تجاريه (ماركنتليه)
Mercantilism - Mercantilisme
التجارية (الماركنتلية ـ)
التجارية Mercantilisme تسمية تعود إلى القرن الثامن عشر، أطلقها الاقتصاديون الليبراليون «أنصار الحرية الاقتصادية»، وعلى رأسهم الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث[ر] Adam Smith، مؤسس النظرية الاقتصادية التقليدية (الكلاسيكية)، على مجموعة الآراء والإجراءات الاقتصادية التي طبقها أنصار الدولة القومية Etat national في معظم البلدان الأوربية، في المدة بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، بهدف توفير فائض في الميزان التجاري للدولة، وهذا الفائض هو الوسيلة الوحيدة في نظرهم لجذب المعادن الثمينة اللازمة لتقدم الأمة وتقوية الدولة ولا سيما الدولة المحرومة من مناجم الذهب والفضة.
ولم تكن هذه التسمية التي أطلقها مؤسسو المدرسة التقليدية وعلماء الاجتماع المعاصرون لهم بعيدة عن محاولة تشويه الأفكار التي جاء بها أنصار المذهب التجاري الذين تُطلق عليهم أيضاً تسمية «التجاريين» لأن أنصار هذا المذهب «التجاري» كانوا يرون ضرورة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية وفرض الحماية الجمركية من أجل تشجيع الصادرات وتخفيض الواردات، ذلك أنّ مجمل أفكارهم والإجراءات التي اتخذوها كانت تتعارض مع نظرة الاقتصاديين أنصار الحرية الاقتصادية، ومن ثمَّ كان هجوم هؤلاء عنيفاً على أنصار المذهب التجاري، فجرَّحوه وأطلقوا عليه تسمية توحي بأن اهتماماته مقصورة على الجانب التجاري وانه يعبر عن مصالح التجار فقط. في حين أن المذهب التجاري يمثِّل، في الحقيقة، تنظيماً شاملاً للصناعة والزراعة والتجارة يهدف إلى تنشيط الاقتصاد الوطني وضمان قوة الدولة اقتصادياً وعسكرياً، وهذا ما تسعى إليه الدول في الوقت الحاضر. ويمكن تعريف التجارية أو المذهب التجاري بأنه مجموعة السياسات والتدابير الاقتصادية التي كان يدعو إليها بعض الاقتصاديين، وطبّقها رجالات الدولة والمسؤولون في معظم البلدان الأوربية في مختلف مجالات الاقتصاد الوطني:الصناعة والزراعة ولاسيما في مجال تنظيم التجارة الخارجية والنقل البحري بهدف تحقيق ميزان تجاري رابح ومنع خروج المعادن الثمينة من البلاد، ومحاولة تجميع أكبر كمية ممكنة من الذهب والفضة داخل حدود الدولة، بوصفهما يمثلان الثروة التي يجب أن يكون الحصول عليها هدفاً أعلى للدولة.
المنظور التاريخي
اتصفت أواخر القرون الوسطى وبداية العصر الحديث بنظرة جديدة نحو الإنسان والمجتمع، هذه النظرة تُعطي للدولة القومية قيمة شبه مقدسة من جهة، وتطري الغنى والثروة، خلافاً لمذهب الكنيسة، من جهة ثانية. وقد عرفت هذه المرحلة زوال سلطة الأمراء الإقطاعيين وهيمنة الكنيسة على الحياة الاجتماعية لتحل محلهما سلطة الملك المركزية وبروز كيان الدولة القومية، وبسبب اكتشاف العالم الجديد وتطور وسائط النقل البحري من جهة، وانهيار السلطة الإقطاعية وعدم ظهور الرأسمالية الصناعية بعد، من جهة ثانية، تمكّن التجار من توسيع نشاطهم باستيراد المواد الأولية من الأمريكيتين وتصدير السلع المصنعة إليهما وإلى بقية أنحاء العالم. وقد استطاع التجار، بدعم من الملوك الذين كانوا يطمحون إلى تقوية سلطتهم المركزية إزاء بقايا الإقطاع، التغلب على صعوبات التصنيع التي كان يفرضها عليهم نظام الطوائف Castes الإقطاعي الذي يقيد الصناعة. فتمكن التجار من إخراج الصناع الصبيان Apprentis خارج نطاق الأقاليم الخاضعة لتنظيم الطوائف وتزويدهم بما يحتاجون إليه من مواد لصناعة السلع المطلوبة في السوق ومن ثم أقيمت المصانع اليدوية (المانيفاكتورة) Manifactures الخاضعة لإشراف التجار أنفسهم والتي كانت الأساس الاقتصادي لظهور الرأسمالية الصناعية فيما بعد. في هذه الظروف برز مفكرون ورجال أعمال وكذلك رجال دولة رسميون يهدفون إلى دعم سلطة الملك إزاء الإقطاع وإنشاء الدولة المركزية على حساب الإقطاعيات المشتتة، فسنوا القوانين واللوائح ووضعوا التنظيمات لإقامة المصانع وفرض الحماية الجمركية وإفساح المجال أمام منع تصدير المنتجات الزراعية بهدف توفير غذاء رخيص وأيد عاملة رخيصة. كل هذه الإجراءات والتدابير استندت إلى مذهب اقتصادي سُمي فيما بعد بالتجارية، أو المذهب التجاري، ولقد كان لهذه السياسات والإجراءات والتدابير أهميتها في إقامة الاقتصادات القومية التي قامت بدور مهم في تحقيق النمو الاقتصادي وقيام المجتمعات القومية المتماسكة.
منطلقات التجارية
خلافاً لرأي مكيافلّيMachiavel الذي كان يقول بوجوب اغتناء الدولة وبقاء المواطنين فقراء فإن التجاريين طوروا مقولة جديدة مؤداها أن الدولة تزداد قوة بقدر ما تساعد مواطنيها على الاغتناء ولاسيما فئة التجار. كما بدل التجاريون الموقف الذي يرى في قوة الدولة الغاية الأسمى للحياة الإنسانية، وعدّوا الثروة القيمة العليا. وبذلك يمكن أن تعد التجارية نظرية عن المجتمع تنطلق، لأول مرة، من أساس اقتصادي، لأن هدف الحياة الاجتماعية في نظر التجارية، هو هدف اقتصادي. على اختلاف مؤرخي الفكر الاقتصادي حول تحديد إطار المذهب التجاري، فإن المنطلقات العامة للتجارية تتضمن الجوانب الآتية:
آ ـ مفهوم الثروة: من المتفق عليه أن التجاريين كانوا يعلقون أهمية كبرى على الثروة، ويعدون وفرتها أساس قوة الدولة ومحرك نشاط الفرد. كما كانوا يؤكدون أن سعي الفرد وراء الثروة من شأنه أن يحقق له السعادة من جهة أولى، كما يساعد في اغتناء الآخرين وضمان قوة الدولة من جهة ثانية. ويقصد التجاريون بالثروة المعادن الثمينة من الذهب والفضة.
ب ـ إرادة القوة وخدمة الأمير والدولة: كانت التجارية في كل دول أوربة تعبر عن إرادة مزدوجة في القوة؛ البحث عن التوسع من جهة والثروة من جهة ثانية، لأن ظهور التجارية ترافق مع نشوء الفكر القومي وبروز فكرة تحقيق الاكتفاء الذاتي القومي Autarcie، ولم تكن هناك أيّ إمكانية لتحقيق ذلك من دون توافر جيش وأسطول قويين. ولتحقيق ذلك يجب زيادة حصيلة الدولة من الضرائب التي يمكن توفيرها عن طريق التقدم التجاري وتشجيع دخول الثروة إلى داخل البلاد .
ج ـ تنمية الثروة: أجمع أنصار التجارية على أنّ الثروة هي القيمة العليا في المجتمع كما أجمعوا على أنها تكمن في توافر المعادن الثمينة كالذهب والفضة، ولهذا ركزوا اهتمامهم على ضرورة تنمية الثروة التي يرون إمكانية تحقيقها على أساس حسن سير العمل في المؤسسات التجارية والصناعية والزراعية. أما المؤسسات التجارية فتزيد الثروة عن طريق زيادة التصدير على الاستيراد مما يقود إلى دخول الثروة إلى البلاد. أما المؤسسات الصناعية والزراعية فتسهم في زيادة الثروة بقدر ما تستطيع زيادة إنتاجها لتقليص الواردات من جهة وزيادة الصادرات من جهة أخرى، أي لتحقيق ميزان تجاري رابح.
د ـ الحماية الجمركية وتحقيق ميزان تجاري رابح: يمكن، حسب مذهب التجارية، زيادة الثروة بأحد طريقين: استثمار مناجم الذهب والفضة إذا كانت متوافرة في الدولة ومنع خروج هذين المعدنين من البلاد أو تنشيط التجارة الخارجية والتصدير من السلع والخدمات بقيمة تزيد على القيم التي يشتريها البلد من الخارج، أي تحقيق ميزان تجاري رابح يحقق فائضاً يتم تسديده بالمعادن الثمينة، واقترح أنصار التجارية اتخاذ تدابير متعددة لتحقيق هذا الهدف منها: تشجيع الصادرات من المواد المصنعة ومنع استيراد السلع المنافسة للسلع الوطنية، وبناء شركات الملاحة وامتلاك أساطيل بحرية ضخمة للنقل، وتوفير مواد أولية بأسعار منافسة عن طريق إقامة مستعمرات أو مستوطنات خارج البلاد Colonies وهكذا ترى التجارية ضرورة اتباع سياسة الحماية الجمركية ولاسيما تطبيق سياسة منع الاستيراد لتوفير ميزان تجاري رابح يشكل فائضه مصدراً للثروة.
هـ ـ زيادة السكان: يرى أنصار التجارية ضرورة زيادة السكان في البلد، لأن هذه الزيادة تسهل الحصول على يد عاملة رخيصة، وتشجع تنمية الصناعة وتجارة التصدير، من ثمّ زيادة الأرباح والثروة. وفي الوقت نفسه فإنهم يرون أن نمو التجارة والصناعة يسمح بتشغيل عدد أكبر من الناس، مما يؤدي إلى تشجيع زيادة السكان ويقود إلى تقوية الدولة. وهكذا فزيادة السكان وتنمية الثروة عاملان يرتبط أحدهما بالآخر وهما مرتبطان ببناء قوة الدولة.
السياسات الاقتصادية للتجارية
على الرغم من وجود منطلقات عامة للتجارية في كل بلدان أوربة فإن السياسات التي نادى أنصار التجارية بتطبيقها كانت تختلف من بلد لآخر تبعاً للأوضاع الاقتصادية لكل من هذه البلدان. من هنا يتأكد القول بأن التجارية لم تكن مجرد نظرية أو مذهب اقتصادي بل كانت مجموعة سياسات وإجراءات اقتصادية اعتمدت لبلوغ هدف التجارية الرئيس المزدوج زيادة الثروة وبناء قوة الدولة. ويمكن التمييز بوضوح بين أربعة تيارات في الفكر التجاري يتمثل كل منها في سياسة اقتصادية محددة تتلاءم مع الظروف التي كانت غالبة آنذاك، وهذه التيارات أو المذاهب هي الآتية:
آ ـ المذهب التجاري المعدني في إسبانية: Bullionisme يقوم هذا المذهب على أن ثروة الدولة تتمثل في مقدار النقود المسكوكة من الذهب أو الفضة التي تمتلكها. لما كانت إسبانية تمتلك مناجم الذهب في العالم الجديد (البيرو والمكسيك) تركز اهتمام التجارية على جلب أكبر كمية ممكنة من الذهب والفضة من ممتلكات إسبانية فيما وراء البحار والعمل للمحافظة عليها ومنع تسربها خارج البلاد. ولمنع تسرب المعادن طالب أنصار التجارية في إسبانية بمنع خروج النقود المسكوكة والسبائك، كما دعوا إلى الحد من الاستيراد عن طريق فرض الحماية الجمركية. وسنّت السلطات الإسبانية القوانين التي ألزمت البواخر التي تحمل البضائع المصدرة تسليم الدولة قيمتها بالذهب والفضة، كما منعت التجار الأجانب الذين يبيعون سلعهم داخل إسبانية من إخراج الذهب والفضة وألزمتهم شراء سلع إسبانية مقابلها.
ب ـ المذهب التجاري الصناعي في فرنسة: Industrialisme لم يكن لفرنسة مناجم للذهب والفضة كما كان لإسبانية، ولذلك كانت مسألة الحصول على المعادن الثمينة أي الثروة بمفهوم التجاريين الشغل الشاغل للاقتصاديين ورجال الدولة. غير أن التجاريين في فرنسة نظروا إلى المعادن الثمينة بوصفها ثروة كفيلة بتوفير السلع والحاجات اللازمة للمعيشة، ولذلك تركز الاهتمام على التدابير اللازمة لتوفير أكبر قدر ممكن من الثروة.
اقترن المذهب التجاري في فرنسة باسم كولبير Colbert وزير المالية، الذي كان يعتقد بأن وفرة المعادن الثمينة في الدولة دليل على قدرتها وقوتها وبأن زيادة كمية المعادن الثمينة في دولة معينة غير ممكنة إلا على حساب الدول الأخرى. إذ إنّ كمية المعادن الثمينة محدودة تدور في أوربة، ولذا لا يمكن زيادة النقود في فرنسة إلا بأخذ الكمية نفسها من دول مجاورة. ولذلك تركزت جهود التجارية بزعامة كولبير على مجموعتين من التدابير:
1ـ وضع قواعد لتنظيم الإنتاج تضمن تحسينه وتزيد قدرته على المنافسة.
2ـ وضع قواعد الحماية الجمركية إزاء السلع الأجنبية.
وعلى الرغم من تأكيد الاقتصاديين الفرنسيين من أنصار التجارية: جان بودان Jean Bodin وأنطوان دي مونكرتيان A.De Monchretien، على أهمية الزراعة في الاقتصاد الفرنسي أثرها في زيادة الثروة القومية فقد كان كولبير يركز كل الاهتمام على دعم الصناعة وتحسين جودة الإنتاج الصناعي وتوفير كل الشروط المواتية لتقوية الصناعة الفرنسية. ومن أجل ذلك اتخذت الإجراءات والتدابير التالية:
1ـ إقامة مصانع ملكية لضمان زيادة الإنتاج وتحسينه.
2ـ منح المساعدات والإعفاءات الضريبية للمصانع القائمة.
3ـ فرض أسعار متدنية على المواد الغذائية للإبقاء على الأجور منخفضة، وتوفير يد عاملة رخيصة وفرض أسعار متدنية على المواد الأولية ومنع تصديرها لتوفيرها للصناعة بتكلفة متدنية.
4ـ فرض الحماية الجمركية لمصلحة الإنتاج الوطني وإعفاء المواد الأولية اللازمة للصناعة الوطنية.
5ـ إقامة المنشآت البحرية وتوسيع الأسطول وفرض رسوم إضافية على السفن الأجنبية بنسبة حمولتها عند رسوها في الموانئ الفرنسية .
6ـ تأسيس شركات تجارية كبيرة لتصريف المنتجات الصناعية في الخارج.
كان كولبير، وهو الممثل الرسمي للتجارية الصناعية في فرنسة، يهدف من كل هذه الإجراءات والتدابير إلى ضمان ورود الذهب والفضة عن طريق زيادة الصادرات وتقليص الواردات، ولكن الصادرات من المواد المصنوعة وليس من المحاصيل الزراعية. فالصناعة في رأيه هي المرتكز الأساسي لزيادة الصادرات، أما دور الزراعة فيقتصر على إنتاج المواد الغذائية للسكان وتوفير المواد الأولية لتوسيع الصناعة. وبكلام آخر فإن الهدف هو تنشيط التجارة الخارجية وتشجيع الصادرات من أجل ذلك يجب تنشيط الإنتاج الصناعي الذي يقتضي تسخير الزراعة لهذا الغرض (تخفيض أسعار المواد الغذائية، ومنع تصدير المواد الأولية، وإعفاء المستورد منها من الرسوم لضمان بيعها بأسعار رخيصة).
ج ـ مذهب التجارية التجاري في بريطانية: Commercialisme تأخّر الازدهار الاقتصادي في إنكلترة قياساً بالأقطار الأوربية الأخرى حتى بداية القرن السابع عشر، ولكن ما إن بدأ حتى أخذ يتسارع بمعدلات عالية وعلى الأخص بدءاً من النصف الثاني للقرن السابع عشر. ويرجع ذلك، بصورة أساسية، إلى التجارة الخارجية. تركز اهتمام أنصار المذهب التجاري في إنكلترة على التجارة الخارجية وتنشيطها واتخذ المذهب ثلاثة اتجاهات: حماية النقد ومخزون المعادن الثمينة، وحماية الإنتاج، وتشجيع البحرية الإنكليزية والتجارة. ولكن كان التركيز شديداً على الاتجاه الأخير منها.
ومع أن تصدير المعادن الثمينة من إنكلترة كان ممنوعاً في أكثر الأحيان فإن الاقتصاديين الإنكليز تنبهوا إلى الطابع السلبي لهذه التدابير وبينوا أن خروج المعادن الثمينة مرتبط في النهاية بتقدم النشاط الاقتصادي للمملكة مع العالم الخارجي ورصد معاملاتها مع هذا العالم، ولذا نادوا بحرية إخراج المعادن الثمينة لشراء سلع يُعاد بيعها إلى الدول الأخرى (تجارة الترانزيت) بغية الحصول على كمية أكبر من المعدن المدفوع لشرائها فيكون الرصيد موجباً لصالح إدخال المعادن الثمينة إلى المملكة. فقد كان توماس مون Thomas Mun صاحب أول محاولة لصوغ نظرية الميزان التجاري، يقول: «إنّ الطريقة العادية لزيادة ثروتنا تتمثل في التجارة الخارجية. إذ يجب أن نراعي دائماً القاعدة التالية: وهي أن نبيع للأجانب سنوياً أكثر مما نشتريه منهم في القيمة»، وكان يأخذ بالحسبان التجارة غير المنظورة أيضاً.
عملت بريطانية على تشجيع التجارة الخارجية فسنّت القوانين لحمايتها وتشجيعها ولاسيما قوانين الملاحة الإنكليزية التي أوجبت نقل السلع المستوردة حصراً على السفن الإنكليزية وكذلك السلع المصدرة أو المستوردة بين إنكلترة ومستعمراتها. كما صدرت قوانين الحماية الجمركية التي فرضت رسوماً جمركية عالية على السلع الاستهلاكية المستوردة وخفضتها على السلع المخصصة لإعادة التصدير (تجارة الترانزيت).
د ـ المذهب التجاري المالي أو مذهب الخزانة: Cameralisme اتخذ المذهب التجاري في كل من ألمانية والنمسة صيغة خاصة وهي صيغة مالية الدولة أو الإدارة العامة. وقد أُطلقت على هذه الصيغة اسم علم الخزانة أو مذهب الخزانة. ويتمثل هذا المذهب في أفكار فون يوستي Von Justi التي أوردها في كتابه «اقتصاد الدولة». وينطلق هذا المذهب من مبدأ أساسي وهو ضرورة قيام الدولة بكل الأعمال الاقتصادية التي تكفل نمو الثروة.
كان أنصار التجارية في ألمانية والنمسة يقولون بناء إدارات الدولة انطلاقاً من المذاهب التجارية التي كانت غالبة آنذاك في باقي أقطار أوربة (السعي للحصول على المعادن الثمينة، ودعم الصناعة الوطنية وتقييد التجارة الخارجية وفرض الحماية الجمركية... إلخ) بقصد تحقيق اغتناء الدولة ودعم خزانتها وزيادة قوتها.
الأهمية التاريخية للتجارية
ترافق ظهور التجارية مع بداية نشوء الدول القومية في أوربة. فقد كانت نشأة الدولة القومية في حاجة كبرى إلى ظهور علم عن المجتمع يركز على أهمية السلطة المركزية بمواجهة التيارات الإقطاعية الانفصالية من جهة، ولتحقيق الذات القومية بمواجهة الأمم الأخرى من جهة ثانية. ولا تستطيع السلطة المركزية تحقيق هذه المهمة إذا لم تتوافر لها القوة العسكرية التي يحتاج بناؤها إلى تعبئة موارد مالية كبيرة. من هنا كان اهتمام التجاريين بإقامة اقتصاد وطني قومي يغني عن الاستيراد ويزيد من التصدير بما يضمن دخول مزيد من النقود (المعادن الثمينة) إلى البلاد ومنع خروجها منها لتوفير تمويل بناء قوة الدولة. قام المذهب التجاري، بمختلف الصيغ التي اتخذها، بدور إيجابي في وضع قواعد حكيمة لإدارة الشؤون الاقتصادية للدولة القومية الناشئة. وكانت التجارية بداية وضع علم عن المجتمع أسهم في نشأة التفكير العلمي في العلاقة السببية بين الظواهر الاجتماعية. وكان لهذا المذهب تأثيره الكبير في الفكر الاقتصادي من جهة وعلى التطور الاقتصادي من جهة ثانية:
آ ـ التأثير في الفكر الاقتصادي: نبّه التجاريون سواء عن طريق كتاباتهم النظرية، أم عن طريق التدابير الاقتصادية العلمية التي اتخذوها، على عدد من المنطلقات الاقتصادية التي شكلت مبادئ النظرية الاقتصادية فيما بعد. فقد كان لدعوتهم إلى تحقيق ميزان تجاري رابح أثر كبير في تعميق الدراسات حول التجارة الخارجية وقيام نظرية تكاليف الإنتاج المقارنة، ونظرية التخصص حسب عوامل الإنتاج، ونظرية التوازن الآلي في الموازين التجارية وموازين المدفوعات. كما كان لاهتمامهم الشديد بدخول النقود المسكوكة من المعادن الثمينة وما قاد إليه ذلك من تقلبات كبيرة في الأسعار، الدور الأول في وضع نظريات النقود (النظرية المعدنية والنظرية الكمية في النقد)[ر: النقود]، بالإضافة إلى دراسة آلية تشكُّل الأسعار. أضف إلى ذلك أن اهتمام التجاريين بتحقيق فائض في الميزان التجاري قادهم، ومن بعدهم، إلى الاهتمام بوضع استراتيجية لتنمية القطاعات الرائدة في الاقتصاد لتحقيق فائض اقتصادي يضمن قوة الدولة (استخراج المعادن الثمينة في إسبانية، ودعم الصناعة الوطنية في فرنسة، وتنشيط النقل البحري وتجارة إعادة التصدير في بريطانية وغير ذلك) وكذلك تسخير باقي القطاعات في الاقتصاد الوطني للقطاعات الرائدة لتتمكن من تحقيق أهدافها (بداية وضع نظريات استراتيجية التنمية). وحثَّ التجاريون على السعي لتخفيض أسعار الفائدة من أجل تشجيع الاستثمارات بالإضافة إلى تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية فكانوا وراء ظهور مذهب التدخلية[ر].
ب ـ التأثير في التطور الاقتصادي: كان للسياسات الاقتصادية التي اتبعها التجاريون في مختلف الأقطار الأوربية أثرها الواضح في تسريع عملية النمو الاقتصادي في تلك الأقطار، وليس من قبيل المصادفة أن تتزامن بداية النهضة الاقتصادية مع تولي رجالات الدولة من التجاريين المهام الحكومية وذلك في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فقد تحقّق في ظلّ التجاريين الازدهار الاقتصادي لمعظم أقطار أوربة حتى تلك البلدان التي عُدّت فيها السياسة التجارية فاشلة. فقد كانت إجراءات التجاريين، على وجه الخصوص، مصدر التراكم الرأسمالي الأولي في إنكلترة ونقطة الانطلاق إلى الثورة الصناعية. كما كان سعيهم لتنمية الصادرات سبباً رئيسياً في تطوير الصناعة فأقروا إلزامية العمل من أجل توفير يد عاملة رخيصة للصناعة كما منحوا الصناعات امتيازات الانحصار والمساعدات المالية مما شجع على ظهور فئة المنظمين Entrepreneurs الذين كان لهم أثرهم في تحقيق التنمية الاقتصادية، بالإضافة إلى أن دعمهم لسلطة الملك المركزية وإقامة الدولة القومية دفع إلى اندحار النظام الإقطاعي الذي كان عامل عرقلة للنمو الاقتصادي ومهّد لظهور طبقة اجتماعية جديدة (البورجوازية ورجال الأعمال) تتفق مصلحتها الطبقية مع التقدم الاقتصادي والاجتماعي بمواجهة الإقطاعيين الذين كانت مصلحتهم الطبقية في الإبقاء على التنظيم المجتمعي المعرقل للنمو.
انبعاث التجارية
ركَّز أنصار المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية (نظرية الحرية الاقتصادية) هجومهم الشديد على التجارية، وكانوا منذ القرن الثامن عشر يهاجمون تقييد التجارة الخارجية ونظام الحماية الذي كان متبعاً في كل الأقطار الأوربية بتأثير التجارية. وقد حمّل الليبراليون التجارية مسؤولية الوقوف حجر عثرة في طريق توسع التجارة الدولية وكذلك عرقلة تحقيق التوازن الاقتصادي. وشهد القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين انتصار نظرية الحرية الاقتصادية وتراجع التجارية. غير أن هذا الانتصار لم يستمر لأن الحرية الاقتصادية التي نادى بها اقتصاديو المدرسة التقليدية كانت ضرورية لخدمة الاقتصادات المتقدمة على حساب الاقتصادات الأقل تطوراً، ولذلك ليس مصادفة أن تنطلق هذه النظرية من بريطانية التي شهدت بدايات الثورة الصناعية والتوسع الاقتصادي، إذ صار الاقتصاد الإنكليزي في حاجة إلى توسيع مجاله الحيوي سواء عن طريق غزو المستعمرات أم فتح الأسواق الأوربية في وجه الصناعة الإنكليزية المتفوقة. غير أنّ الحرية الاقتصادية لم تستطع تحقيق الآمال التي بنيت عليها في أوربة إذ سرعان ما انتشر التقدم الاقتصادي في باقي الأقطار الأوربية وبدأ الصراع على الأسواق بين هذه الدول، ولمّا اكتمل استعمار الكرة الأرضية بدأ الصِّراع بين الدول الأوربية على إعادة اقتسام المستعمرات وقامت الحروب لتحقيق ذلك، ومع هذا شهدت أوربة والعالم المتقدم أزمات اقتصادية عاصفة أدت إلى إلحاق الكوارث بالمنتجين والمستهلكين على السواء، مما قاد إلى إعادة النظر في مبدأ الحرية الاقتصادية. فتم التراجع عن النظريات الليبرالية في التجارة الدولية وتأكد للاقتصاديين عجز الحرية الاقتصادية عن تحقيق التوازن الآلي في موازين المدفوعات كما أثبت جون ماينرد كينز عجز آلية السوق عن تحقيق التوازن الاقتصادي الأمثل أي تحقيق التوازن بشروط الاستفادة المثلى من كل عوامل الإنتاج المتاحة. وأثبت التاريخ الاقتصادي المعاصر عدم صلاحية مبدأ الحرية الاقتصادية في العلاقات الدولية لخدمة النمو الاقتصادي ولاسيما في الدول الأقل تطوراً. لهذا عادت معظم الدول الصناعية المتقدمة إلى التدخل في الحياة الاقتصادية عن طريق الحماية الجمركية أو تقليص كمية المستوردات بتطبيق نظام الحصص أو حتى منع الاستيراد من اجل معالجة العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات. كما أن منظرّي التنمية الاقتصادية في بلدان العالم الثالث يؤكدون ضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات الحماية الجمركية لحماية الصناعات الناشئة في هذه الدول. وفي الوقت الراهن يلاحظ نزوع الدول الرأسمالية المتقدمة إلى فرض قيود كبيرة على الاستيراد بالإضافة إلى دعم الصادرات والتدخل في أسواق أسعار الصرف. فالولايات المتحدة الأمريكية تفرض قيوداً كبيرة على الاستيراد من اليابان ومن أوربة، في حين تطالب دول أخرى بحرية التبادل التجاري مما يؤكد أن مواقف الدول تنبع من مصالحها الوطنية وليس من مواقف مبدئية نظرية. منذ الأزمة الاقتصادية الكبرى (1929-1933) استعاد المذهب التجاري أهميته على أيدي المدرسة الكينزية إذ قوَّم كينز عالياً موقف التجاريين في إطاره التاريخي ولاسيما فيما يتعلق بتراكم النقود الذي يؤدي إلى تخفيض معدلات الفائدة والتالي تشجيع الاستثمار.
مطانيوس حبيب
Mercantilism - Mercantilisme
التجارية (الماركنتلية ـ)
التجارية Mercantilisme تسمية تعود إلى القرن الثامن عشر، أطلقها الاقتصاديون الليبراليون «أنصار الحرية الاقتصادية»، وعلى رأسهم الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث[ر] Adam Smith، مؤسس النظرية الاقتصادية التقليدية (الكلاسيكية)، على مجموعة الآراء والإجراءات الاقتصادية التي طبقها أنصار الدولة القومية Etat national في معظم البلدان الأوربية، في المدة بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، بهدف توفير فائض في الميزان التجاري للدولة، وهذا الفائض هو الوسيلة الوحيدة في نظرهم لجذب المعادن الثمينة اللازمة لتقدم الأمة وتقوية الدولة ولا سيما الدولة المحرومة من مناجم الذهب والفضة.
ولم تكن هذه التسمية التي أطلقها مؤسسو المدرسة التقليدية وعلماء الاجتماع المعاصرون لهم بعيدة عن محاولة تشويه الأفكار التي جاء بها أنصار المذهب التجاري الذين تُطلق عليهم أيضاً تسمية «التجاريين» لأن أنصار هذا المذهب «التجاري» كانوا يرون ضرورة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية وفرض الحماية الجمركية من أجل تشجيع الصادرات وتخفيض الواردات، ذلك أنّ مجمل أفكارهم والإجراءات التي اتخذوها كانت تتعارض مع نظرة الاقتصاديين أنصار الحرية الاقتصادية، ومن ثمَّ كان هجوم هؤلاء عنيفاً على أنصار المذهب التجاري، فجرَّحوه وأطلقوا عليه تسمية توحي بأن اهتماماته مقصورة على الجانب التجاري وانه يعبر عن مصالح التجار فقط. في حين أن المذهب التجاري يمثِّل، في الحقيقة، تنظيماً شاملاً للصناعة والزراعة والتجارة يهدف إلى تنشيط الاقتصاد الوطني وضمان قوة الدولة اقتصادياً وعسكرياً، وهذا ما تسعى إليه الدول في الوقت الحاضر. ويمكن تعريف التجارية أو المذهب التجاري بأنه مجموعة السياسات والتدابير الاقتصادية التي كان يدعو إليها بعض الاقتصاديين، وطبّقها رجالات الدولة والمسؤولون في معظم البلدان الأوربية في مختلف مجالات الاقتصاد الوطني:الصناعة والزراعة ولاسيما في مجال تنظيم التجارة الخارجية والنقل البحري بهدف تحقيق ميزان تجاري رابح ومنع خروج المعادن الثمينة من البلاد، ومحاولة تجميع أكبر كمية ممكنة من الذهب والفضة داخل حدود الدولة، بوصفهما يمثلان الثروة التي يجب أن يكون الحصول عليها هدفاً أعلى للدولة.
المنظور التاريخي
اتصفت أواخر القرون الوسطى وبداية العصر الحديث بنظرة جديدة نحو الإنسان والمجتمع، هذه النظرة تُعطي للدولة القومية قيمة شبه مقدسة من جهة، وتطري الغنى والثروة، خلافاً لمذهب الكنيسة، من جهة ثانية. وقد عرفت هذه المرحلة زوال سلطة الأمراء الإقطاعيين وهيمنة الكنيسة على الحياة الاجتماعية لتحل محلهما سلطة الملك المركزية وبروز كيان الدولة القومية، وبسبب اكتشاف العالم الجديد وتطور وسائط النقل البحري من جهة، وانهيار السلطة الإقطاعية وعدم ظهور الرأسمالية الصناعية بعد، من جهة ثانية، تمكّن التجار من توسيع نشاطهم باستيراد المواد الأولية من الأمريكيتين وتصدير السلع المصنعة إليهما وإلى بقية أنحاء العالم. وقد استطاع التجار، بدعم من الملوك الذين كانوا يطمحون إلى تقوية سلطتهم المركزية إزاء بقايا الإقطاع، التغلب على صعوبات التصنيع التي كان يفرضها عليهم نظام الطوائف Castes الإقطاعي الذي يقيد الصناعة. فتمكن التجار من إخراج الصناع الصبيان Apprentis خارج نطاق الأقاليم الخاضعة لتنظيم الطوائف وتزويدهم بما يحتاجون إليه من مواد لصناعة السلع المطلوبة في السوق ومن ثم أقيمت المصانع اليدوية (المانيفاكتورة) Manifactures الخاضعة لإشراف التجار أنفسهم والتي كانت الأساس الاقتصادي لظهور الرأسمالية الصناعية فيما بعد. في هذه الظروف برز مفكرون ورجال أعمال وكذلك رجال دولة رسميون يهدفون إلى دعم سلطة الملك إزاء الإقطاع وإنشاء الدولة المركزية على حساب الإقطاعيات المشتتة، فسنوا القوانين واللوائح ووضعوا التنظيمات لإقامة المصانع وفرض الحماية الجمركية وإفساح المجال أمام منع تصدير المنتجات الزراعية بهدف توفير غذاء رخيص وأيد عاملة رخيصة. كل هذه الإجراءات والتدابير استندت إلى مذهب اقتصادي سُمي فيما بعد بالتجارية، أو المذهب التجاري، ولقد كان لهذه السياسات والإجراءات والتدابير أهميتها في إقامة الاقتصادات القومية التي قامت بدور مهم في تحقيق النمو الاقتصادي وقيام المجتمعات القومية المتماسكة.
منطلقات التجارية
خلافاً لرأي مكيافلّيMachiavel الذي كان يقول بوجوب اغتناء الدولة وبقاء المواطنين فقراء فإن التجاريين طوروا مقولة جديدة مؤداها أن الدولة تزداد قوة بقدر ما تساعد مواطنيها على الاغتناء ولاسيما فئة التجار. كما بدل التجاريون الموقف الذي يرى في قوة الدولة الغاية الأسمى للحياة الإنسانية، وعدّوا الثروة القيمة العليا. وبذلك يمكن أن تعد التجارية نظرية عن المجتمع تنطلق، لأول مرة، من أساس اقتصادي، لأن هدف الحياة الاجتماعية في نظر التجارية، هو هدف اقتصادي. على اختلاف مؤرخي الفكر الاقتصادي حول تحديد إطار المذهب التجاري، فإن المنطلقات العامة للتجارية تتضمن الجوانب الآتية:
آ ـ مفهوم الثروة: من المتفق عليه أن التجاريين كانوا يعلقون أهمية كبرى على الثروة، ويعدون وفرتها أساس قوة الدولة ومحرك نشاط الفرد. كما كانوا يؤكدون أن سعي الفرد وراء الثروة من شأنه أن يحقق له السعادة من جهة أولى، كما يساعد في اغتناء الآخرين وضمان قوة الدولة من جهة ثانية. ويقصد التجاريون بالثروة المعادن الثمينة من الذهب والفضة.
ب ـ إرادة القوة وخدمة الأمير والدولة: كانت التجارية في كل دول أوربة تعبر عن إرادة مزدوجة في القوة؛ البحث عن التوسع من جهة والثروة من جهة ثانية، لأن ظهور التجارية ترافق مع نشوء الفكر القومي وبروز فكرة تحقيق الاكتفاء الذاتي القومي Autarcie، ولم تكن هناك أيّ إمكانية لتحقيق ذلك من دون توافر جيش وأسطول قويين. ولتحقيق ذلك يجب زيادة حصيلة الدولة من الضرائب التي يمكن توفيرها عن طريق التقدم التجاري وتشجيع دخول الثروة إلى داخل البلاد .
ج ـ تنمية الثروة: أجمع أنصار التجارية على أنّ الثروة هي القيمة العليا في المجتمع كما أجمعوا على أنها تكمن في توافر المعادن الثمينة كالذهب والفضة، ولهذا ركزوا اهتمامهم على ضرورة تنمية الثروة التي يرون إمكانية تحقيقها على أساس حسن سير العمل في المؤسسات التجارية والصناعية والزراعية. أما المؤسسات التجارية فتزيد الثروة عن طريق زيادة التصدير على الاستيراد مما يقود إلى دخول الثروة إلى البلاد. أما المؤسسات الصناعية والزراعية فتسهم في زيادة الثروة بقدر ما تستطيع زيادة إنتاجها لتقليص الواردات من جهة وزيادة الصادرات من جهة أخرى، أي لتحقيق ميزان تجاري رابح.
د ـ الحماية الجمركية وتحقيق ميزان تجاري رابح: يمكن، حسب مذهب التجارية، زيادة الثروة بأحد طريقين: استثمار مناجم الذهب والفضة إذا كانت متوافرة في الدولة ومنع خروج هذين المعدنين من البلاد أو تنشيط التجارة الخارجية والتصدير من السلع والخدمات بقيمة تزيد على القيم التي يشتريها البلد من الخارج، أي تحقيق ميزان تجاري رابح يحقق فائضاً يتم تسديده بالمعادن الثمينة، واقترح أنصار التجارية اتخاذ تدابير متعددة لتحقيق هذا الهدف منها: تشجيع الصادرات من المواد المصنعة ومنع استيراد السلع المنافسة للسلع الوطنية، وبناء شركات الملاحة وامتلاك أساطيل بحرية ضخمة للنقل، وتوفير مواد أولية بأسعار منافسة عن طريق إقامة مستعمرات أو مستوطنات خارج البلاد Colonies وهكذا ترى التجارية ضرورة اتباع سياسة الحماية الجمركية ولاسيما تطبيق سياسة منع الاستيراد لتوفير ميزان تجاري رابح يشكل فائضه مصدراً للثروة.
هـ ـ زيادة السكان: يرى أنصار التجارية ضرورة زيادة السكان في البلد، لأن هذه الزيادة تسهل الحصول على يد عاملة رخيصة، وتشجع تنمية الصناعة وتجارة التصدير، من ثمّ زيادة الأرباح والثروة. وفي الوقت نفسه فإنهم يرون أن نمو التجارة والصناعة يسمح بتشغيل عدد أكبر من الناس، مما يؤدي إلى تشجيع زيادة السكان ويقود إلى تقوية الدولة. وهكذا فزيادة السكان وتنمية الثروة عاملان يرتبط أحدهما بالآخر وهما مرتبطان ببناء قوة الدولة.
السياسات الاقتصادية للتجارية
على الرغم من وجود منطلقات عامة للتجارية في كل بلدان أوربة فإن السياسات التي نادى أنصار التجارية بتطبيقها كانت تختلف من بلد لآخر تبعاً للأوضاع الاقتصادية لكل من هذه البلدان. من هنا يتأكد القول بأن التجارية لم تكن مجرد نظرية أو مذهب اقتصادي بل كانت مجموعة سياسات وإجراءات اقتصادية اعتمدت لبلوغ هدف التجارية الرئيس المزدوج زيادة الثروة وبناء قوة الدولة. ويمكن التمييز بوضوح بين أربعة تيارات في الفكر التجاري يتمثل كل منها في سياسة اقتصادية محددة تتلاءم مع الظروف التي كانت غالبة آنذاك، وهذه التيارات أو المذاهب هي الآتية:
آ ـ المذهب التجاري المعدني في إسبانية: Bullionisme يقوم هذا المذهب على أن ثروة الدولة تتمثل في مقدار النقود المسكوكة من الذهب أو الفضة التي تمتلكها. لما كانت إسبانية تمتلك مناجم الذهب في العالم الجديد (البيرو والمكسيك) تركز اهتمام التجارية على جلب أكبر كمية ممكنة من الذهب والفضة من ممتلكات إسبانية فيما وراء البحار والعمل للمحافظة عليها ومنع تسربها خارج البلاد. ولمنع تسرب المعادن طالب أنصار التجارية في إسبانية بمنع خروج النقود المسكوكة والسبائك، كما دعوا إلى الحد من الاستيراد عن طريق فرض الحماية الجمركية. وسنّت السلطات الإسبانية القوانين التي ألزمت البواخر التي تحمل البضائع المصدرة تسليم الدولة قيمتها بالذهب والفضة، كما منعت التجار الأجانب الذين يبيعون سلعهم داخل إسبانية من إخراج الذهب والفضة وألزمتهم شراء سلع إسبانية مقابلها.
ب ـ المذهب التجاري الصناعي في فرنسة: Industrialisme لم يكن لفرنسة مناجم للذهب والفضة كما كان لإسبانية، ولذلك كانت مسألة الحصول على المعادن الثمينة أي الثروة بمفهوم التجاريين الشغل الشاغل للاقتصاديين ورجال الدولة. غير أن التجاريين في فرنسة نظروا إلى المعادن الثمينة بوصفها ثروة كفيلة بتوفير السلع والحاجات اللازمة للمعيشة، ولذلك تركز الاهتمام على التدابير اللازمة لتوفير أكبر قدر ممكن من الثروة.
اقترن المذهب التجاري في فرنسة باسم كولبير Colbert وزير المالية، الذي كان يعتقد بأن وفرة المعادن الثمينة في الدولة دليل على قدرتها وقوتها وبأن زيادة كمية المعادن الثمينة في دولة معينة غير ممكنة إلا على حساب الدول الأخرى. إذ إنّ كمية المعادن الثمينة محدودة تدور في أوربة، ولذا لا يمكن زيادة النقود في فرنسة إلا بأخذ الكمية نفسها من دول مجاورة. ولذلك تركزت جهود التجارية بزعامة كولبير على مجموعتين من التدابير:
1ـ وضع قواعد لتنظيم الإنتاج تضمن تحسينه وتزيد قدرته على المنافسة.
2ـ وضع قواعد الحماية الجمركية إزاء السلع الأجنبية.
وعلى الرغم من تأكيد الاقتصاديين الفرنسيين من أنصار التجارية: جان بودان Jean Bodin وأنطوان دي مونكرتيان A.De Monchretien، على أهمية الزراعة في الاقتصاد الفرنسي أثرها في زيادة الثروة القومية فقد كان كولبير يركز كل الاهتمام على دعم الصناعة وتحسين جودة الإنتاج الصناعي وتوفير كل الشروط المواتية لتقوية الصناعة الفرنسية. ومن أجل ذلك اتخذت الإجراءات والتدابير التالية:
1ـ إقامة مصانع ملكية لضمان زيادة الإنتاج وتحسينه.
2ـ منح المساعدات والإعفاءات الضريبية للمصانع القائمة.
3ـ فرض أسعار متدنية على المواد الغذائية للإبقاء على الأجور منخفضة، وتوفير يد عاملة رخيصة وفرض أسعار متدنية على المواد الأولية ومنع تصديرها لتوفيرها للصناعة بتكلفة متدنية.
4ـ فرض الحماية الجمركية لمصلحة الإنتاج الوطني وإعفاء المواد الأولية اللازمة للصناعة الوطنية.
5ـ إقامة المنشآت البحرية وتوسيع الأسطول وفرض رسوم إضافية على السفن الأجنبية بنسبة حمولتها عند رسوها في الموانئ الفرنسية .
6ـ تأسيس شركات تجارية كبيرة لتصريف المنتجات الصناعية في الخارج.
كان كولبير، وهو الممثل الرسمي للتجارية الصناعية في فرنسة، يهدف من كل هذه الإجراءات والتدابير إلى ضمان ورود الذهب والفضة عن طريق زيادة الصادرات وتقليص الواردات، ولكن الصادرات من المواد المصنوعة وليس من المحاصيل الزراعية. فالصناعة في رأيه هي المرتكز الأساسي لزيادة الصادرات، أما دور الزراعة فيقتصر على إنتاج المواد الغذائية للسكان وتوفير المواد الأولية لتوسيع الصناعة. وبكلام آخر فإن الهدف هو تنشيط التجارة الخارجية وتشجيع الصادرات من أجل ذلك يجب تنشيط الإنتاج الصناعي الذي يقتضي تسخير الزراعة لهذا الغرض (تخفيض أسعار المواد الغذائية، ومنع تصدير المواد الأولية، وإعفاء المستورد منها من الرسوم لضمان بيعها بأسعار رخيصة).
ج ـ مذهب التجارية التجاري في بريطانية: Commercialisme تأخّر الازدهار الاقتصادي في إنكلترة قياساً بالأقطار الأوربية الأخرى حتى بداية القرن السابع عشر، ولكن ما إن بدأ حتى أخذ يتسارع بمعدلات عالية وعلى الأخص بدءاً من النصف الثاني للقرن السابع عشر. ويرجع ذلك، بصورة أساسية، إلى التجارة الخارجية. تركز اهتمام أنصار المذهب التجاري في إنكلترة على التجارة الخارجية وتنشيطها واتخذ المذهب ثلاثة اتجاهات: حماية النقد ومخزون المعادن الثمينة، وحماية الإنتاج، وتشجيع البحرية الإنكليزية والتجارة. ولكن كان التركيز شديداً على الاتجاه الأخير منها.
ومع أن تصدير المعادن الثمينة من إنكلترة كان ممنوعاً في أكثر الأحيان فإن الاقتصاديين الإنكليز تنبهوا إلى الطابع السلبي لهذه التدابير وبينوا أن خروج المعادن الثمينة مرتبط في النهاية بتقدم النشاط الاقتصادي للمملكة مع العالم الخارجي ورصد معاملاتها مع هذا العالم، ولذا نادوا بحرية إخراج المعادن الثمينة لشراء سلع يُعاد بيعها إلى الدول الأخرى (تجارة الترانزيت) بغية الحصول على كمية أكبر من المعدن المدفوع لشرائها فيكون الرصيد موجباً لصالح إدخال المعادن الثمينة إلى المملكة. فقد كان توماس مون Thomas Mun صاحب أول محاولة لصوغ نظرية الميزان التجاري، يقول: «إنّ الطريقة العادية لزيادة ثروتنا تتمثل في التجارة الخارجية. إذ يجب أن نراعي دائماً القاعدة التالية: وهي أن نبيع للأجانب سنوياً أكثر مما نشتريه منهم في القيمة»، وكان يأخذ بالحسبان التجارة غير المنظورة أيضاً.
عملت بريطانية على تشجيع التجارة الخارجية فسنّت القوانين لحمايتها وتشجيعها ولاسيما قوانين الملاحة الإنكليزية التي أوجبت نقل السلع المستوردة حصراً على السفن الإنكليزية وكذلك السلع المصدرة أو المستوردة بين إنكلترة ومستعمراتها. كما صدرت قوانين الحماية الجمركية التي فرضت رسوماً جمركية عالية على السلع الاستهلاكية المستوردة وخفضتها على السلع المخصصة لإعادة التصدير (تجارة الترانزيت).
د ـ المذهب التجاري المالي أو مذهب الخزانة: Cameralisme اتخذ المذهب التجاري في كل من ألمانية والنمسة صيغة خاصة وهي صيغة مالية الدولة أو الإدارة العامة. وقد أُطلقت على هذه الصيغة اسم علم الخزانة أو مذهب الخزانة. ويتمثل هذا المذهب في أفكار فون يوستي Von Justi التي أوردها في كتابه «اقتصاد الدولة». وينطلق هذا المذهب من مبدأ أساسي وهو ضرورة قيام الدولة بكل الأعمال الاقتصادية التي تكفل نمو الثروة.
كان أنصار التجارية في ألمانية والنمسة يقولون بناء إدارات الدولة انطلاقاً من المذاهب التجارية التي كانت غالبة آنذاك في باقي أقطار أوربة (السعي للحصول على المعادن الثمينة، ودعم الصناعة الوطنية وتقييد التجارة الخارجية وفرض الحماية الجمركية... إلخ) بقصد تحقيق اغتناء الدولة ودعم خزانتها وزيادة قوتها.
الأهمية التاريخية للتجارية
ترافق ظهور التجارية مع بداية نشوء الدول القومية في أوربة. فقد كانت نشأة الدولة القومية في حاجة كبرى إلى ظهور علم عن المجتمع يركز على أهمية السلطة المركزية بمواجهة التيارات الإقطاعية الانفصالية من جهة، ولتحقيق الذات القومية بمواجهة الأمم الأخرى من جهة ثانية. ولا تستطيع السلطة المركزية تحقيق هذه المهمة إذا لم تتوافر لها القوة العسكرية التي يحتاج بناؤها إلى تعبئة موارد مالية كبيرة. من هنا كان اهتمام التجاريين بإقامة اقتصاد وطني قومي يغني عن الاستيراد ويزيد من التصدير بما يضمن دخول مزيد من النقود (المعادن الثمينة) إلى البلاد ومنع خروجها منها لتوفير تمويل بناء قوة الدولة. قام المذهب التجاري، بمختلف الصيغ التي اتخذها، بدور إيجابي في وضع قواعد حكيمة لإدارة الشؤون الاقتصادية للدولة القومية الناشئة. وكانت التجارية بداية وضع علم عن المجتمع أسهم في نشأة التفكير العلمي في العلاقة السببية بين الظواهر الاجتماعية. وكان لهذا المذهب تأثيره الكبير في الفكر الاقتصادي من جهة وعلى التطور الاقتصادي من جهة ثانية:
آ ـ التأثير في الفكر الاقتصادي: نبّه التجاريون سواء عن طريق كتاباتهم النظرية، أم عن طريق التدابير الاقتصادية العلمية التي اتخذوها، على عدد من المنطلقات الاقتصادية التي شكلت مبادئ النظرية الاقتصادية فيما بعد. فقد كان لدعوتهم إلى تحقيق ميزان تجاري رابح أثر كبير في تعميق الدراسات حول التجارة الخارجية وقيام نظرية تكاليف الإنتاج المقارنة، ونظرية التخصص حسب عوامل الإنتاج، ونظرية التوازن الآلي في الموازين التجارية وموازين المدفوعات. كما كان لاهتمامهم الشديد بدخول النقود المسكوكة من المعادن الثمينة وما قاد إليه ذلك من تقلبات كبيرة في الأسعار، الدور الأول في وضع نظريات النقود (النظرية المعدنية والنظرية الكمية في النقد)[ر: النقود]، بالإضافة إلى دراسة آلية تشكُّل الأسعار. أضف إلى ذلك أن اهتمام التجاريين بتحقيق فائض في الميزان التجاري قادهم، ومن بعدهم، إلى الاهتمام بوضع استراتيجية لتنمية القطاعات الرائدة في الاقتصاد لتحقيق فائض اقتصادي يضمن قوة الدولة (استخراج المعادن الثمينة في إسبانية، ودعم الصناعة الوطنية في فرنسة، وتنشيط النقل البحري وتجارة إعادة التصدير في بريطانية وغير ذلك) وكذلك تسخير باقي القطاعات في الاقتصاد الوطني للقطاعات الرائدة لتتمكن من تحقيق أهدافها (بداية وضع نظريات استراتيجية التنمية). وحثَّ التجاريون على السعي لتخفيض أسعار الفائدة من أجل تشجيع الاستثمارات بالإضافة إلى تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية فكانوا وراء ظهور مذهب التدخلية[ر].
ب ـ التأثير في التطور الاقتصادي: كان للسياسات الاقتصادية التي اتبعها التجاريون في مختلف الأقطار الأوربية أثرها الواضح في تسريع عملية النمو الاقتصادي في تلك الأقطار، وليس من قبيل المصادفة أن تتزامن بداية النهضة الاقتصادية مع تولي رجالات الدولة من التجاريين المهام الحكومية وذلك في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فقد تحقّق في ظلّ التجاريين الازدهار الاقتصادي لمعظم أقطار أوربة حتى تلك البلدان التي عُدّت فيها السياسة التجارية فاشلة. فقد كانت إجراءات التجاريين، على وجه الخصوص، مصدر التراكم الرأسمالي الأولي في إنكلترة ونقطة الانطلاق إلى الثورة الصناعية. كما كان سعيهم لتنمية الصادرات سبباً رئيسياً في تطوير الصناعة فأقروا إلزامية العمل من أجل توفير يد عاملة رخيصة للصناعة كما منحوا الصناعات امتيازات الانحصار والمساعدات المالية مما شجع على ظهور فئة المنظمين Entrepreneurs الذين كان لهم أثرهم في تحقيق التنمية الاقتصادية، بالإضافة إلى أن دعمهم لسلطة الملك المركزية وإقامة الدولة القومية دفع إلى اندحار النظام الإقطاعي الذي كان عامل عرقلة للنمو الاقتصادي ومهّد لظهور طبقة اجتماعية جديدة (البورجوازية ورجال الأعمال) تتفق مصلحتها الطبقية مع التقدم الاقتصادي والاجتماعي بمواجهة الإقطاعيين الذين كانت مصلحتهم الطبقية في الإبقاء على التنظيم المجتمعي المعرقل للنمو.
انبعاث التجارية
ركَّز أنصار المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية (نظرية الحرية الاقتصادية) هجومهم الشديد على التجارية، وكانوا منذ القرن الثامن عشر يهاجمون تقييد التجارة الخارجية ونظام الحماية الذي كان متبعاً في كل الأقطار الأوربية بتأثير التجارية. وقد حمّل الليبراليون التجارية مسؤولية الوقوف حجر عثرة في طريق توسع التجارة الدولية وكذلك عرقلة تحقيق التوازن الاقتصادي. وشهد القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين انتصار نظرية الحرية الاقتصادية وتراجع التجارية. غير أن هذا الانتصار لم يستمر لأن الحرية الاقتصادية التي نادى بها اقتصاديو المدرسة التقليدية كانت ضرورية لخدمة الاقتصادات المتقدمة على حساب الاقتصادات الأقل تطوراً، ولذلك ليس مصادفة أن تنطلق هذه النظرية من بريطانية التي شهدت بدايات الثورة الصناعية والتوسع الاقتصادي، إذ صار الاقتصاد الإنكليزي في حاجة إلى توسيع مجاله الحيوي سواء عن طريق غزو المستعمرات أم فتح الأسواق الأوربية في وجه الصناعة الإنكليزية المتفوقة. غير أنّ الحرية الاقتصادية لم تستطع تحقيق الآمال التي بنيت عليها في أوربة إذ سرعان ما انتشر التقدم الاقتصادي في باقي الأقطار الأوربية وبدأ الصراع على الأسواق بين هذه الدول، ولمّا اكتمل استعمار الكرة الأرضية بدأ الصِّراع بين الدول الأوربية على إعادة اقتسام المستعمرات وقامت الحروب لتحقيق ذلك، ومع هذا شهدت أوربة والعالم المتقدم أزمات اقتصادية عاصفة أدت إلى إلحاق الكوارث بالمنتجين والمستهلكين على السواء، مما قاد إلى إعادة النظر في مبدأ الحرية الاقتصادية. فتم التراجع عن النظريات الليبرالية في التجارة الدولية وتأكد للاقتصاديين عجز الحرية الاقتصادية عن تحقيق التوازن الآلي في موازين المدفوعات كما أثبت جون ماينرد كينز عجز آلية السوق عن تحقيق التوازن الاقتصادي الأمثل أي تحقيق التوازن بشروط الاستفادة المثلى من كل عوامل الإنتاج المتاحة. وأثبت التاريخ الاقتصادي المعاصر عدم صلاحية مبدأ الحرية الاقتصادية في العلاقات الدولية لخدمة النمو الاقتصادي ولاسيما في الدول الأقل تطوراً. لهذا عادت معظم الدول الصناعية المتقدمة إلى التدخل في الحياة الاقتصادية عن طريق الحماية الجمركية أو تقليص كمية المستوردات بتطبيق نظام الحصص أو حتى منع الاستيراد من اجل معالجة العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات. كما أن منظرّي التنمية الاقتصادية في بلدان العالم الثالث يؤكدون ضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات الحماية الجمركية لحماية الصناعات الناشئة في هذه الدول. وفي الوقت الراهن يلاحظ نزوع الدول الرأسمالية المتقدمة إلى فرض قيود كبيرة على الاستيراد بالإضافة إلى دعم الصادرات والتدخل في أسواق أسعار الصرف. فالولايات المتحدة الأمريكية تفرض قيوداً كبيرة على الاستيراد من اليابان ومن أوربة، في حين تطالب دول أخرى بحرية التبادل التجاري مما يؤكد أن مواقف الدول تنبع من مصالحها الوطنية وليس من مواقف مبدئية نظرية. منذ الأزمة الاقتصادية الكبرى (1929-1933) استعاد المذهب التجاري أهميته على أيدي المدرسة الكينزية إذ قوَّم كينز عالياً موقف التجاريين في إطاره التاريخي ولاسيما فيما يتعلق بتراكم النقود الذي يؤدي إلى تخفيض معدلات الفائدة والتالي تشجيع الاستثمار.
مطانيوس حبيب