمته، وهو الذي كان دائم الحرص على عدم التصرف بما يغضب السدة الباباوية التي ترتبط المحكمة بها مباشرة. ومن هنا بعد افتتاح الجلسة، وبعد أن سئل الرسام عن اسمه فأجاب أنه باولو كالياري الملقب بفيرونيزي، تابع المسؤول الكنسي مستوضحاً منه عن مهنته فأجاب "أنا حرفي مهنتي رسم الوجوه". فتابع المسؤول سائلاً إياه عما إذا كان يعرف لمَ هو هنا ماثل أمام الآباء الموقرين؟ أجاب كما كان قد نصح من قبل رفاقه "يمكنني أن أتخيل تلك الأسباب". وبعد صمت لحظة واصل كلامه متحدثاً عن لوحته الجديدة المعنونة "العشاء" والتي يجتمع فيها السيد المسيح بتلامذته في دارة سيمون، ذاكراً أنها لوحة موصى عليها من مسؤولي دير القديسين جوفاني وباولو في البندقية، مضيفاً أنها ستحل في المكان الذي كانت تشغله لوحة حول الموضوع نفسه حققها الرسام البندقي تيتسيانو "لكن هذه احترقت في حادثة للأسف"، فكان "لا بد من تحقيق لوحة تحل مكانها". وقال إنه حقق لوحته بالنظر إلى أن تيتسيانو بات متقدماً في السن إلى درجة لا يمكنه معها إعادة رسم لوحته. وكان ذلك صحيحاً لأن الرسام المعلم الكبير سيرحل بعد تلك المحاكمة بخمس سنين.
خدم بأزياء ألمانية
وهنا وصل رئيس المحكمة إلى ما اعتبره بيت القصيد سائلاً "المتهم"، "إذاً ما الذي تريد قوله من خلال هؤلاء الحضور المتزيين والمسلحين على الطراز الألماني والذين يتميزون في اللوحة بكون كل واحد منهم يقبض في يده على ذلك السلاح الألماني الحاد المعروف بـ(الهامب)". هنا دهش فيرونيزي أمام هذا السؤال الذي لم يكن ليخطر له في بال على رغم أن الصراع بين الباباويين واللوثريين حول مسألة الإصلاح كانت تشغل أوروبا كلها في ذلك الحين وكل ما هو يمت بصلة إلى الألمان يعتبر هرطقة ما بعدها من هرطقة، فصمت قليلاً كي يتاح له أن يدرس إجابته كيلا توصله إلى التهلكة ثم قال ببطء "إننا أيها المبجلون، نحن معشر الرسامين نعطي أنفسنا الحق، كما يفعل الشعراء والمجانين، في أن نعبر عن أنفسنا بما نراه ملائماً لفننا لا أكثر، ومن هنا عمدت إلى رسم هؤلاء الأشخاص لأنني رأيت أن من الملائم والممكن لصاحب البيت وهو التاجر الغني والشخص الواعي الرائع أن يتخذ له خدماً من بين حاملي هذا السلاح". وهنا أمام هذا الجواب الملتبس استشاط رئيس المحكمة غضباً وقال للمتهم الماثل أمامه "ترى أولست تعرف أن الناس في ألمانيا وفي غيرها من الديار التي أفسدتها شتى أنواع الهرطقات، اعتادوا ولا سيما في رسوم متخمة بالقاذورات أن يسخروا من الشؤون العزيزة على كنيستنا الكاثوليكية الموقرة، وغايتهم أن ينشروا المذاهب المزيفة بين الجهلة المحرومين من أي حس سليم؟".
التاريخ والدين والفن
وسارع فيرونيزي هنا إلى الموافقة على أن تلك إنما هي أفعال بالغة السوء، لكنه في الوقت نفسه لجأ إلى الاستعانة بأمثلة مستقاة من فن أسلافه من كبار الفنانين المخلصين في إيمانهم، وعلى رأسهم ليوناردو دافنشي الذي ذكر الحضور بكيف أنه رسم القديسين وكبارهم والسيد المسيح وأهله بأساليب "يمكننا التوافق فوراً على أنها تخرج تماماً عما تطالب الكنيسة به". ولقد استطرد فيرونيزي هنا في استعراض أمثلة سابقة مفسراً كل لوحة يتحدث عنها، مبيناً ما يتناقض مع تعاليم الكنيسة فيها، ذاكراً في كل مرة أن ما من خروج حقيقي عن مبادئ الإيمان في فن أي من أولئك السابقين و"إلا لكانت إنجازاتهم الفنية، وهي طبعاً أكثر جرأة ووضوحاً مما قمت أنا بإنجازه على خطاهم، قد أبعدت وأتلفت فما بقي منها شيء". والحقيقة أن دفاع فيرونيزي عن فنه كان من القوة والإقناع بحيث كان من شأن المحكمة لو رفضته أن تزيل مئات اللوحات المعلقة في الكنائس. وبذلك الدفاع الفني المعبر في ثناياه عن إيمان عميق بالدين ولكن أيضاً بالفن وقد "جعل نفسه" خادماً للدين "بطبيعة الحال"، بذلك الدفاع تمكن الرسام من أن ينفذ بجلده، إذ إن المحكمة اشترطت عليه كي تتركه لحاله وتترك اللوحة من دون تدخل منها أن يبدل من عنوانها ومن بعض السمات الطفيفة فيها. وبالفعل خرج فيرونيزي منتصراً، إذ وجد أن كل ما يجب عليه الآن ليس أكثر من التخلي عن العنوان السابق الذي يقول بوضوح إن اللوحة تمثل مشهد "العشاء الأخير"، إذ إن العنوان الجديد بات "المأدبة عند ليفي".
بين المحكمة والمدينة
مهما يكن فإن المحكمة أخذت وهي "تحكم" على فيرونيزي بذلك الحكم البسيط، والذي يبدو أبسط بكثير مما كان يمكن للفنان تصوره، كانت قد أخذت في حسبانها أن الرسام لم يكن نكرة في البلاد، وهو الذي خلد في لوحته حول معركة ليبانتي ضد العثمانيين ذلك الانتصار الكبير الذي ظلت البندقية تفاخر به زمناً طويلاً، ناهيك بأن المحكمة كان عليها في الوقت نفسه أن تدرك أن "معركتـ"ها ضد الرسام إنما كانت أيضاً معركة ضد مدينة البندقية نفسها، تلك المدينة التي كانت من الاعتزاز بنفسها وبكل ما يمت إليها بصلة بحيث يصعب على محاكم التفتيش العثور على أية ثغرة يمكنها النفاذ منها لإذلالها أو فرض شروط عليها، ولا سيما أن ثمة سوابق قريبة كانت تؤكد أن البندقية لم تسمح أبداً لمحاكم التفتيش أن تدنو منها أو تأخذ عليها أي مأخذ. ولقد استفاد فيرونيزي بالتأكيد من تلك الظروف فأنقذت لوحته لتتصدر حتى اليوم معروضات "متحف الأكاديمية" في مدينة البندقية نفسها بحجمها الهائل، سعيدة بأن يروي أدلاء المعرض للزائرين حكاية محكمة التفتيش مع فيرونيزي، كجزء من تاريخ مجيد "يجب ألا ينسى" يتعلق بكرامة الفن، شرط أن يكون الإيمان رائده، كما يحلو للبندقيين أن يختموا كلامهم دائماً.